ج2 - ف40

أَنَا هُوَ

ماريا فالتورتا

L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO

THE GOSPEL AS REVEALED TO ME

بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}

L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ

MARIA VALTORTA

الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.

 

الجزء الثاني / القسم الأول

 

40- (يسوع في يافا عند إسحاق الرَّاعي)

 

12 / 01 / 1945

 

صخب المياه التي تسيل باتّجاه الجنوب يملأ أجواء الوادي رطوبة وهي تتراكض وتزبد في سيل صغير فضّيّ ينشر نداوتها الضاحكة على مراعي ضفافه الصغيرة، إنّما يبدو أنّ الرطوبة تَصعَد كذلك إلى المنحدرات؛ إنّها زمرّدة متعدّدة الألوان، تَصعَد مِن الأرض عبر أدغال وأشجار شِبه غابة، حتّى ذروة أشجار غابة بكلّ ما في هذه الكلمة مِن معنى، فيها مساحات نور مقتطّعة وهي كسطوح خضراء مِن العشب الكثيف، مراع صحّية تستعيد فيها القطعان عافيتها.

 

يَهبط يسوع مع تلاميذه والرُّعاة الثلاثة إلى السيل. إنّه يتوقّف بصبر وأناة عندما يتوجّب انتظار نعجة تأخّرت أو عندما يجري أحد الرُّعاة خلف حَمَل تاهَ عن الدرب. إنّه بالضبط الرَّاعي الصالح، الآن... وقد استعان هو أيضاً بغصن طويل لإبعاد سُوق العلّيق، والأشواك، وياسمين البَرّ، التي ترتَفِع مِن كلّ صوب وتُحاوِل التشبّث بالثياب. وبهذا يَكتَمِل مَظهَرهُ الرَّعَويّ.

 

«انظُر، يافا هناك في الأعلى. سوف نجتاز السيل. هناك مخاضة تستخدم في الصيف فتوفّر علينا عناء الذهاب إلى الجسر. لو أتينا مِن الخليل لكانت المسافة أقصر، أنَّما أنتَ لم تشأ ذلكَ.»

 

«لا، الخليل فيما بعد. الأولويّة دائماً للمتألِّمين. فالأموات، عندما يكونون أبراراً، لا يعودون يتألّمون. وصموئيل كان بارّاً. الأموات الذين هم في حاجة إلى الصَّلوات، فيما بعد. فلا ضرورة لأن نكون إلى جانب رفاتهم حتّى نقيمها لهم.

 

الرُّفاة؟ ما هي؟ إنّها دليل قُدرة الله الذي أخرَجَ الإنسان مِن تراب. ليس هناك شيء آخر. حتّى الحيوان لـه رُفاة. لكلّ حيوان هيكل عظميّ، إنّما أقلّ كمالاً مِن الذي للإنسان. فالإنسان فقط مَلِك الخليقة، وهو يمتلك الوضعيّة الـمُنتَصِبَة التي هي للمَلِك الذي يسيطر على أشيائه، بِوَجه يَنظُر إلى الأمام وإلى الأعلى دونما حاجة إلى أن يَلوي عنقه، إلى الأعلى حيث يُقيم الآب. إلّا أنّها تظلّ رُفاة: تراب يعود إلى التراب. ولقد قَرَّر الصلاح الأزليّ إعادة بنائها في اليوم الأزليّ ليَمنَح المغبوطين فرحاً أكثر حيويّة. فَكِّروا بذلك. فليست الأرواح وحدها هي التي ستتّحد وتتحابّ كما على الأرض. بل أكثر بكثير، إنّما سَيَبتَهِجون بالتَّلاقي بالهيئة التي كانت لهم على الأرض: الأطفال الأحبّاء بالشعر المقصّب كما كان أبناؤكَ، يا إيلي، والآباء والأُمّهات بالقلوب والوجوه المتألّقة بالحبّ كوالديكما ووالدتيكما يا لاوي ويوسف، بل حتّى سوف تُعطَى أنتَ يا يوسف أخيراً رؤية هذه الوجوه التي تَحنّ إليها. فلا يعود أيتام ولا أرامل هناك في العُلى بين الأبرار…

 

