ج2 - ف100

أَنَا هُوَ

ماريا فالتورتا

L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO

THE GOSPEL AS REVEALED TO ME

بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}

L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ

MARIA VALTORTA

الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.

 

الجزء الثاني / القسم الثاني

 

100- (يسوع يغادر منطقة المياه الحلوة)

 

18 / 03 / 1945

 

تَخلو منطقة المياه الحلوة مِن الزوّار. يبدو مُستَهجَناً أن تُرى هكذا، دون مخيّمات لأناس يَبيتون الليل، أو على الأقلّ يتناولون وجبة في الفَناء أو تحت العَنبَر. فليس هناك اليوم سوى نظافة وترتيب، دون أيّة بقايا تُخلّفها الجموع وراءها.

 

يَشغَل التلاميذ وقتهم بأعمال يدويّة. يَضفر البعض الخيزران لصنع سِلال صيّد جديدة، آخرون مُنهَمِكون بأعمال حَفر صغيرة، وشَقّ قَنوات لمياه السطوح لكي لا تَركُد. أمّا يسوع فهو واقف وسط حقل يُفتّت الخبز للعصافير. ما مِن كائن حيّ يُرى على مدى النَّظَر، بالرغم مِن أنّ النهار صافٍ.

 

يَصِل أندراوس إلى يسوع عائداً مِن بعض الأعمال: «السلام لكَ يا معلّم.»

 

«ولكَ يا أندراوس، تعال هنا معي قليلاً. يمكنكَ المكوث إلى جانب العصافير. فأنتَ مثلها. ولكن أترى؟ عندما تَعلَم أنّ الذي يدنو منها يحبّها، فلا تعود تخاف. انظر كم هي واثِقة وساكِنة وسعيدة. قبل قليل كانت قريبة مِن قدميّ. أمّا الآن وقد أَتَيتَ أنتَ فقد أَخَذَت حَذَرها... ولكن انظر، انظر... هو ذا عصفور دُوري يَصِل، وهو أكثر جُرأة. فلقد أَدرَكَ أنّ لا خطر يُهدّده. وها هي البقيّة خلفه. أَتَرَى كم تستمتع؟ أليس الشيء ذاته بالنسبة لنا كذلك، نحن أبناء الآب؟ هو يُشبِعنا بحبّه. وعندما نكون واثقين مِن أنّنا مَحبوبون ومَدعوّون لحبّه، فلماذا الخوف منه ومِن أنفسنا؟ مِن المفروض أن تمنحنا صداقته الجرأة حتّى في مواجهة الناس. ثِق بذلك. وحده صاحب السلوك السيّئ ينبغي له أن يخاف مِن شَبيهه. وليس البارّ مثلكَ.»

 

يَحمَرّ وجه أندراوس ولا يتكلّم. يَشدّه يسوع إليه ويقول له وهو يضحك: «يجب توحيدكما أنتَ وسمعان، بل إذابتكما وإعادة تكوينكما، لِتَكونا كامِلَين. ومع ذلك... لو قُلتُ لكَ إنّكَ وإن كنتَ مختلفاً في البداية، فإنّكَ ستصبح في نهاية مطاف رسالتكَ مُساوياً تماماً لبطرس، فهل ستصدّق ذلك؟»

 

«أنتَ تقول ذلك، فهو إذن أكيد. لستُ أتساءل حتّى كيف يمكن أن يَحدُث هذا، ذلك أنّ كلّ ما تقوله أنتَ حقيقة هو. وسوف أكون مسروراً لِكَوني مثل سمعان، أخي، لأنّه بارّ ويُسعِدكَ. إنّ سمعان لَشُجاع! وأنا مسرور للغاية لِكَونه شُجاعاً وجريئاً وقويّاً. إنّما الآخرون أيضاً!...»

 

«وأنتَ لا؟»

 

«آه! أنا! أنتَ وحدكَ يمكنكَ أن تكون مسروراً منّي...»

