ج3 - ف32
أَنَا هُوَ
ماريا فالتورتا
L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO
THE GOSPEL AS REVEALED TO ME
بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}
L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ
MARIA VALTORTA
الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.
الجزء الثالث / القسم الأول
32- (العِظَة على الجبل: "التطويبات III")
26 / 05 / 1945
المكان ذاته والتوقيت ذاته، والجمهور ذاته ما عدا الرومانيّ، وقد يكون أكثر عدداً، إذ يتواجدون حتّى بداية السيل المؤدّي إلى الوادي.
يسوع يتكلّم:
«واحدة مِن الأخطاء الـمُتواتِرة لدى الإنسان، قلّة النـزاهة حتّى تجاه نفسه. كم هو صعب على الإنسان أن يكون صادقاً ونزيهاً! لقد كَيَّف ذاته على شكيمة يُرغِم بها ذاته على اتّباع الطريق التي يَرغَب. عَلاوة على ذلك، هي شكيمة تُساهِم في أن يغيّر مكانه بسهولة مثل حصان لم يُرَوَّض، فيُعدِّل مشيته على هواه أو يلغيها نهائيّاً، متصرِّفاً كما يطيب له، دون الاكتراث باللائمة التي يمكن أن يتلقّاها مِن الله، ومِن الناس، وتأنيب ضميره.
هذه الشّكيمة هي القَسَم. ولكن القَسَم ليس ضرورياً بين أناس يَتَّسِمون بالنـزاهة، والله، مِن جهته، لم يُعلِّمكم إيّاه، بل على العكس جَعَلَكم تقولون: "لا تشهد بالزور"، دون أيّة إضافة. إذ ينبغي للإنسان أن يكون صادقاً دون الحاجة لأيّ شيء آخر غير الوفاء لكلمته. عندما يكون الكلام في تثنية الاشتراع حول النُّذور التي إنّما هي أمر نابع مِن قلب يعتقد أنّه مرتبط بالله، إمّا بمشاعر الحاجة، وإمّا بمشاعر العِرفان، فيُقال: "ينبغي لكَ الحفاظ على شَرَف كَلِمَتك لمجرّد خروجها مِن بين شفتيكَ، بتنفيذ ما وَعَدتَ به الربّ إلهكَ، ما قُلتَه بفمكَ بمحض إرادتكَ." والحديث دائماً عن كلمة مُعطاة، ولا شيء غير الكلمة. مَن يَشعر بالحاجة إلى القَسَم، فهذا يعني أنّه غير واثق بنفسه ولا برأي القريب فيما يخصّه. وما يَستَدعي القَسَم هو تحدّي صدق ونزاهة مَن يَنطق به.
كما تَرَون، إنّ عادة القَسَم تلك هي نتيجة لعدم نزاهة الإنسان. وهذا خُزي للإنسان. خُزي مُضاعَف، ذلك أنّ الإنسان غير نزيه حتّى في ذلك الأمر الـمُخجِل الذي هو القَسَم، وبسخريّته مِن الله بنفس السهولة التي يَسخَر بها مِن القريب، يتوصّل إلى الحَنَث بالقَسَم بأعظم سهولة وأقصى سكون. وهل يمكن في ذلك أن يكون مخلوق أكثر خسّة مِن الحانِث باليمين؟ وذاك غالباً ما يَعمَد إلى صيغة مُكَرَّسة مقدَّسة، طالباً، بنتيجة ذلك، مشاركة وضمانة الله، أو يتذرّع بالعواطف الأثمن والأغلى: الأب، الأُمّ، الزوجة، الأطفال، أمواته، حياته ذاتها وأعضائه الأكثر أهمّية التي يَستَجلِبها للاستناد إليها في أقاويله الكاذبة، وبذلك يجعل قريبه يَثِق به. إذاً فهو يخدعه. إنّه مُنتَهِك للحُرُمات، سارق، خائن وقاتل. مَن؟ الله، لأنّه يَخلط الحقّ بسفالة أكاذيبه، ويَسخَر منه بالاستخفاف به: "اضربني، كَذِّبني لو استطعتَ. فأنتَ هناكَ وأنا هنا، وأَسخَر منكَ." نعم! اضحكوا، اضحكوا جيّداً أيّها الكَذَبَة والـمُتهَكِّمون! ولكن سيأتي الوقت الذي لا تعودون تضحكون فيه، وسيكون ذلك عندما يَظهَر لكم الذي له كلّ سلطان مُريعاً بعَظَمَته، وبمظهره وحده سوف يجعلكم مُتَنبِّهين، ويَصعَقكُم بمجرد نظرته، حتّى قبل أن يرمي صوته بكم إلى مصيركم الأزليّ لاعناً إيّاكم.
