ج5 - ف5

أَنَا هُوَ

ماريا فالتورتا

L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO

THE GOSPEL AS REVEALED TO ME

بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}

L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ

MARIA VALTORTA

الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.

 

الجزء الخامس/ القسم الأول

 

5- (ألم، صلاة، كفّارة يسوع)

 

02 / 11 / 1945

 

يسوع مِن جديد في أسفل الكُتلة التي بُنِيَت عليها يفتائيل، إنّما ليس على الطريق الرئيسيّة (ولِنُطلق عليها هذا الاسم) أو الدرب الخاصّ بالبغال، التي سارت عليها العربة قبل ذلك. ولكنّه على مَسلَك للماعز، شديد الانحدار، كلّه صخور وتصدّعات عميقة ويَستَنِد إلى الجبل، أحسَبه منحوتاً في جانبه العموديّ، كما لو أنّ مخالب عملاقة هي التي نحتته، وتحدّه هوّة عموديّة بأعماق جديدة، يَزبد في أعماقها سيل هادِر. فهنا، خطوة خاطئة خلال القفز مِن دَغل عوسج أو نباتات برّيّة أخرى لست أدري كيف نبتت في تصدّعات الصخور، وهي لا تنتصب عموديّاً كما هي العادة، بل بشكل مائل، أو حتّى أفقيّاً حسبما يَفرض الوضع، إلى دغل، تعني سقوطاً بلا رجاء. خطوة خاطئة تعني التمزّق بواسطة أمشاط تلك النباتات الشوكيّة، أو تهشيم الكليتين بالاصطدام بالجذوع الصلبة التي تتدلّى على الهوّة. خطوة خاطئة تعني التمزّق على الحجارة الحادّة التي تَبرُز مِن جدران الهوّة. خطوة خاطئة تعني الوصول إلى مياه السيل الهادر المزبدة، والدماء تسيل وقد تَهشَّمَ الجسم، والغرق في مجرى مِن صخور حادّة الرأس، مصفوعاً مِن عنف شدّة التيار.

 

ومع ذلك يجتاز يسوع هذا الـمَسلَك، هذا الصخر المنحوت الذي يُشكِّل خطراً أعظم الآن بسبب الرطوبة المتصاعدة مِن السيل كالدخان، وترشح مِن الجدار الأعلى، وتقطر مِن الأشجار التي نبتت على هذا الجدار الصاعد، وهي مُقعَّرة قليلاً.

 

يَمضي ببطء وحَذَر، يَحسُب خطواته بدقّة على الحجارة الحادّة، بعضها يهتزّ، ويضطرّ أحيانا لأن يُلاصِق الجدار بشدّة لضيق الـمَسلَك، ولاجتياز ممرّات خطرة للغاية ينبغي له التمسّك بأغصان تتدلّى مِن الجدار. يدور هكذا حول الجهة الغربيّة، ويَبلغ الجهة الجنوبيّة حيث يُصبِح الجبل مقعّراً أكثر مِن أيّ مكان آخر، بعد انحدار قاس مِن القمّة، وبذلك يُصبِح الـمَسلَك أكثر رحابة، إنّما بالمقابل يقلّ الارتفاع بحيث يضطرّ يسوع في بعض الأمكنة إلى التقدّم منحنياً لكي لا يَصدم رأسه بالصخور.

 

قد يكون ينوي التوقّف هناك، حيث ينتهي الـمَسلَك فجأة كما بِرُكام. ولكنّه، وهو يتأمّل الرُّكام، يَرَى مغارة تحته، وهي عِبارة عن صَدع في الجبل أكثر منه مغارة، ويَنزِل إليها عَبْر الأنقاض. هي صَدع في البداية، إنّما في الداخل فمغارة واسعة، كما لو أنّ الجبل قد حُفِرَ بالمعاول منذ أمد بعيد، لستُ أدري لأيّ هدف. وتَظهَر بجلاء الأماكن التي تتشارك فيها الانحناءات الطبيعيّة وتلك التي مِن صُنع البشر، حيث في الجهة المقابلة للصدع المدخل فُتِحَ ممرّ ضيّق، ترتسم في نهايته حزمة نور تُلاحَظ فيها غابات تشير إلى كيفيّة التوغّل فيها مِن الجنوب إلى الشرق مع قطع أنف الجبل.

