ج9 - ف27
أَنَا هُوَ
ماريا فالتورتا
L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO
THE GOSPEL AS REVEALED TO ME
بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}
L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ
MARIA VALTORTA
الترجمة إلى اللغة العربية: ماري حلمي وفيكتور مصلح.
الجزء التاسع
27- (تأمّلات حول آلام يسوع ومريم)
إملاء الأحد 20 / 02 / 1944
الآن، وقد حلّ الليل، يقول يسوع:
«لقد رأيتِ مقدار تكلفة أن نكون مُـخَلِّصين. لقد رأيتِ ذلك فيَّ وفي مريم. لقد أصبحتِ على دراية بكلّ عذاباتنا، ورأيتِ بأيّ بذل، بأيّة بطولة، بأيّ صبر، بأيّة وداعة، بأيّ ثبات، بأيّة صلابة قد كابدناها حبّاً بتخليصكم.
كلّ الّذين يريدون، الّذين يطلبون مِن الربّ الإله أن يجعل منهم "مُـخَلِّصين"، ينبغي أن يفكّروا جيّداً بأنّنا أنا ومريم القدوة، وأنّ هذه هي العذابات الّتي ينبغي مشاركتها لإتمام الخلاص. لن يكون ذلك بالصليب، الأشواك، المسامير، ضربات السياط الحسّية. بل ستكون عذابات أخرى، مِن شكل وطبيعة أخرى. إنّما ستكون مؤلمة ومُستَنفِذة على حدّ سواء. وفقط باستنفاذ الضحيّة عبر تلك الآلام يمكن أن تصبحوا مُـخَلِّصين.
إنّها رسالة مضنية. الأكثر شقاءً. والحياة وفقاً للقاعدة الأكثر شَظَفاً لراهب أو لراهبة، مقارنةً بها، تشبه الزهرة مقابل كومة مِن الأشواك. فهي ليست قاعدة مِن نظام بشريّ، بل هي قاعدة لكهنوت، لرهبنة إلهيّة، أنا هو مؤسّسهما، وأنا الّذي أقدّس وأقبل وفقاً لمنظومتي، مختاريها، وأضع عليهم ثوبي: الألم المطلق، وصولاً إلى التضحية.
لقد رأيتِ أوجاعي، لقد تأتّت كيما أكفّر عن خطاياكم. ما مِن موضع مِن جسدي كان مستثنىً منها، لأنّ لا شيء في الإنسان يخلو مِن الخطيئة، وكلّ أجزاء أناكم الجسديّة والمعنويّة -تلك الأنا الّتي منحكم إيّاها الله بكمال صنيعة إلهيّة، والّتي امتهنتموها بالخطيئة الأصليّة، وبميولكم الشرّيرة، بإرادتكم الطالحة- هي أدوات تستخدمونها لارتكاب الخطيئة.
إنّما أنا قد أتيتُ كي أمحو فيها عواقب الخطيئة بدمي وألمي، غاسلاً الأجزاء الفرديّة، الجسديّة والمعنويّة، كي أطهّرها وأقوّيها ضدّ الميول الشرّيرة.
إنّ يديّ قد جُرِحَتا وقُيِّدَتا، بعدما أرهقهما التعب مِن حمل الصليب، كي أُكفّر عن كلّ الجرائم الّتي ارتكبتها يد الإنسان. ابتداءً مِن تلك الفعليّة والذاتيّة المتمثّلة بحمل وتوجيه سلاح ضدّ أخ، جاعلةً مِن كلّ واحد منكم قاييناً، إلى السرقة، تزييف الاتّهامات، ارتكاب أفعال تعارض الاحترام تجاه أجسادكم وتجاه أجساد الآخرين، والتراخي في الكسل الّذي هو بيئة مؤاتية لرذائلكم. بسبب التحرّر غير المشروع ليديكم قد جعلتُ يديّ تصلبان، مسمّراً إيّاهما على خشبة، حارماً إيّاهما مِن كلّ حركة غير مشروعة وغير ضروريّة.
