ج6 - ف105
أَنَا هُوَ
ماريا فالتورتا
L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO
THE GOSPEL AS REVEALED TO ME
بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}
L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ
MARIA VALTORTA
الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.
الجزء السادس/ القسم الأول
105- (يسوع والمستعطي على الطريق المؤدّية إلى أريحا)
17 / 05 / 1944
أرى يسوع على طريق رئيسيّة، كثيرة التراب ومشمسة للغاية. ليس فيها أدنى ظلّ، أقلّ اخضراراً. فهي ليست سوى تراب على الطريق وعلى الريف البائر الذي يحاذيها.
حتماً هي ليست روابي الجليل اللطيفة، ولا جبال اليهوديّة الأكثر تشجيراً، الغنيّة جدّاً بالمياه والمراعي. هنا أرض بالطبع ليست صحراء، ولكنّ الإنسان جعلها تتصحّر بإهمالها. إنّه سهل، فأنا لا أرى تلالاً حتّى في البعيد. وبما أنّي لا أعرف فلسطين على الإطلاق، فلا يمكنني القول أيّة منطقة هي. بالتأكيد هي منطقة لم أرها قطّ في الرؤى السابقة. هناك أكوام مِن الحجارة على جانب مِن الطريق، وقد تكون جُمعت مِن أجل تأهيلها، إذا هي في وضع يُرثى له. في الوقت الحالي، هي مغطّاة بطبقة سميكة مِن التراب. وعندما تُمطر، تصبح سيلاً مِن الوحل. لا أرى بيوتاً، لا في القريب ولا في البعيد.
يسوع، كما على الدوام، يسير متقدّماً ببضعة أمتار على الرُّسُل الذين يتبعونه جماعة، يتصبّبون عرقاً وتعبين. للاحتماء مِن الشمس رفعوا معاطفهم على رؤوسهم وهم يبدون كأخويّة بثياب متعدّدة الألوان. يسوع، على العكس مِن ذلك، رأسه عار. يبدو أنّ الشمس لا تزعجه. يرتدي جلباباً مِن الكتان الأبيض بأكمام تصل حتّى المرفق (الكوع). هو عريض وهدل، ليس له الحبل الذي يكون عادة بمثابة الحِزام. إنّه حقّاً ثوب مِن أجل هذا المكان شديد الحرارة. حتّى المعطف مِن المفروض أنّه مِن الكتان المصبوغ بالأزرق، فهو ناعم جدّاً وينهدل بخفّة حول الجسم الذي يغلّفه أقلّ كثيراً مِن المعتاد. يغطّي الكتفين، إنّما يدع الذراعين حرّين. لستُ أدري كيف ثبّته ليجعله مثبّتاً هكذا.
هناك رجل جالس، شبه ممدّد على كوم مِن الحصى. فقير، مستعطٍ (شحاد) بالتأكيد. يرتدي (إذا أمكننا قول ذلك) جلباباً متّسخاً وبالياً، قد يكون سابقاً أبيضاً، ولكنّه الآن بلون الوحل. يحتذي زوجاً مِن الحذاء (الصندل) المشوّه، زوجاً مِن النعل المهترئ، مثبّتاً بخيط. في يده عصا عبارة عن غصن شجرة. على جبهته عصابة (رباط) وسخة، وعلى فخذه الأيسر، بين الركبة والحوض، قطعة قماش أخرى مدمّاة. البائس قد هزل، بحيث لم يعد سوى الجلد والعظم، مهيض الجناح، وسخ، منفوش الشعر أشعثه.
قبل حتّى أن يتوسّل يسوع، يمضي يسوع إليه. يدنو مِن البائس ويَسأَله: «مَن تكون؟»
«فقير يسأل خبزاً.»
«على طول هذه الطريق؟»
«أنا ماضٍ إلى أريحا»
«الطريق طويلة والمنطقة خالية مِن السكّان.»
