الدفاتر: 06 / 07 / 1943

 

دفاتر 1943

ماريا فالتورتا

 

I QUADERNI - THE NOTEBOOKS - LES CAHIERS

MARIA VALTORTA

 

الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.

 

(06 / 07 / 1943)

 

بانتظار أن يتكلّم يسوع، سوف أتكلّم أنا لإيضاح بعض النقاط.

 

لقد لاحظتَ (الكلام للأب ميغليوريني) أنّه بتاريخ 28 / 06، كانت هناك صلاة للدم فائق القداسة. إنّما، وإن كان يسوع قد اشتكى لعدم إجلالنا لدمه بشكل كافٍ، فهو لا يفرض، بلهجة آمرة، جعل هذه الصلاة معروفة. بينما بالنسبة للصلاة الّتي في إملاء 04 / 06، كتعويض ليسوع-الإفخارستيا، فهو لم يدعني أستكين طالما لم أرسلها لكَ. إنّ يسوع يُفهِمني بضرورة تلاوة هذه الصلاة كثيراً، وهو شخصيّاً، يجعلني أقولها مع الجملة الّتي أملاها: "...بيد الشيطان" (راجع إملاء 04 / 06).

 

آسفة لعدم إطاعة الرقيب الكنسيّ. ولكن بينه وبين المعلّم، أختار المعلّم. حتّى ولو كنتُ أريد القيام بخلاف ذلك، فما كنتُ أستطعتُ.

 

وكم يؤسفني أن يتوجّب عليَّ قول أنّني لا أعرف مَن كتب تلك الصلاة. آه! حتماً أعرفه! ولكنّه لا يفصح عن هويّته. إنّه يعطينا صيغة كاملة في إيجازها، في كمالها، الأمر الذي هو وحده يمكنه فِعله، ويطلب منّا فقط أن نتلوها ولا شيء آخر. وعليه فأقول للبعيدين عن هنا إنّها كُتبت بيد إنسانة مريضة.

 

كُتِبَت: لهذه الكلمة معنى واسع جدّاً. يمكنني كتابة الكوميديا الإلهيّة، إذا ما تحلّيتُ بالصبر. إنّما بالتأكيد لستُ أنا مَن ألّفتُها. الأمر نفسه الآن. أنا مَن كتبتُها وهو من ألّفها. ولكن للقريبين الّذين قد يسألون أين هي هذه المريضة، أقول: "لا أعلم مَن كتب هذه الصلاة".

 

فإذا ما قلتُ: "أنا مَن كتبتُها"، لكنتُ أتلقّى عنها مديحاً سيكون غير مستحق. وإذا كشفتُ عمّن أملاني إيّاها، فسيفكّر الناس بطريقتين مختلفتين. واحدة سأتلقّاها بصبر وأنا أفكّر بيسوع الّذي دُعي "مجنوناً1". ولكنّني لا أريد أن تقال الثانية. ذلك أنّ يسوع، السامري الحقيقيّ الرحوم، إذ ينحني على نفسي الّتي ليست سوى مزقة، فيكون ذلك دليلاً على رحمته اللامتناهية وليس لاستحقاق منّي.

 

أشعر، بالدقّة ذاتها كما لو أنّني قد عشتُ ذلك قبلاً، أنّه إذا ما استحوذ عليَّ الكبرياء، فسينتهي كلّ شيء. كنتُ أقول ذلك لحضرتكَ هذا الصباح. أنا شخصيّاً مقتنعة بذلك، ويسوع الصالح يؤكّد ذلك بقوله لي "إنّ الكبرياء يقتل كلّ الفضائل، بدءاً مِن المحبّة، ويحمل معه فقدان نور الله. فالمتكبّر –يشرح لي يسوع- لا يعامل أبا السماوات الصالح باحترام مقدّس، وليس لديه الميل الفطري للرحمة تجاه إخوته وأخواته، ويظنّ نفسه متفوّقاً على ضعفات الجسد وعلى قواعد الشريعة. ولذلك يخطئ باستمرار، وبالخطيئة ذاتها الّتي أدّت إلى هلاك الشيطان في البدء، وآدم وذرّيته فيما بعد. ولكن فوق كلّ ذلك، يقتل المحبّة. يدمّر إذاً الاتّحاد بالله.

