ج4 - ف95

أَنَا هُوَ

ماريا فالتورتا

L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO

THE GOSPEL AS REVEALED TO ME

بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}

L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ

MARIA VALTORTA

الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.

 

الجزء الرابع / القسم الأول

 

95- (بعد التَّذكير بالشريعة جَعَلتُ الأمل بالغفران يُغرّد)

 

13 / 08 / 1944

 

يقول يسوع:

 

«منذ كانون الثاني (يناير)، منذ اللحظة التي جَعَلتُكِ تَرَين فيها العشاء في بيت سمعان الأبرص، رَغِبتِ، أنتِ ومَن يُرشِدكِ، معرفة المزيد عن مريم المجدليّة، والكلام الذي وَجَّهتُهُ إليها. بعد سبعة أشهر، أَكشُف لكما عن تلك الصفحات مِن الماضي، لِأُفرحِكُمَا، ولكي أَمنَح قاعدة سلوك للذين ينبغي لهم الحُنوّ على تلك النُّفوس الـمَجذومة، وصوتاً مُوجَّهاً إلى أولئك البائسين الذين يَختَنِقون في قبور الرذيلة، لِيَخرُجوا منها.

 

صالِح هو الله، صالِح هو مع الجميع. لا يَستَخدِم المقاييس البشريّة. لا يُفرِّق بين خطيئة وخطيئة مميتة. فالخطيئة، مهما تكن، تغمّه. والتوبة تَجعَلهُ فَرِحاً ومُستعدّاً للمغفرة. مقاومة النِّعمة تَجعَله صارِماً وبِغير رحمة، ذلك أنّه لا يمكن للعدل أن يَغفر لِغير التَّائب الذي يموت على هذه الحال، رغم كلّ الإعانات الـمُعطاة له مِن أجل الِهداية.

 

ولكن، في الهِدايات الناقصة، هناك، إن لم يكن النِّصف، فعلى الأقلّ أربعة أعشار، السبب لديهم هو إهمال الـمُكلَّفين بالهِداية، نَخوة يُساء فهمها وكاذِبة، هي بمثابة سِتار يُغطّون به أنانيّة حقيقيّة، وكبرياء يسمح لهم بالاستكانة في مَلاذِهم الأمين الخاصّ بهم، دون التكلُّف بالغَوص في الوَحل لانتشال قَلب. "أنا طاهِر، أنا أهل للاحترام. ولن أذهب إلى حيث الفساد، وحيث يمكن أن يُقَلَّل مِن احترامي". ولكنّ ذاك الذي يتكلّم هكذا، أَلَم يَقرأ الإنجيل حيث قِيل إنّ ابن الله مضى لِيهدي العشّارين والزُّناة، ليس فقط الأوفياء للشريعة القديمة؟ ولكن أَلَم يُفكِّر أنّ الكبرياء دَنَس للروح؟ وأنّ التقصير في المحبّة دَنَس للقلب؟ هل سَيُشنَّع عليكَ؟ فأنا كنتُ كذلك قبلكَ، بل أكثر منكَ، وأنا ابن الله. هل ستضطرّ لأن يُلامس ثوبَكَ الدَّنَس؟ وأنا أَلَم أَلمس بيدي ذلك الدَّنَس، لكي يستقيم وأقول له: "اسلك هذا الدرب الجديد"؟

 

ألا تتذكّرون ما قلتُه لأسلافكم الأوائل؟ أيّة مدينة أو قرية تَدخُلونها، استَعلِموا عمّا إذا كان هناك مَن هو أهل، وأَقيموا عنده". وذلك كي لا يُثرثِر العالم ويَنمّ. فالعالم جاهز لرؤية الشرّ في كلّ شيء. ولكنّني أَضَفتُ: "لدى دخولكم إلى البيوت -قُلتُ البيوت ولَم أَقُل البيت- أَلقُوا السلام بقولكم: "السلام لهذا البيت". فإذا كان البيت مُستَحِقّاً، حَلَّ فيه السلام، وإن لم يكن كذلك، فسلامكم يعود إليكم". وذلك لتعليمكم أنّه، حتّى عند التأكّد مِن عدم التوبة، فينبغي لكم أن يَتساوى الجميع في قلبكم. وقد أتـمَمتُ التعليم بقولي: "وإذا ما رُفِض استقبالكم والاستماع إلى كلامكم، فلدى خروجكم مِن تلك البيوت وتِلك الـمُدن، انفُضوا الغبار العالِق في أَرجُلكم". فالفسق، بالنسبة إلى الصالحين، حيث الصَّلاح المحبوب يحوّلهم، بالمثابرة، لِنَقُل هكذا، إلى كتلة كريستال صقيلة، ليس سوى غبار. إنَّه مجرَّد غبار، تَكفيه هَزَّة أو نَفخَة على الذَّات حتّى يتطاير دون أن يُخلِّف أيّ جرح.