يمكن للصلاة مِن أجل الأموات أن تُقام في أيّ مكان. إنّها الصلاة مِن روح لأجل روح كانت متّحدة بنا، لروح كامل هو الله، وهو موجود في كلّ مكان. آه! يا أيّتها الحريّة المقدّسة، لا مسافات، لا منفى، ، لكلّ ما هو روحيّ، ولا سجون ولا قبور... ما مِن شيء يُفَرِّق ويُكَبِّل بِعَجز مؤلِم ما هو خارج الروابط البشريّة وفوقها. سوف تتوجّهون بأفضل ما فيكم مِن خير صوب محبوبيكم. وهم سوف يلاقونكم بكلّ الخير الذي فيهم. والجميع، في هذه الدفقات الروحيّة التي تتحابّ، يتنامى حول نار الله الأزليّة: الروح الكامل بشكل مُطلَق، الخالِق لكلّ ما كان وما هو كائن وما سوف يكون، الحبّ الذي يحبّكم ويعلّمكم الحبّ…

 

أظنّنا قد وَصَلنا إلى المخاضة. فأنا أرى رصفة حجارة تَبرُز مِن الماء القليل الذي يَغمر أسفلها.»

 

«نعم، إنّه هو، يا معلّم. أيّام الفيضانات تَراه شلّالاً صاخباً، أمّا الآن فما هو سوى جداول سبعة تبتسم بمرورها في المسافات الفاصلة بين ستّ صخور كبيرة مِن المخاضة.»

 

بالفعل، ستّ صخور كبيرة، تكاد تكون منحوتة، مُتَوَضِّعة في قاع السيل على بُعد شِبر كبير الواحدة مِن الأخرى. والماء، الذي كان يشكّل في البدء شريطاً وحيداً يلمع، يتفرّق الآن إلى سبعة أشرطة، متعجّل في جريه الضَّاحِك، ليعود فَيَجتَمِع بَعدَ المخاضة بعذوبة فريدة، ويبتعد وهو يجري مُثَرثِراً مع حصى القاع.

 

يُراقِب الرُّعاة مرور النِّعاج التي يمرّ بعضها على الحجارة والبعض الآخر يُفَضِّل النزول إلى الماء الذي لم يَعُد عُمقُه يتجاوز الشِّبر، ويَشرَب مِن هذه الموجة الماسيّة التي تُزبِد وتَضحَك.

 

يَعبُر يسوع على الحجارة وخلفه التلاميذ. ثمّ يتابعون المسير على الضفّة الأخرى.

 

«أقُلتَ لي إنّكَ تريد أن يعرف إسحاق أنّكَ هنا، إنّما دون الدخول إلى المدينة؟»

 

«نعم، هذا ما أريده.»

 

«إذاً، مِن الأفضل أن نَفتَرِق. سوف أمضي أنا لملاقاته. ويبقى لاوي ويوسف معكم وكذلك القطيع. سوف أَصعَد مِن هنا، فهذا أسرع.»

 

ويَشرَع إيلي بتسلُّق المنحدر باتّجاه مجموعة مِن البيوت البيضاء التي تلمع تحت الشمس، هناك في الأعلى.

 

يبدو لي أنّني أتبَعهُ. ها هو عند طلائع البيوت. يَسلك درباً بين الدُّور والحدائق. يسير بضعة عشرات مِن الأمتار ثمّ يَنعَطِف في طريق أوسع، مؤدّية إلى ساحة. فاتني القول إنّ هذا كلّه كان يَحدُث في الساعات الأولى مِن الصباح، وأقول الآن ذلك لأُعطي تفسيراً لوجود السُّوق الذي ما يزال قائماً في الساحة. رَبّات بيوت وباعة يتكلّمون بصوت مرتفع تحت الأشجار التي تُظَلِّل الساحة.

 

يَمضي إيلي، دون تردّد، إلى النقطة التي تُشَكِّل فيها الطريق امتداداً للساحة، طريق جميلة، قد تكون الأجمل في البلدة. عند الزاوية توجد خرابة، أو بالأحرى غرفة مفتوح بابها، وعند عَتَبَتها سرير فقير يَرقُد عليه عاجِز شِبه هيكل عظميّ، يَطلُب مِن المارّة صَدَقَة بشكل يُثير الشَّفَقَة.

 

يَدخُل إيلي باندفاع: «إسحاق... هذا أنا.»