«أعلم ذلك، إنّما مِن الأسهل الحصول على الخبز وقطعة مِن الدراهم مِن الوثنيّين المارّين في هذه الطريق منه مِن اليهود الذين آتي مِن عندهم.»
«أنتَ تأتي مِن اليهوديّة؟»
«نعم، مِن أورشليم. إنّما كان عليَّ أن أقوم بدورة طويلة لأمرّ بأناس طيّبين مِن الريف يمدّون لي على الدوام يد العون. في المدينة، لا. ليس فيها رحمة.»
«أحسنتَ قولاً. لا رحمة فيها.»
«أنتَ رحيم. هل أنتَ يهوديّ؟»
«لا، مِن الناصرة.»
«في الماضي كان لأهل الناصرة سمعة سيّئة، أمّا الآن يجب القول إنّهم أفضل مِن أهل اليهوديّة. حتّى في أورشليم، ما مِن صالح إلاّ أولئك الذين يتبعون الناصريّ الذي يقال عنه بأنّه نبيّ. هل تعرفه؟»
«وأنتَ، هل تعرفه؟»
«لا. ذهبتُ هناك، إذ كما ترى، لديَّ ساق ميتة وملتوية وأجرّ نفسي بصعوبة. لا يمكنني العمل وأموت مِن الجوع وتحت الضربات. كنتُ آمل أن ألتقيه، إذ قيل لي إنّه يشفي الذين يلمسهم. صحيح أنّني لستُ مِن الشعب المختار... ولكن يقال إنّه طيّب مع الجميع. كان قد قيل لي بأنّه كان في أورشليم مِن أجل عيد الأسابيع (شفوعوت). إنّما أنا أسير ببطء... وقد ضُرِبتُ ومرضتُ في الطريق... وعندما وصلتُ إلى أورشليم كان قد ذهب لأنّه، كما قيل لي، أساء اليهود معاملته هو أيضاً.»
«وأنتَ أساؤوا معاملتكَ؟»
«على الدوام. فقط الجنود الرومان يمنحونني الخبز.»
«وماذا يقال في أورشليم، فيما بين الشعب، عن هذا الناصريّ؟»
«يقال إنّه ابن الله، نبيّ عظيم، قدّيس، حقّ.»
«وأنتَ، مَن تظنّ أن يكون؟»
«أنا، عابد أصنام، ولكنّني أؤمن أنّه ابن الله.»
«كيف يمكنكَ الإيمان بذلك إذا كنتَ لا تعرفه حتّى؟»
«أعرف أعماله. فقط يمكن لإله أن يكون صالحاً وأن يكون لديه كلام كالذي لديه.»
«مَن قال لكَ هذا الكلام؟»
«فقراء آخرون، مرضى نالوا الشفاء، أطفال كانوا يحملون لي الخبز... الأطفال طيّبون ولا يعلمون شيئاً عن المؤمنين وعابدي الأوثان.»
«ولكن مِن أين أنتَ؟»
«...»
«قلها. أنا مثل الأطفال. لا تخف. عليكَ فقط أن تكون صادقاً.»
«أنا... سامريّ. لا تضربني...»
«أنا أبداً لا أضرب أحداً. لا أحتقر أحداً. أُشفِق على الجميع.»
«إذاً... إذاً أنتَ رابّي الجليل!»
يجثو المستعطي، يَسقط ككومة، وجهه في التراب، في أسفل كوم الحصى، أمام يسوع.
«انهض، هو أنا. لا تخف. انهض وانظر إليَّ.»
يرفع المستعطي وجهه وهو ما يزال جاثياً على ركبتيه، منقبضاً على نفسه بسبب عاهته.
«أعطوا هذا الرجل خبزاً وليشرب» يَطلب يسوع مِن التلاميذ الذين أَقبَلوا.
إنّه يوحنّا الذي يقدّم الخبز والماء.
«اجعله يجلس ليأكل براحة. كُلْ، يا أخي.»
المسكين يبكي. لا يأكل. يَنظُر إلى يسوع بعيني كلب تائه يجد نفسه، لأوّل مرّة، يُلاطَف ويَشبع مِن أحد يتمتّع بالرحمة.
