ج4 - ف106

أَنَا هُوَ

ماريا فالتورتا

L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO

THE GOSPEL AS REVEALED TO ME

بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}

L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ

MARIA VALTORTA

الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.

 

الجزء الرابع / القسم الأول

 

106- (في بيت قانا)

 

04 / 08 / 1945

 

في بيت قانا احتفال بقدوم يسوع، هو أقلّ قليلاً مِن ذاك الذي جرى في العرس العجائبيّ، يَغيب عنه الموسيقيّون، والمدعوّون؛ والبيت لا تُزيِّنه الزهور والسعف الخضراء، وليست هناك طاولات للضيوف الكثيرين، ولا القهرمان (كَبير الخَدَم) بجانب حامِل الجِّرار المليئة خمراً، ولكنّ ذلك كلّه قد تَمَّ تَجاوُزه بالحبّ الذي يُوهَب الآن بشكله الصحيح ومِقداره السليم، أي ليس هو للضَّيف الذي قد يكون أحد الأقرباء، ولكنّه ليس سِوى بَشَر، بل إنّما هو للضَّيف المعلّم الذي تتمّ معرفته والتعرّف على طبيعته الحقيقيّة، والذي تَحظَى كَلِمَته بالإجلال كشيء إلهيّ. وكذلك قلوب قانا تُحبّ بِكُلِّيَّتها الصَّديق العظيم الذي حَضَرَ إلى مدخل الحديقة، وسط خُضرة الأرض وحُمرة الغَسَق، لابساً ثوبه الكتّاني، مُجمِّلاً كلّ شيء بحضوره، مُوصِلاً سلامَه، ليس فقط إلى النُّفوس التي يُوجِّه سلامه إليها، بل حتّى إلى الأشياء.

 

في الحقيقة، يبدو أنّ السلام ينتَشِر حيث يُدير عينه الزرقاء، وهو وِشاح مِن السلام الـمَهيب مع ذاك الفرح. فالنقاء والسلام يتدفّقان مِن عينه مثل عِلْم فَمه وحُبّ قلبه.

 

قد يبدو، لِمَن يقرأ هذه الصفحات، أنّ ما أقوله مستحيل. ومع ذلك فالمكان ذاته الذي كان، قبل وصول يسوع، مكاناً عاديّاً، أو بالحريّ مكاناً، حركته الدؤوبة تُقصي السلام الذي يُعتَبَر غريباً على هياج العمل، وما أن يَظهَر يسوع، حتّى يصبح ذلك المكان راقياً، ويتَّخذ العمل نفسه لستُ أدري ماذا مِن التنسيق الذي لا يُشير إلى وجود فكرة فائقة الطبيعة يقوم عليها العمل اليدويّ. لستُ أدري إذا ما كنتُ أُجيد التعبير. فيسوع لا يبدو عابِساً، ولا حتّى في ساعات الـمُضايَقة العُظمى، لِأمر ما يَحصل له، ولكنّه وَقور بِمَهابة، ويَبثّ وَقارَه فائق الطبيعة في الإطار الذي يتحرّك ضمنه. مَرَح يسوع ليس باهراً على الإطلاق، ولا هو بُكّاء، لا يُشوِّه وجهه الضحك، ولا هو سوداويّ، حتّى في أوقات الفرح الأعظميّ أو القُنوط الأعظميّ.

 

ابتسامته لا تُضاهى، ولا يمكن لأيّ رسّام أن يُعيدَها. تبدو وكأنّها نور يَنبَعِث مِن قلبه، نور يشعّ في أوقات الفرح الأعظميّ بنَفْس تُفتَدى أو أُخرى تدنو مِن الكمال؛ ابتسامة، أقول إنّها بِلَون الورد، عندما يَختَبِر تصرّفات أصدقائه أو تلاميذه التلقائيّة، ويَبتَهِج بقربهم منه؛ ابتسامة لازورديّة، للبقاء دائماً وسط الألوان، ملائكيّة، عندما ينحني أمام الأطفال لِيَسمَعهم ويُعلِّمهم ويُباركهم؛ ابتسامة تتَّسِم بالرحمة عندما يَنظُر إلى بؤس جسد أو روح؛ أخيراً، هي ابتسامة إلهيّة عندما يتحدّث عن الآب أو عن أُمّه، أو عندما يَنظُر أو يَستَمِع إلى تلك الأُمّ الفائقة الطُّهر.