إنّه سارق، لأنّه يستولي على تقدير لا يستحقّه، يمنحه إيّاه القريب الذي استَحوَذَ عليه بيمينه، وتتحوّل الحَيّة إلى زينة بظهورها في غير ما هي عليه. إنّه خائن غَدَّار، لأنّه بِقَسَمه يَعِد بما لا يريد الوفاء به. إنّه قاتل لأنّه، إن يكن قد قَتَلَ شَرَف شبيهه بانتزاعه منه بيمينه الكاذب احترام القريب، وإن لم يكن قد قَتَلَ نفسه، إذ إنّ الحانث باليمين هو خاطئ خسيس في عينيّ الله اللتين تَرَيان الحقيقة حتّى ولو لم يَرَها أحد سِواه. فلا نخدعنّ الله لا بكلام كاذِب ولا بتصرّف مُنافِق. إنّه يَرَى. لا يغيب إنسان عن نَظَره لحظة. فليست هناك قِلاع ولا أقبية لا يَصِل نَظَره إلى أعماقها. حتّى أعماقكم الداخليّة، القلعة التي لدى كلّ إنسان حول قلبه، يَختَرِقها الله. ولا يُدينكم على إيمانكم، بل على أعمالكم.
إليكم لماذا أنا، بحسب الأمر الذي أُعطيَ، حينما وُضِعَ القَسَم موضع الاستخدام، ليَضَع حدّاً ويَكبَح الكَذِب وسهولة أن يَخلف المرء بوعده، أُبدِّله بأمر آخر. فلا أقول كما قيل قديماً: "لا تَحنثوا باليمين ولكن كونوا أوفياء لِقَسَمكم". بل إنما أقول لكم: "لا تُقسِموا أبداً، لا بالسماء عرش الله، ولا بالأرض موطئ قدميه، ولا بأورشليم وهيكلها مَوطِن الـمَلِك العظيم وبيت الربّ إلهكم".
لا تُقسِموا على أضرحة الأموات ولا بأرواحهم. فالقبور مُترَعَة ببقايا ما هو دُوْن في الإنسان، وما هو مُشْتَرَك مع البهائم. أمّا الأرواح فَدَعوها في مَسَاكِنها. لا تجعلوها تتألّم وتُرَوَّع إذا كان الأمر يخصّ نفوس الأبرار التي أَضحَت في حالة تَعَرُّف إلى الله. ولأنّ الأمر يعود إلى تَعَرُّف إلى الله أي إلى معرفة جزئيّة به، ذلك أنّهم، حتّى لحظة الفِداء، لن يمتلكوا الله في ملء تألّقه، ولا يستطيعون إلّا أن يتألّموا مِن رؤيتكم خَطَأَة. وإذا لم يكونوا أبراراً، فلا تزيدوا عذابهم بتذكيرهم بخطيئتهم مِن خلال خطيئتكم. دعوا، دعوا الأموات القدّيسين في السلام، وغير القدّيسين في أَلَمهم. لا تنـزعوا شيئاً مِن الأَوَّلين، ولا تزيدوا شيئاً للآخرين. لماذا تنادون الأموات؟ لا يمكنهم الكلام. فالقدّيسون تمنعهم المحبّة مِن ذلك: لأنّه ينبغي لهم، في أغلب الأحيان، أن يُكذِّبوكم. والهالِكون، لأنّ جهنم لا تفتح أبوابها، ولأنّ الهالكين لا يَفتَحون أفواههم إلّا لِيَلعَنوا، ولأنّ كلّ صوت مِن أصواتهم مخنوق بحقد إبليس والشياطين، لأنّ الهالِكِين هم شياطين.
