ج6 - ف140
أَنَا هُوَ
ماريا فالتورتا
L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO
THE GOSPEL AS REVEALED TO ME
بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}
L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ
MARIA VALTORTA
الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.
الجزء السادس/ القسم الثاني
140- (الكرازة في مجدلا)
24 / 06 / 1946
«إلى أين يا معلّم؟» يَسأَل بطرس الذي أكمل التحضيرات والاستعدادات للملاحة، وها هو مع قاربه على رأس أسطول القوارب الصغير، المحمّل بالناس، والمستعدّ كي يتبع المعلّم.
«إلى مجدلة. لقد وعدتُ مريم أخت لعازر بذلك.»
«حسناً» يُجيب بطرس، ويوجّه مقبض الدفّة بحيث يأخذ الاتّجاه الصحيح.
في القارب مع المعلّم هناك يُوَنّا، العذراء المباركة، مريم التي لحلفى، مارغزيام، متّى، يعقوب بن حلفى ورجل لا أعرفه. يُوَنّا تشير إلى القوارب الكثيرة المنتشرة في البحيرة في تلك الأمسية الصيفيّة الهادئة، التي تُلطّف وهج الغروب بسيل مِن الأشرعة الأرجوانيّة، كما لو أنّ السماء كانت قد أمطرت أحجاراً كريمة أرجوانية أو عناقيد نبتات معرّشة مُزهِرة. إنّها تُعلّق: «ربّما قوارب السيّدات الرومانيّات هي بين تلك القوارب. إنّ إحدى تسلياتهم المفضّلة هي محاكاة الصيد في هذه الأمسيات الصافية.»
«إنّما هناك قوارب أكثر مِن هذه إلى الجنوب» يُعلّق الرجل الذي لا أعرفه.
«آه! لا يا بنيامين. إنّ لديهم قوارب سريعة وبحّارة متمرّسين، وهم يُبحرون وصولاً إلى هنا.»
«إنّما لماذا يفعلون ذلك...» يدمدم بطرس، ويتابع بصوت خافت، كصيّاد صارم يعتبر بأنّ الإبحار والصيد هما مهنة، لا هواية، تقريباً مثل دِين تنظّمه قوانين صارمة ونافعة، وأنّ استخدامهما بشكل غير سليم يبدو تدنيساً بالنسبة له: «إنّهم يُلوّثون الماء ببخورهم وزهورهم وعطورهم وأشيائهم الشيطانيّة الأخرى، إنّهم يُسبّبون الاضطراب للأسماك بموسيقاهم وبأصوات صيحاتهم وأحاديثهم، إنّهم يخيفونها بمشاعلهم المدخّنة، وهم يُتلِفون القاع ويعيقون التكاثر بشباكهم الملعونة والمرميّة بشكل عشوائيّ... يجب أن يُمنَع ذلك. إنّ بحر الجليل هو للجليليّين، الذين هم صيّادون، لا للعاهرات وأصحابهنّ... لو كنتُ أنا السيّد! لكنتُ تدبّرتُ أمركِ، أيّتها القوارب الوثنيّة النجسة، يا بؤر الرذيلة العائمة، أيّتها التجاويف التي تُبحِر كي تغوي، فوق مياه الله هذه، فوق مياه إلهنا، مياه أبنائه، الـ... آه! انظروا! إنّها قادمة مباشرة إلى هنا! أيمكن احتمال ذلك!... أيمكن السّماح... أيمكن...»
يُقاطِع يسوع الخطاب الاتّهاميّ الذي ينفّس فيه بطرس عن سخطه كإسرائيليّ وكصيّاد، بطرس المحتقن، الذي يخنقه الغضب، والذي يلهث كما لو كان يصارع قوىً جهنّمية، ويقول له يسوع بابتسامة هادئة: «حسناً أنّكَ لم تكن سيّداً، مِن حسن الحظّ أنّكَ لستَ كذلك! لأجلهم ولأجلكَ. لأجلهم لأنّكَ كنت لَتمنعهم مِن متابعة اندفاعهم نحو الخير، هذه الاندفاعة التي كانت قد زُرِعت في أرواحهم -الوثنيّة، أقرّ بذلك، إنّما الصالحة بالفطرة- والتي كانت قد زرعتها فيها الرحمة الأزليّة التي تُرشِد هذه المخلوقات، التي لا ذنب لها بأنّها وُلِدت رومانيّة لا يهوديّة. والله ينظر إليها بعين الرحمة لأنّه يرى أنّها تندفع نحو الخير. ولأجلكَ أنتَ لأنّكَ بذلك ستكون قد آذيت نفسكَ، لأنّكَ سوف تكون قد تصرّفتَ تصرّفاً ضدّ المحبّة وآخر ضدّ التواضع...»