 

«أنتَ؟ لم أكُن أتوقَّع مجيئكَ. لقد جِئتَني في آخر قَمَر.»

 

«إسحاق... إسحاق... هل تَعلَم لماذا جِئتُ؟»

 

«لا أعلَم... إنّكَ مُضطَرِب... ما الذي جرى؟»

 

«لقد رأيتُ يسوع الناصريّ! لقد أصبَحَ رجلاً، إنّه رابّي. لقد جاء يبحث عنّي... وهو يريد رؤيتنا. آه! يا إسحاق، هل وضعكَ سيّئ؟»

 

بالفعل، كان إسحاق مستسلماً وكأنّه كان يموت. إلّا أنّه يتماسَك: «لا. يا للنبأ... أين هو؟ كيف هو؟ آه! لو كنتُ أستطيع رؤيته!»

 

«إنّه في الأسفل، في الوادي. وقد أرسَلَني لأقول لكَ هذا، بالضبط هذا: "هَلُمَّ يا إسحاق فأنا أرغب في رؤيتكَ ومباركتكَ". أنا ماضٍ لاستدعاء مَن يساعدني في إنزالكَ.»

 

«أهكذا قال؟»

 

«هكذا، ولكن ما الذي تَفعَله؟»

 

«أنا ذاهب إليه.»

 

يَرمي إسحاق الأغطية، يُحَرِّك ساقيه اللتين لا حراك فيهما، يقذِفهما خارج السرير، يسنِدهما على الأرض، يَنهَض وهو ما يزال غير مُتماسِك ومترنّحاً. كلّ ذلك بشكل آنيّ، بينما يَنظُر إليه إيلي بعينين مُحَملِقَتَين... يُدرِك أخيراً ويَهتف... فتأتي عجوز فضوليّة وترى العاجز واقفاً، يتدثّر بغطاء! إذ لم يكن لديه شيء آخر. وتَنصَرِف وهي تَصرُخ مثل دجاجة فَزِعَة.

 

«هَلُمَّ بنا... لنذهب مِن هنا بسرعة لِنَتَخَلَّص مِن الجمع... بسرعة، يا إيلي.»

 

وها هما يَخرُجان مِن باب الحديقة الخلفيّ وهما يَجرِيان. يَدفَعان الباب المصنوع مِن أغصان جافّة. إنّهما خارجاً، يَسلُكان درباً رديئاً، ثمّ أحد الـمَسالِك عبر الحدائق، ومِن هناك يَنحَدِران عبر الحقول والغابات الصغيرة حتّى يَبلُغا السَّيل.

 

يقول إيلي وهو يشير بإصبعه إلى يسوع: «ها هو يسوع، ذاك الرجل الكبير الأشقر، الذي يرتدي الأبيض ومعطفاً أحمر...»

 

يَركض إسحاق بين القطيع الذي يَرعَى، ويَرتَمي عند قدمي يسوع وهو يهتف هتاف نصر وفرح وَوَلَه.

 

«انهض يا إسحاق. لقد أتيتُ حاملاً لكَ السلام والبركة. قُم ودعني أرى وجهكَ.»

 

إلّا أنّ إسحاق يَعجَز عن النهوض. فالمؤثرات كثيرة، ودفعة واحدة، فيبقى على الأرض مع عَبرات السعادة.

 

«لقد أتيتَ فوراً. لم تتساءل إذا ما كنتَ تستطيع ذلك...»

 

«قلتَ لي أن آتي... وأتيتُ.»

 

«بل إنّه حتّى لم يُغلَق بابه ولا جَمَعَ دراهمه يا معلّم.»

 

«لا يهمّ، فالملائكة تحرس مَسكَنَه. هل أنتَ مسرور يا إسحاق؟»

 

«آه! يا سيّدي!»

 

«نادني: يا معلّم.»

 

«نعم يا سيّدي، يا معلّمي. حتّى ولو لم أَبرأ، كم هي سعادتي برؤيتكَ. كيف أمكنني أن أجد نِعَمَاً جمّة بقربكَ؟»

 

«بسبب إيمانكَ وصبركَ يا إسحاق. أنا أعرف كم تألّمتَ!»