 

يَسلك يسوع هذا الممرّ المظلم والضيّق، ويجتازه حتّى يصل إلى الفتحة الموجودة فوق الطريق التي سَلَكَها مع الرُّسُل ومعهم العربة لِيَصعَدوا إلى يفتائيل. تُقابِله الجبال المحيطة ببحيرة الجليل، وفيما وراء الوادي جهة الشمال الشرقيّ يتألّق حرمون العظيم بثوبه الثّلجي الناصع. سُلّم بدائيّ محفور في سفح الجبل الذي يبدو هنا غير عموديّ، لا في جهة الصعود ولا في جهة الهبوط، وهذا السلّم يقود إلى طريق البغال التي في الوادي، وكذلك إلى القمّة حيث بلدة يفتائيل.

 

يسوع راضٍ عن استكشافه. يتراجع إلى الخلف إلى المغارة الرحبّة، ويبحث عن مكان محميّ، حيث يُكدِّس أوراقاً جافّة قَذَفَتها الرياح إلى الكهف. مَرقَد بائس للغاية، طبقة رقيقة مِن الأوراق الجافة تفصل بين جسده والأرض العارية المجلّدة... ويرتمي فوقها بلا حراك، ممدّداً ويداه تحت رأسه، نَظَرَه مُثبَّت على القبّة الصخريّة، شارد الذهن، مذهولاً كَمَن تَحمَّل جهداً أو آلاماً تفوق قدراته. ثمّ، وببطء، تبدأ تَنهَمِر دموع مِن عينيه، بلا نحيب، وتسيل على جانبي الوجه، لتضيع بين الشعر جانب الأذنين لتنتهي في الأوراق الجافة…

 

يبكي هكذا طويلاً، دون كلام ولا حركات...ثمّ يَجلس، رأسه بين ركبتيه اللذين رَفَعَهما وأحاطهما بيديه المتشابكتين، وينادي بكلّ نفسه الأُمّ البعيدة: «أُمّي! أُمّي! أُمّي! عذوبتي الأزليّة! آه! يا أُمّي! آه! يا أُمّي! كم أودُّ لو تكوني قريبة منّي! لماذا لستِ معي على الدوام، أيّتها العزاء الوحيد مِن الله؟»

 

تجويف المغارة هو الوحيد الذي يردّ على كلماته وبُكائه بهمهمة صدى غير كاملة، ويبدو أنّ هذا التجويف يبكي كذلك في أركانه المنعزلة، صخوره ونوازله المتدلّية في إحدى زاوياه، وقد تكون الأكثر تعرّضاً لتأثير المياه الداخليّة.

 

ويستمرّ بكاء يسوع، بأكثر هدوءاً، وكأنّ مناداة أُمّه كان كافياً لمواساته، ورويداً رويداً تحوّل البكاء إلى مناجاة (مونولوج).

 

«لقد مَضوا... ولماذا؟ وبسبب مَن؟ لماذا كان عليَّ أن أسبّب هذا الألم؟ ولماذا أسبّبه لنفسي طالما أنَّ العالم يملأ يومي به؟... يهوذا‍!»

 

مَن يدري إلى أين تمضي أفكار يسوع، الذي يرفع رأسه مِن على ركبتيه ويَنظُر إلى الأمام، عيناه متوسّعتان ووجهه متوتّر، وكأنّه مُستَغرِق برؤى روحيّة للمستقبل، أو بتأمّلات عظيمة. لم يعد يبكي، ولكنّه يتألّم بشكل جليّ. ثمّ يبدو أنّه يُجيبُ مُحاوِراً غير مرئيّ، ولكي يفعل ذلك، يَهبّ واقفاً.

 

«أنا إنسان أيّها الآب، أنا الإنسان. فضيلة الصداقة، المجروحة والممزّقة فيَّ، تتلوّى وتتفجَّع بألم…

 

أَعلَم أنّه ينبغي لي أن أتألّم كلّ الألم. أَعلَم ذلك. كإله، أعرف ذلك، وكإله أريده، مِن أجل خير العالم. كإنسان كذلك أَعلَم، لأنّ روحي الإلهيّة تُطلِع إنسانيّتي عليه. وكإنسان كذلك أريده، مِن أجل خير العالم. ولكن، يا له مِن ألم يا أبتي!

 

هذه الساعة أشدّ شقاء مِن تلك التي عشتُها مع روحكَ وروحي في البرّيّة... والتجربة الحاليّة أشدّ وقعاً، كي لا أُحِبّ ولا أتحمّل وجود ذاك الكائن الدَّبِق والمراوغ الذي اسمه يهوذا، سبب الألم العظيم الذي أتجرّعه حتّى الجمام، والذي يعذّب النفوس التي منحتُها السلام.