 

«وأن ألاحظ أنّكَ تعمل بصمت وبعمق أكثر مِن الآخرين. لأنّ بين الاثني عشر مَن يُحدِث ضجّة بقدر العمل الذي يؤدّيه. وهناك مَن يُحدِث ضجّة أكثر مِن العمل. وواحد يَقنَع بالعمل، وإن يَكُن عملاً مُتَواضِعاً وفَعّالاً ومجهولاً... يمكن أن يعتقد الآخرون أنّه لا يَفعَل شيئاً. ولكنّ الذي يَرى يعرف. وهذه الاختلافات لأنّكم لم تصبحوا بعد كاملين. وهذا سوف يكون على الدوام بين التلاميذ المستقبليّين، بين الذين يأتون بعدكم، حتّى اللحظة التي يُعلِن فيها الملاك بصوت كالرعد "لقد انقضى الزمن". فسيكون هناك على الدوام مُـمَثِّلون للمسيح يُجِيدون لَفت الأنظار إلى عملهم وإلى شخصيّتهم: الـمُعلِّمون. وسيكون منهم، بكلّ أسف، مَن لا يكونون سِوى صَخَب وحركات ظاهريّة فقط، وهم الرُّعاة الـمُزيَّفون بالوضعيّة المسرحيّة متعدّدة الأشكال... أَكَهَنة هُم؟ لا، بل مُمثّلون إيمائيّون ليس إلّا. فليست الحركة هي التي تصنع الكاهِن، ولا الثوب. ليست الثقافة الدنيويّة ولا العلاقات الاجتماعيّة مع ذَوي النُّفوذ تصنع الكاهِن. بل هي نَفْسه. النَّفْس الكبيرة العظيمة إلى الحدّ الذي يتلاشى معه الجسد. فَكَاهِنِيْ روح كلّه... هو كاهِن حُلمي. هكذا يكون كَهَنَتي القدّيسون. فالروحانيّ ليس لديه صوت المأساويّ ولا وضعيّته. ولا يتظاهر، لأنّه روحانيّ، وبالتالي لا يمكنه لبس الأقنعة والجلباب. فهو كما هو: روح، شُعلة، نور، حبّ. هو يُـحَدِّث أرواحاً، يتحدّث بِطُهر النّظرات، بِطُهر تصرّفاته وكلماته وأعماله.

 

الإنسان يَنظُر، ويَرَى الذي يُماثِله. إنّما فيما هو أَبعَد وأسمى مِن الجسد، ماذا يَرَى؟ شيئاً يَكبَح مسيرته الـمُتعجّلة، ممّا يجعله يُفكّر ويَخلص إلى نتيجة: "إنّ هذا الإنسان الذي يماثلني، ليس فيه مِن الإنسان سوى الظَّاهِر. فَرُوحه روح ملاك". وإذا كان كافراً، فإنّه يَخلص إلى نتيجة: "بسببه أؤمن بوجود إله ووجود سماء". وإذا كان فاجِراً يقول: "ذلك الإنسان الذي يُماثِلني له نَظرَة سماويّة. لذا سأضبط مشاعري لئلّا أُدنّسها". وإذا كان بخيلاً يُقرّر: "على مِثال ذاك الـمُتجرِّد عن الثروات، سأكفُّ عن جَشَعي". وإذا كان غَضوباً، متوحّشاً، فَقُبالة تلك النعومة والعذوبة يُصبِح أكثر وَداعة. لذا فالكاهِن القدّيس يمكنه فِعل الكثير. وثِق بأنّه سيكون، على الدوام، بين الكَهَنَة، قدّيسون يُجيدون الموت في سبيل حبّ الله والقريب، ويُجيدون فِعل ذلك بهدوء عظيم، بعد ممارسة الكَمال طوال حياتهم بهدوء ونُعومة، حتّى إنّ العالم لا يلاحظهم. ولكن إن لم يصبح العالم كلّه دَنَساً وعِبادة أوثان، فسيكون ذلك بفضلهم هُم: أبطال الصمت والعمل الوَفيّ. وستكون لهم ابتسامتكَ الطاهرة والخَجولة. وسيكون هناك أشخاص مثل أندراوس على الدوام. سيكونون بفضل الله ولأجل سعادة العالم!»

