ج3 - ف43

أَنَا هُوَ

ماريا فالتورتا

L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO

THE GOSPEL AS REVEALED TO ME

بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}

L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ

MARIA VALTORTA

الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.

 

الجزء الثالث / القسم الأول

 

43- (يسوع في مجدلة. اللّقاء الثاني مع مريم المجدليّة)

 

12 / 08 / 1944

 

الـمَعهَد الرَّسوليّ بأكمله حول يسوع. إنّهم يَجلسون على العشب، في ظلّ مجموعة مِن الأشجار، قرب أحد الجداول، والجميع يأكلون الخبز والجُّبن، ويَنهَلون مِن ماء الجدول المنعش والصافي. والأحذية الـمُعَفَّرة بالغبار تشير إلى أنّهم قد ساروا طويلاً. وقد لا يَطلب التلاميذ سوى أن يستريحوا على العشب النامي والـمُنعِش.

 

ولكنّ الذي يسير بلا كَلَل ليس مع هذا الرأي. فما أن حَسَبَ أنَّ الساعة الأكثر حرارة قد مَرَّت، حتّى نَهَضَ وتوجَّهَ صوب الطريق. يَنظُر... ثمّ يعود ويقول بكلّ بساطة: «هيّا بنا.»

 

عندما وَصَلوا إلى مُفتَرَق الطرق، حيث تتفرّع أربع طرق ترابيّة، سَلَكَ يسوع، وبشكل حتميّ، تلك التي تتوجّه صوب الشمال-شرق.

 

«أَنَعود إلى كفرناحوم؟» يَسأَل بطرس.

 

يُجيب يسوع: «لا.» فقط: لا.

 

«إذن إلى طبريّا.» يُلحّ بطرس الذي يَرغَب في أن يَعرِف.

 

«ولا إلى تلك.»

 

«ولكن هذه الطريق تؤدّي إلى بحر الجليل... وهناك طبريّا وكفرناحوم...»

 

«وكذلك هناك مجدلة.» يقول يسوع بلهجة شِبه صارِمة، ليُخفِّف مِن فضول بطرس.

 

«مجدلة؟ آه!...» بطرس مُستَنكِر قليلاً. مما يجعلني أعتقد أنّ سمعة تلك المدينة سيّئة.

 

«إلى مجدلة، نعم. إلى مجدلة. أتُفكّر أنّكَ أَنزَه مِن أن تَدخُلها؟ بطرس، بطرس!... مِن أجل حبّي المفروض لا أن تَدخُل مدينة الملذّات فحسب، بل إنّما بيوت دعارة حقيقيّة... فالمسيح لم يأت لِيُخلِّص الـمُخَلَّصين، وإنّما ليخلّص الضالّين... وأنتَ... لأجل ذلك، ستكون "بطرس" وليس سمعان، أو بالحريّ كيفا. هل أنتَ خائف مِن أن تتنجّس؟ لا! حتّى ولا هو، كما تَرى (ويشير إلى يوحنّا الفتيّ) حتّى هو لن يمسّه أذى. هو لا، لأنّه لا يريد. كما أنتَ لا تريد. وكما لا يريد أخوكَ وأخو يوحنّا... كما لا يريد أيّ منكم في الوقت الحالي. وطالما لا توجد إرادة، لا يحصل أيّ سوء. إنما عدم الإرادة هذه يجب أن تكون بقوّة وثبات. والقوّة والثبات يُكتَسَبان مِن لَدن الآب بالصلاة بصدق نيةّ. وبالتالي فليس جميعكم مَن سيَعرف الصّلاة بهذا الشكل... ما قولكَ يا يهوذا؟ لا تكن واثقاً بنفسكَ للغاية. فأنا الذي أنا المسيح، أُصلّي بدأب لأحصَل على القوّة ضدّ الشيطان. فهل أنتَ أعظم منّي؟ الكبرياء هو الثغرة التي يدخل منها الشيطان. يا يهوذا كُن يَقِظاً ومُتواضِعاً. متّى، أنتَ مَن يعرف المكان جيّداً، قل لي: هل يُستَحسَن أن نسلك هذه الطريق أم إنّ هناك طريقاً أخرى؟»

 

«حسب رغبتكَ يا معلّم. إذا أردتَ دخول مجدلة الخَطَأَة والمساكين، فهذه هي الطريق. فَمِن هنا نَدخُل إلى الحيّ الشعبيّ. ولكن -لا أظنّ ذلك، إنّما أقوله لتكون إجابتي كاملة- إذا أردتَ الذهاب إلى حيّ الأثرياء، حينئذ، وعلى بعد بضعة مئات مِن الأمتار، نترك هذه الطريق لنسلك أُخرى، إذ إنّ بيوت الأثرياء هي تقريباً على ذاك الارتفاع، ويجب العودة إلى الخلف...»