 

أيّها الآب إنّني أشعر بأنّكَ تُصبِح أكثر صرامة مع ابنكَ كلّما اقتربتُ مِن زمن التكفير هذا الذي أجعلهُ كفّارتي لصالح الجنس البشري. وتبتعد عذوبتكَ عنّي أكثر فأكثر لِيَظهَر وجهكَ أكثر صرامة لروحي الذي يَجِد ذاته منبوذاً في الأعماق، حيث الإنسانيّة التي ضَرَبتَها بتأديبكَ، تئنّ منذ آلاف السنين.

 

كان الألم بالنسبة إليَّ عذباً، وكان الدرب في بداية الوجود عذباً، وكان عذباً كذلك انفصالي عن أُمّ لِأُصبِح، أنا ابن النّجار، معلّم العالم، لأمنحكَ، أنتَ أيّها الآب، إلى الإنسان السَّاقِط. وبالمقارنة مع ما أنا عليه الآن، كانت المعركة مع العدوّ في تجربة البرّيّة عَذبَة. لقد واجهتُهُ بشجاعة الأبطال بالقوى الكاملة... آه! يا أبتي!... لقد أُنهِكَت قُواي الآن بغياب الحبّ وبمعرفة أشخاص كثيرين وأشياء كثيرة…

 

الشيطان، كنتُ أَعلَم ذلك، كان سيمضي، وقد مضى فعلاً ما إن انتهت التجربة، لِتَحضر الملائكة وتواسي ابنكَ لكونه إنساناً خَضَعَ لتجربة الشيطان.

 

أمّا الآن فإنّ التجربة لا تنتهي، وعندما تمرّ الساعة التي يتألّم فيها الصديق مِن أجل الأصدقاء الـمُرسَلين إلى البعيد، والصديق الكاذب الذي يُلحِق الضرر قريباً كان أو بعيداً. فإنّ التجربة لا تتوقّف. وملائكتكَ لا تأتي لمواساتي لهذه الساعة ولما بعد هذه الساعة. إنّما العالم هو الذي يأتي ومعه الحقد كلّه والهزء كلّه، بالإضافة إلى عدم تفهّمه. ولكنّه سيأتي، وسيكون أكثر قرباً على الدوام، وأكثر التواء ولُزوجة، الكاذِب الخائن، الـمُباع إلى الشيطان. أبتاه!!...»

 

هذه الصَّيحة تُفتِّت القلب بحقّ، إنّها صيحة ذُعر، هي نداء، واضطراب يسوع يُذكِّرني بساعة جَثْسَيْماني.

 

«أبتاه! أعرف ذلك وأراه...بينما أنا أتألّم وسأتألّم، وأُقرِّب لكَ آلامي مِن أجل هدايته، ومِن أجل الذين انتُزِعوا مِن بين ذراعيَّ، والذين هُم الآن راحِلون، والقلب مطعون، إلى مصيرهم، هو يَبيع نفسه لِيُصبِح أعظم منّي، أنا ابن الإنسانّ!

 

ألستُ أنا ابن الإنسان؟ نعم. ولكنّني لستُ الوحيد. الإنسانيّة، حواء الوَلودة وَضَعَت أبناءها، وإذا كنتُ هابيل، البريء، فقايين أيضاً موجود في سُلالة الإنسانيّة. وأنا البِكر، لأنّني كما كان على ابن الإنسان أن يكون، دون وصمة في نظركَ، وهو، المولود في الخطيئة، هو بِكر الذين على ما هُم عليه بعد أكل الثَّمَرة المسمومة. والآن، وإن لم يكن مسروراً للتخمّرات المقرفة التي فيه، وتجديف الكذب، والتصرّف بما ينافي المحبّة، التعطّش إلى الدم، الرغبة الجشعة إلى المال، والكبرياء والفجور، فإنّه يتشيطن، الإنسان الذي كان يمكنه أن يُصبِح ملاكاً، يَجنَح لأن يكون الإنسان الذي يُصبِح شيطاناً... "وأراد لوسيفوروس أن يكون مشابهاً لله، لذلك طُرد من الجنّة، وبتحوّله إلى شيطان، سكن جهنّم".