 

«لَم أكن أَظُـنُّني أَستَحقّ هذا الكلام... لم أفعل شيئاً لأَحُثّهم...»

 

«لقد ساعَدتَني في جلب قلب إلى الله، وهذا هو الثاني الذي تأتي به إلى النور.»

 

«آه! لماذا تَكلَّمَ؟ كان قد وَعَدَني...»

 

«لم يتكلّم أحد. إنّما أنا أَعلَم. عندما ينام الرفاق مُنهَكين، فهناك ثلاثة يَظلّون ساهِرين في منطقة المياه الحلوة: الرَّسول ذو الحبّ الصامت والنشيط حيال الخَطَأَة. الإنسان الذي تحثّه نفسه نحو الخلاص. والـمُخلِّص الذي يصلّي ويَسهَر وينتظر ويأمل... أملي هو أن تَجِد نَفْسٌ خلاصَها... شكراً يا أندراوس. استمرّ ولتكن مباركاً مِن أجل ذلك.»

 

«آه! يا معلّم!... ولكن لا تقل شيئاً للآخرين... فإنّني وحدي وإليها فقط أتحدّث، إلى مُصابة بالبرص على شاطئ قَفر، أو هنا، أتحدّث إلى إنسانة لا أرى وجهها، ما زلتُ أعرف أن أتدبر أمري قليلاً. ولكن لو عَرَف الآخرون بذلك، وخاصّة سمعان، وأراد المجيء... فلا أعود أعرف فِعل أيّ شيء... وأنتَ كذلك لا تأتِ... لأنّني أَخجَل من التحدّث بحضوركَ.»

 

«لن آتي. يسوع لن يأتي. ولكن روح الله كان يرافقكَ على الدوام. هيّا بنا إلى البيت. إنّهم يَطلبوننا مِن أجل الطعام.»

 

وينتهي كلّ شيء بين يسوع والتلميذ الرقيق.

 

ما يزالون يتناولون الطعام، وقد أُضيئَت المصابيح، لأنّ الليل يَهبط بسرعة، وريح الشمال تجعلهم يُوصِدون الباب. ولكنّ الباب يُقرَع ويُسمَع صوت يوحنّا الـمَرِح.

 

«عَود حَميد!»

 

«لقد أنهيتم مهمّتكم بسرعة!»

 

«ماذا هناك إذن؟»

 

«يا لحِمْلكم!»

 

يتكلّم الجميع دُفعة واحدة، ويُساعِدون الثلاثة على إنزال الأكياس الثقيلة مِن على أكتافهم.

 

«على مهل!»

 

«دعونا نُلقي التحيّة على المعلّم!»

 

«ولكن لحظة!»

 

هناك صَخَبٌ مَرِح وعائلي بسبب وجودهم معاً.

 

«أُحيّيكم أيّها الأصدقاء. لقد مَنَحَكم الله أيّاماً ساكنة.»

 

«نعم يا معلّم. إنّما لا أخبار مُطَمئِنة. كنتُ أتوقّع ذلك.» يقول الاسخريوطيّ.

 

«ماذا هناك؟...» فلقد استفاق الفُضول.

 

«انتَظِروا حتّى يَلتَقِطوا أنفاسهم أوّلاً.» يقول يسوع.

 

«لا يا معلّم. بل نعطيكَ أوّلاً ما نحمل لكَ وللآخرين. وبِداية... يوحنّا، سَلِّمهُ الرسالة.»

 

«إنّها مع سمعان، فقد خَشيتُ عليها مِن التَّلَف مع ما أَحمِل.»