 

لا يمكنني القول إنّني رأيتُهُ سوداويّاً، حتّى في أوقات التمزُّق الأعظميّ: في آلام الخيانة، في عذابات التَّعرُّق الدمويّ، وفي أهوال الآلام. فإن غَمَرَ الحزن إشراقة ابتسامته العذبة، فلا يكفي ذلك لِيمحو السلام الذي يبدو تاجاً مِن الجواهر الفردوسيّة، يتألّق على جبينه الخالي مِن التجاعيد، ويُضيء بنوره شخصه الإلهيّ كلّه.

 

وكذلك لا يمكنني القول إنّني رأيتُه يَستَسلم لِمَرح مُبالَغ فيه. لا يخلو الأمر مِن ضحكة عالية إذا ما تطلَّبَت الظروف ذلك، ولكنّه يعود مباشرة بعدها إلى صفائه الـمُفعَم مَهابة وَوَقاراً. إلّا أنّه حينما يضحك يستعيد صِباه بشكل عجائبيّ، لدرجة أنّ وجهه يبدو كوجه ابن العشرين، والعالم كذلك يبدو وكأنّه يَستَعيد شبابه تحت تأثير ضحكته الجميلة الصافية، الرَّنَّانة والـمُعبِّرة.

 

كما لا يمكنني القول إنّني رأيتُهُ يَستَعجِل القيام بالأعمال. فإن تكلَّمَ أو تحرَّكَ فإنّه يَفعَل ذلك بهدوء، إنّما ليس أبداً ببطء أو فُتور. قد يكون ذلك بسبب كِبَر قامته، ممّا يُمكِّنه مِن أن يخطو خطوات كبيرة دون اضطراره للجري ليقطع كلّ تلك المسافات، وقد يكون كذلك بسبب إمكانيّة أن يَطال الأشياء البعيدة دون الحاجة إلى نهوضه لِيَطالها. والأكيد هو أنّه، حتّى في حركته، يَظهَر عليه وَقار سيّد عظيم.

 

والصوت؟ ها قد مضى ما يُقارِب العامين وأنا أسمَعه يتحدّث، ورغم ذلك فأنا أَشرُد أحياناً عمّا يقوله لي، لشدّة غَوصي في دراسة صوته. ويسوع الطيب والصَّالح يُكرِّر بِكُلّ صبر ما قاله، ناظراً إليَّ وهو يبتسم ابتسامة المعلّم الصَّالح، لتحاشي حصول انقطاعات ناجمة عن الغبطة التي تُخالِجني لدى سماعي صوته، أثناء إملاءاته، وتَذوُّقي له، ودراستي لِطَابعه وجماله. ولكنّني، بعد عامين، لستُ أعرف القول بدقّة ما تصنيف صوته: أَستَبعِد القرار Basse بشكل مُطلَق، كما أَستَبعِد كذلك الصَّادح الخفيف Tenor، ولكنّني ما زلتُ لا أعرف إذا كان صوته مِن نوع الصَّادح القويّ أَم مِن نوع الجَّهير Barytone التَّامّ، مع مساحة صوتيّة كبيرة. أُرجِّح هذا لأنّ صوته يكون أحياناً ذا نبرات أو مقامات برونزية، تكاد تكون مُبطَّنة لِشِدّة عُمقها، خاصّة عندما يتحدّث إلى خاطئ، على انفراد، كي يُعيَده إلى النعمة، أو عندما يُشير للجموع إلى انحرافات البشر. إنّما بعد ذلك، عندما يتعلّق الأمر بالتحليل والإشارة إلى الأمور المحظورة والكشف عن الرِّياء، فإنّ البرونز يُصبِح أكثر جلاء، وعندما يَفرض الحقيقة وإرادته، فإنّه يُصبِح قاصِماً كالصاعقة، بل هو يَصِل إلى الرَّنين مثل صفيحة مِن الذهب ضُرِبَت بمطرقة مِن الكريستال، عندما يَرتَفِع لِيُرتِّل للرحمة أو لتمجيد أعمال الله؛ أو أيضاً يَتَّخِذ طابعاً حنوناً عندما يتحدَّث إلى الأُمّ أو عن الأُمّ. حينذاك يكون صوته بحقّ مطبوعاً بطابع الحُبّ، حُبّ الابن الذي يُراعِي واجبات الاحترام، وحُبّ الله الذي يُثني على أكمَل أعماله. وهذا الصوت، رغم كونه أقلّ تشدُّداً، فإنّه يَستَخدِمه للتحدُّث إلى الـمُفضَّلين، إلى التائبين، أو إلى الأطفال. وهو لا يتعب أبداً، ولا حتّى في أطول الأحاديث، لأنّ هذا الصوت يَلبس الفكرة أو الكلمة، عندما يُعبِّر عن سلطانها أو عذوبتها، بحسب الحاجة.