 

كُونوا حقّاً صالحين، كونوا واحداً مع الصَّلاح الأزليّ، فلا يمكن لأيّ نوع مِن الفساد الصعود لتلطيخكم في أعلى مِن الحذاء الـمُستَنِد إلى الأرض. فالنَّفْس أسمى كثيراً هي! نَفْس الصَّالح والذي ليس سِوى واحد مع الله. النَّفْس في السماء. ولا يمكن للغُبار الوصول إلى هناك، وكذلك الوحل، حتّى ولو رُمِيَ بحقد ضدّ روح الرَّسول.

 

قد يُصيب الجسد، يَجرَحكم مادّيّاً ومعنويّاً بتعذيبكم، لأنّ الشرّ يَكره الخير، أو بالإساءة إليكم. وإِلامَ يُفضي ذلك؟ ألم يُسأ إليَّ أنا؟ ألم أُجرَح؟ ولكن هل أَثَّرَت تلك الضربات وتلك الكلّمات البذيئة على روحي؟ هل أحدَثَت الاضطراب في روحي؟ لا. بل هي كالبُصاق على مِرآة، وكحصاة تُرمى على لبّ ثمرّة كثيرة العُصارة، تتزحلق دون اختراقها، أو بالحَري تَختَرِقها، ولكن بشكل سطحيّ، دون جَرح البِذرة الـمُنغَلِقة داخل النواة، بل على العكس، هي تُعزِّز الإنبات، لأنّه يُصبِح أسهل على البِذرة الخروج مِن كتلة مفتوحة، مِنها مِن تلك الكامِلة. فبالموت تُخصِب الحبّة البذرة، وكذلك الرَّسول. بالموت المادّيّ أحياناً، بالموت شبه اليوميّ، بالمعنى المجازيّ، وذلك لأنّ الأنا البشريّة فقط تُكسَر. وهذا ليس الموت: إنّه الحياة. إنّه غَلَبَة الروح على ما ليس سوى بشريّ.

 

أتت إليَّ بِنَـزوة بَطَّالة، لا تَعلَم كيف تَشغَل ساعات الفراغ. وتَنامى إلى أُذُنيها اللتين أَصَمَّتهما التَّملُّقات المخادِعة مِن أولئك الذين كانوا يُهَدهِدون لها على أنغام الحِسّ لِيَحصلوا عليها كَعَبدة، إنَّما رنَّ في أذنيها صوت الحقّ الصافي والصارم. الحقّ الذي لا يَخشَى أن يَحتَقِره أحد، أو يتنكّر له، والذي يتكلّم وهو يَنظُر إلى الله. وعلى غرار رنّة أجراس العيد، ذابت كلّ الأصوات في الكَلِمَة. الأصوات التي اعتادت أن ترنّ في السماوات، في الأُفُق الحُرّ، مُنتَشِرة عَبْر الوديان والتلال، عَبْر السهول والبحيرات، لِتُذكِّر بأمجاد الربّ واحتفالاته.

 

ألا تَذكُرون، في زمن السلام، أجراس العيد التي تجعل اليوم الـمُكَرَّس للربّ نَشواناً جدّاً؟ كان الجرس الضخم، بِمقرعته، يُعطي أوّل صوت باسم الشريعة الإلهيّة. كان يقول: "أتحدَّث باسم الله، الدَّيَّان والـمَلِك". وفيما بعد، كانت الأجراس الأصغر تَصدَح: "الصالح والرحيم والصبور"، حتّى يقول الجرس الأكثر فضّيّة، بصوت ملائكيّ: "محبّته تدعو إلى المسامحة والشَّفَقة، لِيُعلِّمكم أنّ المسامحة أكثر فائدة مِن الحقد، والشَّفَقة مِن القَسوة. هَلمّوا إلى الغَفور، آمِنوا بالذي يُشفِق". وأنا كذلك، بعد التذكير بالشريعة التي داسَتها الخاطِئة، جَعَلتُ الأمل بالمسامحة يَصدَح. مثل شريط حريريّ أخضر وفيروزيّ، حرَّكتُه وسط الصّبغات السوداء لِأَضع فيها كَلِماته المعزّية.