 

الغيور الذي كان، حتّى ذلك الحين، يتشاجر مع توما الذي يريد إعطاءه الماء لقدميه التَّعِبَتين، يَهرَع قائلاً: «هي ذي معي هنا، في حِزامي.» ويَفتح جيباً داخليّاً في حِزامه العريض مِن الجلد الأحمر، ويُخرِج لِفافة أصبَحَت مسطحة.

 

«إنها مِن أُمّكَ. فعندما كنا قريبين مِن بيت عنيا، التقينا يوناثان الذي كان ذاهباً إلى لعازر حاملاً الرسالة وأشياء أخرى كثيرة. وذَهَبَ يوناثان إلى أورشليم، فخُوزي قد أعاد تَوضيب قصره... وقد يأتي هيرودس إلى طبريّا... ولا يريد خُوزي أن تكون زوجته مع هيروديا.» يَشرَح الاسخريوطيّ بينما يَحلّ يسوع عُقدة اللِّفافة ويَفردها.

 

يُثَرثِر التلاميذ بينما يقرأ يسوع كلمات أُمّه بابتسامة سعيدة.

 

«اسمعوا» يقول يسوع بعد ذلك. «هنالك أيضاً شيء للجليليّين. فلقد كَتَبَت أُمّي: "إلى يسوع، ابني العَذب وربّي، سلاماً وبَرَكَة. إنّ يوناثان خادم سيّده، قد حَمَلَ إليَّ هدايا لطيفة مِن قِبَل يُوَنّا التي تطلب البركات مِن مُخَلِّصها، لها ولزوجها ولكلّ بيتها. وقد قال لي يوناثان إنّه يذهب إلى أورشليم بأمر مِن خُوزي لإعادة فتح قصر صهيون. أُبارِك الله لهذا، لأنّني سأتمكّن مِن إبلاغكَ كلامي وبَرَكاتي. وكذلك مريم التي لحلفى وسالومة تُرسِلان القُبلات والبَرَكات لأبنائهما. وبما أنّ يوناثان كان صالحاً فوق الحدّ وطيّباً، فهناك أيضاً تحيّات مِن زوجة بطرس إلى زوجها البعيد، وحتّى مِن عائلة فليبّس وكذلك نثنائيل. كلّ زوجاتكم، أيّها الأعزّاء البعيدون، قد عَمِلن بالإبرة والحِياكة إلى جانب العمل في الحديقة ليرسلن لكم أثواباً تَقيكم برد أشهر الشتاء هذه، وكذلك عسلاً لذيذاً مع التوصية بمزجه بالماء الساخن لتَناوُله في الليالي الرطبة. اعتنوا بأنفسكم. هذا ما قالته لي الزوجات والأُمّهات لأبلّغكم إيّاه، فأقوله لكم وأقوله كذلك لابني. فنحن لم نُضَحِّ بأنفسنا مقابل لا شيء، ثِقوا بذلك. استفيدوا مِن الهدايا الـمُتَواضِعة التي نُقدّمها، نحن تلميذات تلاميذ المسيح، إلى خُدّام الربّ، وامنحونا فقط فرح معرفتنا أنّكم في صحّة جيّدة.

 

الآن يا ابني الحبيب، أُفكّر أنّكَ منذ حوالي العام لم تَعُد لي بِكلّيّتكَ. وأَتَذكّر، بل أعود إلى الزمن الذي كُنتَ فيه هنا، وكُنتُ أُحِسُّ بقلبكَ يخفق في صدري، ولكن كان يمكنني القول إنّكَ لم تكن هنا أيضاً، إذ إنّكَ كُنتَ مُنفَصِلاً عنّي بحاجز كان يمنعني مِن مُلامَسَة جسمكَ المحبوب، وكُنتُ أستطيع فقط أن أعبد روحكَ يا ابني الحبيب والإله المعبود. وأَعلَم الآن أيضاً أنّكَ هنا، وأنّ قلبكَ يخفق مع قلبي، ولم ينفصل عنّي أبداً حتّى ولو كان بعيداً، ولكنّني لا أستطيع ملامستكَ وسماعكَ وخدمتكَ وإجلالكَ، يا مسيح الربّ ومسيح خادمته المسكينة.