 

أحياناً أَلبُث أَستَمِع، والقلم في يدي، ثمّ أتنبَّه إلى أنّ التَّوسُّع في الفكرة قد قَطَعَ شوطاً كبيراً، حتّى أَصبَحَ اللّحاق به مستحيلاً... وأظلُّ حيث أنا حتّى يُكرِّر يسوع، كما يَفعَل عندما يُقاطِعونَني، لِيُعلِّمني التَّحمُّل بِصَبر، الأشياء والأشخاص المزعجين، الذين أَترُك لكم تقدير مدى إزعاجهم، عندما يَنتَزِعون مِنّي الفرح الكامل لدى استِماعي إلى يسوع…

 

الآن، في قانا، يَشكُر يسوع سُوسَنّة لاستضافتها أغليّا. إنّهما على انفراد، تحت العريشة الكثيفة المحمَّلة بالعناقيد التي بَدَأَت تَنضج، بينما يستريح الآخرون جميعهم في المطبخ الواسع.

 

«لقد كانت المرأة طيّبة جدّاً يا معلّم. لَم تكن لِتُشكِّل عِبئاً على الإطلاق. كانت تريد مساعدتي في أعمال المطبخ كلّها، وفي تنظيف البيت، مِن أجل الفصح، مِثل خادمة، وقد عَمِلَت، أؤكّد لكَ، مِثل أَمَة، لِتُساعدني في إكمال ثياب الفصح. ولقد كانت تنسَحِب بِحَذَر حال وفود أحدهم، وكانت تُحاوِل عدم المكوث حتّى مع زوجي. وكانت، في وجود العائلة، قليلة الكلام، وكذلك أكلها قليل. وكانت تَغتَسِل باكراً جدّاً قبل استيقاظ الرجال، وكنتُ أَجِد البيت نظيفاً على الدوام، والنار مشتعلة. إنّما، عندما نكون بمفردنا، فكانت تسألني عنكَ، وكانت تَطلُب منّي أن أُعلِّمها مزامير ديننا. كانت تقول: "كي أَعرِف أن أُصلّي كما يُصلّي المعلّم". إنَّما هل انتهى ألمها؟ فقد كانت قد تألَّمَت كثيراً. كانت تخاف مِن كلّ شيء، وتتنهّد وتبكي كثيراً. فهل هي سعيدة الآن؟»

 

«نعم، هي سعيدة بشكل يفوق الطبيعة. لقد تحرَّرَت مِن مخاوفها. وهي في سلام. أشكركِ كذلك على الخَير الذي قَدَّمتِه لها.»

 

«آه! سيّدي! أيّ خير؟ لَمْ أمنَحها سِوى الحُبّ باسمكَ. فأنا لا أُجيد أيّ أمر آخر. كانت أختاً مسكينة، وكنتُ أُدرِك ذلك. وأنا، اعترافاً منّي بجميله تعالى الذي حَفِظَني في نِعمتِهِ، فقد أحبَبتُها.»