 

بخصوص المحبّة. أرجو مِن حضرتكَ الإصرار بحرارة على هذه المسألة مع راهبات المستشفى. فمفهوم ومعذور كونهنّ تَعِبات، طافحات، غاضبات، إذ تتمّ مناداتهنّ بلا توقّف مِن كلّ حدب وصوب مِن قِبَل مرضى متطلّبين وغالباً عديمي الامتنان. إنّما هنّ يكتسين بالمحبّة، المحبّة الفاعلة وأقدس الأعمال. إنّ بين أيديهنّ نفوس تتألّم في أجساد متألّمة، نفوس تُلاقي، أحياناً، وجه الله في خدّامه، بالضبط في أروقة المستشفى، نفوس قد تكون على وشك التقابل مع الله الأزلي مِن أجل الدينونة الخاصّة.

 

آه! كم هي عظيمة مسؤوليّة مَن يعتني بمريض! فهو قادر، بطريقة تصرّفه، منع تواصل، التقاء اثنين كانا يبحثان -أقلّه بالنسبة لأحدهما- عن بعضهما، دون تمكّنهما مِن التلاقي.

 

الألم هو غالباً ما يكون سلسلة، شرارة، مغناطيساً بين الله وخليقته. ولكن، عندما وبقدر ما لا تعرف الخليقة إلهها أكثر، يجب معرفة استثمار الوسيلة -المرض- بقدر لا محدود مِن المحبّة، كي يحصل أن تتمكّن النَّفْس مِن المضي إلى حيث يجذبها يسوع إلى قلبه المحبّ، بدل الفرار، مصدومة، مُعثَرة، مرتابة كونها ترى أنّ خادمة الله هي... مجرّد حزمة قُرّاص، بدل كونها باقة بنفسج مخمليّة.

 

مرضى آخرون قد يكونون كاثوليكيّين فاترين... ولكن كيف يمكنهم الاضطرام إذا ما كانوا محاطين بقلوب، هي تحت العلامة المتّقدة للصليب، إنّما هي باردة كما جسد ميت؟

 

ينبغي أن تحرص على تسليم النفوس ليسوع، ينبغي أن تعمل على تلقّي هذه النفوس المسكينة الّتي ألقتها الحياة على الشواطئ الأليمة لإحدى المشافي كغرقى مجروحين ويائسين كثيرين، واستقبالها بحبّ، العناية بها، تهدئتها، بثّ الفضائل الثلاث الإلهيّة السامية2 فيها، والفضائل الرئيسية (الكاردينالية)3 الوادعة للغاية، اقتيادها صوب النور. ينبغي عليها العمل بحيث، سواء في الحياة فيما إذا ما تجاوزت المرض، أو في الموت إذا ما حانت ساعة المنيّة، أن تغادر المستشفى أو الحياة، بنفوس يتّقد فيها النور الّذي لا يموت، بفضل الراهبة الممرّضة الشفوقة.

 

إذا كانت العرّابة في العماد تضطلع بمسؤوليّة كبيرة، فما عساها تكون مسؤوليّة "عرّابات الألم والموت"؟ لقد كنتُ ممرّضة، أعلم وأُشفِق. إنّما لم يكنّ كلّهنّ كذلك.

 

لماذا الإعثار، إثارة الامتعاض، جرح النفوس، إغلاقها في الوقت الّذي يجب أن تبقى منفتحة بالأكثر، بسبب ضربها بنقيض المحبّة؟

 

سامحني ولتسامحني الراهبات. ولكن رحمة بهنّ، هنّ اللواتي عليهن الإجابة أمام الديّان الأبديّ عن أنفسهنّ وعن النفوس الموكلة إليها العناية بها، ورحمة بالّذين يتألّمون بأجسادهم وهم بأمسّ الحاجة إلى النور في النَّفْس، أرجوكَ أن تُشدّد على المحبّة الّتي تجعل منّا: "خادمات متأهّبات"، كما كان يقول شعارنا كممرّضات سامريّات.

 

مِن المحبّة يتأتّى للممرّضة الصبر، الهدوء، الابتسامة (الأكثر فائدة للمتألّمين والأكثر بطولية). يتأتّى كلّ شيء في هذه الحياة وقبلة المسيح في الحياة الأخرى (وأحياناً حتّى في هذه)، تلك القبلة الّتي هي جواز السفر إلى ملكوت الله.

