ج8 - ف40
أَنَا هُوَ
ماريا فالتورتا
L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO
THE GOSPEL AS REVEALED TO ME
بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}
L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ
MARIA VALTORTA
الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.
الجزء الثامن
40- (يسوع يتحدّث إلى تلاميذ غير معروفين)
15 / 03 / 1947
عدد كبير مِن الناس يحتشدون في مروج نيقي، حيث يُجفَّف التبن في الشمس. وعربتان ثقيلتان ومغطّاتان تنتظران قرب المروج. وأفهم سبب الانتظار لدى رؤيتي كلّ التلميذات تُقاد إليهما، ويصعدن إليهما بعدما صرفهنّ المعلّم وباركهنّ. كذلك مريم كلّية القداسة تمضي مع التلميذات الأخريات، وكذلك فتى عين نون، والعديد مِن التلاميذ يأخذون مكانهم إلى جانبيّ العربتين، وحينما هاتان تتحرّكان بخطو الثيران البطيء، فإنّ التلاميذ ينطلقون أيضاً. في المروج يبقى الرُّسُل، زكّا وأصدقاؤه، ومجموعة صغيرة مِن أشخاص متستّرين تماماً بأرديتهم، كما لو أنّهم لم يريدوا أن يتمّ التعرّف إليهم جيّداً.
يسوع يعود أدراجه على مهل، إلى وسط المرج، ويجلس على كومة تبن شبه جافّ سيُنقَل قريباً إلى مخزن العلف. إنّه مستغرق، والجميع يحترمون تركيزه بذاته هذا، لابثين، بثلاث مجموعات مميّزة، بعيدة قليلاً عنه وعن بعضها البعض.
إنّ تأمّله يطول. ويطول الانتظار. الشمس تغدو أقوى باضطراد وتصفع المرج الّذي تنبعث منه الرائحة القويّة للتبن الّذي يجفّ. إنّ الّذين ينتظرون يلوذون بأطراف المرج، حيث الأشجار الأخيرة للبستان تلقي ظلّاً منعشاً.
يسوع يبقى وحده. وحده تحت الشمس الّتي هي الآن قويّة، أبيضاً بكلّيته في ثوبه الكتّاني وغطاء رأسه الحريريّ الرهيف، الّذي يهتزّ قليلاً عند عبور النسيم. ربّما هو ذاك الّذي نسجته سِنْتيخي. مِن حظيرة قريبة يصل خوار بطيء ومتذمّر، ومِن أغصان البستان والبيادر تصل زقزقة صغار طيور، عصافير بلا ريش وفراخ نَهِمة. إنّها الحياة الّتي تستمرّ، متجدّدةً كلّ ربيع. طيور الحمام تحوم عالياً بطيران واثق ومطمئنّ قبل أن تعود إلى أعشاشها تحت الإفريز. ولا أدري إن كان مِن منزل مجاور لمنزل نيقي، أو مِن حقل ما، يصل صوت امرأة تُنشِد هدهدةً، وصوت الرضيع، الحادّ والمرتجف في البداية مثل ثغاء حَمَل صغير، يخفت ومِن ثمّ يصمت…
يسوع يفكّر. لا يزال يفكّر. بشكل متواصل. غير شاعر بالشمس. لقد لاحظتُ لمرّات عدّة المقاومة الفائقة ليسوع المبارك لقساوات الفصول. لم أفهم أبداً إذا ما كان يشعر بالحرّ أو البرد بقوّة، ويحتملها دونما تذمّر بروح إماتة، أو هو، كما كان يسيطر على العناصر الثائرة، يسيطر أيضاً على البرودة أو الحرارة الشديدين. لا أعلم. أعلم أنّني، رغم رؤيتي له مبلّلاً تماماً تحت وابل الأمطار، متعرّقاً تماماً في الحرّ الشديد، فإنّني لم ألاحظ لديه أبداً بوادر انزعاج مِن البرودة أو الحرارة، ولا رأيتُه يتّخذ تلك الاحتياطات الوقائيّة الّتي يتّخذها الإنسان عادةً ضدّ حدّة الشمس أو الصقيع.