 

«سوف نعود إلى الخلف، إذ إنّني أبغي الذهاب إلى مجدلة الأغنياء. ماذا قلتَ يا يهوذا؟»

 

«لا شيء يا معلّم. إنّها المرّة الثانية التي تسألني فيها ذلك، خلال وقت قليل، بينما أنا لم أتكلّم أبداً.»

 

«بشفتيكَ، لا. ولكنّكَ تكلّمتَ بصوت خافت مع قلبكَ. تكلّمتَ بصوت خافت مع مضيفكَ: القلب. فليس مِن الضروريّ وجود شخص آخر كمُحادِث للتحدّث بكلام كثير، فالكلام نقوله نحن مِنّا وإلينا... إنّما يجب ألّا نُثرثِر أو نَفتَري حتّى مع ذواتنا.»

 

تسير الآن المجموعة بصمت. الطريق الرئيسيّة تُصبِح درباً مبلّطاً بحجارة مربّعة. والبيوت أكثر ثراء وأكثر جمالاً وسط الـمَباقِل والحدائق الزاخرة والـمُزهِرة. لديَّ انطباع بأنّ مجدلة الأنيقة كانت، بالنسبة إلى الفلسطينيين، ضرباً مِن مَرابِع المتعة، مثل كثير مِن مدن بحيرات لومباردي لدينا، مثل ستريسا وغاردون وبالانزا وبيلاجيو الخ... وقد انضمَّ بعض الرومان إلى أثرياء فلسطين، وقد أتوا بكلّ تأكيد مِن أماكن أخرى مثل طبريّا أو القيصريّة أو محيط الولاية، وبالتأكيد كان هناك موظّفون وتجّار ليُصدِّروا إلى روما أفضل منتجات المستَعمَرة الفلسطينيّة.

 

يَدخُلها يسوع بكلّ ثِقة بالنَّفْس، ذلك أنّه كان يَعلَم إلى أين هو ذاهب. يُحاذي البحيرة حتّى الحدود التي ترافقها البيوت مع حدائقها.

 

صَرخَات تُمزِّق الأجواء، تَنطَلِق مِن مَسكَن فاخِر. إنّها أصوات نساء وأطفال، وصوت امرأة حادّ جدّاً تصرخ: «بنيّ! بنيّ!»

 

يلتَفِت يسوع ويَنظُر إلى رُسُله. يتقدّم يهوذا. «لا، ليس أنتَ.» يأمر يسوع: «أنتَ، متّى، اذهب واستَعلِم.»

 

«إنّه شِجار يا معلّم. وهناك رجل يحتضر. إنّه يهوديّ. والقاتل هَرَب، كان رومانيّاً. ولقد هَرَعَت المرأة أُمّه، وكذلك الأطفال... ولكنّه يحتضر.»

 

«هيّا بنا.»

 

«يا معلّم... يا معلّم... لقد وَقَعَ الحادث في بيت امرأة... ليست الزوجة.»

 

«هيّا بنا.»

 

يَلِجُون مِن الباب المفتوح إلى ردهة عريضة وطويلة، تَصِل بعدئذ إلى حديقة جميلة. يبدو البيت مُقسَّماً بذلك النوع مِن الأروقة ذات الأعمدة، وهو زاخر بالنباتات الخضراء في المزهريّات، وبالتماثيل المنحوتة والأشغال الـمُطَعَّمَة. شيء ما وسط بين الغرفة والدَّفيئة (غرفة زجاجيّة للنباتات التي لا تتحمّل البرد). وفي إحدى القاعات التي فُتِحَ بابها على الردهة، توجد نساء باكيات. يَدخُل يسوع دون تردُّد. ومع ذلك فهو لا يُلقِي سلامه المعتاد.

 

بين الرجال الحاضرين هناك بائع، يُفتَرَض أنّه يعرف يسوع، إذ إنّه ما إن يراه حتّى يقول: «رابّي الناصرة!» ويحيّيه باحترام.

 

«ماذا هناك يا يوسف؟»

 

«يا معلّم، إنّها طعنة خنجر في القلب... وهو يحتضر.»

 

«لماذا؟»

 

تَنهَض امرأة بشعرها الرماديّ الأشعث -وقد كانت جاثية جانب المحتضر الذي تمسك له يداً أَضحَت خَامِدة- وتصيح بعينيّ مجنونة: «بسببها، بسببها!... لقد جَعَلَته شيطانيّاً... لَم يَعُد له أُمّ ولا زوجة ولا أولاد، لم يكن قد بقي له شيء بعد! المفروض أن تبتلعكِ جهنّم، أيّتها الشيطان!»

 

يَرفَع يسوع عينيه مُتتبِّعاً اليد المرتجفة التي تَتَّهِم، ويَرَى في أحد الأركان، قرب الجدار الأحمر القاني، مريم المجدليّة، وهي أكثر إثارة مِن أيّ وقت مضى؛ أقول مُرتَدِية... لا شيء حتّى منتصف الجسم، ذلك أنّها نصف عارية، وقد تَلَفَّحَت بنوع مِن الشَّبَك، فتحاته سداسيّة، فيها كُرات صغيرة تبدو لي وكأنّها لآلئ. ولكنّها في الظل، ولستُ أرى جيّداً.