 

كانت يُوَنّا تريدني أن أذهب إليها لكي لا أظلّ وحيدة أثناء فترة عيد الأنوار. ولقد آثَرتُ حينئذ البقاء هنا مع مريم لإنارة المصابيح، لي ولكَ. ولكن حتّى ولو كُنتُ أعظم مَلِكَة في الأرض، ولو استطعتُ إنارة آلاف، بل عشرات الآلاف مِن المصابيح، فإنّني أَظَلُّ في الظُّلمة لأنّكَ لستَ هنا. بينما كُنتُ في كامل النور أثناء وجودي في تلك المغارة الـمُعتِمة، عندما كُنتَ على صدري، نوراً لي ونوراً للعالم. إنّها المرة الأولى التي أقول فيها لنفسي: ”اليوم كَبِر ابني عاماً آخر“، وابني ليس عندي. وسيكون الأمر أكثر حُزناً مِن عيد ميلادك الأول في المطرية Matarea. ولكنّكَ تُنجِز رسالتكَ، وأنا رسالتي. ونحن الاثنان نُتَمِّم مشيئة الآب، ونعمل لمجد الله. وهذا ما يمسح كلّ الدموع.

 

ابني الحبيب، أُدرِك ما تَفعَل مِن خلال ما يَصِلني مِن قَول. فكما أمواج البحر الحُرّ تَحمل صوت عَرضه حتّى داخل خليج مُنعَزِل ومُغلَق، كذلك صدى عملكَ المقدّس لمجد الربّ يَصِل بيتنا الصغير الهادئ، إلى أُمّكَ التي تَغتَبِط منه وترتجف في آن معاً، لأنّه، إذا تَحَدَّث الجمع عنكَ، فإنّهم لا يتحدّثون جميعاً بالمشاعر ذاتها. فيأتي أصدقاء وأناس استفادوا مِن إحساناتكَ ليقولوا لي: ”مبارك هو ابن بطنكِ“. ويأتي كذلك أعداء يَجرَحون قلبي بقولهم: ”فلتحلّ عليه اللعنة“. إلّا أنّني، مِن أجل هؤلاء، أصلّي، لأنّهم بائِسون حتّى أكثر مِن الوثنيّين الذين يأتون ليسألوني: ”أين المجوس الإلهيّ؟“ ولا يَعرفون أنّهم، في غلطتهم، يقولون حقيقة عُظمى، لأنّكَ، في الحقيقة، أنتَ كاهِن وعظيم، بكلّ ما في هذه الكلمة مِن معنى في اللغة القديمة، وإلهيّ أنتَ، أيا يسوعي. وإذ ذاك أُرسِلهم إليكَ قائلة: ”إنّه في بيت عنيا“، لأنّني أَظُنُّ أنّ هذا ما ينبغي لي قوله، إلى أن تأتيني منكَ أوامر أخرى. وأصلّي مِن أجل أولئك الذين يأتون باحثين عن الخلاص لما هو فان، كي يَجِدوا الخلاص للروح الذي هو أزليّ.

 