 

«ليس هذا بشيء، لا شيء، لم يعد شيئاً! لقد وجدتُكَ حيّاً! أنتَ هنا! وهذا هو كلّ شيء... وما سوى ذلك، كلّ ما سوى ذلك قد مضى. ولكن يا سيّدي ومعلّمي، لن تذهب بعد الآن، أليس كذلك؟»

 

«يا إسحاق. ينبغي لي أن أكرز في إسرائيل كلّها. أنا ذاهب... ولكن إذا لم أستطع أنا المكوث، فأنتَ تستطيع خِدمتي واتِّباعي. هل تريد أن تكون تلميذي يا إسحاق؟»

 

«آه! ولكنّني لن أصلُح لذلك!»

 

«هل تستطيع الاعتراف بأنّني هو؟ الاعتراف رغم مواجهة الإهانات والتهديدات؟ وأن تقول إنّني أنا الذي دعوتكَ وأتيتَ؟»

 

«حتّى ولو لم تكن تريد ذلك، فقد كنتُ سأقول كلّ هذا. وفي هذا كنتُ سأخالف طاعتَكَ يا معلّم. سامحني إذا ما قلتُ ذلك.»

 

يبتسم يسوع «إذاً، هل ترى أنّكَ تصلح لأن تكون لي تلميذاً؟»

 

«آه! إذا كان الأمر يقتَصِر على فِعل هذا! كنتُ أظنّه أكثر صعوبة. كنتُ أظنّ أنّه ينبغي الذهاب إلى مدرسة الرابّيين لخدمتكَ أنتَ، رابّي الرابّيين... والذهاب إلى المدرسة وأنا في هذه السنّ المتقدّمة!...»

 

فعلاً، فإنّ الرجل يتجاوز الخمسين عاماً مِن العمر.

 

«المدرسة قد اتَّبَعتَها يا إسحاق

 

«أنا؟ لا.»

 

«بلى. ألم تستمرّ في الإيمان والحبّ وفي أن تُجِلَّ وتُبارك الله والقريب، وفي ألّا تكون حَسوداً، وألّا تشتهي ما هو لغيركَ، وحتّى ما كان في حوزتكَ ولم يَعُد، وفي ألّا تقول إلّا الحقيقة حتّى ولو كان ذلك يُسبّب لكَ الأذى، وألّا ترتَكِب الفحشاء مع الشيطان باقترافكَ الخطايا؟ ألم تفعل كلّ ذلك خلال سنوات الشقاء الثلاثين هذه؟»

 

«نعم يا معلّم.»

 

«أترى؟ لقد أنهيتَ مِنهاج المدرسة. استمرّ هكذا وأَضِف إليه إظهار وجودي في العالم. ولا تقم بشيء آخر.»

 

«لقد كرزتُ بكَ، يا سيّدي يسوع، للأطفال الذين كانوا يأتون إليَّ حينما وصلتُ إلى هذه البلدة مُقَوَّس الظَّهر أستجدي الخبز وأقوم ببعض الأعمال أيضاً كجزّ الخرفان أو الحَلْب، ومِن ثمّ، حينما اشتدّ المرض في القسم السفليّ مِن قامتي، حينما كانوا يأتون حول سريري. كنتُ أتحدّث عنكَ لأطفال ذاك الزَّمن وأطفال الزَّمن الحاضر... فالأطفال طيّبون ويؤمنون دائماً. كنتُ أتحدّث عن زمن ولادتكَ... عن الملائكة... عن النجمة والمجوس... وعن أُمّكَ... آه! قُل لي: هل ما تزال على قيد الحياة؟»

 

«إنّها على قيد الحياة وتهديكَ السلام. وقد كانت تتحدّث عنكم على الدوام.»

 

«آه! لو أنّني أراها!»

 

«سوف تراها. فستأتي وتزورَني في بيتي يوماً. وستصافحكَ مريم كصديق.»