 

الغُفران، ذلك النَّدى على حِرق الخاطئ. والندى ليس كالبَرَد الذي يَضرب كالسهم، فَيَجرَح ويُعاود القفز، ويمضي دون أن يَنفَذ، قاتلاً الزهور، بينما الندى يَهبِط خفيفاً للغاية، لدرجة أنّ الزهرة الأكثر رقّة لا تحسّ به، فيستقرّ على بتلاتها الحريريّة. إنّما، بعد ذلك، تَشرَب منه الانتعاش وتتقوّى... إنّها نداوة الدموع، دموع النجوم، دموع مُربّية مُحِبّة على أولادها العِطاش، والتي تَهبُط مُقوّية إيّاهم في الوقت ذاته مع الحليب اللذيذ والمغذّي. آه! سِرّ العناصر التي تتفاعل حتّى عندما يكون الإنسان في وضع راحة أو عندما يخطئ!

 

الغُفران مثل ذاك الندى. يَجلب معه، ليس فقط النقاء، بل إنّما العُصارات الحيويّة التي يأخذها، ليس إلى العناصر، بل إلى المنازل الإلهيّة. ثمّ، بَعدَ وَعد الغُفران، ها هي ذي الحكمة تتحدّث وتقول ما هو جائز وما ليس كذلك، وتُذكِّر وتَهزّ، ليس بقسوة، بل بِشَجَن أُموميّ، بالخلاص.

 

كَم مِن مَرّة لَم يَعُد فيها الصوّان أكثر منكم مِنعة وحَدّيّة تجاه المحبّة التي تنحني عليكم!... كَم مِن مَرّة تَهربون بينما هي تُكلّمكم!... كَم مِن مَرّة تَسخَرون منها! كَم مِن مَرّة تَمقتونها!... لو تَصرَّفَت المحبّة معكم كما تتصرّفون معها، فالويل لِنفوسكم! على العكس، تَرَون ذلك! إنّها السائرة التي لا تتعب، والتي تمضي للبحث عنكم. إنّها تمضي للّحاق بكم حتّى ولو هربتم داخل الجُّحر المقرف.

 

لماذا أردتُ الذهاب إلى ذلك البيت؟ لماذا لَم أجتَرِح المعجزة؟ (انظر جزء3 - فقرة43) ذلك لِأُعلِّم الرُّسُل كيف ينبغي لهم أن يتصرّفوا، مُتَحَدِّين الظنون والانتقادات، لإتمام واجب أسمى مُستثنى مِن أمور الدنيا هذه.

 

لماذا قُلتُ تلك الكلمات ليهوذا؟ كان الرُّسُل يُقيمون الوزن كثيراً لِطَبعهم كَبَشَر. كلّ المسيحيين كذلك، حتّى قدّيسو الأرض، إنّما بِدَرجة أقلّ، يَستفيق فيهم شيء ما، حتّى لدى الكاملين. لكنّ الرُّسُل لَم يكونوا بعد على تلك الدرجة. لقد كان نافِذاً إلى فِكرهم البشريّ. كنتُ أسمو بهم، ولكنّ وزن بشريّتهم كان يَشدّهم إلى أسفل. ولِجَعلهم يَسمُون باستمرار، كان عليَّ أن أضع في طريق صعودهم ما يوقِف انحدارهم، بِشكل يَقِفون قبالته مُفكِّرين، آخِذين قسطاً مِن الراحة، لِيَصعدوا فيما بعد أكثر مِن الـمَرّة السابقة، وهي أمور تكون على مستوى قابل لإقناعهم بأنّني إله. لأجل ذلك كانت تأمّلات النُّفوس الباطنيّة، لأجل ذلك كانت الانتصارات على العَناصِر، لأجل ذلك كانت المعجزات، لأجل ذلك كان التجلّي والقيامة والوجود في مكان مُحدَّد.