قَدَمَيّ مخلّصكم، بعد أن أُنهِكتا وسُحِجتا على حجارة درب آلامي، قد ثُقِبَتا، سُـمِّرَتا للتكفير عن كلّ الإثم الّذي ترتكبونه بواسطة أقدامكم، جاعلين منها الوسيلة للمضيّ إلى جرائمكم، سرقاتكم، رذائلكم. لقد وسمتُ دروب، ساحات، منازل، أدراج أورشليم، كي أُطَهّر كلّ دروب، ساحات، أدراج، منازل الأرض مِن كلّ الإثم الّذي وُلِد عليها وبداخلها، وقد بَذَرَته في العصور الماضية وستبذره في العصور الآتية إراداتكم السيّئة، منصاعة لتوجيهات الشيطان.
إنّ جسدي قد ترقّط، تكدّم، تمزّق كي أعاقب فيَّ كلّ التعبّد المتطرّف، الوثنيّة الّتي أعطيتموها لأجسادكم وأجساد مَن تحبّونهم بدافع مِن نزوة حسّيّة، أو أيضاً بدافع مِن عاطفة هي في ذاتها لا تستحقّ اللوم، إنّما تغدو كذلك بأن تحبّوا أحد الوالدين، زوج، ابن، أخ، بأكثر ممّا تحبّون الله.
لا. فوق كلّ محبّة وكلّ رابط على الأرض، هناك، يتوجّب، أن تكون المحبّة للربّ إلهكم. ليس، ليس مِن عاطفة أخرى ينبغي أن تسمو على هذه. أحبّوا أحبّاءكم مِن خلال الله، لا بأكثر مِن الله. أحبّوا الله بكلّ ذواتكم. إنّ ذلك لن يستنفذ محبّتكم إلى درجة جعلكم غير مكترثين بأنسبائكم، بل هو بالأحرى سوف يغذّي محبّتكم تجاههم بالكمال المستمدّ مِن الله، لأنّ مَن يحبّ الله يحظى بالله فيه، وبامتلاكه الله يحظى بالكمال.
لقد جعلتُ مِن جسدي جرحاً كي أنزع مِن أجسادكم سمّ الحواس، عدم الاستحياء، عدم الاحترام، الانجراف وتعظيم الجسد المقدّر له أن يعود تراباً. ليست عبادة الجسد هي ما تجعله جميلاً، بل الانفصال عن الجسد هو ما يمنحه الجمال الأبديّ في سماء الله.
لقد تعذّب رأسي بآلاف العذابات: بالضربات، بالشمس، بالصيحات، بالأشواك، كي أكفّر عن خطايا فِكركم. إنّ الكبرياء، نفاذ الصبر، عدم الاحتمال، عدم التسامح، تتكاثر كما الفطريّات في أدمغتكم. لقد جعلتُ منه عضواً مُعَذَّبَاً، مُحتَبَساً في نعش مزيّن بالدم، كي أُكفّر عن كلّ ما يصدر عن فكركم.
لقد رأيتِ الإكليل الوحيد الّذي أردتُه. إكليلٌ يمكن لمجنون وحده أو مُدان أن يضعه. ما مِن أحد سليم العقل (أتحدّث بمنطق بشريّ) وحرّ بنفسه، يفرضه على نفسه. إنّما قد تمّ اعتباري مجنوناً، وأنا، بشكل فائق الطبيعة، بشكل إلهيّ، كنتُ مجنوناً، بابتغائي الموت مِن أجلكم أنتم الّذين لا تحبّونني، أو الّذين تحبّونني قليلاً جدّاً، بابتغائي الموت كي انتصر على الشرّ فيكم عارفاً بأنّكم تحبّونه أكثر مِن الله، وكنتُ فريسة الإنسان، سجينه، مُداناً مِن قِبَله. أنا، الله، كنتُ مُداناً مِن قِبَل الإنسان.