 

«مريم... نعم. اسمها على شفتيّ لذيذ كالشَّهد. هناك امرأة في يافا، نعم، هنالك الآن امرأة وَضَعَت مؤخّراً طفلها الرابع. لقد كانت آنئذ طفلة، إحدى صديقاتي الصغيرات. وقد أطلَقَت على وَلَديها الأوّلَين اسميّ مريم ويوسف، وعندما خَشِيَت مِن تسمية الثالث يسوع أطلَقَت عليه اسم عمانوئيل، اسم بَرَكة لها ولبيتها ولإسرائيل. وهي تبحث عن اسم تُطلِقه على الابن الرابع الذي وُلِدَ منذ ستّة أيام. آه! عندما سَتَعلَم أنّني شفيتُ! وأنّكَ هنا! إنّ سارة طيّبة مثل خُبز أُمّكَ، وكذلك زوجها يواكيم. وأهلهما! فبفضلهم ما زلتُ حيّاً. ولقد حموني على الدوام وساعدوني.»

 

«هيّا بنا نلتجئ إليهم في ساعات الشمس ونحمل لهم البركة بسبب محبّتهم.»

 

«مِن هنا يا معلّم. سوف يكون ذلك أسهل على القطيع، ولتحاشي الناس الهائِجِين بالتأكيد. فالعجوز التي رأتني أنتَصِب واقفاً لا بد أنّها قد تكلَّمَت.»

 

يَتبَعون السَّيل، جاعِلين إيّاه مِن جهة الجنوب، ليتَّبِعوا مَسلَكاً صاعِداً، بشكل أسرع، مُسايرين أنف الجبل الذي يشبه مقدّمة المركب. لقد أصبح السَّيل الآن معاكساً لجهة الطريق الصاعدة ويتراكض في العمق بين صفّين مِن الجبال التي تتقاطع مُشَكِّلة وادياً جميلاً مُتَضارِساً. لقد تعرَّفتُ على المكان... لا مجال للالتباس فيه، إنّه مكان رؤيا يسوع والأطفال التي مَنَّ عليَّ بها الربيع الماضي. الجدار ذو الحجارة الجافّة معروف تماماً، وهو يَحدّ الأملاك التي تقطع الوادي. ها هي ذي الحقول بأشجار التفّاح وأشجار التين والجوز، وها هو ذا البيت الأبيض في عُمق الخُضرة، بجناحه ذي الإفريز الذي يحمي السُلَّم ويُشَكِّل رُواقاً ومَلاذاً. وها هي ذي القُبَّة الصغيرة، في الأعلى، وبستان الخضار مع البئر ودعائم الكرمة وحدائق الزهور…

 

في المنزل أصوات صاخبة. يتقدّم إسحاق. يَدخُل وينادي بصوت مرتفع: «مريم، يوسف، عمّانوئيل، أين أنتم؟ هلمّوا إلى يسوع.»

 

يَهرَع الصغار الثلاثة: طفلة في حوالي الخامسة وطفلان في الرابعة والثانية مِن عمرهم، وأصغرهم ما يزال يتعثّر الخطى. يَقِفُون فاغِريّ الأفواه لرؤيتهم... الذي بُعِثَ مِن جديد. ثمّ تصرخ الطفلة: «إنَّه إسحاق! يا أُمّاه! إسحاق هنا! جوديت رأت جيداً!»

 

مِن الغرفة التي تَنبَعِث منها الأصوات الصاخبة تَخرُج امرأة هي الأُمّ، متورّدة، سمراء، كبيرة وجميلة، ومِن خلال رؤيتها عن بُعد، هي رائعة الجمال بثيابها الاحتفاليّة: ثوب مِن الكتّان الأبيض يشبه قميصاً ثميناً يتهدّل بثنيات حتّى الكعبين، مشدوداً جيّداً في الوسط بشال متعدّد الألوان يُبرِز رَدفَين قويّين، يَنسَدِل مع أهداب حتّى مستوى الركبتين مِن الخلف، ويبقى مفتوحاً مِن الوجهة الأماميّة بعد تصالبه عند مستوى الحزام تحت عُقدة مُصاغَة. وِشاح خفيف بأغصان زهور ملوّنة على أرضيّة كستنائية فاتحة، مُثَبَّت على الضفائر السوداء مثل عمامة، ومِن ثمّ يَنسَدِل مِن خلف العنق، بتموّجات وَثَنيات، على الكتفين والصدر. يُثبّته على الرأس إكليل مِن ميداليات موصولة بحلقات. وفي الأذنين أقراط تتدلّى بحلقات ثقيلة. أمّا الفتحات في الجلباب عند الرقبة فيجتازها طَوق فضّيّ. وفي معصميها أساور فضّية ثقيلة الوزن.