لقد تمّ لفت انتباهي في أحد الأيّام إلى أنّهم لا يَبقون حاسري الرأس في فلسطين، وأنّني بالتالي أسيء القول بأنّ الرأس الأشقر ليسوع يلتمع مكشوفاً تحت الشمس. قد يكون مِن الممكن جدّاً أنّه لا يمكن المضيّ في فلسطين برأس مكشوف. أنا لم أكن هناك أبداً ولا أعلم. ما أعلمه هو أنّ يسوع كان يمضي عادةً دون أيّ شيء على رأسه. وإذا ما كان يضع غطاء رأس في بداية المسير، فهو سرعان ما ينزعه، كما لو أنّه لم يكن يحتمله، ويحمله بيده، مستخدماً إيّاه غالباً كي يمسح الغبار والعرق عن وجهه. وإذا ما كان يهطل المطر، فإنّه يرفع طرفاً مِن ردائه فوق رأسه. وإذا كانت هناك الشمس، خصوصاً إذا كان يسير، فإنّه يبحث عن قليل مِن ظلّ، ولو متقطّع، كي يحتمي مِن أشعّة الشمس. إنّما مِن النادر جدّاً أن يضع وِشاحاً خفيفاً على رأسه، كما اليوم.
إنّها ملاحظة قد تبدو عديمة الفائدة للبعض. إنّما هذا أيضاً يشكّل جزءاً ممّا أراه، وأقوله فيما يسوع يفكّر.
«إنّما سيؤذيه البقاء هناك لوقت طويل!» يهتف شخص مِن المجموعة الّتي لا هي مجموعة الرُّسُل ولا مجموعة زكّا.
«هيّا بنا نقول ذلك لتلاميذه… وعلاوة على ذلك… أودّ… أودّ ألّا أتأخّر كثيراً.» يجيب آخر.
«إيه! نعم. إنّ جبال أَدُمِّيم غير آمنة ليلاً…» يمضون إلى قرب الرُّسُل ويتحدّثون إليهم.
«حسناً. سأذهب لأقول له بأنّكم تريدون الرحيل.» يقول الاسخريوطيّ.
«لا. ليس هذا. نودّ أن نكون في عين شمس قبل المساء على الأقلّ.»
يهوذا يمضي وهو يبتسم ساخراً. ينحني فوق المعلّم ويقول له: «يقولون لأنّ الشمس يمكن أن تؤذيكَ -إنّما الحقيقة هي أنّهم قد يتعرّضون هم للأذى بأن يكونوا مرئيّين كثيراً- فاليهود يريدون أن يتمّ صرفهم.»
«إنّني آتٍ… كنتُ أفكّر… معهم حقّ.» وينهض يسوع.
«الجميع، ما عداي…» يدمدم الاسخريوطيّ.
يسوع ينظر إليه ويصمت. يمضيان معاً صوب أولئك الرجال الّذين دعاهم يهوذا باليهود.
«لقد سبق لي أن صرفتُكم كلّكم. وقد قلتُ لكم ذلك منذ الأمس. لن أتكلّم إلّا في أورشليم…»
«هذا صحيح. إنّما الأمر هو أنّنا نودّ أن نكلّمكَ، نحن الّذين… أيمكننا أن نكلّمكَ على انفراد؟»
«استجبهم. إنّهم يخافون منّا، أو منّي أنا على الأرجح.» يقول أيضاً يهوذا الاسخريوطيّ بتلك الابتسامة الّتي لأفعى.
«إنّنا لا نخاف مِن أحد. فلو أردنا، فإنّنا كنّا نعرف كيف نتصرّف لحماية راحة بالنا. إنّما ليس الجميع هم جبناء في فلسطين بعد. إنّنا مِن ذريّة بواسل داود1، وإن لم تصبح بعد عبداً وذليلاً، فينبغي أن تثني على سلالتنا. أوائل الّذين كانوا إلى جانب الـمَلِك القدّيس، أوائل مَن كانوا إلى جانب المكابيّين. والأوائل كذلك الآن، حين يتعلّق الأمر بتكريم ابن داود ونصحه. إنّه عظيم. إنّما كلّ مخلوق، مهما كان عظيماً، يمكن أن يحتاج إلى صديق في الساعات الحاسمة مِن حياته.» يجيب أحدهم لابساً كتّاناً بكلّيته، بما في ذلك الرداء وغطاء الرأس، والّذي يترك وجهه الصارم مكشوفاً قليلاً.