كم هو نافذ صبركم تجاه تفاهات، كم تغدون متناقضين بفعل سخافات، كم أنتم غير قادرين على احتمال وعكات بسيطة! إنّما انظروا إلى مخلّصكم، تأمّلوا كم كان مِن المفترض أن يكون باعثاً على الاهتياج ذاك الوخز المتواصل للأشواك في مواضع جديدة، تشابكها مع خصلات الشعر، تحرّكها المتواصل دون إمكانيّة تحريك الرأس، عدم إمكانيّة إسناده بأيّة طريقة لا تسبّب له عذاباً! إنّما فكّروا ماذا كانت بالنسبة لرأسي المعذَّب، المتقرّح، المحموم، صيحات الجموع، الضربات على الرأس، الشمس الحارقة! إنّما فكّروا أيّما ألم كان يصيب عقلي المسكين، لقد مضيتُ إلى نزاع الجمعة وأنا أساساً لستُ سوى ألم بفعل الجهد المبذول عشيّة الخميس، في عقلي المسكين حيث كانت تتصاعد حُمّى كلّ الجسد الممزّق، والغثيان الّذي أضرمه التعذيب!
وفي رأسي: عيناي قد حظيتا بآلامهما، وبآلامه حظي فمي، أنفي حظي بآلامه، وبآلامه لساني. كي أُكفّر عن نظركم التوّاق لرؤية ما هو شرّير، الّذي به ينسى البحث عن الله، كي أكفّر عن الكثير والكثير مِن الكلام الكاذب والقذر والفاسق، الّذي تتفوّهون به بدلاً مِن أن تستخدموا شفاهكم للصلاة، للتعليم، للتعزية، وقد نال كلّ مِن الأنف واللسان عذابهما كي أكفّر عن شراهتكم وشهوانيّتكم الشَّمّية، والّتي عبرها أيضاً ترتكبون نواقص هي أرضيّة لخطايا أكبر، وترتكبون ذنوباً بالجشع لأطعمة تفوق الحاجة، دون التحلّي بالشفقة تجاه مَن هو جائع، أطعمة لا يمكنكم غالباً اقتناؤها إلّا باللجوء إلى مكاسب غير مشروعة.
وأعضائي الداخليّة لم تكن بمنأىً مِن العذاب. ولا واحدة منها. اختناقات وسعال للرئتين بفعل كدمات الجَلْد البربريّ، والاستسقاء [احتباس الماء في خلايا نسيج الجسم] بسبب الوضعيّة على الصليب. إنهاك وألم في القلب المنزاح مِن مكانه والمتأذّي مِن الجَلْد الوحشيّ، مِن الألم المعنويّ الّذي كان قد سبقه، مِن تعب الصعود تحت وطأة ثِقل الخشب، مِن فقر الدم المتأتّي مِن كلّ الدم المراق قَبلاً. الكبد والطحال محتقنان، الكليتان مكدومتان ومحتقنتان.
لقد رأيتِ إكليل الكدمات الّذي كان حول كليتيّ. إنّ علماءكم، لتقديم دليل بمواجهة إنكاركم للبرهان، الّذي هو الكفن، على معاناتي، يشرحون كيف أنّ الدم، التعرّق الاحتضاريّ، اليُوْرِيا [البولة] لجسد مضنىً، بمزجها مع الحنوط، قد أمكنها أن تُنتِج تلك اللوحة الطبيعيّة لجسدي المائت والمعذَّب.
كان مِن الأفضل الإيمان دونما حاجة لبراهين كثيرة. كان مِن الأفضل القول: "هذه صنيعة إلهيّة" ومباركة الربّ الّذي سمح لكم أن تمتلكوا البرهان القاطع على صلبي والعذابات الّتي سبقته!