«التواضع؟ لم أفهم... فإذا ما كنتُ سيّد البحيرة، فسوف يكون مِن حقّي التصرّف بها كما أشاء.»
«لا، يا سمعان بن يونا. لا. إنّكَ مُخطئ. فحتّى الأمور التي هي مِن حقّنا، فهي كذلك لأنّ الله قد منحنا ذلك الحقّ. إذن، وعندما نملك حقّاً ما لفترة زمنيّة محدّدة، فيجب علينا دائماً التفكير بأنّ واحداً فقط هو مَن يملك كلّ شيء دون حدود في الزمان أو القَدْر. واحد فقط هو السيّد. أمّا البشر... آه! فهم ليسوا سوى قيّمين على فُتات مِن الخَلق العظيم. إنّه هو السيّد، أبي وأبوكم وأبو كلّ المخلوقات الحيّة. وفوق ذلك، هو الله، وبالتالي الكليّ الكمال في أفكاره وأفعاله. وإذا ما كان الله يَنظُر بعين الرأفة إلى اندفاع هذه القلوب الوثنيّة باتّجاه الحقّ، ولا يتوقّف فقط عند النَّظَر، بل ويُشجّع هكذا اندفاعة، محفّزاً إيّاها على المضيّ بوتيرة أسرع فأسرع نحو الصلاح، أفلا يبدو لكَ أنّكَ برغبتكَ، أنتَ الإنسان، بإيقافها، بأنّك في الواقع تريد منع الله مِن عمل ما؟ ومتى يُراد وقف عمل ما؟ عندما لا يُعتبر صالحاً. إذن فأنتَ تفكّر بإلهكَ هكذا: أنّه يقوم بفِعل أشياء غير صالحة. الآن، إذا لم يكن مِن الصواب أن ندين إخوتنا، لأنّ لكلّ إنسان عيوبه، ولأنّ قدرته على المعرفة والحكم محدودة، بحيث أنّه مِن أصل عشر مرّات فإنّه يخطئ في حكمه سبع مرّات، فإذن سوف تكون قمّة الشرّ أن ندين الله في أعماله. سمعان، سمعان! لقد أراد لوسيفوروس أن يدين الله في إحدى أفكاره، وقد اعتَبَرها خاطئة، وأراد أن يأخذ مكان الله، معتقداً بأنّه أكثر عدلاً مِن الله. أنتَ تعلم يا سمعان ما الذي حقّقه لوسيفوروس. وأنتَ تعلم أنّ كلّ الآلام التي نعانيها قد حلّت بسبب هذا الكبرياء...»
«معكَ حقّ يا معلّم! إنّني شقيّ بائس! اغفر لي يا معلّم!» وبطرس، الذي هو دائماً متسرّع، يترك مقبض الدّفة كي يرتمي عند قدميّ يسوع، فيما القارب، وقد تُرِك فجأة على هواه، وتماماً عند قمّة موجة، يتمايل ويجنح بشكل مرعب، وسط صراخ مريم التي لحلفى ويُوَنّا، وصراخ أولئك الذين في القارب التوأم الخفيف، عندما يَرون قارب بطرس الثقيل متّجهاً نحوهم مباشرة. لحسن الحظّ يُسرع متّى للإمساك بمقبض الدفّة، ويعود القارب إلى مساره بعدما تمايَلَ بشكل مخيف، وأيضاً بسبب أنّ الآخرين، وكي يتجنّبوه، فقد قاموا بالتجديف بقوّة، مُحدِثين هيجاناً في الماء.
«هيه! سمعان! لقد انتقدتَ الرومان مرّة، ناعتاً إيّاهم بالملاّحين الفاشلين، لأنّهم كانوا متّجهين مباشرة نحونا. وها أنتَ الآن تُقدِّم نموذجاً سيّئاً... وفوق ذلك، في حضرتهم. انظر كيف أنّهم قد وقفوا كلّهم في قواربهم كي ينظروا...» يقول الإسخريوطيّ كي يغيظ بطرس، ويشير إلى قوارب الرومان، التي قد أصبحت قريبة جدّاً الآن، على صفحة الماء قبالة مجدلا، بحيث يمكن رؤية مَن هُم على متنها بوضوح، على الرغم مِن أنّ الأشرعة التي كانت أرجوانيّة عند الغروب، قد غدت أكثر فأكثر قتامة بتلاشي ضوء النهار.