 

لقد تواجَدتُ على طريق عِمّاوس في الوقت الذي كنتُ فيه في العُلّية، وزَمَن التَّواجُدين في مواجهة الرُّسُل والتلميذين، كان واحداً مِن الأسباب التي هَزَّتهم بالأكثر، بانتزاعهم مِن مصالحهم، والإلقاء بهم على طريق المسيح.

 

كان حديثي مُوَجَّهاً إلى الأحد عشر أكثر منه إلى يهوذا، العُنصر الذي كان الموت كامناً فيه آنذاك. فكان لزاماً عليَّ أن أجعل كوني الله يَسطَع في عيونهم، ليس على سبيل الكبرياء، إنّما لأنّ ذلك كان ضروريّاً مِن أجل تثقيفهم، فكنتُ الله والمعلّم. تلك الكلّمات كانت تشير إلى مَن أكون. لقد كانت القُدرة التي ظَهَرَت بها تتجاوز الإنسان، وكنتُ أُعلِّم الكمال: ألّا تكون هناك أحاديث سيّئة حتّى في داخلنا. لأنّ الله يرى، وينبغي أن يَرى الله داخلاً نقيّاً كي يَنـزِل ويَجعَل فيه مَسكَنه.

 

لماذا لَم أجتَرِح المعجزة في ذلك البيت؟ لِأُفهم الجميع أنّ وجود الله يتطلّب جوّاً طاهراً، احتراماً لِعَظَمَة جلاله. للتكلّم دون تحريك الشِّفاه، إنّما بكلمة أكثر نفاذاً، إلى روح الخاطئة والقول لها: "هل تَرَين ذلك أيّتها الشَّقيّة؟ إنّكِ مُلطَّخة لدرجة أنّ كلّ ما حولكِ مُلطَّخ بكِ، مُلطَّخَة لدرجة لا يمكن معها لله أن يتصرّف. أنتِ أكثر نجاسة مِن ذلك، لأنّكِ تُجدِّدين خطيئة حوّاء، وتُقدِّمين الثَّمَرة إلى الآدميّين، بإغوائهم وبانتزاعهم مِن واجبهم. أنتِ أداة الشيطان.

 

لماذا لَم أشأ آنذاك أن تَدعوها الأُمّ القَلِقَة "شيطاناً"؟ لأنّ ما مِن مُبرّر للإهانة والاحتقار. الضرورة الأولى التي تَفرض نفسها، والشرط الأوّل ليكون الله معنا، هو انتفاء الحقد ومعرفة المسامحة. الضرورة الثانية هي معرفة كيفيّة التعرّف على مَكمَن الذنب فينا وفي ما هو لنا؛ ألّا نرى قَطّ أخطاء الآخرين. الضرورة الثالثة هي معرفة المحافظة على الذات مع الاعتراف بالجميل والوفاء، بعد نَيل النعمة، إنصافاً للأزليّ. والويل لِمَن، بَعدَ الحصول على النِّعمة، يكونون أسوأ مِن الكلاب، فلا يتذكّرون الـمُحسِن إليهم، بينما الكلب يتذكّر!

 

لَم أَقُل كلمة واحدة لمريم المجدليّة. كما لو إنّها تمثال، نَظَرتُ إليها لحظة، ثمّ تَرَكتُها. عُدتُ إلى "الأحياء" الذين كنتُ أريد تخليصهم. وهي، المادّة الميتة كتمثال مِن رخام، فقد غَلَّفتُها بإهمال ظاهريّ. ولكنّني لم أَفُه بكلمة أو آتي بحركة لَم يكن الهدف الرئيسيّ منها نَفْسَها المسكينة التي كنتُ أشاء افتداءها. وكلمتي الأخيرة: "أنا لا أشْتُم، أبداً لا أشْتُم. إنّني أصلّي مِن أجل الخَطَأَة، ليس أكثر." ومَضَت مثل باقة زهور تتشكّل لتنضمّ إلى الأولى التي كنتُ قد قُلتُها على الجبل: "الغفران أكثر فائدة مِن الحقد، والرحمة أكثر مِن القَسوة". وأُقفِلَت الاثنتان على تلك المسكينة البائسة ضمن دائرة مخمليّة، مُنعِشة ومُعطَّرة بالصَّلاح، جاعِلَتين إيّاها تَشعُر كم خدمة الله الـمُحِبّة مختلفة عن استعباد الشيطان الشَّرِس؛ كَم عطر السماء زكيّ، بالمقارنة مع نتانة الخطيئة، وكَم هو مريح أن يكون المرء محبوباً بقداسة، وهو أفضل مِن أن يكون مُستَحوَذاً عليه شيطانيّاً.