وأرجوكَ لا تأسف لألمي. إنّه يُكافَأ بكثير مِن الفرح الذي يَحمِله إليَّ كلام الذين شَفَيتَ لهم النَّفْس والجسد. إنّما مريم، فقد كان لديها، وما زال، ألم أكبر مِن ألمي. فليس لي وحدي يُوَجّهون الحديث. يوسف بن حلفى يريدكَ أن تَعلَم أنّه، في رحلة عمل سابقة قام بها إلى أورشليم، قد أُوقِف وأُنذِر بسببكَ. كانوا رجالاً مِن المجلس الأعلى. أَعتَقِد أنّ أحد الرجالات الكبار هنا قد أَخبَرَهم. إذ، لولا ذلك، كيف يمكنهم معرفة أنّ يوسف هو ربّ عائلة وأخوكَ؟ أقول لكَ ذلك لأنّ واجبي كامرأة يُحَتّم عليَّ أن أُطيع. إنّما، لو كان الأمر بيدي، لوددتُ لو أكون إلى جانبكَ، لأشجّعكَ. ولكن، بعد ذلك، قَرّر أنتَ، يا حكمة الآب، دون إعارة الاهتمام لدموعي. أخوكَ سمعان كان قد أَوشَكَ على توطيد العزم على المجيء إليكَ بعد تلك القصّة، ومعي. ولكنّ قَسوة الفصل والطقس حالت دون ذلك، وبالأكثر خَشية عدم إيجادكَ، إذ قيل، بلهجة الوَعيد، بأنّه لا يمكنكَ البقاء حيث أنتَ.

 

بُنيّ! يا بُنيّ! يا ابني القدّوس والمعبود! يَداي مَبسوطَتان، مثل موسى على الجبل، لكي أصلّي، مِن أجلكَ، في صراعكَ مع أعداء الله وأعدائكَ، يا يسوعي الذي لا يحبّه العالم.

 

أَمّا هنا، فقد ماتت ليا التي لإسحاق، وقد حزنتُ، لأنّها كانت خير صديقة لي على الدوام. ولكنّ ألمي الأكبر هو أنتَ، البعيد وغير المحبوب. أباركك يا بنيّ، وكما أُعطيكَ السلام والبركة، أرجوكَ أن تَهِبها لأُمّكَ".»

 

«الوَقِحون، يأتون حتّى ذاك البيت!» يَصيح بطرس.

 

ويَصرُخ يوضاس تدّاوس: «كان بإمكان يوسف الاحتفاظ بالخَبَر لنفسه. إنّما... كان على عَجَلة مِن أمره في نقله!»

 

«صَرخَة الضبع لا تُرعِب الـمُفعَمين حيويّة.» يقول فليبّس بلهجة الحِكَم.

 

«المصيبة أنّهم ليسوا ضِباعاً، بل هم نُمور تبحث عن فريسة حَيّة.» يقول الاسخريوطيّ، ويلتفت إلى الغيور: «قُل ما الذي عَلِمناه.»

 

«نعم، يا معلّم، لقد كان يهوذا محقّاً في خوفه. ذلك أنّنا مضينا إلى بيت يوسف الذي من الرّامة وبيت لعازر كأصدقاء لكَ عَلَنيّين، ثمّ أنا ويهوذا، وكأنّني صديق طفولته، عند بعض أصدقائه في صهيون... و...يوسف ولعازر يقولان لكَ أن تُغادِر فوراً، ولا تبقى هنا، يا معلّم، أثناء فترة الأعياد هذه، وذلك لمصلحتكَ. وبعدئذ قال أصدقاء يهوذا: "كونوا على حَذَر، فقد تَقَرَّر أن يأتوا ليُوقِفوه ويدينوه. وبالتحديد أثناء أيّام العيد هذه، حيث لا أناس. فليَنسَحِب لبعض الوقت، ليُضَلّل تلك الثعابين. إنّ مَوت دوراس قد هَيَّجَ سُمّهم وخوفهم. فبالإضافة إلى حقدهم لديهم الخوف. والخوف يجعلهم يَرَون أشياء لا وجود لها، والحقد يجعلهم يقولون حتّى الأكاذيب".»

 

«يَعرفون كلّ شيء، كلّ شيء عنّا! إنّ ذلك لَبَشِع! ويُحَرّفون كلّ شيء! ويُغالون في كلّ شيء، وعندما يبدو لهم أنّ ذلك غير كافٍ لاستنـزال اللعنة، فإنّهم يَبتَدِعون. لقد قَرِفتُ وأُنهِكتُ. لقد راودتني الرغبة في العُزلة، والـمُضيّ... لستُ أدري... بعيداً. إنّما خارج إسرائيل هذه، التي ليست سوى خطيئة...» يهوذا مُحبَط.