«لقد فقدتَ أيضاً سلّة كبيرة وأخرى صغيرة يا سمعان. أنحاول انتشالهما بصنّارات السمك؟» يقول يعقوب بن زَبْدي مِن قارب آخر، الذي هو الآن قريب جدّاً، لأنّهم كانوا قد تجمّعوا كلّهم حول قارب بطرس بعد الذي حدث.
«إنّما كيف حصل معكَ ذلك؟ إنّه لم يحصل معكَ أبداً!» يهتف أندراوس مِن قارب آخر.
بطرس يردّ عليهم كلّهم، واحداً بعد الآخر، فيما كانوا تقريباً قد تكلّموا كلّهم معاً. «هل شاهدوني؟ لا يهمّ! أتمنّى لو أنّهم قد شاهدوا أيضاً قلبي بذات الطريقة، و... حسناً، مِن الأفضل عدم قول ذلك يا بطرس (بطرس يخاطب نفسه)... إنّما يجب أن تَعلَم بأنّكَ لا تؤذيني. إنّها لم تكن حركة خاطئة، فذلك قد حصل لغاية حسنة، إنّها لكبح جماحي... لا تقلق يا يعقوب! إنّها أشياء عتيقة تلك التي ذهبت إلى القاع... وأتمنّى لو أستطيع أن أرمي خلفهما أيضاً الرجل العتيق المتعصّب الذي في داخلي! إنّني على استعداد لأن أفقد كلّ شيء، حتّى قاربي، كي أكون تماماً كما يريد المعلّم... إنّما كيف تصرّفتُ؟ إيه! لقد أثبتُّ لنفسي، لكبريائي، الذي يريد تعليم حتّى الله الأمور التي تخصّ الروح، بأنّني أحمق مُطلَق أيضاً في المسائل المتعلّقة بالقوارب... لقد نفعني ذلك تماماً. لقد قدّمتُ لنفسي مثلاً بنفسي... أليس كذلك يا معلّم؟»
يبتسم يسوع موافقاً... وهو يبدو في الغسق كملاك يشعّ سلاماً، جالساً في مؤخّرة القارب، في مكانه المعتاد، أبيض على خلفيّة النهار الآخذ في الأفول، هادئاً، بشعره الذي يتموّج بخفّة في نسيم المساء.
القوارب الرومانيّة وصلت إليهم.
«لديهم قوارب جيّدة جدّاً وأشرعة متقنة... ناهيكم عن البَحّارة! إنّها تمضي بسرعة كما لو أنّها طيور قاوند (طائر بحريّ أسطوريّ)! إنّهم يستغلّون كلّ هبّة رياح ويستفيدون حتّى مِن أخفّ التيارات...»
«تقريباً كلّ المجدّفين هم مِن كريت أو مِن منطقة النيل» تشرح يُوَنّا.
«إنّ بحّارة الدلتا هُم الأكثر مهارة، وكذلك بحّارة كريت. إنّما بحّارة إيطاليا هم أيضاً جيّدون جدّاً... إنّهم يُبحرون بين سيلّا (صخرة خطيرة) وكاريبدس (دوّامة بحرية)... وهذا كافٍ للقول بأنّهم جيّدون جدّاً» يُقرّ الرجل المجهول الذي يدعى بنيامين.
«إلى أين نحن ذاهبون يا ربّ؟ أإلى مجدلة، أم... انظر! إنّ أهل مجدلا آتون إلى هنا...»
بالفعل إنّ كلّ القوارب الصغيرة لتلك القرية تُسارع إلى مغادرة كلّ مِن الشاطئ الحصويّ والميناء الصغير، محمَّلَة، لا بل مُثقلة بالناس على نحو مخيف، مخيف لدرجة أنّ حوافّ الـمَراكِب هي تقريباً على مستوى سطح الماء، وهي تتّجه بصعوبة نحو القوارب القادمة مِن كفرناحوم.
«لا. لنتوقّف هنا في الماء قبالة القرية. سأتكّلم مِن القارب...»
«المشكلة هي أنّ... أولئك المتهوّرين يريدون أن يَغرَقوا. انظر يا معلّم! صحيح أنّ البحيرة رائقة كصفيحة ملساء... لكنّ الماء هو دوماً الماء... والثّقل هو دوماً الثّقل... وهم... يبدون وكأنّهم يعتقدون بأنّهم على اليابسة وليس فوق الماء... قل لهم بأن يعودوا... فسوف يغرقون...»