 

انظروا كَم الله مُعتَدِل في مشيئته. فهو لا يَفرض هِدَايات فورية. وهو لا يَطلُب الـمُطلَق مِن أيّ قلب. هو يَعرِف الانتظار، ويَعرِف أن يُقنِع. وبينما هو يَنتَظِر أن تجد الضالّة الطريق، أن تستعيد المجنونة العقل، ويكتفي بما يمكن أن تعطيه إيّاه الأُمّ المضطربة.

 

سألتُها فقط: "هل المسامحة ممكنة؟" كَم مِن الأمور كنتُ لأطلبها منها، كي أجعلها أهلاً للمُعجزة، ذلك لو كنتُ أَحكُم كالبشر! ولكنّني أقيس قواكم بشكل إلهيّ. فبالنسبة إلى تلك الأُمّ المضطربة، كان كثيراً آنذاك التوصُّل إلى الغُفران، ولا أَطلُب منها سوى هذا حاليّاً. بعد ذلك، وأنا أردُّ لها ابنها، قُلتُ لها: "كوني قِدّيسة، واجعلي بيتكِ مُقدّساً." أمّا عندما تكون مُضطَرِبة، فلا أَطلُب منها مسامحة الخاطِئة. علينا ألّا نُطالِب مَن كان، منذ قليل، في غَياهِب الظُّلُمات، بكلّ شيء. بعد ذلك تأتي الأُمّ إلى كمال النور، ومعها الزوجة والأولاد. حينذاك ينبغي جَعْل شَفَق النور يَصِل إلى عينيها اللتين أعمتهما الدموع: الغُفران، فَجر يوم الله.

 

عن الذين كانوا حاضِرين -يهوذا ليس في الحسبان، فأنا أتحدّث عن الناس الذين استُقبلوا في ذلك المكان، وليس عن تلاميذي- واحد فقط لم يكن ليأتي إلى النور. إنهزاماته تُرافِق انتصارات الرسالة. فهناكَ دوماً مَن يَتعَب الرَّسول مِن أجله بلا جدوى. ولكن ينبغي ألّا تَحمِله تلك الأنّهزامات على فقدان الحماس. فليس على الرسول المطالبة بالحصول على كلّ شيء. فهناك على الدوام قوى معاكسة تواجهه، وهي تَحمل جملة أسماء، وهي، مثل مِجسّات الأخطبوط، تُعاوِد التقاط الفريسة التي انتُزِعَت منها. أمّا استحقاق الرَّسول فيبقى هو هو. وبِئس الرسول الذي يقول: "أعلَم أنّني غير قادر على الهِداية هناك، لذا لَن أذهب". فذاكَ رسول لا قيمة له.

 

يَجِب الذهاب هناك، حتّى ولو لم يَكن سَيَخلص سوى واحد بالألف. فيكون يوم الرسول مُثمِراً مِن أجل هذا الإنسان الواحد، كما هو مِن أجل ألف. إذ إنّه سيكون قد فَعَلَ كلّ ما كان يمكنه فِعله، وهذا ما يُكافئ الله بموجبه. كذلك يجب التفكير بأنّه، حيث لا يستطيع الرَّسول الهداية، لأنّ مَن ينبغي هدايته مُستأثَر به كثيراً مِن قِبَل الشيطان، وأنّ قُوى الرَّسول غير كافية للجهد المطلوب، فيمكن أن يتدخَّل الله. وحينئذ، مَن هو أكثر مِن الله؟

 

شيء آخر لا بد للرَّسول أن يمارسه، هو الحبّ. الحبّ يَظهَر، ليس فقط حُبّ القلوب الوفيّة السرّيّ. فذاك يكفي للإخوة الصالحين. ولكنّ الرَّسول هو عامِل الله، وعليه ألّا يَقِف عند حدود الصلاة: عليه أن يَعمَل. فَليَعمَل بِحُبّ، بِحُبّ عظيم. والتَّشدُّد يَشلّ عمل الرسول وحركة النُّفوس صوب النور. فلا تَشدُّد، بَل الحُبّ.