إنّما، ولأنّكم الآن لم تعودوا تُحسِنون الإيمان بالبساطة الّتي للأطفال، بل تحتاجون لأدلّة علميّة -كم هو مسكين إيمانكم الّذي دونما مساندة وتحفيز العلم لا يمكنه الوقوف والمشي- فاعلموا أنّ الصّدمات الرَّضيّة الهمجيّة لكليتيّ كانت العامل الكيميائيّ الأقوى في معجزة الكفن. إنّ كليتيّ، اللتين كادت ضربات السياط أن تسحقهما، لم تعودا قادرتين على تأدية وظيفتهما. كما تلك الّتي لأشخاص احترقوا بالنار، لم تعودا قادرتين على الترشيح، وتراكمت اليُوْرِيا [البولة] وانتشرت في دمي، في جسدي، مسبّبة معاناتي التسمّم اليوريمي، والمركّب الكيمائيّ الّذي نضح مِن جثماني ثَبَّت الانطباع على القماش. والطبيب منكم، أو مَن هو منكم مصاب بتَبَولن الدم [urémie]، يمكن أن يدرك أيّ معاناة قد سبّبتها لي السموم اليوريميّة، الغزيرة لدرجة أنّها كانت قادرة على إنتاج بصمة لا تمحى.
العطش. أيّ تعذيب هو العطش! وقد رأيتِ ذلك. لم يوجد واحد، مِن بين كثيرين، عرف أن يعطيني رشفة ماء. منذ العشاء فصاعداً، ما عدتُ حظيتُ بأيّة تعزية. والحمّى، الشمس، الحرارة، الأتربة، نزف الدم، كانت قد سبّبت عطشاً شديداً لمخلّصكم.
لقد رأيتِ رفضي للنبيذ الممزوج بالمرّ. لم أرد أن ألطّف معاناتي. عندما نقدّم أنفسنا بمثابة ضحايا، ينبغي أن نكون ضحايا دون تدابير رحومة [مُـخَفِّفة]، دونما مرونة، دونما تلطيف. ينبغي شرب الكأس تماماً كما قُدِّمت. تَذَوّق الخلّ والمرارة حتّى بلوغ القاع. لا النبيذ المخدّر الّذي يُسَكّن الألم.
آه! إنّ مصير الضحيّة قاسٍ بحقّ! إنّما طوبى لمن يختاره على أنّه مصير له.
هذه هي آلام يسوعكِ في جسده البريء. ولا أكلّمكِ عن عذاباتي المتأتّية مِن عاطفتي تجاه أُمّي وبسبب تألّمها. كان لازماً ذاك الألم. إنّما بالنسبة لي فقد كان التمزّق الأكثر قسوة. ووحده الآب يعلم ما الّذي كابده كلمته في روحه، في عقله، في جسده! كذلك تواجد أُمّي، فعلى الرغم مِن أنّه كان أكثر ما رغبه قلبي الّذي كان بحاجة لتلك التعزية في العزلة اللامحدودة الّتي كانت تحيط به، فإنّ العزلة اللامحدودة المتأتّية مِن الله ومِن البشر، قد كانت تعذيباً.
قد كان ينبغي أن تتواجد هناك، ملاكاً بشريّاً لمنع اليأس مِن مهاجمتي كما كان قد منعه الملاك الروحيّ في جَثْسَيْماني، كان عليها أن تتواجد هناك لتوحيد ألمي مع ألمها مِن أجل فدائكم، كان عليها أن تتواجد هناك كي تتسلّم منصبها كأُمّ للبشريّة. إنّما رؤيتها تموت مع كلّ جرح يصيبني كان ألمي الأعظم. فلا ألم الخيانة، ولا ألم الشعور بأنّ تضحيتي لن تكون مجدية لكثيرين، اللذيَن تبدّيا لي قبل ساعات قليلة عظيمين جدّاً لدرجة جعلي أتعرّق دماً، كانا قابِلَين للمقارنة بهذا.
لكنّكِ رأيتِ كم كانت مريم عظيمة في تلك الساعة. إنّ التمزّق لم يمنعها مِن أن تكون أقوى كثيراً مِن يهوديت. تلك قَتَلَت. هذه جعلت نفسها تُقتَل مِن خلال ابنها. ولم تلعن، ولم تكره. لقد صلّت، لقد أحبّت، لقد أطاعت. كانت أُمّاً على الدوام، إلى درجة التفكير، وسط تلك العذابات، أنّ يسوعها كان بحاجة إلى وشاحها العذراويّ على جسده البريء صوناً لحشمته، هي أحسنت أن تكون بذات الوقت ابنة آب السماوات وأن تتحلّى بالطاعة لإرادته الثقيلة الوطأة لتلك الساعة. لم تجدّف، لم تَثُر، لا على الله، لا على البشر. لقد غفرت لهم. ولله قالت: "لتكن مشيئتكَ".