 

«وفعلتِ أكثر مما لو كنتِ كَرزتِ في بيت مدراش [Beth Midrash] (مكان مخصص للتعليم المقدس). ولديكِ هنا الآن غيرها. هل عَرِفتِها؟»

 

«ومَن لا يَعرِفها في هذه المناطق؟»

 

«لا أحد، هذا صحيح. ولكنّكم، أنتم والبلدة، ما زلتم تَجهَلون مريم الأخرى، تلك التي ستبقى أمينة لِدَعوتها على الدوام. على الدوام. أرجوكِ أن تَثِقي بذلك.»

 

«أنتَ تقول ذلك. أنتَ تَعلَم. وأنا أؤمن.»

 

«قولي أيضاً "أُحِبُّ". أَعرِف أنّه لَأَصعب أن نُشفِق على أحد هو منّا، وأن نسامحه، أكثر مما يكون ذلك لِمَن له العُذر لكونه وثنيّاً. ولكن إذا كان ألم رؤية الارتداد في العائلة قويّاً، فلتكن العاطفة أقوى، وكذلك المغفرة. فأنا قد غَفَرتُ لكلّ إسرائيل.» ويُنهي يسوع مُفصِّلاً الكلمات.

 

«وأنا سوف أَغفُر، مِن جِهَتي، لأنّني أظنُّ أنّ على التلميذ فِعل ما يَفعَله المعلّم.»

 

«أنتِ في الحقّ، وسَيَبتَهج الله لذلك. هيّا بنا ننضمّ إلى الآخرين. فالليل يَهبط. وستكون الراحة ممتعة في صمت الليل.»

 

«ألن تقول لنا شيئاً، يا معلّم؟»

 

«ما زلتُ لا أدري.»

 

يَدخُلان المطبخ، حيث جُهِّزَت الأطباق والشراب مِن أجل العشاء الوشيك.

 

تتقدّم سُوسَنّة وتقول بوجهها الشبابيّ الذي يَعتَريه احمرار قليل: «هل تريد أخواتي المجيء مَعي إلى الغرفة التي في الأعلى؟ علينا تهيئة الطاولات بسرعة مِن أجل تناول الطعام، إذ علينا، بعد ذلك، تجهيز الفراش للرجال. بإمكاني القيام بذلك بمفردي، ولكنّه يتطلّب مِنّي وقتاً أكثر.»

 

«آتي أنا أيضاً يا سُوسَنّة.» تقول العذراء.

 

«لا. نحن نفي بالغرض، وهذا ما سوف يَجعَلنا نتعارَف، إذ إنّ العمل يُوحِّد كالإخوة.»

 

تَخرُج النساء معاً، بينما يسوع، بعد شُربِه الماء الممزوج بِلَستُ أدري ماذا، يَذهَب لِيَجلِس مع أُمّه والرُّسُل ورجال البيت تحت العريشة، لِيَفسَحوا المجال للخادمات والسيّدة العجوز لإنجاز مستلزمات العشاء.

 

مِن الغرفة العلويّة تُسمَع أصوات النساء التلميذات الثلاث، أثناء تهيئة الطاولات. سُوسَنّة تَروي المعجزة التي اجتُرِحَت يوم عرسها، وتُجيب مريم المجدليّة: «تحويل الماء خمراً، أمر قويّ، أَمّا تحويل امرأة خاطئة إلى تلميذة فهو لَعَمري أمر أقوى. فليشأ الله أن أكون مثل ذاك الخمر، أن أُصبِح أفضل.»

 

«لا يكن لديكِ أدنى شكّ. فإنّه يُحوِّل كلّ شيء بشكل ممتاز. كانت هنا امرأة، بالرغم مِن كَونها وثنيّة، فقد هَداهَا، في مشاعرها وفي إيمانها. فهل يمكنكِ الشكّ بألّا يحصل ذلك لكِ، يا مَن تنتمين إلى إسرائيل؟»

 

«امرأة؟ شابّة؟»

 

«شابّة غاية في الجمال.»

 

«وأين هي الآن؟» تَسأَل مرثا.

 

«المعلّم وحده يَعلَم.»