 

«إسحاق! ولكن كيف؟ كنتُ أظنّ الشمس قد جَعَلَت جوديت تُمَسّ بجنون... أنتَ تسير! ولكن ما الذي جرى؟»

 

«الـمُخَلِّص! آه! يا سارة! إنّه هو! لقد أتى!»

 

«مَن؟ يسوع الناصريّ؟ أين هو؟»

 

«هناك، خلف شجرة الجوز، وهو يسأل إن كنتم تُرَحِّبون به!»

 

«يواكيم! أُمّي! هَلُمّوا جميعكم! إنّه مَسيّا!»

 

يَخرُج الجميع، نساء ورجال، أولاد وأطفال رُضّع، وهُم يَهتفون... ولكن حينما يَرَون يسوع كبيراً ومَهيباً، يَقِفون هَيَّابين وكأنّهم قد تَحَجَّروا.

 

«السلام لهذا البيت ولكم جميعاً. سلام وبركة الربّ.» يسير يسوع ببطء، مبتسماً للجميع. «أيّها الأصدقاء، هل تَمنَحون الـمُسافِر مأوى؟» ويبتسم أكثر.

 

وتنتَصِر ابتسامته على الـمَخاوِف، فيتشجّع الزوج ويتكلّم: «ادخل أيا مَسيّا. لقد أحببناكَ دون معرفة لنا بكَ. وسوف نحبّكَ أكثر بعد أن تَعَرَّفنا عليكَ. البيت اليوم يحتَفِل بمناسبات فَرَح ثلاث: أنتَ وإسحاق وختان ابني الثالث. باركه يا معلّم. أيّتها المرأة هلمّي بالطفل! ادخُل يا سيّدي.»

 

يَدخُلون إلى غرفة معدّة للاحتفال. طاولات وأطعمة، سجّاد وزينات في كلّ مكان.

 

تعود سارة حامِلَة على ساعِدَيها وَليداً وسيماً تدفعه ليسوع.

 

«ليكن الله معه على الدوام. ما اسمه؟»

 

«لا اسم له. هذه مريم، وهذا يوسف، وهذا عمّانوئيل. أمّا هذا الأخير فهو... ما يزال دون اسم بعد...»

 

يَنظُر يسوع إلى الزوجين مُجتَمِعَين في مواجهته ويبتسم: إذا كان سيُختَن اليوم، فابحثوا له عن اسم...»

 

يَنظُر الاثنان إلى بعضهما، يَنظُران إليه، يَفتَحان فَمَيهِما، يُعيدان إغلاقهما دون أن يَنبسا ببنت شفة. الجميع مُتيقّظون.

 

يُلِحّ يسوع: «إنّ تاريخ إسرائيل حافل بالكثير مِن الأسماء الكبيرة، الأسماء اللطيفة والأسماء الـمُبارَكَة، إنّ الأكثر ظُرفاً والأكثر بَرَكة قد أُطلِقَت، إنّما يوجد أيضاً أسماء أخرى.»

 

يهتف الزوجان معاً: «اسمكَ، يا سيدي!» ويُضيف الزوج: «ولكنّه قدسيّ جدّاً...»

 

يبتسم يسوع ويسأل: «متى سيكون الخِتان؟»

 

«ننتَظِر قدوم الـمُطَهِّر.»

 

«سأكون حاضراً أثناء الاحتفال. وفي انتظار ذلك أشكر لكم اهتمامكم بإسحاق. لم يعد الآن في حاجة إلى الطيّبين. إنّما ما يزال الطيّبون في حاجة إلى الله. لقد أسميتُما الثالث: الله معنا. ولكنّكما قد حَصَلتُما على الله منذ اليوم الذي مارستُم فيه المحبّة مع خادِمي. فلتَكونا مبارَكَين. وسوف نتذكّر فِعلكما على الأرض وفي السماء.»

 

«أيمضي الآن إسحاق؟ أيتركنا؟»

 

«سوف تتألّمون لذلك. إنّما عليه خدمة معلّمه، ومِن ثمّ سوف يعود، وأنا كذلك سأعود. وأنتم، في تلك الأثناء، سوف تتحدّثون عن مَسيّا... ينبغي التحدّث كثيراً لإقناع العالم! ولكن ها هو الذي ننتظره.»