«لديه نحن كما أصدقاء. إنّنا كذلك منذ ثلاثة أعوام، مذ أنتم…»
«لم نكن نعرفه. لقد تمّ خداعنا لمرّات كثيرة مِن قِبَل مسحاء كذبة كي نصدّق بسهولة كلّ مَن ادّعى ذلك. لكنّ الأحداث الأخيرة أنارتنا. إنّ صنائعه هي مِن الله، ونحن ندعوه ابن الله.»
«وتعتقدون أنّه بحاجة لكم؟»
«كونه ابن الله، لا. إنّما باعتباره إنساناً، نعم. هو قد أتى كي يكون الإنسان، والإنسان هو دوماً بحاجة إلى إخوته البشر. بكلّ الأحوال، لماذا أنتَ خائف؟ لماذا لا تريد أن نكلّمه؟ إنّنا نسألكَ ذلك.»
«أنا؟ تكلّموا! تكلّموا! إنّ الخطأة مسموعون أكثر مِن الأبرار.»
«يهوذا! لقد ظننتُ بأنّ هكذا كلام يجب أن يبدو كما نار بالنسبة لشفتيكَ! كيف تجرؤ على الإدانة حيث لا يدين معلّمكَ؟ قد قيل: "إن كانت خطاياكم كالقرمز تبيضّ كالثلج، وإن كانت حمراء كالدُّوديّ تصير بيضاء كالصوف2".»
«لكنّكَ لا تعلم أنّ مِن بين هؤلاء…»
«صمتاً! تكلّموا أنتم!»
«يا ربّ، إنّنا نعلم ذلك. إنّ الاتّهام مُعَدّ لكَ. إنّهم يتّهمونكَ بانتهاك الشريعة والسبت، بمحبّتكَ لأهل السامرة أكثر منّا، بالدفاع عن العشّارين والبغايا، باللجوء إلى بعلزبول، وإلى قوى ظلاميّة أخرى، بالسحر الأسود، بكراهية الهيكل وابتغاء تدميره، بـ…»
«كفى. الجميع يمكنهم الاتّهام. أمّا إثبات الاتّهام فهو الأكثر صعوبةً.»
«إنّما يوجد مِن بينهم مَن يؤيّدون ذلك. أتظنّ يا ترى بأنّهم يتحلّون بالعدالة هناك؟»
«سوف أجيبكم بكلام أيّوب، الّذي هو صورة عن الصَّبور الّذي أنا هو: "حاشا لي أن أُبرّركم جميعكم! وحتى أُسْلِم الروح لا أعزل كمالي عنّي. تمسّكتُ ببرّي ولا أرخيه. قلبي لا يُعيّر يوماً مِن أيّامي3". هو ذا، إنّ إسرائيل بأسره يمكن أن يشهد، لأنّني لا أبرّر نفسي بنفسي، بكلام يمكن أيضاً للكاذب أن يقوله، إسرائيل بأسره يمكن أن يشهد بأنّني لطالما عَلَّمتُ احترام الشريعة، لا بل أكثر: أنّني أتممتُ الطاعة للشريعة، وأنّني لم أنتهك السبوت… ماذا تريد أن تقول؟ تكلّم! لقد قمتَ بحركة ومِن ثمّ أحجمتَ. تكلّم!»