لا تَحلفوا برأس أبيكم ولا برأس أُمّكم ولا برأس عروسكم ولا أولادكم ولا أولاد الأبرياء. لا حقّ لكم في ذلك. هل كانوا يوماً نقوداً أو سِلَعاً للسُّوق؟ هل هم توقيع على ورقة؟ إنّهم أكثر أو أقل مِن تلك الأشياء. إنّهم دم ولحم دمكَ أيّها الإنسان، ولكنّهم كذلك أحرار، ولا يمكن استخدامهم كعبيد لضمان تزييف قُمتَ أنتَ به. وهُم أقل مِن توقيعكَ، لأنّكَ عاقل، حُرّ وبالِغ السنّ، ولستَ قاصراً أو طفلاً غير مُطَّلِع، ولهذا السبب ينبغي أن يكون أهلكَ أولياء أمركَ. فأنتَ ما أنتَ عليه: إنسان موهوب بفِكر، وبالتالي فأنتَ مسؤول عن أفعالكَ، وينبغي لكَ أن تتصرّف بنفسكَ، ضامناً أفعالكَ وكلامكَ بنـزاهتكَ وصدقكَ، والاعتبار الذي عَرَفتَ أنتَ إيجاده لدى القريب، وليس بنـزاهة وصدق الأهل، والاعتبار الذي عَرفوا، هُم، إيجاده. هل الأهل مسؤولون عن أولادهم؟ نعم، إنّما طالما هُم صِغار السنّ. أمّا بعد ذلك فيصبح كلّ واحد مسؤول عن نفسه. أولاد الأبرار ليسوا أبراراً دائماً، وامرأة قدّيسة، لا تكون بالضرورة وعلى الدوام متزوّجة مِن رجل قدّيس. فلماذا تَبنون إذاً ضمانتكم على برّ قرينتكم؟ وبالمقابل، يمكن أن يُولَدَ لِخَاطِئ أبناءٌ قدّيسون، وطالما هُم بريئون، فَهُم جميعاً قدّيسون، فلماذا إذن اتّخاذ إنسان طاهِر وسيلة لضمان ذلك الفِعل النَّجِس الذي هو القَسَم الذي سوف يُحنَث به فيما بعد؟
لا تَحلفوا كذلك برأسكم وعينيكم ولسانكم ويديكم. لا حقّ لكم بذلك. كلّ ما هو لكم إنما هو مُلك لله. ولستم سوى حرّاس مؤقّتين على الكنوز المعنويّة أو الماديّة التي مَنَحَكم إيّاها الله. فلماذا التصرّف بما ليس لكم؟ هل يمكنكم إضافة شعرة لرأسكم أو تغيير لونها؟ إذا كنتم لا تستطيعون ذلك، فلماذا ضمان قَسَم أقسَمتموه بِنَظَركم، بكلمتكم، وحرّيّة أعضائكم؟ لا تَسخَروا مِن الله. إذ يمكنه أن يأخذ عليكم كلمتكم، ويجفّف عينيكم، كما يمكنه تجفيف أشجار بساتينكم، أو انتزاع أولادكم منكم، كما يستطيع اقتلاع بيوتكم ليذَكِّركم بأنّه هو الربّ، وأنّكم مِن ممتلكاته، ومَلعون كلّ مَن يَعبد ذاته لدرجة أن يَعتَبِر نفسه أسمى مِن الله بالسخرية منه بالكَذِب.
ليكن كلامكم: النَّعَم، نَعَم، والّلا لا. وكل ما زاد على ذلك فهو مِن إبليس، ليَسخَر منكم فيما بعد، لأنّكم، في حال عدم تمكّنكم مِن الوفاء، تَقَعون في الكَذِب، ويَسخَرون منكم، وتُكَوِّنون لنفسكم صِيت كاذِبِين. الصدق الصدق أيّها الأبناء، إنْ بالكلام وإنْ بالصلاة.
إيّاكم أن تَفعلوا كالمرائين، حينما يُصَلّون، يُحيُون الصلاة قياماً في المجامع ومُلتَقَى الطُّرُقات، ليراهم الناس ويمدحوهم كرجال أتقياء وبَرَرَة، وعندما يكونون وسط عائلاتهم يسيئون إلى الله وإلى القريب. أفلا تَرَون بالمقابل أنّ هذا هو نوع مِن الحَنَث بالقَسَم؟ لماذا تريدون الجزم بما ليس صحيحاً بهدف اكتساب اعتبار لا تستحقّونه؟ الصلاة النفاقيّة تَفتَرِض القول: "في الحقيقة أنا قدّيس. أُقسِم على ذلك بعيون الذين يَرَونَني أُصلّي ولا يستطيعون تكذيب أنّهم رأوني أُصلّي". إنْ ذلك إلّا ستار يُحجَب به شرّ حقيقيّ. والصلاة التي تُقام بهذه النيّة تصبح تَجديفاً.
دعوا لله العناية بإعلانكم قدّيسين. واجعَلوا حياتكم كلّها تَهتف مِن أجلكم: "هو ذا خادم الله". ولكن أنتم، محبّة بأنفسكم، ورِفقاً بها، ظَلّوا صامتين. لا تجعلوا مِن لسانكم، المدفوع بكبريائكم، أداة شكّ في عيون الملائكة. فالأفضل لكم أن تُصبِحوا بُكماً في الحال إذا لم تكن لكم المقدرة على السيطرة على كبريائكم ولسانكم اللَّذَين يدفعانكم إلى إعلان ذواتكم أبراراً ومقبولين لدى الله. دعوا للناس المتكبِّرين والمزيَّفين هذا المجد البائس! دعوا لهم ذلك الأجر العابر. يا للأجر الضئيل! ولكنّه هو الـمُراد، ولن يكون لهم غيره، لأنّ الأجر يُعطى مرّة واحدة. أمّا الأجر الحقيقيّ الآتي مِن السماء، فهو أزليّ وعادل، وأمّا هذا الأجر الزائف الآتي مِن الأرض فيدوم قَدر عمر الإنسان وحتّى أقلّ، ويجب بعدئذ تسديده، كونه جائراً، بعد الحياة الدنيا، بعقاب مُذِلّ جداً.