 

الحُبّ هو ثوب الحرير الصخريّ (الأميانت) الذي لا يمكن لألسنة لهب النوايا الشرّيرة أن تصيبه بأذى. الحبّ يُشبِعكم مِن الخلاصات الواقية التي تَمنَع الفساد البشريّ-الشيطانيّ مِن النَّفاذ إلى أعماقكم. ولِكَسب نَفْس، يَجِب معرفة حُبّها. لِكَسب نَفْس، يجب حَملها على أن تُحبّ، حُبّ الخير، وذلك برفض كلّ أنواع حُبّها المسكين للخطيئة.

 

أَرَدتُ نَفْس مريم. وكما بالنسبة إليكِ، يا يوحنّاي الصغيرة، لم أتوقّف عند حدّ الكلام عنّي كمعلّم بالجسد، بل هَبَطتُ أبحث عنها على دروب الخطيئة. لقد تَبِعتُها ولاحقتُها بِحُبّي، ملاحقة لطيفة! لقد دَخَلتُ، وأنا الطَّهارة، حيث كانت هِيَ، الدَّنَس.

 

لَم أَخشَ مِن الشكّ، لا بالنسبة إليَّ ولا بالنسبة إلى الآخرين. لا يمكن للشكّ أن يَنفذ إليَّ، لأنّني أنا الرحمة، والرحمة تبكي على الخطايا دون أن تُسبِّب لها الشكّ. بِئس الرَّاعي الذي يَشكّ، والذي يحتمي خلف ذاك السَّاتِر، ليتخلّى عن نَفْس! ألا تَعلَمون بأنّ النُّفوس تَسمو بأسهل مِن الأجساد، وأنّ كَلِمَة الرحمة والحبّ التي تقول: "إنهضي يا أختاه لخيركِ"، تَجتَرِح غالباً المعجزة؟ لم أكن أخشى شكّ الآخرين، فإنّ عَمَلي كان مُبرَّراً في عينيّ الله؛ وكان مفهوماً في عيون الصالحين. أمّا العين الشرّيرة التي يَتخمَّر فيها الخُبث المتحرِّر مِن جوف فاسد، فلا قيمة لها. إنّها تَرى الخطيئة حتّى في الله، ولا تَرى الكمال إلّا في ذاتها. لذا لَم أكن لِأُعيرها بالاً.

 

تلك هي الشروط الثلاثة لخلاص النَّفْس:

 

أن يكون المرء على درجة كبيرة مِن الكمال، ليتمكّن مِن التحدّث دون خشية مِن إعادته إلى الصمت. التحدّث إلى حشد، بشكل تَذهَب معه كَلِمَتنا الرَّسوليّة الموجَّهة إليه، وهو الذي تَجمهَر حول الـمَركَب السرّيّ، بتموّجات تمتدّ إلى البعيد على الدوام، حتّى بلوغ الشاطئ الـمُوحِل، حيث المتمرّغون في الوحل غير مبالين بمعرفة الحقيقة.

 

هذا هو أوّل عمل ينبغي القيام به لكسر قِشرة التلعة الصلبة، وتهيئتها للبِذار. إنّه العمل الأكثر صرامة، لِمَن يتمّه ولِمَن يتحمّله، لأنّه لا بدّ للكلمة، على غرار السِّكَّة القاطعة، مِن أن تَجرَح لِتَفتَح. والحقّ أقول لكم إنّ قلب الرَّسول الصالح يُجرَح، وتسيل دماؤه بفعل الألم الذي ينتابه مِن وجوب الجَّرح للفَّتح. ولكنّ هذا الألم خَصيب، فَبِدم ودموع الرَّسول تصبح الأرض التلعة البور خصيبة.

 

الخاصّة الثانية: العمل حيث يَعمَد أحدهم إلى الفرار لإساءته فَهم الرسالة، التهشّم خلال العمل الجادّ في انتزاع الزؤان والعكرش والأشواك لتعرية الأرض المفلوحة، وجَعل قُدرة الله وصلاحه يتألّقان عليها، وفي الوقت ذاته، التحلّي بخاصّة الحاكم والطيّب الـمُفعَم رحمة، والمتوقّف يَنتَظِر ويَمنَح فرصة للنُّفوس، لِتَجاوز المحنة والتفكير واتّخاذ القرار.