 

«آه! إذن هي التي حدَّثتكِ عنها. لقد كان لعازر عند يسوع، تلك الليلة، وسَمِعَ ما قِيل لها. يا لذاك العِطر الذي كان عابِقاً في تلك الغرفة! وظَلَّ عالقاً بثياب لعازر عدة أيّام. ومع ذلك قال يسوع "إنّ عِطر توبة قَلب التَّائِبة، فاق ذاك العِطر". مَن يدري أين ذَهَبَت؟ إلى العُزلة، على ما أظنُّ...»

 

«ولقد عاشَت في الوحدة، وكانت غريبة. أنا هنا، وأنا معروفة. فَكفَّارتها هي في الوحدة، أمّا أنا فكفَّارتي في العيش وسط العالم الذي يعرفني. لستُ أحسُدها على مصيرها، لأنّني أنا مع المعلّم. ولكنّني آمُل أن أستطيع الاقتداء بها يوماً لكي لا يكون هناك أيّ شيء يُلهيني عنه.»

 

«أتتركينه؟»

 

«لا. ولكنّه يقول إنّه يَمضي. حينذاك، سوف يَتبَعه روحي. معه يمكنني تحدّي العالم. أمّا بدونه فإنّني أخاف مِن العالم. وستكون الصحراء بين العالم وبيني.»

 

«ولعازر وأنا، ماذا نفعل؟»

 

«كما فَعَلتُما في زَمَن الألم. سوف تحبّان بعضكما وتحبّانني. وبدون خَجَل. لأنّكما سوف تكونان آنذاك بمفردكما، ولكنّكما مع الربّ. وأنا في الربّ سوف أحبّكما.»

 

«إنّ مريم لَقويّة هي، وواضِحة في حُلولها.» يقول بطرس الذي سَمِع الحديث.

 

ويُجيب الغيور: «إنّها نَصْل مستقيم، مثل أبيها. لها قَسَمات أُمّها، إنّما روح أبيها الذي لا يُقهَر.»

 

والمرأة ذات الروح الذي لا يُقهَر تَنـزل الآن مسرعة لتقول للرفاق إنّ السُّفرة جاهزة.

 

...وتغيب القرية في الليل الصافي، إنّما حاليّاً بدون قمر. نور خفيف فقط، آتٍ مِن النجوم، يُظهِر كُتَل الأشجار الداكنة وكُتَل البيوت البيضاء. ولا شيء آخر. عصافير ليليّة (وطاويط) تَنتَقِل بطيرانها الصامت حول بيت سُوسَنّة، سعياً وراء الذُّباب، مارَّة كذلك بالقرب مِن الأشخاص الجالسين على الشُّرفة، حول مصباح يَنبَعِث منه نور أصفر ضعيف، يَنعَكِس على وجوه الأشخاص المتحلِّقين حول يسوع. مرثا، التي يُفتَرَض أنّها تخاف كثيراً مِن الوطاويط، تَصرُخ كُلَّما لَمَسها أحدها. ويسوع، مِن جِهته، يهتمّ بالفراشات التي يَجذِبها المصباح، ويُحاوِل إبعادها، بذراعه الطويلة، عن اللَّهَب.

 

«إنّها حيوانات بَلهَاء حتماً. بعضها كالبعض الآخر.» يقول توما. «الأولى تَعتَبِرنا ذُباباً والأخرى تَعتَبِر اللَّهب شمساً، وتَحتَرِق به. فليس لديها حتّى ولا ظِلّ عَقل.»

 

«إنّها حيوانات، وتريدها أن تتعقَّل؟» يقول الاسخريوطيّ.

 

«لا. أودُّ لو تكون لها الفِطرة، على الأقلّ.»

 

«ليس لديها الوقت لبلوغها. أَتَكَلَّم عن الفراشات، إذ لدى المحاولة الأولى تموت. والفِطرة تستفيق وتنمو بعد أولى المفاجآت المؤلمة.» يَروي يعقوب بن حلفى.

 

«والوطاويط؟ يُفتَرَض أنّها تتمتّع بها، فهي تعيش لسنوات. إنّها بلهاء.» يُجيب توما.