اسمَعوا. كما أنّه ينبغي لكم أن تُصَلّوا بشفاهكم، بعملكم، وبكلّ كيانكم، باندفاع قلب يحبّ الله، نعم، وأنتم تَرَون فيه أباً، كذلك عليكم أن تتذكّروا أنّه الخالق، وأنتم أنفسكم خليقته، أنتم قلب يحفظ ذاته بحبّ وَقور في حضرة الله على الدوام، سواء أكان يُصلّي أم يهتمّ ببعض الأعمال، سواء أيمشي أم يستريح، سواء أَيَقبَض أجراً أم يَدفَع الأجر لآخَر. باندفاع القلب قُلتُ. ذلك أنّه الصفة الأولى والأساسيّة، إذ إنّ كلّ شيء ينبع مِن القلب. وكما يكون القلب كذا يكون الفِكر والكلام والنَّظَر والفِعل.
فَمِن قلبه يَجني البارُّ الخيرَ، وكلّما جنى أكثر كلما وَجَدَ أكثر، إذ إنّ الخير الذي تفعل يُوَلِّد خيراً جديداً. إنّه كالدم الذي يتجدّد أثناء دورته في الأوعية الدمويّة ليعود إلى القلب مُزوَّداً دائماً بعناصر جديدة، آتية مِن الأوكسيجين الذي امتصَّه، أو مِن عصارات الأغذية التي تَـمَثَّلَها. أمّا الإنسان المنحرف، فعلى العكس، لا يمكنه أن يحصل مِن قلبه المظلم والـمُفعَم كذباً وسمّاً إلّا على الكذب والسمّ يتزايدان باستمرار، متقويّين بالأخطاء التي يجعلانها تتراكم كما تتراكم بَرَكات الله على مَن كان صالحاً. ثِقوا تماماً أن مِن فَيض ما في القلب تتكلّم الشفاه ويَظهَر في الأفعال.
ليكن قلبكم متواضعاً وطاهراً، مُـحِبّاً وواثقاً وصادقاً. أحِبّوا الله كحبّ عذراء عفيف لعروسها. الحقّ أقول لكم: كلّ نَفْس هي عذراء زُفَّت إلى الخطيب الأزليّ، إلى الله ربنا. حياة الأرض هي زمن الخطوبة، حيث الملاك الممنوح لكلّ إنسان، كحارس له، هو شِبه حوريّة روحيّة، كلّ الأوقات، كلّ الطوارئ في الحياة هي جميعاً خادمات تُهيّئ جهاز العروس الزفافيّ. ساعة الموت هي ساعة إتمام حفل الزفاف، حينئذ تأتي: المعرفة والعفاف والانصهار، ومتزيّنة بثوب العروس، يمكن للنَّفْس نزع وِشاحها والارتماء بين ذراعيّ الله دون أن يكون حبّ العروس ذاك سبباً لشكّ الآخرين.
ولكن، في الوقت الحاضر، ما زلتم نفوساً مُكَرَّسة بِربِاط الخطوبة مع الله. عندما تَودُّون الحديث مع العروس، ادخلوا في سلام مسكنكم الداخليّ وتحدّثوا، وملاككم الحارس يؤازر ملاك الجسد، وتحدّثوا إلى مَلِك الملائكة. تحدّثوا إلى أبيكم في سرّ قلبكم وسرّ مسكنكم الداخليّ. دعوا خارجاً كلّ ما هو لهذا العالم: إنْ يكن هَوَس لَفْت الأنظار إليكم، وإن يكن هَوَس أن تكونوا قُدوة، أو تُوَرُّع الصلوات الطويلة المترعة كلاماً، الرتيبة، الفاترة، والخالية مِن الحبّ. حُبّاً بالله! تخلَّصوا مِن المعايير في الصلاة. في الحقيقة يقضي أشخاص كثيرون ساعات وساعات في مُنُولوج تُردِّده الشفاه فقط. إنّها مناجاة فرديّة حقيقيّة، إذ إن الملاك الحارس نفسه لا يسمعها لكونها ضوضاء باطِلة، يُحاوِل مُعالَجَتها بأن يَغرَق في صلاة حارّة مِن أجل ذاك السطحيّ المكلّف بحراسته. في الحقيقة، هناك أشخاص لا يَستَخدِمون تلك الساعات بطريقة أخرى، حتى ولو ظَهَرَ لهم الله ذاته ليقول: "خلاص العالم يتطلّب أن تتركوا هذه الثرثرة التي بلا روح، للذهاب، بكلّ بساطة، لسحب الماء مِن البئر وسقاية الأرض حُبّاً بي وبأخوتكم الذين يشبهونكم". في الحقيقة، هناك أشخاص يَعتَقِدون أنّ مونولجهم أكثر أهمّية مِن استقبال زائر بكِياسة، أو نجدة مُحِبّة لمحتاج. فتلك النُّفوس قد وَقَعَت في عبادة الصَّلاة.