 

في ما يخصّ مريضتكَ، العاجزة منذ أربع عشرة سنة، سأصلّي مِن أجلها وأنا أتألّم. سأكون سعيدة لو أنّ ألمي حصل لها على رؤية يسوعنا الإلهيّ والوديع. إنّها صمّاء بكماء. وحتّى إن تكن عمياء أيضاً، فيمكن ليسوع أن يتألّق دوماً في ظلماتها ويتحدّث إلى طبلتيّ أذنيها المطفأتين. يكفي أن يتجلّى للحظة... بعد ذلك، لا يمكن الخروج مِن فلك نوره…

 

سأصلّي كثيراً لمشلولة الأعضاء هذه، كما أصلّي مِن أجل النفوس الأخرى الّتي ترشدها حضرتكَ، والمثقلة نوعاً ما في الروح. آه! أودّ التألّم كثيراً للصعود صوب الله وأنا أجرّ ورائي، كما سرب ملائكيّ، قبيلة نفوس حقيقيّة. لستُ خائفة مِن الألم الكثير، لأنّني أتألّم إرضاءً ليسوع.

 

والآن شكراً على المفاجأة غير المنتظرة. قد كنتُ، يوم الأحد، قد قمتُ بتضحية حقيقيّة إذ قاومتُ إغراء شراء كتاب. حياة جان ماري فيانّيه، الذّي أُعطي لي لقراءته.

 

ولكن أترى كم الربّ صالح؟ عندما أتأمّل صلاحه الإلهيّ، تملأ الدموع عينيّ. ذلك أنّني في كلّ ما أتلقّى أرى يسوع. فيد يسوع هي مَن تعطيني هذا الشيء أو ذاك. إنّه إحساس قويّ بحيث أقول في البداية "شكراً" ليسوع وبعد ذلك للشخص الشَّفوق الّذي، بإلهام مِن يسوع، يقدّم سلوى للمسكينة ماريّا. يسوع يمكث كما الشاشة بيني وبين العالم، وأراه يتطابق مع كلّ شيء ومع الجميع.

 

شكراً إذاً، أبتي، لاتّباعكَ إلهام يسوع ومنحي…

 

يشرع يسوع بالكلام فأصمت أنا.

***

 

يقول يسوع:

 

«كان تسكيناً لأمّي أن ترى أنّ ألمي في الجسد قد توقّف، ولكنّه لم يكن ’الابتهاج‘. كانت ترى أنّ جسد ابنها لم يعد يتألّم، كانت تعلم أنّ هول القتل المادّيّ للّه قد انتهى.

 

ولكنّ ’الممتلئة نعمة‘ كانت لها معرفة بالأزمنة القادمة، حيث بشر بأعداد لا محدودة سيستمرّون بجرح ابنها روحيّاً، وقد كانت وحيدة.

 

إنّ قتل الله لم ينتهِ على الجلجلة في ساعة موتي. فهو يتكرّر في كلّ مرة يَقتل أحد الّذين افتديتُهم نَفْسه، يُدنّس هيكل روحه الحيّ، يُطلِق العنان لعقله الـمُدَنِّس للقدسيّات للتجديف عليَّ، ليس فقط بالكلام الفاحش، بل بتلك الأشكال الألف للحياة الحاليّة، المناقضة لشريعتي أكثر على الدوام، والـمُعَطِّلة أكثر فأكثر لاستحقاقات آلامي وموتي الّتي لا حصر لها.

 

مريم، الشريكة في الفداء الأسمى، لا تكفّ عن الألم، كما لا أكفّ أنا عن ذلك. ففي مجد السماوات الّذي لا يُمسّ، نتألّم مِن أجل الّذين ينكروننا ويسيئون إلينا.

 

مريم هي الوالدة الأبديّة الّتي تلدكم بألم لا يقارن، ذلك أنّها تعلم أنّ هذا الألم لا ينجب مغبوطين للسماء، إنّما، بالغالبية، مدانين لجهنّم. تعلم أنّها تنجب خلائق مائتة أو على وشك الموت قريباً. مائتة، ذلك أنّ دمي لا ينجح في الولوج في بعض النُّفوس، كما لو أنّها كانت مصنوعة مِن يشب صلب جدّاً. فهي تقتل نَفْسها منذ حداثة سنّها. أو تلك الموشكة على الموت، أي تلك الّتي، بعد طيف حيويّة مسيحيّة، تسقط بفعل ثقلها الشخصيّ الّذي لا يتوصّل شيء إلى تحريكه.