 

النقطة الثالثة: منذ اللحظة التي تتوب فيها النَّفْس في الصمت، باكية ومتأمّلة أخطاءها، وتجرؤ على المجيء إلى الرَّسول، رغم خشيتها مِن أن تُطرَد، لِيَكن قلب الرّسول أكبر مِن البحر، أكثر رقّة مِن قلب أُمّ، أكثر هياماً مِن قلب عروس، ولِيَفتحه على مصراعيه ليتدفّق منه سيل الحنان.

 

إذا كان الله فيكم، والله محبّة، فستجدون بكلّ سهولة كلّمات المحبّة التي يجب أن تُقال للنُّفوس. سوف يتحدّث الله فيكم ومِن خلالكم، وكالعسل الذي يَسيل مِن القرص، وكالطِّيب الذي يَسيل مِن حبابة (قارورة)، سينطلق الحُبّ على الشفاه الملتَهِبة والتَّعِبة، سيمضي إلى النفوس المجروحة ويُصبح عزاء ودواء. اجعلوا الخطأة يحبّونكم، أنتم أطبّاء النُّفوس. اجعلوا النُّفوس تتذوّق طعم المحبّة السماويّة، وتُصبِح متلهّفة لها، فلا تبحث عن غذاء آخر. اجعلوها تَختَبِر في لطفكم تعزية تبحث عنها في كلّ جراحاتها.

 

يجب على محبّتكم أن تُبعِد عن الخَطَأَة كلّ خوف، لأنّه، كما قيل في الرسالة التي قَرَأتِها اليوم: "الخوف يَفتَرِض العِقاب. والذي يَخاف ليس كاملاً في المحبّة." كذلك هو الذي يَجعَل الآخر يَخاف. لا تقولوا: "ماذا فَعلتَ؟" لا تقولوا: "اذهب." لا تقولوا: "لا يمكنكَ تذوّق الحبّ الصالح". بل قولوا، قولوا باسمي: "أَحبِب وأنا أغفر لكَ". بل قولوا: "تَذوَّق هذا الخبز الملائكيّ وهذه الكلّمات، وانسَ قَطران الجحيم واحتقار الشيطان". اجعلوا أنفسكم كالدَّواب مِن أجل هِنات الآخر ونقائصه. فعلى الرسول أن يَحمِل حِمله وحِمل الآخر، وفي الوقت ذاته صليبه وصليب الآخر. وعندما تأتون إليَّ حامِلين النِّعاج الجريحة، طَمئِنوا تلك النِّعاج الخاطِئة وقولوا: "لقد نُسي كلّ شيء اعتباراً مِن الآن". وقولوا: "لا تَخَف مِن الـمُخلِّص، لقد أتى مِن السماء مِن أجلكَ، خصوصاً مِن أجلكَ. وأنا لستُ سِوى جسر أنقلكَ إليه، هو الذي ينتظركَ، إلى جانب قناة التوبة التي تَحلّ مِن الخطايا، لنقلكم إلى مراعيه المقدّسة، التي تبدأ مِن هنا، على الأرض، إنّما تستمرّ بعدئذ في جَمال خالِد يُغذّي ويُمتِّع في السماء".

 

ذلك هو التفسير، وهو لا يَعنيكم كثيراً، أنتم النِّعاج الوفيّة للرَّاعي الصَّالح. إنّما بالنسبة إليكِ، أيّتها العروس الصغيرة (ماريا فالتورتا)، فإنّه يُصبِح نموّاً في الثقة، وفيما يخصّ الأب (المرشد الروحي لماري فالتورتا) يُصبح نوراً إضافيّاً إلى جانب نوره كَكاهِن، وبالنسبة إلى الآخرين يُصبِح، ليس مهمازاً يَدفَع إلى عمل الخير، بل يُصبِح الندى الذي تحدّثتُ عنه، الذي يَنفُذ ويُغذّي والذي يُحيي الزهور الذَّابِلة.

 

ارفعي رأسكِ. السماء في الأعالي. امضي بسلام يا ماريّا، الربّ معكِ.»