«يا قليل الإيمان! ألا تذكر أنّه عندما دعوتُكَ وكنتَ مؤمناً فإنّكَ قد مشيتَ على الماء كما لو كنتَ تمشي على أرض صلبة؟ لديهم الإيمان. لذلك، وبالضدّ مِن قوانين التوازن بين الثّقل والكثافة، فإنّ الماء سوف يتحمّل تلك القوارب المثقلة.»
«إذا ما حدث ذلك... فستكون حقّاً أمسية معجزة كبرى...» يتمتم بطرس هازّاً كتفيه، فيما يُنزل المرساة الصغيرة كي يُثبّت القارب، الذي يلبث هكذا في وسط دائرة مِن القوارب، التي بعضها مِن كفرناحوم، وبعضها مِن مجدلا، والبعض مِن طبريّا. والأخيرة هي تلك التي للسيّدات الرومانيّات، التي تبقى باحتراس إلى الخلف مِن قوارب كفرناحوم، مِن جهة وسط البحيرة.
إنّ وجه يسوع يواجه الجهة المعاكسة. إنّه ينظر نحو قوارب مجدلا، نحو حديقة مريم أخت لعازر الواسعة والظليلة، نحو المنازل المتواضعة، التي تنتشر على امتداد الضفّة ببياضها الذي يَبرُز في الليل.
البحيرة، التي ما عادت مياهها تتماوج بفعل المجاذيف والـمَراكِب، قد استعادت سكونها مجدّداً: إنّها تبدو عند بداية طلوع القمر كصفيحة بلّورية واسعة تتخلّلها عروق فضيّة، وموشّاة برقائق مِن الزبرجد الأصفر والزبرجد الأحمر، حيث لهب المشاعل أو أنوار الفوانيس، الموضوعة على مقدّمة كلّ قارب، تنعكس في البحيرة.
تبدو الوجوه غريبة في تباين الأنوار الصفراء-الحمراء، أو أشعّة القمر، بعض الوجوه تبدو واضحة جدّاً، بعضها بالكاد مرئيّة مِن حيث هي، بعضها تبدو مقطوعة إلى نصفين، إمّا بالطول أو بالعرض، حيث فقط الجبهة أو فقط الذقن مضاءة، أو بخدّ واحد فقط، نصف وجه شديد الوضوح مِن أحد جانبيه، ويبدو كما لو أنّه ليس له جانب آخر. بعض العيون تلمع، البعض تبدو كما لو أنّها محاجِر فارغة، وهكذا دواليكَ، بعض الأفواه تُرى أسنانها فيما تبتسم مبتهجة. فيما أُخرى تبدو وكأنّما مُحيت مِن الوجوه المظلَّلة.
إنّما لمنح الجميع إمكانيّة رؤية يسوع، فإنّ قوارب كفرناحوم ومجدلا يُمرّرون عدداً كبيراً مِن الفوانيس، والتي وُضِعَت عند قدميّ يسوع، على المقاعد الصغيرة، وعُلّق بعضها على المجاذيف غير المستخدمة، ووُضع بعضها عند مقدّمة القارب والبعض عند المؤخّرة، وحتّى إنّ بعضها عُلّقت كما عنقود على السارية التي أُنزل شراعها. وهكذا فإنّ قارب يسوع يسطع في دائرة مِن القوارب التي بقيت بلا فوانيس، وهو الآن مرئيّ بوضوح، وقد سُلّطت عليه الأنوار مِن كلّ الاتّجاهات. فقط قوارب الرومان ما تزال تبدو مُحمرّة بفعل مشاعلها الحمراء، التي يرتعش لهبها بفعل النسيم الخفيف جدّاً.
«ليكن السلام معكم!» يبدأ يسوع الذي يقف بثبات على الرغم مِن تأرجح القارب الخفيف، فاتحاً ذراعيه ليبارك. ثمّ يتابع، متحدّثاً على مهل، كي يكون مسموعاً مِن الجميع، وصوته ينتشر متناغماً وقويّاً عبر البحيرة الصامتة.
«منذ قليل، واحد من رُسُلي أوحى إليَّ بمَثَل، والذي سأرويه لكم، وسيكون نافعاً للجميع، حيث أنّه سيكون مفهوماً مِن قِبَل الجميع. اسمعوه.
كان هناك رجل يُبحر في بحيرة في أمسية هادئة كهذه، وكان يَشعُر بثقة بالنّفْس، مُفتَرِضاً أنّه بلا عيوب. كان ماهراً جدّاً بالإبحار، وبالتالي فقد كان يعتبر نفسه متفوّقاً على جميع الأشخاص الآخرين الذين التقى بهم في البحيرة، والكثير منهم كانوا يأتون إليها لتسلية أنفسهم، وبالتالي فقد كانوا يفتقرون إلى الخبرة التي تُكتَسَب مِن العمل المعتاد لكسب لقمة العيش. ومن ناحية أخرى، فقد كان إسرائيليّاً صالحاً، لذلك فقد كان يعتقد بأنّه يمتلك كلّ الفضائل. وبالمحصّلة، فقد كان حقّاً رجلاً صالحاً.