وأيضاً قد سمعتِها بعد ذلك: "أيّها الآب، إنّني أحبّكَ وأنتَ أحببتَنا!" إنّها تتذكّر وتُعلِن أنّ الله قد أحبّها وتُجدّد له فِعل محبّتها. في تلك الساعة! بعدما طَعَنَها الآب، وطَعَنَها بباعث وجودها. إنّها تحبّه. هي لا تقول: "لم أعد أحبّكَ لأنّكَ ضربتَني". إنّها تحبّه. وهي لا تتظلّم بسبب ألمها، إنّما بسبب الألم الّذي عاناه ابنها. إنّها لا تصرخ لأجل قلبها الممزّق، ولكن بسبب ثَقْب جسدي. إنّها تسأل الآب عن مسوّغ ذلك، لا عن مسوّغ ألمها. تسأل الآب عن مسوّغ ذلك باسم ابنهما.
إنّها بحقّ عروس الله. إنّها بحقّ الّتي حملت بالاتّحاد مع الله. هي تعلم أنّ ابنها لم يكن نتيجة اتّصال بشريّ، بل وحدها النار الّتي نزلت مِن السماء لتخترق أحشاءها الطاهرة وتضع فيها البذرة الإلهيّة، جسد الإنسان-الله، جسد الله-الإنسان، جسد فادي العالم. هي تعلم ذلك، وكعروس وأُمّ تطلب مبرّراً لذاك الجرح. الجراح الأخرى كانت لازمة، إنّما وحيث أنّ كلّ شيء كان قد تمّ، فلماذا هذا الجرح؟
الأُمّ المسكينة! قد كان هناك مبرّراً، لكن ألمكِ لم يسمح لكِ أن تقرأيه على جرحي. إنّه كي يرى الإنسان قلب الله. أنتِ قد رأيتِه يا ماريا [فالتورتا]، ولن تنسيه أبداً.
لكن، أترين؟ كذلك مريم لم ترَ في تلك اللحظة المبرّر فائق الطبيعة لذلك الجرح، تفكرّ على الفور بأنّه لم يسبّب لي ألماً، وتبارك الله على ذلك. هي لم تكترث أنّ ذلك الجرح قد سبّب لها، الأُمّ المسكينة، ألماً عظيماً، كان يكفي بالنسبة لها أنّه لم يسبّب لي ألماً، وتُبارك الربّ الّذي يضحّي بها.
إنّها لا تطلب سوى القليل مِن التعزية كي لا تموت. فهي ضروريّة لأجل الكنيسة الناشئة، الّتي جُعِلت أُمّاً لها منذ ساعات قليلة. إنّ الكنيسة، كما مولود جديد، بحاجة للعناية ولحليب أُموميّ. ومريم ستعطيهما لها، عاضدةً الرُّسُل، مُـحَدّثةً إيّاهم عن المخلّص، مصلّيةً لها. ولكن كيف يمكن ذلك إذا ما ماتت هذا المساء؟ إنّ الكنيسة، الّتي عليها أن تلبث بضعة أيّام دون رئيسها، سوف تغدو يتيمةً تماماً إذا ما ماتت الأُمّ أيضاً. ومصير حديثي الولادة الأيتام هو مصير متقلقل على الدوام.