الصلاة فِعل حبّ. فيمكنكم الحبّ وأنتم تصنعون الخير تماماً كما وأنتم تُصلّون، بمساعدة عاجز كما في التأمُّل، في الاهتمام بواجبات عائليّة كما في رحلة حجّ إلى الهيكل، في التضحية، حتّى برغباتنا البارّة في التأمّل بالربّ كما في ذبيحة حَمَل. يكفي طَبع الكيان كلّه والنشاط كلّه بطابع الحبّ. لا تخافوا! فالآب يرى. الآب يُدرِك. الآب يَسمَع. الله يَمنَح اللّازم. كَمْ مِن النِّعم يمنحها لِزَفرة حبّ واحدة، وحقيقيّة وكاملة! لا تُشبِهوا الوثنيّين. فالله لا يحتاج لأن تقولوا له ما ينبغي له فِعله، لأنّكم في حاجة إليه. فذلك، حتّى الوثنيّون يمكنهم قوله لأصنامهم التي لا يمكنها سماعه. ولكن لا تتصرّفوا هكذا مع الله، مع الله الحقيقيّ، الروحيّ، الذي ليس فقط إلهاً ومَلِكاً، بل هو كذلك أبوكم، ويَعرِف قبل أن تسألوه ما أنتم في حاجة إليه.
اطلُبوا تُعطوا. ابحثوا تَجِدوا. اقرَعوا يُفتَح لكم. مَن يَسأَل يُعطَ، ومَن يبحث يَجِد، ومَن يَقرَع الباب يُفتَح له. عندما يمدّ طفل يده الصغيرة قائلاً: "أبتاه أنا جائع". هل فيكم مَن يُعطيه حجراً مثلاً؟ وإذا سَأَلَ سمكة، فهل مَن يُعطيه حَيَّة؟ لا، بكل تأكيد، بل مع إعطاء الخبز والسمك تُضيفُون مُلاطَفة وبَرَكَة، ذلك أنّه ممتع للأب أن يُغذّي ابنه ويرى ابتسامته السعيدة. فإذا كنتم أنتم أصحاب القلوب غير الكاملة، تعرفون كيف تعطون أبناءكم الأشياء الصالحة، لمجرّد الحبّ الطبيعيّ الذي هو لدى الحيوان كذلك تجاه صغاره، فكم بالأحرى أبوكم السماويّ يَمنَح الذين يَسأَلونه الصالح والضروريّ لخيرهم. لا تَخشوا مِن السؤال، ولا تخافوا مِن ألّا تَنالوا!
آنئذ أُحذِّركم مِن خطأ يَسهُل الوقوع فيه. حينئذ لا تفعلوا كالضعفاء في إيمانهم وحبّهم، وَثَنيّي الديانة الحقيقيّة. بالفعل، بين المؤمنين هناك وثنيّون، ديانتهم المسكينة هي مجرّد مجموعة مُزدَحِمة مِن خُرافات وإيمان، صَرحٌ مٌتداعٍ اجتاحَته نباتات طفيليّة مِن كلّ الأنواع، بشكل يجعله يتفتّت ويقع متهدّماً. هؤلاء الناس الضعفاء والوثنيّون يُحِسّون بالإيمان يموت إذا لم يَروا أنفسهم مستجاباً لهم.
أنتم تَسأَلون. ويبدو لكم الطَّلَب عادلاً. بالفعل، في تلك الأثناء لا تكون النِّعمة غير مجدية. ولكنّ الحياة لا تنتهي مع تلك اللحظة. وما هو خير اليوم قد لا يكون كذلك غداً. هذا لا تعرفونه لأنّكم لا تعرفون سوى اللحظة الحاضرة، وهذا أيضاً نِعمة مِن الله. ولكنّ الله يَعلَم المستقبل أيضاً، وغالباً ما يَترُك صلاة مِن غير استجابة ليُجنِّبكم معاناة أَعظَم. خلال عام مِن حياتي العامة سَمِعتُ أكثر مِن مرّة قلوباً تئنّ: "كم تألّمتُ حين لم يَستَمِع الله إليَّ. لكنّني الآن أقول: حسناً كان هكذا، إذ إن تلك النِّعمة كانت ستمنعني مِن الوصول إلى ساعة الله هذه". وسَمِعتُ قلوباً أخرى كانت تقول لي: "لماذا، يا سيّد، لا تستجيب لي؟ تمنح ذلك للآخرين ولا تمنحه لي؟" حينئذ، ولألمي مِن رؤيتهم يتألّمون، كان عليَّ أن أقول: "لا أستطيع". إذ إنّ الاستجابة لهم كانت ستعني إعاقة طيرانهم نحو الحياة الكاملة.