ثمّ، وفيما كان يُبحر بثقة ذات مساء، فقد أعطى لنفسه الحرّيّة بأن يُدين قريبه. وذاك القريب، وفقاً لرأيه، كان بعيداً جدّاً بحيث لم يعتبره قريباً. فما مِن رابط وطنيّ، مِهنيّ أو إيمانيّ يجمعه بذاك القريب، ولذلك، ودون وجود اعتبارات لروابط وطنيّة، مهنيّة أو إيمانيّة، فقد ازدراه صراحةً، لا بل وبقسوة، وكان يشتكي مِن عدم كونه سيّد المكان، لأنّه، لو كان كذلك، لكان طرد قريبه منه، وبسبب إيمانه المتعصّب، فقد كان تقريباً يلوم العليّ لسماحه لأولئك الناس الآخرين، الذين كانوا مختلفين عنه، بأن يفعلوا ما يفعله هو، وبأن يعيشوا حيث كان يعيش هو.
وكان في قاربه صديق، صديق صالح كان يحبّه ببرّ، ولذلك فقد أراده أن يكون حكيماً، وكان، عند الضرورة، يُصحّح له أفكاره الخاطئة. وفي تلك الأمسية، فإنّ ذلك الصديق قال للبحّار: "لماذا هذه الأفكار؟ أليس أبو البشر هو واحد فقط؟ أليس هو ربّ الكون؟ أربّما لا تُشرق شمسه على جميع البشر كي تدفئهم، أربّما هذه الغيوم لا تُمطر على حقول الوثنيّين كما تمطر على تلك التي للعبرانيّين؟ وإذا كان يفعل ذلك لتلبية احتياجات الإنسان المادّيّة، أفلا يقوم بالـمِثل لتلبيه احتياجاتهم الروحيّة؟ أتريد أن تقترح على الله ما يجب أن يفعل؟ مَن مِثل الله؟"
الرجل كان صالحاً. في تعصّبه كان جهل كثير، ولديه أفكار خاطئة كثيرة، إنّما إرادته لم تكن سيّئة، لم تكن لديه النيّة للإساءة إلى الله، بل على العكس، فقد كانت نيّته هي الدفاع عن مصالح الله. وعقب سماعه لتلك الكلمات فقد رمى بنفسه عند قدميّ صديقه الحكيم، وطلب منه أن يغفر له لأنّه تكلّم بحماقة. وقد طَلَب منه ذلك باندفاع شديد، إلى حدّ أنّه كاد أن يتسبّب بكارثة، بإغراق القارب وإغراق مَن فيه، لأنّه وفي غمرة لهفته الشديدة لطلب المغفرة، فقد أهمل الدفّة، الأشرعة والتيّارات. وهكذا، وبعد خطئه الأول بالإدانة السيّئة، فقد ارتكب خطأً آخر بإهماله للقيادة، وأثبَتَ لنفسه بأنّه لم يكن فقط ديّاناً مسكيناً، وإنّما أيضاً بحّاراً فاشلاً.
هذا هو الـمَثَل. الآن اسمعوا. برأيكم، أنال ذلك الرجل مغفرة الله أم لا؟ تذكّروا: لقد خطئ ضدّ الله وقريبه بإدانة أفعال كلاهما، وكاد أن يصبح قاتل رفاقه. تأمّلوا وأجيبوا...» ويشبك يسوع يديه وينظر نحو كلّ القوارب، وصولاً إلى الأبعد منها، أي القوارب الرومانيّة، التي تُظهِر صفّاً مِن الوجوه المنتبهة للسيّدات النبيلات والجذّافين، الذين ينظرون مِن عند حافّة الـمَركَب…
يتهامس الناس ويتشاورون مع بعضهم البعض... همهمة أصوات بالكاد مسموعة، والتي تتداخل مع صوت اللّطم الخفيف للمياه على هياكل القوارب. الحُكم صعب. ومع ذلك فإنّ الأغلبيّة ترى أنّه لم يُغفَر للرجل، لأنّه خطئ. لا. على الأقلّ لم يُغفر له بالنسبة للخطيئة الأولى…
يسوع يسمع الهمهمة التي تتبنّى هذا الاتّجاه وقد أصبحت أعلى، ويبتسم فيما عيناه الأكثر جمالاً تبرقان حتّى في الليل، مثل ياقوتتين زرقاوين تحت أشعّة القمر، لا بل أكثر جمالاً وأكثر بريقاً، أكثر بكثير بحيث أنّ الكثيرين يفكّرون بإطفاء المشاعل والفوانيس، والبقاء فقط تحت ضوء القمر الفوسفوريّ.