 

«لا يا توما، ليس أكثر مِن البشر. فحتّى البشر يبدون أحياناً وطاويط بُلَهاء. يَطيرون، أو بالحري يُرفرِفون، كما لو كانوا سُكارى، حول أشياء لا تَنفَع لغير الألم. هاكُم: إنّ أخي قضى على أَحدها وهو يُحرِّك معطفه. أعطونيه.» يقول يسوع.

 

يعقوب بن زَبْدي، الذي وَقَعَ الوطواط عند قدميه، وقد دَاخَ، وهو يَضطَرِب الآن ويتحرّك على الأرض حركات غير مُنتَظَمة، يُمسِك به مِن جناحه بإصبعين، ويَحمِله عالياً، كما لو كان خِرقة متَّسِخة، ويَضَعه على ركبتيّ يسوع.

 

«ها هو الطَّائِش. دعوه يَفعَل، وسَتَرَون أنّه يتمالك نفسه، ولكنّه لن يُصلِح سلوكه.»

 

«إنقاذ فريد يا معلّم. لو كنتُ مكانكَ لَقَتلتُهُ.» يقول الاسخريوطيّ.

 

«لا. لماذا؟ فهو كذلك له حياة ويتمسّك بها.» يقول يسوع.

 

«لا أخالُ ذلك، أو بالحريّ هو غير عالِم بها، أو بالأحرى لا يتمسّك بها. وهو يُعرِّضها للخطر!»

 

«آه! يهوذا! يهوذا! كَم أنتَ صارِم مع الخَطَأَة، مع البشر! فحتّى البشر يَعلَمون أنّ لهم حياة وحياة، ولا يتردّدون في تعريض الاثنتين للخطر.»

 

«هل لنا حياتان؟»

 

«حياة الجسد وحياة الروح. تَعلَم ذلك.»

 

«آه! ظننتُكَ تُلمِّح إلى التقمُّص. فهناك مَن يؤمِن بذلك.»

 

«لا وجود للتقمُّص، إنّما توجَد حياتان. ومع ذلك، فالإنسان يُعرِّض الحياتين للخطر. فلو كنتَ الله، كيف تُدين البشر الذين يتمتّعون بالعقل إضافة إلى الفِطرة؟»

 

«بِصَرامة، الّا إذا كانوا مُعاقِين فِكريّاً.»

 

«ألا تُقيم وزناً للظروف التي تجعلهم مجانين وجدانيّاً؟»

 

«لا اعتبار لديَّ لذلك.»

 

«بشكل أَلَّا تأخذكَ رحمة بِمَن يَعرِف الله والشريعة، ومع ذلك يَقتَرِف الخطيئة.»

 

«لا أرحَمهُ، لأنّ على الإنسان أن يَعرِف كيف يَسلُك.»

 

«عليه.»

 

«عليه، يا معلّم. إنّه لَعَار لا يُغتَفَر، أن يَقَع بالِغ في بعض الخطايا. وبالأكثر إن لم تَدفَعه قُوَّة لذلك.»

 

«أيّة خطايا، حسب رأيكَ؟»

 

«الشهوانيّة منها، كبداية. إنّ ذلك لَانحِطاط لا علاج له...» تَخفِض مريم المجدليّة رأسها... يُتابِع يهوذا: «إنّه إفساد حتّى للآخرين، لأنّ نوعاً مِن التخمُّرات يَنبَعِث مِن جسد الـمُدَنَّسين، يَجعَل الأكثر طُهراً يَضطَرِبون ويَحذون حَذوه...»

 

وبينما تَزيد مريم المجدليّة خَفض رأسها، يقول بطرس: «أوه! لا! لا! لا تكن قاسياً إلى هذا الحدّ. إنّ الأُولى التي اقتَرَفَت هذا العار هي حوّاء. ولا أخالكَ تريد القول إنّها أُفسِدَت بِتَخمُّر دَنَس مُنبَعِث مِن فاجِر. على كلّ حال، اعلَم أنّه، بالنسبة إليَّ، لا أشعُر بأيّ اضطراب، حتّى ولو جلستُ بجانب فَاسِق. إنّها مسألة تخصّه...»

 

«المجاورة تُلطِّخ دوماً. إن لم يكن الجسد، فالنَّفْس، وذلك أسوأ.»