الأب كذلك يقول أحياناً: "لا أستطيع". وهذا لا يعني أنّه لا يستطيع إتمام الفِعل فوراً. ولكنّه يرفض ذلك لِعِلمه بالنتائج المستقبليّة. اسمعوا. طفل يعاني من مرض في أمعائه. لَجَأَت الأمّ إلى الطبيب، والطبيب قال: "لكي يَبرَأ عليه الالتزام بِحِمية مُطلَقَة". يبكي الطفل، يَصرُخ، يَتضرَّع ويبدو أنّه يَضعُف. والأُمّ الـمُفعَمَة رحمة على الدوام، تضمّ نحيبها إلى نحيب ابنها. ويبدو لها هذا المنع الـمُطلَق قَسوة مِن قِبَل الطبيب. يبدو لها أنّ ذلك الصيام وتلك الدموع تؤذي وَلَدها. ولكن الطبيب يبقى صارماً، ثابتاً. وفي النهاية يقول: "يا امرأة، أنا أَعلَم وأنتِ لا تعلمين. هل تريدين أن تفقدي ولدكِ أَمْ تريدينني أن أنقذه لكِ؟" فتصرخ الأم:"أريده أن يعيش!". "وإذن". يقول الطبيب: "لا أستطيع أن أسمح بالطعام لأنّ به يكون موته". فهكذا يتكلّم الآب أحياناً. أنتم أمّهات مُفعَمات رحمة للأنا فيكم، لا تريدون سماعها تبكي لحجب نِعمة عنها. ولكنّ الله يقول: "لا أستطيع، ففي ذلك شقاؤكِ". ويأتي يوم، أو الأزليّة، حيث يُقال: "شكراً يا إلهي لعدم استماعكَ لِطَلَبي الأحمق وتلبيتكَ له!"
ما قُلتُه عن الصلاة، أقولُه عن الصوم. عندما تصومون، لا تَعبسوا كما يفعل المنافقون الذين يُكلِّحون وجوههم ليَعلَم العالم ويعتقد، حتّى ولو لم يكن ذلك صحيحاً، أنّهم صائمون. فَهُم كذلك نالوا أجرهم بمديح العالم، ولن يكون لهم أجر آخر. أمّا أنتم، عندما تصومون، فلتنفَرِج أساريركم ولتَغسلوا وجوهكم بمياه كثيرة لتبدو نَضِرَة وملساء، وادهنوا لحيتكم بالزيت، وعَطِّروا شَعركم، ولتكن الابتسامة على شفاهكم ابتسامة مَن فطر جيداً. آه! وليكن، في الحقيقة، الحبّ هو الذي يقوم بأودكم أكثر مِن الغذاء! الحقّ أقول لكم، حتّى ولو عامَلَكُم العالم "كمتفاخِرين مغرورين" و"كعشّارين"، فإنّ أباكم سيرى سرّكم البطوليّ، ويجازيكم ضعف المكافأة، مِن أجل الصوم ومِن أجل التضحية بالمديح الذي كان بإمكانكم الحصول عليه.
الآن وقد تَغذَّت نفسكم، امضوا لتَمنَحوا الغذاء لجسدكم. وليبقَ هذان المسكينان معنا. سيكونان الضَّيفَين المباركين اللذين سيمنحان قوْتَنا طعمه اللذيذ. السلام معكم.»
ويبقى الفقيران. امرأة نحيلة جدّاً وشيخ عجوز، عجوز جدّاً. ولكنّهما ليسا معاً. لقد اجتَمَعا بالصدفة وكانا قد بقيا في أحد الأركان متواضِعَين، مادَّين يديهما بلا جدوى للمارِّين أمامهما.