 

يَخفِض يسوع بَصَرَه مِن جديد. مريم، وقد أثارَتها لامبالاته، تَنتَصِب، بينما كانت سابقاً وكأنّها مُنهَكَة، وتسيطر على انفعالاتها.

 

«يا امرأة» يقول يسوع للأُمّ: «لا دُعاء بالشرّ. أجيبي. لماذا كان ابنكِ في هذا البيت؟»

 

«لقد قلتُ لكَ. لأنّها جَعَلَته مجنوناً. هي.»

 

«اصمتي. هو كذلك إذن، كان في حالة الخطيئة، لأنّه زَانٍ ولا يستحقّ أن يكون أباً لهؤلاء الأبرياء. إذن فهو يستحقّ عقابه، في هذه الحياة وفي الأخرى، فلا رحمة لِمَن لا يتوب. ولكنّني أُشفِق على ألمكِ، أيّتها المرأة، وعلى هؤلاء الأبرياء. هل بيتكِ بعيد عن هنا؟»

 

«مائة متر تقريباً.»

 

«احملوا الرجل وانقلوه إلى هناك.»

 

«لا، مستحيل يا معلّم.» يقول يوسف البائع. «إنّه يُشارِف على الموت.»

 

«افعَل ما أقولُه.»

 

يُمرِّرون دَفّاً خشبيّاً تحت جسد المحتضر. ويَخرُج الموكب على مهل. يَقطَعون الشارع ويَدخُلون إلى حديقة ظليلة. تستمرّ النساء بالبكاء بنحيب. وعندما يُصبِحون داخل الحديقة، يَلتَفِت يسوع صوب الأُمّ: «هل يمكنكِ أن تُسامِحي وتَغفري؟ إذا ما غَفَرتِ فالله يَغفُر. ينبغي جعل القلب صالحاً لتَقَبُّل النعمة. فذاكَ أخطأ، وسوف يَقتَرِف الخطيئة أيضاً وأيضاً. بالنسبة إليه، الأفضل له أن يموت، إذ إنّه، طالما هو حيّ، سوف يقع في الخطيئة، ويكون مفروضاً عليه أن يكون مسؤولاً عن نكرانه لجميل الله الذي يُخلِّصه. إنّما أنتِ وهؤلاء الأبرياء (ويشير إلى الزوجة والأولاد) فَتَقَعون في اليأس. وأنا أتيتُ لأُخلِّص وليس لأفقُد. أيّها الرجل، لكَ أقول: انهَض وكُن مُعافى.»

 

تعود للرجل الحياة، ويفتح عينيه. يرى والدته وأولاده وامرأته. يَخفض رأسه خجلاً.

 

تقول الأُمّ: «بنيَّ، بنيَّ! كنتَ في عداد الأموات لو لم ينقذكَ. عُد إلى رشدكَ. لا تَهلَك مِن أجل واحدة...»

 

يُقاطِع يسوع العجوز: «يا امرأة اصمتي. أَظهِري الرحمة ذاتها التي استَفَدتِ منها. لقد تَقَدَّسَ بيتكِ بالمعجزة التي هي على الدوام دليل وجود الله. لأجل ذلك لم أستطع اجتراحَها في بيت الخطيئة. أنتِ، على الأقلّ، حافِظِي على بيتكِ كما هو، حتّى ولو لم يكن هو يَعرِف. اعتني به الآن. صحيح أنّه يعاني بعض الشيء. كوني صالحة أيّتها المرأة. وأنتِ، وأنتم أيّها الصغار، وداعاً.» ويضع يسوع يده على رأس كلّ مِن المرأَتَين والصّغار.

 

ثمّ يَخرُج مارّاً بجانب مريم المجدليّة التي تَبِعَت الموكب حتّى طرف الشارع، حيث بَقِيَت مُسنِدَة ظهرها إلى شجرة. يتباطأ يسوع وكأنّه يَنتَظِر التلاميذ، ولكنّني أظُنُّه يَفعَل ذلك ليُتيح لمريم إمكانيّة القيام بحركة. ولكنّها لا تَفعَل.

 

يَلتَحِق التلاميذ بيسوع، ولا يستطيع بطرس أن يتمالك نفسه دون أن يُوجِّه إلى مريم، مِن بين أسنانه، نَعتَاً مُناسِباً لها. وهي تسيطر على انفعالاتها، تنفجر ضاحكة، وهذا ما كان بالنسبة إليها انتصاراً باهِتاً جدّاً. ولكنّ يسوع يَسمَع كلمة بطرس، فيلتفت ويقول له بحزم: «بطرس، أنا لا أَشتم. فلا تَشتم أنتَ. صلِّ مِن أجل الخَطَأَة. ليس إلّا.»

 

تكفّ مريم عن الضحك، تَخفض رأسها، وكالغزال تفرّ صوب بيتها.