واحد مِن المجموعة الصغيرة السرّيّة يقول: «يا ربّ، في آخر اجتماع للسنهدرين قد قُرِأ بلاغ ضدّكَ. كان وارداً مِن السامرة، مِن أفرايم حيث كنتَ، وكان يقول بأنّه ثبت مراراً وتكراراً أنّكَ انتهكتَ السبت و…»
«وأيضاً أجيبكَ بأيّوب: "لأنّه ما يكون رجاء الفاجر عندما يميته، عندما يسلب الله نفسه؟4" إنّ ذاك الشقيّ، الّذي يُظهِر وجهاً، ولديه تحته قلب مختلف، والّذي يريد ارتكاب السلب الكبير لأنّه لا يتمنّى الخير لي، هو منذ الآن يسير على طريق الجحيم، وعبثاً سيكون بالنسبة له امتلاك المال، والأمل بأمجاد، وأن يحلم بالارتقاء إلى حيث لم أشأ أنا كي لا أخون القرار المقدّس. إنّما هل ينبغي أن نقلق بشأنه، أم الصلاة مِن أجله؟»
«ومع ذلك فالسنهدرين قد سخر منكَ قائلاً: "هي ذي محبّة السامريّين له! إنّهم يتّهمونه لاستدرار تعاطفنا".»
«وهل أنتم واثقون مِن أنّ اليد الّتي كتبت تلك الكلمات سامريّة هي؟»
«لا. لكنّ السامرة قد أغلظت عليكَ في هذه الأيّام…»
«لأنّ مبعوثي السنهدرين قد ضلّلوها وأثاروها بنصح كاذب، مستنهضين آمالاً مجنونة قد توجّب عليَّ أن أسحقها. بكلّ الأحوال قد قيل عن أفرايم وعن اليهوديّة، ويمكن أن يقال عن أيّ موضع، فمتقلّب هو قلب الإنسان الّذي ينسى الإحسان وينحني أمام التهديدات: "...إنّ إحسانكم كسحاب الصبح، وكالندى الّذي يتبخّر في الصباح5". لكنّ هذا لا يُثبِت أنّ السامريّين هم مُتَّهِمو البريء. إنّ محبّةً خاطئةً قد أطلقتهم ضدّي بهمجيّة، إنّما هي محبّة تهذي. وأيّ دليل آخر يثبت الاتّهام بتفضيل السامريّين؟»
«يتمّ اتّهامكَ بأنّكَ تحبّهم لدرجة أنّكَ دوماً تقول: "اسمع يا إسرائيل"، بدلاً مِن قول: "اسمع يا يهوذا". وأنّكَ لا تستطيع أن تأخذ على يهوذا…»
«أحقّاً؟ أهنا تضلّ حكمة الرابّيين؟ ألستُ أنا، كما يقول إرميا، غصن البرّ المنبثق مِن داود، الّذي به سيخلص يهوذا؟ فالنبيّ إذن، يتنبّأ بأنّ يهوذا، على الأخصّ يهوذا، سيكون بحاجة إلى خلاص. وهذا الغصن، كما يتابع النبيّ القول، سيدعى: الربّ بِرّنا، "لأنه هكذا قال الربّ: لا ينقطع لداود إنسان مِن نسله يجلس على كرسيّ بيت إسرائيل"6. وماذا؟ أكان النبيّ على خطأ؟ أكان سكراناً يا ترى؟ ممّاذا؟ حتماً مِن تكفير وليس مِن أيّ أمر آخر. فلا أحد سوف يمكنه، في سبيل اتّهامي، مِن الادعاء بأنّ إرميا كان عربيداً. ومع ذلك فهو يقول أنّ غصن داود سيخلّص يهوذا وسيجلس على عرش إسرائيل. وعليه ينبغي القول أنّ النبيّ، المستنير، يرى أنّ إسرائيل، أكثر منه يهوذا، سوف يكون مختاراً، أنّ الـمَلِك سيمضي إلى إسرائيل، وستكون بالفعل نعمة إذا ما يهوذا، لم يحظَ سوى بالخلاص. فهل المملكة إذاً سوف تدعى مملكة إسرائيل؟ لا. سوف تدعى مملكة المسيح. المسيح الّذي يجمع الأجزاء المنفصلة، ويعيد البناء بالربّ7 بعد أن يكون، وفقاً للنبيّ الآخر، وبشهر واحد -ماذا أقول في شهر؟- بأقلّ مِن يوم، قد حاكم وأدان الرعاة الثلاثة الكذبة، وتبقى نفسي مغلقةً دونهم، لأنّ نفسهم قد لبثت مغلقةً مِن دوني، إذ تمنّوني بالصورة، ولم يحسنوا أن يحبّونني بالطبيعة8. والآن إذن، إنّ مَن أرسلني وأعطاني العَصَوَين9 [مثنّى عصا] سوف يكسر الواحدة والأخرى، كي تتبدّد النعمة بالنسبة للقساة، ليأتي الويل، ليس بعد مِن السماء، بل مِن العالم. فلا شيء أكثر قساوةً مِن الويلات الّتي يسبّبها البشر للبشر10. هكذا سيكون الأمر. آه! هكذا! أنا سوف أُضرَب وسوف تتشتّت النعاج في ثلثيها11. ثلث واحد، فقط ثلث واحد، على الدوام، سوف يخلص ويثبت حتّى النهاية12. وهذا الثلث سيمرّ عبر النار الّتي أمرّ عبرها أنا أوّلاً، وسوف ينقّى ويُختَبَر كما الفضّة والذهب، وله سيقال: "أنتَ شعبي". وهو سيقول لي: "أنتَ ربّي"13. وسيكون هناك مَن قد وَزَنَ الثلاثين دانقاً، ثمن العمل الرهيب. الأجر الدنيء14. ومِن حيث ستخرج [الدوانق]، لن تستطيع الدخول بعد، لأنّ الحجارة أيضاً ستصرخ هولاً وهي ترى تلك القطع النقديّة، الملطّخة بدم البريء، وبِعَرَق الـمُلاحَق مِن قِبَل اليأس الأكثر فظاعةً، وسوف يُستخدم، كما قيل، لشراء الحقل للغرباء مِن عبيد بابل. آه! الحقل للغرباء! أتعلمون مَن هم هؤلاء؟ إنّهم أهل يهوذا وإسرائيل، أولئك الّذين قريباً، ولعصور وعصور، لن يعود لهم وطن. وحتّى تراب أرضهم القديمة لن يودّ استقبالهم. سوف يتقيّأهم مِن ذاته حتّى وهم أموات، لأنّهم أرادوا رفض الحياة. هول لا متناهٍ…»
يسوع يصمت، كما لو أنّه مُنهَك، رأسه محنيّ. ثمّ يرفعه ويُجيل النّظر. يرى الحاضرين: الرُّسُل، التلاميذ الـمُتَخفّين، زكّا وجماعته. يتنهّد كمن يصحو مِن كابوس. يقول: «أيّ أمر آخر كنتم تقولون؟ آه! إنّهم يتّهمونني بأنّني أحبّ العشّارين والبغايا. هذا صحيح. إنّهم مرضى، محتضرون، وأنا، الحياة، أهب نفسي لهم كما حياة. تعالوا يا مُفتَدي قطيعي". يأمر زكّا وجماعته. «تعالوا واسمعوا وصيّتي. قد قلتُ لكثيرين، وكانوا أكثر بياضاً منكم: "لا تأتوا إلى أورشليم". ولكم أقول: "تعالوا". إنّ ذلك قد يبدو ظلماً…»
«إنّه كذلك بالفعل.» يقاطع الاسخريوطيّ.