 

«تبدو لي فرّيسيّاً! ولكن اعذرني: ففي هذه الحال إذن، يجب على المرء أن يَنعَزِل في برج مِن الكريستال، ويُقيم فيه تحت الأختَام.»

 

«لا تَظن، يا سمعان، أنّ ذلك يفيدكَ. فأكثر التجارب هولاً تكون في العُزلة.» يقول الغيور.

 

«آه! حسناً! تبقى الأحلام. لا ضَير في ذلك.» يقول بطرس.

 

«لا ضَير؟ ولكن ألا تَعلَم أنّ التجربة تُحرِّض الـمُخيِّلة، وتَدفَعها إلى البحث عن وسيلة لإشباع صَرخات الغريزة بطريقة ما، وهذه الوسيلة تَفتَح الطريق للإفراط في الخطيئة حتّى تَتَّحِد الشهوانيّة بالفِكرة؟» يَسأَل الاسخريوطيّ.

 

«لا أَعلَم شيئاً مِن هذا، يا عزيزي يهوذا. قد يكون ذلك لأنّني لم أُدفَع أبداً، كما تقول، إلى التفكير في بعض الأمّور. وأرى، كما يبدو لي، أنّنا ذهبنا بعيداً عن الوطاويط، والأفضل لكَ ألّا تكون الله. وإلّا، فَبِصرامتكَ هذه، تبقى وحيداً في الفردوس. ما قولكَ في هذا يا معلّم؟»

 

«أقول: يَجدُر بالمرء ألّا يُبالِغ في الـمُطلَق. بالفعل، إنّ ملائكة الربّ تَسمَع كلام البشر، وتُدوِّنها في الكُتُب الأزليّة، وقد يكون مُنَفِّراً الاستماع يوماً إلى مقولة: "فليكن لكَ كما حَكَمتَ". أقول إنّ الله، إذا ما بَعَثَني، فلأنّه يشاء أن يَغفِر كلّ الخطايا التي يتوب عنها الإنسان، لِعِلمِه مدى ضعف الإنسان، بسبب الشيطان. أجبني يا يهوذا: هل توافِق على أنّ استحواذ الشيطان على نَفْس كي يُمارِس عليها إكراهاً هو مبرِّر للتَّخفيف مِن جَسامَة خَطيئتها في عينيّ الله؟»

 

«لا، لا أوافق على ذلك، فلا يمكن للشيطان أن يستولي إلّا على الجزء الأدنى.»

 

«ولكنّكَ تُجدِّف يا يهوذا بن سمعان!» يقول معاً، تقريباً، الغيور وبرتلماوس.

 

«لماذا؟ وفي أيّ شيء؟»

 

«في نقضِكَ الله والكِتاب. فلقد جاء فيه أن لوسيفورس قد هاجَمَ كذلك الجزء السامي، والله، بِلِسان كلمته، قال لنا ذلك مَرَّات لا تُحصى.» يُجيب برتلماوس.

 

«قيل كذلك إنّ الإنسان يتمتّع بحرية الاختيار، ما يعني أنّه لا يمكن للشيطان ممارسة الإكراه على حرّيّة البشر في التفكير وفي الإحساس. ولا الله يَفعَلها كذلك.»

 

«الله، لا؛ لأنّه نظام ونَزاهة، أَمّا الشيطان فَنَعَم، لأنّه فوضى وحقد.» يُجيب الغيور.

 

«الحقد ليس الإحساس الـمُناقِض للنَّـزاهة. إنّكَ لا تُجيد التَّعبير.»

 

«إنّني أُعبِّر جيّداً، لأنّه إذا كان الله نزاهة، فإنّه لهذا السبب لا يَخلِف بالوعد الذي قَطَعَه بأن يجعل الإنسان حرّاً في تصرّفاته، أمّا الشيطان فإنّه لا يَكذِب في هذا لأنّه لَمْ يَعِد الإنسان بحرّيّة الاختيار، ومع ذلك فهو حقّاً الحقد بالذَّات، لذلك هو يُحارِب الله والإنسان، ويُحارِبه بالانقضاض على حرّيّة الفِكر لدى الإنسان، بالإضافة إلى جَسده، وهو يقود حرّيّة الفِكر تلك إلى العبوديّة، إلى استحواذ يَجعَل الإنسان يقوم بأفعال لا يقوم بها لو كان مُعتَقَاً مِن الشيطان.» يؤيِّد الغيور كلامه.