«أطفئ هذه أيضاً يا سمعان. إنّها ضعيفة كشرارات عند مقارنتها بالنجوم والكواكب المتناثرة في هذه السماء» يقول يسوع لبطرس، الذي ينتظر مترقّباً كي يسمع حُكم الجمع. ويسوع يُلاطف رسوله، فيما الأخير يمطّ نفسه كي ينزع الفوانيس، ويَسأَله بصوت منخفض: «لماذا تبدو شديد القلق؟»
«لأنّكَ هذه المرّة تحكم عليَّ مِن خلال الناس...»
«آه! ولم أنتَ خائف منهم؟»
«لأنّهم... مثلي... غير عادلين...»
«لكنّ الله هو مَن يَحكُم يا سمعان!»
«نعم. لكنّكَ لم تغفر لي بعد، وأنتَ الآن بانتظار حكمهم كي تفعل ذلك... إنّكَ على حقّ يا معلّم... أنا غير قابل للإصلاح... لكن... لماذا حُكم الله هذا لسمعانكَ المسكين؟...»
يَضَع يسوع يده على كتف سمعان، وهو يفعل ذلك بكلّ سهولة لأنّ بطرس هو في أخفض جزء مِن القارب ويسوع يَقِف على لوح مؤخّرة القارب، وبالتالي فهو أعلى مِن بطرس بكثير. ويبتسم... إنّما لا يجيبه. وبدلاً من ذلك فإنّه يَسأَل الناس: «فإذاً؟ تكلّموا. قارب إثر الآخر.»
واأسفاه! يا لبطرس المسكين! فلو أنّ الله قد حَكَمَ عليه استناداً لرأي الناس الحاضرين، لكان أدانه. فباستثناء ثلاثة قوارب، فإنّ كلّ القوارب الأخرى، بما فيها قوارب الرُّسُل، قد أدانته. الرومان لا يعطون رأيهم، ولا يُطلب منهم ذلك، إنّما مِن الواضح أنّهم هم أيضاً يحكمون بأنّ الرجل يجب أن يُدان، لأنّهم -وهم ثلاثة قوارب- يتبادلون إشارة الإبهام المقلوب مِن قارب لآخر.
عينا بطرس الجاحظتان والمرعوبتان تتسمّران على وجه يسوع، وتَلقَيان نظرة هي الأكثر وداعة تنبعث مِن عينيه الزفيريّتين، تَلقَيان السلام، ويَرى وجهاً متألّقاً بالمحبّة منحنياً فوقه، فيما يشعر بأنّه يُجذب إلى جانب يسوع، بحيث أنّ رأسه الأشيب يصبح على صدر يسوع، فيما ذراعا المعلّم تحتضنان كتفيه بقوّة.
«هكذا يَحكم الإنسان. لكنّ الله لا يَحكُم هكذا، يا أبنائي! تقولون: "لَم يُغفَر له." أنا أقول: "إنّ الربّ لم يرَ حتّى أنّ فيه أيّ شيء بحاجة إلى مغفرة." لأنّ المغفرة تستلزم خطيئة. إنّما في هذه الحالة ما مِن خطيئة. لا، لا تُتمتموا هازّين رؤوسكم. أُكرّر: ما مِن خطيئة في هذه الحالة. متى تحدث الخطيئة؟ عندما توجد الإرادة لارتكاب الخطيئة، والإدراك بأنّه يتمّ ارتكاب خطيئة، واستمرار الرغبة في ارتكابها حتّى بعد معرفة أنّ الفِعل يشكّل خطيئة. كلّ شيء يتوقّف على الإرادة التي مِن خلالها نُتمّ فِعلاً ما، سواء كان فِعل فضيلة أم خطيئة. وعندما يَفعَل المرء شيئاً ما يَظهَر جليّاً بأنّه فِعل صالح، ولكنّه لم يكن يَفعل صلاحاً، لا وبل يُدرك بأنّه فِعل سيّئ، فهو عندها يرتكب خطيئة كما لو أنّه قد قام بعمل سيّئ، والعكس صحيح.