ولأنّهما لا يجرؤان على التقدّم، يمضي يسوع إليهما، ويأخذهما مِن يديهما ويقودهما إلى وسط جمهور التلاميذ المتواجدين تحت شكل مِن أشكال الخيمة نَصَبَها بطرس في إحدى الزوايا، قد يكونون يجتمعون تحتها ليلاً، أو خلال ساعات اليوم الأكثر حرارة. إنّها خيمة مِن أغصان و... مَعاطِف. ولكنّها مفيدة رغم كونها منخفضة، حتّى إن يسوع والاسخريوطيّ، الاثنين الأكثر طولاً، يضطرّان للانحناء كي يَدخُلا.
«هو ذا الأب، وهذه أخت. هاتوا ما لدينا، وأثناء تناول طعامنا سنستمع إلى قصّتهما.» ويَخدم يسوع شخصيّاً الفقيرَين الخَجِلَين، ويستمع إلى القصّة المثيرة للرثاء. العجوز وحيد مذ ذَهَبَت ابنته بعيداً، مع زوجها، ونَسِيَت أباها. والمرأة كذلك وحيدة مذ قَتَلَت الحمّى زوجها، وفضلاً عن ذلك هي مريضة.
«يحتقرنا العالم لأنّنا فقراء.» يقول العجوز. «أمضي طالباً الصَّدَقَة لأجمع ما أُتمّ به الفصح. عمري ثمانون عاماً. أؤدّي الفصح على الدوام، وهذا قد يكون الأخير. ولكنّني أودُّ المضي إلى حضن إبراهيم دون أيّ تأنيب. آمَلاً أن يُغفَر لي بالطريقة نفسها التي أَغفر بها لابنتي. أريد إتمام الفصح.»
«ولكنّ الطريق طويلة يا أبتاه.»
«وطريق السماء تكون أطول إن لم نُتِمّ الطقس.»
«أتسير وحيداً؟ وإذا ما ألمَّ بِكَ مَرَض على الطريق؟»
«ملاك الله يُغمض لي عينيّ.»
يُلامِس يسوع تحبّباً رأسه المرتَجِف والأبيض، ويَسأَل المرأة: «وأنتِ؟»
«إنّني أمضي بحثاً عن عَمَل. لو كنتُ تغذّيتُ بشكل أفضل، لشُفيتُ مِن الحمّى، ولو كنتُ شُفيتُ لكنتُ أعمل في الحقول.»
«أتعتقدين أنّ الغذاء وحده يشفيكِ؟»
«لا. أنتَ كذلك. ولكنّني شيء تافه، شيء مسكين جدّاً، أكثر تفاهة مِن إمكانيّة طَلَب الرحمة.»
«ولو شَفَيتُكِ ماذا كنتِ ستطلبين بعد؟»
«لا شيء أكثر. لقد حصلتُ على أكثر مما كنتُ أتأمّل.»
يبتسم يسوع ويعطيها قطعة خبز مبلّلة بقليل مِن الماء والخلّ المستخدم كمشروب. تأكلها المرأة دون كلام، ويستمرّ يسوع في الابتسام.
ينتهي تناول الطعام بسرعة. لقد كان متقشّفاً جدّاً! يمضي الرُّسُل والتلاميذ بحثاً عن ظلّ على المنحدرات، وسط الأدغال. يبقى يسوع تحت الخيمة. يتمدّد العجوز على العشب وينام مِن التعب.
بعد قليل، المرأة التي كانت قد ابتعدت لتأخذ قسطاً مِن الراحة في الظلّ تأتي إلى يسوع الذي يبتسم لها ليشجعها. تتقدّم خَجِلَة ولكنّها مع ذلك فَرِحَة، حتّى تصل إلى موقع قريب مِن الخيمة، ثمّ، إذ كان الفرح قد سَيطَرَ عليها، تخطو الخطوات الأخيرة مسرعة لترتمي جاثية وهي تصرخ صرخة مَخنوقة: «لقد شَفَيتَني! مبارك أنتَ! إنّها ساعة الارتعاش الأعظميّ، لم أعد أشعر به... آه!» وتُقبِّل قدميّ يسوع.
«هل أنتِ متأكّدة مِن شفائكِ؟ أنا لم أقل ذلك. لعلّها تكون صدفة...»
«آه! لا! الآن أدركتُ سبب ابتسامتكَ عندما أعطيتَني قطعة الخبز تلك. قُدرَتكَ اخترَقَت أعماقي مع تلك اللقمة. ليس لديَّ ما أعطيكه بالمقابل، لا شيء سوى قلبي. أَصدِر أوامركَ لخادمتكَ، وخادمتكَ ستطيعكَ حتّى الممات.»
«نَعَم. أترين ذلك العجوز؟ إنّه وحيد وبارّ. لقد كان لكِ زوج انتَزَعَه منكِ الموت. وكانت له ابنة، انتَزَعَتها منه الأنانيّة. ومع ذلك فهو لا يتذمّر. وليس مِن العدل أن يمضي وحيداً إلى ساعته الأخيرة. فكوني له الابنة.»