إنّ الله لا يخيّب أبداً صلاة صادقة ويعزّي أبناءه الّذين يرجونه. إنّ مريم قد تيقّنت مِن ذلك في التعزية الّتي تأتّت مِن وشاح فيرونيكا. هي، الأُمّ المسكينة، قد انطبعت في عينيها صورة وجهي المنطفئ. إنّها ما عادت قادرة على تحمّل تلك الرؤية. إنّ ذاك، الـهَرِم، الـمُتورّم، ذا العينين المقفلتين اللتين لا تنظران إليها، ذا الفم الملتوي الّذي لا يكلّمها ولا يبتسم لها، ما عاد بعد يسوعها. إنّما ها هو ذا وجه ليسوع الحيّ. متألّم، مجروح، إنّما حيّ بعد. ها هو نَظَره الّذي ينظر إليها، فمه الّذي كما لو أنّه يقول: "ماما!". ها هي ابتسامته الّتي تُحيّيها بعد.
آه! يا ماريا [فالتورتا]! ابحثي عن يسوعكِ في ألمكِ. هو سيأتي دوماً وينظر إليكِ، سيناديكِ، سيبتسم لكِ. سوف نتشارك الألم، لكنّنا سنكون متّحدَين!
آه، يا يوحنّاي الصغيرة [ماريا فالتورتا]، لقد تشاركتِ الألم مع يسوع ومع مريم. كُوني كما يوحنّا، على الدوام. كذلك في هذا الأمر. لقد سبق أن قلتُ لكِ: "لن تكوني عظيمةً بسبب التأمّلات والإملاءات، فتلك هي لي، بل لأجل محبّتكِ. إنّ المحبّة الأكثر سموّاً هي مشاركة الألم". إنّ هذا يمنح إمكانيّة استشعار أبسط رغبات الله وجعلها حقيقة واقعة مهما كانت الصّعاب. انظري بأيّة رهافة رقيقة وحيويّة قد تَصَرَّف يوحنّا مِن ليلة الخميس إلى ليلة الجمعة. وما بعد ذلك. فلنتأمّله في تلك الساعات.
برهة مِن الارتباك. ساعة مِن الخمول. إنّما، إذ انتصر على التبلّد بفعل رجفة الاعتقال وارتعاش المحبّة، يأتي، يأخذ معه بطرس، كيما يتعزّى المعلّم برؤية رئيس رُسُله ورسوله المفضّل.
ثمّ يفكّر بالأُمّ، الّتي قد يهتف إليها أحد عديمي الرحمة بنبأ حدوث الاعتقال. وها هو يمضي إليها. إنّه لا يعلم أنّ مريم كانت تعيش بالفعل تمزّقات الابن، وأنّها، بينما كان الرُّسُل ينامون، كانت ساهرة وتصلّي، مُنازِعةً مع ابنها. هو لا يعلم ذلك. ويمضي إليها ويهيّئها للنبأ.
ثمّ يتنقّل بين منزل قيافا ودار الولاية، منزل قيافا وقصر هيرودس، ومجدّداً مِن منزل قيافا إلى دار الولاية. والقيام بذلك في ذاك الصباح، شاقّاً طريقه عبر الحشود السكرى بالكراهية، مرتدياً ملابس تشير إلى أنّه جليليّ، لم يكن أمراً يبعث على الاطمئنان. لكنّ المحبّة تشدّد عزمه، ولا يفكّر بنفسه، بل بآلام يسوع وأُمّه. كان يمكن أن يُرجَم كونه مِن أتباع الناصريّ. لا يهمّ. إنّه يتحدّى كلّ شيء. الآخرون قد هربوا، إنّهم يختبؤون، منقادين بالاحتراس والخوف. هو تقوده المحبّة، يبقى ويُظهِر نفسه. إنّه طاهر، والمحبّة تزدهر في الطُّهر.
وإذا ما كانت شفقته وحسّه الشعبيّ السليم قد حثّاه على إبقاء مريم بعيداً عن الحشود وعن دار الولاية -هو لا يعلم أنّ مريم تشارك ابنها كلّ آلامه، تقاسيها روحيّاً- فهو عندما قَدَّر أنّ الساعة الّتي يحتاج فيها يسوع لأُمّه قد حانت، وأنّه لا يجوز إبقاء الأُمّ منفصلة عن الابن أكثر مِن ذلك بعد، فهو يقودها إليه، يساندها، يحميها.