 

«يهوذا، يهوذا! كي يُعطى للعالم إنسان، تعمل امرأة تسعة أشهر قَمَريّة. وأنتَ، كي تعطي العالم معرفة الله، تريد أن تفعل ذلك بسرعة أكبر؟ فذلك لا يلزمه تسعة أشهر قَمَريّة فقط، بل آلاف الأشهر القَمَريّة. وكما أنّ القمر يُولَد ويموت في كلّ إقمار، بادياً لنا كمولود جديد ثمّ ممتلئ ثمّ مُتناقِص، هكذا سوف يكون حال العالم، وطالما هو موجود، فستكون أطوار لِنَماء الديانة وتضاؤلها على الدوام. ولكن حتّى حينما تبدو ميتة، فستكون مع ذلك حيّة مثل القمر الذي يكون موجوداً حينما يُقال إنّه انتهى. والذي يكون قد عَمِلَ مِن أجل تلك الديانة، سيُكافَأ عنها مكافأة عظيمة، حتّى ولو لم يبقَ على الأرض سوى عدد ضئيل مِن النُّفوس المؤمنة. هيّا، هيّا بنا! فلا الحماس سهل في الانتصارات ولا الانقباض سهل في الانهزامات.»

 

«ولكن مع ذلك... امض مِن هنا. فنحن لم نصبح أقوياء كفاية. ونشعر أنّنا سوف ينتابنا الخوف أمام السنهدرين. أنا على الأقلّ... الآخرون، لستُ أدري... ولكنّني أعتقد أنّ الإقدام على التجربة هو مِن قَبيل التهوّر. فليس لنا قلب أطفال بلاط نبوخذ نصّر الثلاثة.»

 

«نعم يا معلّم، هكذا أفضل.»

 

«وهو مِن قَبيل الفِطنة والحَذَر.»

 

«يهوذا على حقّ.»

 

«تَرَى أن أُمّكَ وأقرباءكَ حتّى...»

 

«ولعازر ويوسف.»

 

«فلنجعلهم يأتون للاشيء.»

 

ويَفتَح ذراعيه ويقول: «فليكن كما تريدون. إنّما بعد ذلك نعود إلى هنا. تَرَون كَم مِن الناس يأتون. وأنا لا أُرغِم ولا أُجرّب نفسكم. ولستُ أُحِسُّ أنّها مستعدّة... ولكن فلنرَ ما صَنَعَته النساء.»

 

حينئذ، وبإشراقة فرح في العيون، وصيحات بهجة في الحَناجِر، يُخرِج الجميع مِن الأكياس الصّرر مع الملابس والصَّنادِل ومؤونة الأُمّهات والزوجات، ويُحاوِلون إثارة اهتمام يسوع ليَنظُر بإعجاب إلى نعمة الله العظيمة. ولكنّه يبقى مُغتمّاً وشارِد الذّهن. يَقرأ ويُعيد قراءة رسالة أُمّه. إنّه يَقبَع مع مصباح في أقصى زاوية للطاولة، حيث الثياب والتفّاح والأوعية المعدنيّة والجبن. ويضع يده كواقية لعينيه، فيبدو وكأنّه يتأمّل. ولكنّه يتألّم.

 

«ولكن انظر يا معلّم، زوجتي المسكينة، ما أجمل الثوب الذي صَنَعَته لي، وهذا المعطف بالقبّعة! مَن يدري كم تَحَمَّلَت مِن الـمَشقّة، فهي ليست بارعة مثل أُمّكَ.» يقول بطرس الذي يَغتَبِط وذراعاه تَضمّان كنوزه.

 

«جميل، نعم، جميل، إنّها امرأة طيّبة.» يقول يسوع بأدب. ولكنّ نَظَره بعيد جدّاً عن الأشياء التي تُعرَض عليه.