«نعم يا سيدي.»
«ولكنّ ذلك يعني أن تعملي مِن أجل اثنين.»
«الآن أنا قويّة، وسأفعل ذلك.»
«إذاً فاذهبي هناك على ذاك المنحدر، وقولي للرجل الذي يرتاح فيه ، لذاك الذي يرتدي الثوب الشتويّ أن يأتي لمقابلتي.»
تمضي المرأة مسرعة لتعود مع سمعان الغيور.
«تعال يا سمعان، لديَّ ما أقوله لكَ. انتَظِري يا امرأة.»
يبتعد يسوع لبضعة أمتار.
«هل تظنّ أن لدى لعازر صعوبة في تَقَبُّل عامِلة إضافيّة؟»
«لعازر؟ أظنّه لا يَعرِف كَم لديه مِن الخُدّام. فواحد زيادة أو نقصان!... ولكن مَن تكون؟»
«تلك المرأة. لقد شَفَيتُها، و...»
«يكفي يا معلّم، إذا شَفَيتَها فهذه إشارة إلى أنّكَ تحبّها. وكلّ ما ومَن تحبّه أنتَ فهو مقدّس لدى لعازر. أنا أكفَلهُ.»
«صحيح. كلّ ما ومَن أحبّه يكون مقدَّساً لدى لعازر. حسناً قُلتَ. ولهذا السبب سيصبح لعازر قدّيساً، إذ إنّ حُبّه لِما أُحِبُّه أنا يجعله يحبّ الكمال. أودُّ أن أجعل ذلك العجوز وتلك المرأة يَجتَمِعان، وأن أجعل ذلك الشيخ يَحتَفِل بفصحه الأخير بِفَرَح. أُحِبُّ كثيراً الشيوخ القدّيسين، وإذا استطعتُ منحهم غروباً صافياً أكون سعيداً.»
«تحب كذلك الأطفال...»
«نعم، والمرضى...»
«والباكين...»
«والوحيدين...»
«آه! يا لمعلّمي! ولكن ألستَ تُلاحِظ أنّكَ تحبّ كلّ الناس حتّى أعداءكَ؟»
«لا أنتبه لذلك، يا سمعان. فالحبّ طبيعي هو. ها هو ذا الشيخ يستيقظ. هيّا بنا نقول له إنّه سَيُعَيِّد الفصح وإلى جانبه ابنة وأنّه لن ينقصه القُوت.»
يَعودَان إلى الخيمة حيث تنتظرهما المرأة، ويمضون هُم الثلاثة إلى العجوز الجالس الذي يعيد ربط سِير حذائه.
«ماذا تفعل يا أبتاه؟»
أُعاوِد النـزول إلى الوادي بأمل إيجاد مأوى لليل، وغداً سوف أتسوّل على الطريق، ثمّ... رويداً رويداً... خلال شهر، إذا لم أمت فسأكون في الهيكل.»
«لا.»
«ألا ينبغي لي فِعل ذلك؟ لماذا؟»
«لأنّ الله لا يريد ذلك. لن تذهب وحدكَ. ستأتي هذه المرأة معكَ. ستقودكَ حيث أقول لها، وهناك سوف تُستَقبلان حُبَّاً بي. سوف تُعيِّد الفصح، ولكن دون أن تُرهِق نفسكَ. لقد حَمَلتَ صليبكَ أيّها الأب. أَنزِله الآن، واخْتَلِ بنفسكَ في صلاة شكر لله.»
«ولكن لماذا؟... ولكن لماذا؟... أنا... أنا لا أستحقّ كلّ ذلك... أنتَ... ابنة... هذا أكثر ممّا لو كُنتَ مَنَحتَني عشرين سنة... وأين، أين تُرسِلني؟» يبكي الرجل العجوز في دَغل لحيته الطويلة.
«لدى لعازر ثيوفيلوس. لا أدري إذا ما كنتَ تَعرفه.»
«آه! إنّني مِن تخوم سورية وأتذكّر ثيوفيلوس... ولكن... لكن... آه! يا للابن المبارَك لله، دعني أبارككَ.»
ويسوع، جالساً على العشب كما هو، في مواجهة العجوز، ينحني حقيقة ليَسمَح له بأن يضع يده على رأسه بمهابة. وبصوت كالرعد، بصوته الأجش كعجوز، يَنطُق بالبَرَكَة القديمة: «ليبارككَ الربّ ويحفظكَ. وليُظهِر لكَ الربّ وجهه ويرحمكَ. وليُحوّل الربّ نَظَرَه إليكَ ويمنحكَ سلامه.»
يسوع وسمعان والمرأة يجيبون معاً :«آمين.»