 

هل يمكن لمريم عدم التألّم لرؤية خلائقها يَهلكون وقد كَلّفوا دم ابنها؟ الدم الّذي أريق مِن أجل الجميع والّذي لم يستفد منه سوى عدد قليل جدّاً!

 

عندما لا يعود للزمن وجود، حينذاك تكفّ مريم عن التألّم، ذلك أن عدد المغبوطين سيكتمل. ستكون قد أنجبت، بآلام لا توصف، الجسد الّذي لا يموت، الّذي بكرها هو رأسه.

 

إذا تأمّلتم في ذلك، ستدركون بدون شكّ أنّ ألم مريم كان الأعظم. ستدركون أنّ -العظيمة في حبلها البريء مِن الدَّنَس، العظيمة في انتقالها- مريم كانت الأعظم بشكل فائق أثناء دورة آلامي، أي مِن عشية العشاء السرّي حتّى فجر القيامة. آنذاك كانت -بالتسلسل والقدرة- هي المسيح الثاني، وبينما كانت السماء قد أظلمت على التراجيديا المتمَّمَة وكان حجاب الهيكل قد انشقّ، كان قلبانا يتمزّقان بذات الجرح ونحن نرى العدد الّذي لا يحصى مِن الّذين لم يستفيدوا مِن الآلام.

 

كان كلّ شيء قد أُكمل، في تلك الساعة، فيما يخصّ التضحية المادّيّة. وكان على كلّ شيء أن يبتدئ، فيما يخصّ مسير الشعب، في فلك الكنيسة، في قلب الأمّ البتول، في سبيل إعطاء النور لسكّان أورشليم الّتي لا تموت. وكي يكون هذا البدء موسوماً بسمة الصليب، الّتي ينبغي أن يحملها كلّ ما هو معمول مِن أجل السماء، فقد استُهِلّ بألم العزلة.

 

كانت ساعة الظلمات. السماوات مغلقة. الأزليّ غائب. الابن في الموت. كانت مريم وحدها تبدأ حَبَلَها الثاني السرّيّ.»

***

 

والآن أُنهي أنا.

 

كنتُ أقول إذاً: شكراً، أيّها الأب، لاتّباعكَ إلهام يسوع ومنحي الوسيلة لإعادة قراءة سيرة حياة خوري آرس (لقب القديس جان ماري فيانّيه). فأنا أحبّه كثيراً لأنّه كان ضحيّة.

 

أمّا أنا، فأبقى في ألمي، مستكينة مثل طفل في مهده وعصفور صغير تحت الجناح الأمومي. شمسي هو لي مصدر الحياة، مضادّ الألم. مصدر كلّ شيء. وأنا أقيم في شعاعه، وأنا سعيدة.

 

هل لاحظتَ الحمام؟ عندما تستطيع، تقبع في الشمس، تفتح أجنحتها الصغيرة بتواتر لتستقبل قبلة الشمس تحت الأجنحة، ترفع الرأس، وبرضى ظاهر، أقول تكاد تكون غبطة حيوانيّة، تنظر إلى الشمس الذهبيّة. تُسَرّ لدفئها، ولا أدري كيف تستطيع تحمّل شعاع النار هذا طويلاً، الهابط عليها عموديّاً مِن الشمس.

 

أنا مثل زغلول حمام تحت الشمس. أبقى في مكاني ثابتة، لا أتحرّك، مسرورة لشعوري بنارها تجتاحني وتحرقني، مع الأمل بأن أُستَنفذ قريباً، منجذبة إليها.

 

آه! يا شمسي! وكما حضرتكَ تقول صواباً، يجب أن يختبر أحد آخر ما أختبره أنا ليَفهمه... أجهد عبثاً في شرح ماهية هذا النور: سلام، جلال، عِلم، بهاء... لا. لا يمكن القول حقّاً ما يكون بالنسبة إلى النَّفْس هذا السناء الّذي لا يخمد، فائق الوصف، الـمُفرِح.

-----------

1- انظر (إنجيل مرقس 3 - 21 و إنجيل يوحنّا 10 - 20).

2- الإيمان ، الرجاء ، المحبّة.

3- الحكمة ، العدل ، الثبات ، ضبط النفس.