خذوا على سبيل المثال رجلاً لديه عدوّ يعرف بأنّه مريض. وهو يعرف أنّه، وبأمر مِن الطبيب، يجب ألّا يشرب لا ماءً، ولا أيّ سائل آخر بارداً. فيذهب لزيارته، متصنّعاً اللطافة. ويسمعه ينوح: "أنا عطشان! أنا عطشان!" ومتظاهراً بالشفقة، فإنّه يُسارع لإعطائه بعض الماء المثلّج مِن بئر، قائلاً: "اشرب يا صديقي. أنا أحبّكَ ولا أحتمل أن أراك هكذا تعاني كثيراً مِن العطش. انظر. لقد جلبتُ هذا الماء خصّيصاً لكَ، إنّه منعش جدّاً. اشربه، فهناك مكافأة عظيمة تُمنح لأولئك الذين يُعينون المرضى، ولأولئك الذين يَسقون العطشى" وبإعطائه كي يشرب، فقد تسبّب بموته. فهل تعتقدون بأنّ ذاك التصرّف، الصالح في طبيعته لأنّه يشتمل على فِعل رحمة، هو فعلاً صالح، وقد كان قد نُفّذ لغاية شريرة؟ لا، إنّه ليس كذلك.
ومَثَل آخر: ابن له أب سكّير، وكي لا يشرب أبوه حتّى الموت، فقد أقفَلَ الابن مخزن النبيذ، وانتزع مال أبيه، وفَرَضَ عليه نفسه بقسوة، بحيث لا يقدر على الذهاب إلى القرية، كي يشرب ويُهلِك نفسه. فهل تظنّون أنّه وببساطة، يخالف الوصيّة الرابعة، لأنّه عَنَّفَ أباه، وتصرّف كما لو أنّه كان ربّ العائلة أيضاً تجاه أبيه؟ في الظاهر يبدو أنّه يُعذِّب أباه، ويبدو مذنباً. إنّما في الحقيقة فهو ابن صالح، لأنّ إرادته صالحة، حيث أنّه يريد إنقاذ أبيه مِن الموت. إنّ الإرادة هي دوماً ما يُقيّم الفعل.
وأيضاً: هل الجنديّ الذي يَقتُل في الحرب هو قاتل؟ لا، إذا ما كانت روحه غير موافقة على القتل، وإذا ما كان يُقاتل لأنّه كان مرغماً على ذلك، وإذا كان يَفعَل ذلك بالحدّ الأدنى مِن الإنسانيّة التي تتطلّبها شريعة الحرب القاسية ووضعه كمُنفِّذ للأوامر.
وبالتالي فإنّ ذاك البحّار، الذي ومِن خلال إرادته الصالحة كمؤمن، كوطنيّ وصيّاد، والذي لم يكن يحتمل أولئك الذين كانوا بالنسبة له مُدنِّسين، لم يرتكب خطيئة ضدّ محبّة القريب، حيث فقط كانت لديه فكرة خاطئة عن محبّة القريب تلك. وأيضاً لم يرتكب خطيئة عدم احترام بحقّ الله، لأنّ خطيئته بحقّ الله قد تأتّت مِن صلاح روحه، إنّما الذي لم يكن باعتباره روحاً مؤمناً، لا متوازناً ولا مستنيراً. كما أنّه لم يرتكب جرم قتل، لأنّ ما سبَّب جنوح القارب هو إرادته الصالحة التي سعت لطلب المغفرة.
لذلك فيجب عليكم دائماً التمييز. الله رحمة أكثر منه صرامة. الله صالح. الله أب. الله محبّة. ذاك هو الله الحقّ. والله الحقّ يفتح قلبه للجميع، ويقول لهم: "تعالوا."، مشيراً للكلّ نحو ملكوته. وله الحريّة في فِعل ذلك، لأنّه الربّ الأوحد، الكونيّ، الخالق، الأزليّ.
أرجوكم، يا شعب إسرائيل. كونوا عادلين. تذكّروا هذه الأمور. احترسوا مِن أن يفهمها أولئك الذين تعتبرونهم نجسين، فيما تبقى عصيّة عن الفهم بالنسبة لكم. أيضاً المحبّة المفرطة وغير المنضبطة للدين والوطن هي خطيئة، لأنّها تتحوّل إلى أنانيّة. والأنانيّة هي سبب الخطيئة وعلّتها.