 

ولكن، أبتاه! آه! يا أبي! إنّني أحبّه... ما زلتُ أحبّه. إنّه إنسان... إنّه أحد الذين تركتُكَ مِن أجلهم... فباسم تواضعي خَلِّصه... اسمح لي أن أفتديه، أيّها الرب العليّ! هذا التكفير هو مِن أجله أكثر ممّا هو مِن أجل الآخرين! آه! أَعلَم أنّ ما أطلبه غير متوافق، أنا الذي أعرفه تماماً!... ولكن، يا أبي، للحظة واحدة، لا تنظر إلي ككلمتكَ. تأمّل فقط إنسانيّتي كَبَارّ... واسمح لي أن أستطيع أن أكون، للحظة واحدة، فقط "الإنسان" بفضلكَ، الإنسان الذي لا يعرف المستقبل، الذي يُمكِنه أن يتوهَّم... الإنسان الذي، لعدم معرفته المصير المحتوم، يمكنه الصلاة برجاء مُطلَق لينتَزِع منكَ المعجزة.

 

معجزة! معجزة واحدة ليسوع الناصري، ليسوع بن مريم التي مِن الناصرة، محبّوبتنا الأزليّة! معجزة تَنقُض ما كُتِبَ وتلغيه! خلاص يهوذا! لقد عاش إلى جانبي، لقد شَرِب كلامي، ولقد قاسَمَني الطعام، لقد نام على صدري... ليس هو، اجعله لا يكون هو شيطاني!...

 

لا أطلب منكَ ألّا أكون هدف الخيانة... فهذا ينبغي أن يكون، وسوف يكون... لكي، بآلامي التي ستُسبِّبها الخيانة تُمحى كلّ الأكاذيب، كما بألمي كمباع يُكَفَّر عن كلّ أنواع البُخل، كما بتمزّقي كمُجَدَّف عليَّ تُغفَر كلّ التجديفات، وبألم عدم الإيمان بي فليُمنَح الإيمان لِمَن هُم بدونه، كما فلتتطهّر بعذابي كلّ آثام الجسد... ولكن أرجوك: ليس هو، ليس هو، يهوذا، صديقي ورسولي!

 

لا أريد أن يخون أحد... لا أحد... ولا حتّى الأكثر بُعداً في جليد القطب المتجمّد، أو في نيران المنطقة الحارّة... أودُّ لو تكون أنتَ وحدكَ الكاهن مُقدِّم الذبيحة... كما كنتَ في المرّات السابقة حين أحرقتَ بنيرانكَ الـمُحرقات... إنّما بما أنّه ينبغي لي أن أموت على يد الإنسان، وسوف يكون الصديق الخائن جلّاداً يفوق الجلّاد الحقيقيّ، الفاسد الذي ستكون فيه نتانة الشيطان، وهو الآن يسحبه إلى داخله، ليماثلني في سلطاني... هكذا هو يُفكِّر في كبريائه وفي شهوته، ذلك أنّ عليَّ أن أموت على أيدي الإنسان، فيا أبتي، هَبني ألّا يكون الذي دعوتُه صديقاً ومحبّوباً هكذا هو الخائن.

 

ضاعِف عذاباتي، يا أبتي، إنّما هَبني نَفْس يهوذا... أَضَع هذه الصلاة على مَذبَح شخصي الضحيّة... فتقبَّلها يا أبتي!...

 

السماء مُغلَقة وصمّاء!... فهذا هو إذن الهَلَع الذي سأحمله معي حتّى الموت؟

 

السماء صمّاء ومُغلَقة!... فهذا هو إذن الصمت والسجن الذي فيه سيُكفِّر روحي؟

 

السماء مُغلَقَة وصمّاء!... وسيكون هذا قمّة عذاب الشهيد؟…

 

أبتاه، لتكن مشيئتكَ لا مشيئتي... ولكن، بسبب عذاباتي، آه! هذا على الأقلّ! بسبب عذاباتي، امنح السلام لشهيد يهوذا الآخر، يوحنّا الذي مِن عين دور، يا أبتي... هو في الحقيقة أفضل مِن كثيرين. لقد قَطَعَ شوطاً قليلون هُم مَن يعرفون وسيعرفون أن يَقطَعوه. بالنسبة إليه، لقد تمّ كلّ ما يخصّ الفِداء. فامنحه إذن مِلء وكمال سلامكَ، كي يكون لي أنا في مجدي، عندما سيكون قد تمّ كلّ شيء لي مِن أجل تمجيدكَ وطاعتكَ... يا أبتي!...»

 

يَنزَلِق يسوع بهدوء على ركبتيه، والآن هو يبكي، وجهه إلى الأرض، ويُصلّي بينما نور النهار الشتويّ القصير يتلاشى قبل موعده في المغارة المظلمة، وصَخَب السيل يزداد حِدَّة كلما اجتاح الظلّ الوادي...