 

يَدخُل إنسـان وقـور ومعه مُسـاعِد. يَتَلقّى التحيّـات والانحنـاءات. ثمّ يَسـأل باسـتعلاء: «أين الصبيّ؟»

 

«هو هنا، ولكن حيِّ مَسيّا، إنّه هنا.»

 

«مَسيّا؟... هذا الذي شَفى إسحاق؟ أعرف ولكن... سوف نتكلّم فيما بعد. إنّني على عَجَلة مِن أمري... الطفل واسمه.»

 

أَحَسَّ الأشخاص الموجودون بِحَرَج مِن أساليب الرجل. ولكنّ يسوع يبتسم وكأنّ الكلمات المنافية للتهذيب لم تكن مُوجَّهة إليه. يَأخُذ الصغير، يلمس جبهته بأصابعه الرائعة كما ليُكرّسه ويقول: «اسمه يسّا» ويعيده لأبيه الذي يمضي إلى غرفة مُجاوِرة بصحبة الرجل المتعالي والآخرين. ويبقى يسوع في مكانه لحين عودة الطفل الذي كان يُصدِر صرخات يائسة.

 

«إليَّ بالطفل أيّتها المرأة. وسوف يكفّ عن البكاء.» يقول ذلك مواساة للأُمّ القَلِقَة. وبالفعل يَصمت الطفل وهو على ركبتي يسوع.

 

يُشَكِّل يسوع مجموعة حوله، مع كلّ الصغار الذين يحيطون به والرُّعاة والتلاميذ... في الخارج، ثُغاء النِّعاج التي حَصَرَها إيلي في زريبة. في المنزل أصوات الاحتفال. ويأتون ليسوع ومُرافِقِيه بالحلوى والمشروبات، إلّا أنّ يسوع يوزّعها على الصغار.

 

«أفلا تشرب يا معلّم؟ ألا تَقبَل؟ إنّها مِن القلب بطيب خاطِر...»

 

«أعرف ذلك يا يواكيم، وأنا أقبَلها مِن كلّ قلبي. إنّما دعني أُسعِد الصِّغار، وفي هذا سروري...»

 

«لا تُعِر اهتماماً لذاك الرجل يا معلّم.»

 

«لا، يا إسحاق. إنّني أصلّي كي يَرى النور. يوحنّا خُذ الصغيرين لرؤية النِّعاج. وأنتِ يا مريم، هلمّي قُربي وقولي لي: مَن أنا؟»

 

«أنتَ يسوع بن مريم مِن الناصرة، المولود في بيت لحم. لقد رآكَ إسحاق، وهو الذي أطلَقَ عليَّ اسم أُمّكَ لأكون صالحة.»

 

«أنتِ صالحة مثل ملاك الله، طاهرة أكثر مِن زنبقة متفتّحة في قمّة الجبل، تَقيّة كما ينبغي لأقدس لاوي أن يكون، للاقتداء به. هل ستكونين كذلك.»

 

«نعم يا يسوع.»

 

«قولي يا سيّدي أو يا معلّم، أيّتها الطفلة.»

 

«دعها يا يهوذا تناديني باسمي. فما مِن شيء يجعله يحتَفِظ بكامل جرسه كما هو على شفاه والدتي، مِثل مروره على شِفاه بريئة. سوف يَذكُر الجميع، عبر العصور، هذا الاسم، البعض لمنفعة، وآخرون لأغراض مختلفة، وكثيرون للشتيمة. فقط الأبرياء، دونما حساب ودون كراهية، سوف يَذكُرونه بحبّ يُعادِل حبّ هذه الطفلة وحُبّ أُمّي. سيناديني الخطأة كذلك، إنّما لحاجتهم إلى الرحمة. أُمّي والصغار! ثمّ يقول للطفلة وهو يداعبها: «لماذا تَدعينني يسوع؟»

 

«لأنّني أحبّكَ كثيراً... مثل أبي وأُمّي وإخوتي الصغار...» تقول هذا وهي تُقَبِّل رُكبَتَيّ يسوع، وتبتسم وهي ترفع وجهها.

 

ينحني يسوع ليُقَبِّلها. وهكذا ينتهي كلّ شيء.