ماذا تُشكّل هذه الحفنة مِن الأشخاص الأوفياء: رجل وحيد، لا حول له ولا قوّة، فتيّ، بلا نفوذ، على رأس قلّة مِن النساء، مقارنة بحشد هائج؟ لا شيء. كومة أوراق يمكن للريح أن تبعثرها. قارب صغير وسط محيط عاصف يمكنه إغراقه. لا يهمّ. إنّ المحبة هي قوّته وشراعه. إنّه مسلّح بها، وبهذه يحمي المرأة والنسوة حتّى النهاية. إنّ يوحنّا قد امتلك المحبّة الرحومة كما لم يمتلكها أحد آخر في العالم باستثناء أُمّي. إنّه رائد مَن يمتلكون هكذا محبّة. إنّه معلّمكِ بهذا الأمر. اتبعيه في المثال الّذي يقدّمه لكِ بالطهارة والمحبّة، وستكونين عظيمة.
الآن اذهبي بسلام، أبارككِ.»
***
07 / 04 / 1945
يقول يسوع:
«…وحيث أنّني أتوقّع ملاحظات كُثُراً مِن توما ومِن كَتَبَة الزمن الحالي على جملة ضمن إملاء الأحد 20 / 02 /1944، والّتي تبدو متعارضة مع رشفة الماء الّتي قدّمها لونجين… -آه! كما ناكري الفائق للطبيعة، إنّ عقلانيّي التعارض مع الكمال، لسوف يغتبطون لتمكّنهم مِن إيجاد صدع في التناسق الرائع لصنيعة الصلاح الإلهيّ هذه ولتضحيتكِ يا يوحنّاي الصغيرة، كي يتمكّنوا، مستفيدين مِن هذا الصدع لإعمال فأس عقلانيّتهم القاتلة، لهدم كلّ شيء!- فلكي أمنع ذلك، أقول وأشرح.
إنّ رشفة الماء المسكينة تلك -قطرة في نار الحمى وفي جفاف الأوردة الـمُفَرّغة- الّتي قَبِلتُها بدافع محبّة تجاه نَفْس كان يتوجّب إقناعها بالمحبّة لجذبها إلى الحقّ، المأخوذة بعناء عظيم بسبب اللهاث الشديد الّذي كان يخنق أنفاسي ويعرقل البلع، والجَلْد الشنيع الّذي سحقني، لم تمنحني سوى تعزية فائقة للطبيعة. بالنسبة لجسدي قد كانت عديمة الجدوى، كي لا أقول تعذيباً… إنّ عطشي وقتها كانت يتطلّب أنهاراً… ولم أكن أستطيع أن أشرب بسبب كرب معاناة الآلام الصدريّة. وأنتِ تعلمين ما هو هذا الألم. قد كانت تتطلّب أنهاراً، لكنّها لم تُعطَ لي. وما كنتُ لأستطيع شربها بسبب الاختناق المتعاظم باطّراد. إنّما أيّ تعزية كانت لتمنح قلبي لو أنّها كانت قد قدّمت لي! كنتُ أموت بسبب المحبّة، بسبب محبّة لم تمنح لي. إنّ الرأفة محبّة هي. وفي إسرائيل لم تكن هناك رأفة.
عندما تتأمّلون، أنتم الطيّبين، أو تُحلّلون، أنتم المتشكّكين، تلك "الرشفة"، أعطوها الاسم الصحيح "رأفةً"، لا شراباً. لذلك يمكن القول، دونما التورّط بالكذب، أنّني: "منذ العشاء فصاعداً لم أحظَ بتعزية". مِن بين كلّ الناس الّذين كانوا يحيطون بي لم يوجد ولا شخص واحد قد تحلّى بالتعاطف تجاهي، حيث أنّني لم أرغب بتناول النبيذ المخدّر. لقد نلتُ الخلّ والسخرية. نلتُ الخيانة والضرب. هذا ما نلتُه. لا شيء آخر…»