نعم. الأنانية خطيئة، لأنّها تزرع في القلوب إرادة الشرّ، والتي تجعل الناس يتمرّدون على الله ووصاياه. إنّ عقل شخص أنانيّ لا يعود يرى الله أو حقيقته بوضوح. فالكبرياء يَنفث أدخنة لدى الأنانيّ تُعتّم على الحقيقة. والعقل الذي في تلك العتامة لا يعود يرى النور النقيّ للحقيقة كما كان يراه قبل أن يصير أنانيّاً، مبتدئاً بدوّامة الاستفسارات، ومِن الاستفسارات يَعبُر إلى الشكوك، ومن الشكوك إلى الفتور، لا فقط فيما يتعلّق بمحبّة الله والثقة به وبعدله، بل أيضاً فيما يتعلّق بمخافة الله وعقاباته. ثمّ يصير سهلاً ارتكاب خطيئة، ومِن تلك السهولة ينتقل إلى عزلة النّفْس، التي تنفصل عن الله، وحيث أنّها ما عادت تحظى بإرادة الله كمرشد، فهي تقع تحت رحمة قانون إرادتها الذاتيّة الخاطئة.
آه! الإرادة الخاطئة هي سلسلة مقيتة للغاية، أحد طرفيها بيد الشيطان، والطرف الآخر مربوط مع كُتلة حديديّة إلى قدميّ الخاطئ كي تثبّتهما، كما العبد، في القذارة، منحنياً، هناك في الظلمات.
أيمكن للإنسان حينئذ ألّا يرتكب خطايا مميتة؟ أيمكن له ألّا يرتكبها، إذا كانت إرادته الخاطئة هي ما يُسيّره؟ إذّاك فقط الله لا يغفر. لكن عندما يُقاد الإنسان مِن قِبَل إرادته الصالحة. وأيضاً يُنجِز أفعال فضيلة عفويّة، فحتما سوف ينتهي إلى امتلاك الحقيقة، لأنّ الإرادة الصالحة سوف تقوده إلى الله، والله، الأب الكليّ القداسة، ينحني بمحبّة، بشفقة، بتسامح، كي يساعد، كي يُبارك، كي يغفر لأولاده ذوي الإرادة الصالحة.
لذلك فقد كان ذاك البحّار محبوباً بشدّة، ولأنّه لم تكن لديه الإرادة لارتكاب خطيئة، فهو لم يرتكب خطيئة.
اذهبوا الآن بسلام إلى منازلكم. إنّ النّجوم قد ملأت السماء بأكملها، والقمر يكسو العالم بالنقاء. اذهبوا، وكونوا مطيعين كما النجوم، وصيروا أنقياء كما القمر. لأنّ الله يحبّ أولئك المطيعين وأنقياء الروح، وهو يبارك أولئك الذين يُعمِلون إرادتهم الصالحة في كلّ أعمالهم، كي يحبّوا الله وإخوتهم، وكي يَعمَلوا مِن أجل مجده ولأجل صالحهم. ليكن السلام معكم!»
ويُعاوِد يسوع فتح يديه مباركاً، فيما دائرة القوارب تبتعد، تتلاشى، وكلّ قارب يتبع مساره.
بطرس مسرور جدّاً لدرجة أنّه لا يَفطَن إلى الإبحار. متّى يهزّه: «ألن تتحرّك يا سمعان؟ أنا ليس لديَّ الكثير مِن الخبرة...»
«هذا صحيح!... آه! معلّمي! إذن فأنتَ لم تقم بإدانتي؟! وأنا كنتُ خائفاً بشدّة...»
«لا تخف يا سمعان بن يونا. لقد اخترتُكَ كي أخلّصكَ، لا كي أُهلككَ. لقد اخترتكَ بسبب إرادتكَ الصالحة... ابتهج. أَمسِك بمقبض الدفّة وانظر إلى نجمة الشمال وامض بثقة يا سمعان بن يونا. لا تتردّد أبداً... في كلّ إبحاراتكَ... الله-يسوعكَ، سوف يكون دوماً إلى جانبكَ عند مقدّمة قاربكَ الروحيّ. وهو سوف يَفهَمكَ دوماً يا سمعان بن يونا. أتفهم؟ دوماً. ولن يكون عليه أن يغفر لكَ، لأنّكَ أيضاً قد تقع، مثل طفل ضعيف، لكن لن تكون لكَ أبداً الإرادة السيّئة للوقوع... كُن مسروراً يا سمعان بن يونا.»
ويومئ بطرس بالموافقة... إنّه شديد التأثّر كي يكون قادراً على الكلام، يخنقه الحبّ، يده ترتجف بعض الشيء على مقبض الدفّة، لكنّ وجهه يشعّ بالسلام، بالثقة، بالمحبّة، فيما ينظر إلى معلّمه الواقف قربه، على حافّة القارب الصغير، مثل رئيس ملائكة غارق بالبياض.