 

«لا أوافقكَ.»

 

«ولكنّ المستحوَذ عليهم إذن؟ إنّكَ تتعنَّت.» يهتف يوضاس تدّاوس.

 

«المستحوَذ عليهم صُمّ أو بُكم أو مجانين، ولكنّهم ليسوا فاجِرين.»

 

«ألا تُفكِّر في غير هذه الرَّذيلة؟» يقول توما ساخِراً.

 

«لأنّها الأكثر انتشاراً والأكثر انحطاطاً.»

 

«آه! كنتُ أظُنُّ أنّها التي تَعرِفها بالأكثر.» يقول توما ضاحكاً.

 

ولكنّ يهوذا يَقفِز على قدميه، وكأنّه يَتَّخِذ موقفاً. ثُمّ يتمالَك نفسه ويَهبط السُلّم لِيَبتَعِد عَبْر الحقول.

 

فترة صمت... ثُمّ يقول أندراوس: «فكرته ليست خاطئة تماماً. فإنّ الشيطان، بالفِعل، لا يُمارِس استحواذه إلّا على الحواس: العينين والأذنين والنُّطق والـمُخّ. إنّما، يا معلّم، كيف يمكن حينئذ تفسير بعض الانحرافات؟ أيمكن ألّا تكون استحواذاً؟ كَمِثل دوراس مثلاً؟...»

 

«كَمِثل دوراس، كما تقول كيلا تَفتَقِر إلى المحبّة تجاه أيّ كان، وعلى ذلك يكافئكَ الله، أو كَمِثل مريم، كما نُفكِّر جميعنا، ولنبدأ بها، فَبَعد التلميحات الصريحة والـمُفتَقِرة إلى المحبّة مِن يهوذا، فإنّ أمثالها هُم المستحوَذ عليهم مِن الشيطان، بالشكل الأكمَل، وهو الذي يَبسط سلطانه على قُدرات الإنسان الثلاث العظمى، والاستحواذات الأكثر جوراً والأكثر حِدّة، هي تلك التي يتحرّر منها فقط أولئك الذين هُم على الدوام الأقلّ انحطاطاً في روحهم كي يُجيدوا إدراك دَعوة النور. بينما دوراس لَمْ يَكُن فاجراً، ولكنّه، رغم ذلك، لَمْ يَعرِف أن يُقبِل إلى المحرِّر. في هذا يَكمُن الاختلاف. أمّا بالنسبة إلى شاذّي الطِّباع والبُكم والصُمّ والعُميان بِفِعل الشيطان، فالأهل يُفكِّرون ويُحاوِلون جَلبَهم إليَّ. أَمّا المستحوَذ عليهم في روحهم، فليس سوى روحهم يهتمّ في البحث عن الحرّيّة. بسبب هذا، يَحصَلون على المغفرة بالإضافة إلى الحرّيّة، لأنّ إرادتهم بَدَأَت بالتحرُّر مِن استحواذ الشيطان.

 

والآن، هيّا بنا نستريح. مريم، أنتِ تَعلَمين ماذا يعني الوقوع في الفخّ، فَصَلّي مِن أجل الذين يَرتَضون، بفعل العدوّ، بشكل متقطِّع، ارتكاب الخطيئة والتسبُّب بالألم.»

 

«نعم يا معلّم، وبغير حقد.»

 

«السلام لكم جميعاً. فلنَدَع هنا السَّبب في النقاشات الكثيرة. الظُّلمات مع الظُّلمات خارجاً، في الليل. أَمّا نحن، فلنَدخُل لِنَنام تحت نَظَر الملائكة.»

 

ويَضَع الوطواط، الذي يقوم بأولى محاولاته الطيران، على مَقعَد، ويَنسَحِب مع الرُّسُل إلى الغرفة العلويّة، بينما تمضي النساء وأصحاب المنـزل إلى الأسفل.