يسوع كما لو أنّه لم يكن يسمع. يتابع التحدّث إلى زكّا ورفاقه: «إنّما أقول لكم: تعالوا، تحديداً لأنّكم الأشجار الّتي تحتاج إلى الندى أكثر مِن أخرى، كيما يعين القدير إرادتكم الصالحة، وكي تكبروا من الآن فصاعداً بـِحرّية في النعمة.» ومتوجّهاً لأولئك المتستّرين بمعاطفهم، يقول: «بالنسبة للأمور الأخرى… فالسماء ذاتها سوف تجيب بعلامات لا لبس فيها. الحقّ إنّ الهيكل الحيّ يمكن أن يُهدَم وفي ثلاثة أيّام يعاد بناؤه، وإلى الأبد. لكنّ الهيكل الميت، الّذي فقط سيهتزّ وسيظنّ بأنّه انتصر، سوف يَفنى كي لا يعود يقوم. امضوا! ولا تخافوا. بالتوبة انتظروا يومي، وفجره سوف يقودكم حتماً إلى النور.» ومِن ثمّ لزكّا: «وأنتم أيضاً امضوا، إنّما ليس الآن. كونوا في أورشليم عند فجر ما بعد السبت. إنّني أريد الّذين أُقيموا إلى جانب الأبرار، فالأمكنة في ملكوت المسيح لا متناهية العدد هي. إنّها بقدر ما هناك مِن البشر ذوي الإرادة الصالحة.» وينطلق صوب منزل نيقي عبر البستان الكثيف والظليل.
مَسلَك صغير يرسم خطّاً أصفراً وسط خضرة الأرض، تجتازه دجاجة تُقاقي، تتبعها صيصانها ذهبيّة اللون، وأمام هذا القدر الكبير مِن الغرباء تضطرب الأُمّ، فتجثم وترفع جناحيها متأهّبةً للدفاع وهي تُقاقي بقوّة أكبر، خائفةً مِن مكائد لصغارها، الّتي تهرع بزقزقة تختفي عندما تصبح بأمان، مختبئةً في الريش الأموميّ، لتبدو كما لو أنّها لم تعد موجودةً بعد…
يسوع يتوقّف كي يتأمّلها… وتسيل دموع مِن عينيه.
«إنّه يبكي! لماذا يبكي؟ إنّه يبكي!» يهمس الجميع: الرُّسُل، التلاميذ، الخطأة الـمُفتَدون. وبطرس يقول ليوحنّا: «اسأله عن سبب بكائه…»
ويوحنّا، بوضعيّته المعتادة، منحياً بعض الشيء احتراماً، ناظراً إلى وجه يسوع مِن أسفل، يَسأَله: «لماذا تبكي يا ربّي؟ هل يمكن أن يكون بسبب ما قيل لكَ وما قُلتَه قبلاً؟»
«يسوع ينتفض. يبتسم ابتسامةً حزينةً، ومشيراً إلى الدجاجة الّتي تواصل حماية صغارها بمحبّة، يقول: «أنا أيضاً، الواحد مع أبي، رأيتُ أورشليم، كما قال حزقيال، عاريةً ومفعمةً خجلاً. ورأيتُ ومررتُ قربها، وإذ قد حلّ زمني، زمن محبّتي، فقد بسطتُ ردائي عليها وغطّيتُ عريها15. كنتُ أريد أن أجعلها مَلِكةً بعد أن كنتُ أباً لها، وأحميها، كما تفعل هذه الدجاجة لصغارها… إنّما… في حين أنّ صغار الدجاجة يعترفون للأُمّ بجميل العناية الّتي تمنحها لهم ويلوذون تحت جناحيها، فإنّ أورشليم ترفض ردائي… لكنّني سأواصل مخطّط محبّتي… أنا… ومِن ثمّ أبي، سوف يتصرّف بحسب مشيئته.» وينزل يسوع إلى العشب كي لا يخيف الدجاجة الأُمّ، ويعبر، والدموع تسيل بعد على وجهه المحزون والشاحب.
الجميع يقتدون به، يتبعونه وهم يثرثرون وصولاً إلى عتبة منزل نيقي. وهناك يدخل يسوع وحده مع الرُّسُل إلى المنزل، والآخرون يمضون إلى شؤونهم…
----------
1- أخبار الأيام الأول (12 : 8-15).
2- إشَعياء (1-18).
3- أيّوب (27 : 5-6).
4- أيّوب (27-8).
5- هوشع (6-4).
6- إرميا (23 : 5-6 / 33 : 15-17).
7- إرميا (23-3).
8- زكريا (11-8).
9- زكريا (11-7).
10- زكريا (11-9).
11- زكريا (13-7).
12- زكريا (13-8).
13- زكريا (13-9).
14- زكريا (11-12).
15- حزقيال (16-8).