 

«لقد حاكت لنا أمّنا ثوبين مُبَطّنين. يا للأُمّ المسكينة! هل يُعجِبانكَ يا يسوع؟ لونهما جميل، أليس كذلك؟» يقول يعقوب بن زَبْدي.

 

«جميل للغاية يا يعقوب، سوف يكون مُلائِماً لكَ جدّاً.»

 

«انظر إلى هذه الأَحزِمة. أُراهِن أنّ أُمّكَ هي التي صَنَعَتها. فهي التي تُوَشّي بهذه الجودة. وكذلك هذا الوِشاح الـمُبطَّن الواقي مِن الشمس، أقول إنّ مريم هي التي صَنَعَته. إنّه تماماً كالذي لكَ. أمّا الثوب فلا. مِن المؤكّد أن أُمّنا هي التي حاكته. يا للأمّ المسكينة! فَبَعد الدموع الكثيرة التي ذَرَفَتها هذا الصيف، لم تَعُد ترى جيّداً. وغالباً ما يُقطَع الخيط. يا للأمّ الحبيبة!» ويُقَبِّل يوضاس بن حلفى الثوب الثقيل الأحمر الكستناويّ.

 

«أنتَ لستَ فَرِحاً يا معلّم.» يُلاحِظ أخيراً برتلماوس. «حتّى إنّكَ لم تَنظُر إلى الأغراض الـمُرسَلة إليكَ.»

 

«هذا غير ممكن.» يُعَقِّب سمعان الغيور.

 

«أُفكّر... لكن... أعيدوا توضيب الرُّزم. ضعوا كلّ شيء في مكانه. لم يَحِن الوقت بعد للقبض علينا، ولن يُقبَض علينا. ففي وقت متأخّر ليلاً، وعلى ضوء القمر، سنمضي إلى دوكو ومِن ثمّ إلى بيت عنيا.»

 

«لماذا إلى دوكو؟»

 

«لأن هناك امرأة تحتضر وتنتظر منّي شفاءها.»

 

«ألن نمرّ عند الوكيل؟»

 

«لا يا أندراوس، لن نمرّ بأحد. وهكذا لا يُضطَرّ أَحَد إلى الكذب بقوله لا نعرف أين نكون. إذا كنتم مُهتَمّين بألّا تكونوا مُلاحَقين. فأنا متمسّك بألا أُسبّب المتاعب للعازر.»

 

«ولكن لعازر ينتظركَ.»

 

«وسنذهب إليه. أو بالحريّ... سمعان، هل تُسكِننا في دار خادمكَ العجوز؟»

 

«بكل سرور يا معلّم. تعرف كلّ شيء الآن. يمكنني إذن أن أقول لكَ باسم لعازر وباسمي وباسم الموجود هناك: هي لكَ.»

 

«هيا أَسرِعوا لنكون في بيت عنيا قبل السبت.»

 

وبينما يتفرّق الجميع مع مصابيحهم، لكي يَقوموا بما ينبغي مِن أجل الرحيل غير الـمُتَوقّع، يبقى يسوع وحيداً.

 

يعود أندراوس ويَدخُل، يذهب إلى جانب يسوع ويقول له: «وتلك المرأة؟ إنّني أَتأسّف على تركها الآن وقد أَصبَحَ مجيئها وشيكاً... إنّها حَذِرَة... رأيتَها.»

 

«اذهب وقُل لها إنّنا سنعود بعد وقت قليل، وفي هذه الأثناء فلتظلّ مُتَذكّرة أقوالكَ...»

 

«إنّها أقوالكَ أنتَ يا سيّدي. لم أَقُل لها سوى أقوالكَ.»

 

«اذهب، أَسرِع وانتبه لئلّا يراكَ أحد. بالحقيقة، في هذا العالم الفاسد، يجب أن يَظهَر الأبرياء بمظهر الأشرار...»

 

ويتوقّف كلّ شيء، بالنسبة لي، هنا عند هذه الحقيقة العُظمى.