«كُلْ!» يطلب منه يسوع مبتسماً.
يأكل المسكين بين بكائين والدموع تبلّل خبزه، إنّما مع دموعه هناك ابتسامة كذلك. يَسكن روعه ببطء.
«مَن سبّب لكَ هذا الجرح؟» يَسأَل يسوع وهو يلمس بإصبعه رباط الجبهة الملطّخة.
«إنّه فرّيسيّ غنيّ صَدَمَني متعمّداً بعربته... كنتُ قد جلست عند مفترق طرق طلباً للخبز. وجّه جياده باتّجاهي بسرعة بحيث لم أستطع الحياد. كدتُ أموت. ما يزال هناك ثقب في رأسي يَخرج منه قيح.»
«وهنا، مَن ضربكَ؟»
«كنتُ قد اقتربتُ مِن بيت أحد الصدّوقيّين، حيث كانت وليمة، لطلب بقايا المائدة، بعد أن كانت الكلاب قد أَكَلَت أفضل ما فيها. فرآني وأَرسَلَ كلابه خلفي. أحدها مزّق فخذي.»
«وهذه الندبة الكبيرة، مَن هو الذي عطّل لكَ يدكَ؟»
«هي ضربة عصا مِن أحد الكَتَبَة، منذ ثلاثة أعوام. عرف بأنّني سامريّ فضربني كاسراً لي أصابعي، وهكذا لا يمكنني العمل. يدي اليمنى معطّلة، ساق ميتة، فكيف يمكنني كسب معيشتي؟»
«ولكن لماذا تَخرُج مِن السامرة؟»
«الحاجة أمر بشع، يا معلّم. نحن المساكين كُثُر، وما مِن خبز يكفي للجميع. ليتكَ تساعدني...»
«ماذا تريدني أن أفعل لكَ؟»
«أن أُشفى كي أعمل.»
«هل تؤمن بأنّني أستطيع ذلك؟»
«نعم، أؤمن، فأنتَ ابن الله.»
«هل تؤمن بذلك أنتَ؟»
«أؤمن.»
«أنتَ، السامريّ، تؤمن بذلك؟ لماذا؟»
«لماذا، لا أعلم. أعلم أنّني أؤمن بكَ وبمن أرسلكَ. الآن وقد أتيتَ فلم يعد مِن فرق في العبادة. تكفي عبادتكَ لعبادة أبيكَ، الربّ الأزليّ. حيث تكون أنتَ، يكون الآب»
«هل تَسمعون، يا أصدقاء؟ (يلتفت يسوع إلى التلاميذ). هذا الرجل يتكلّم بفضيلة الروح القدس الذي ينير له الحقيقة. وهو، في الحقيقة، أسمى مِن الكَتَبَة والفرّيسيّين، والصدّوقيّين غليظي القلب، مِن كلّ هؤلاء الوثنيّين الذين يَدَّعون كَذِباً أنّهم أبناء الشريعة. الشريعة تقول إنّه بعد الله يجب حُبّ القريب. وهؤلاء الناس يُقدّمون الضربات للقريب المتألّم والذي يطلب خبزاً ، ضدّ القريب الذي يتواضع لأدنى مِن كلاب الأغنياء، يُرسِلون الكلاب ذاتها لجعله أكثر بؤساً مما كان العوز يفعل. محتقِرين، متوحّشين، بِرِياء، لا يريدون أن يكون الله معروفاً ومحبوباً. فلو كانوا يريدون ذلك لكانوا جعلوه معروفاً بأعمالهم، كما قال هذا. إنّها الأعمال وليست الممارسات، التي تجعل الله يُرى حيّاً في قلب البشر والتي تقود الناس إلى الله.
وأنتَ يا يهوذا، يا مَن تلومني لكوني متهوّراً، ألم يكن لزاماً عليَّ، ألم يكن لزاماً عليَّ أن أضربهم بملاماتي؟ فالصمت، التظاهر بموافقتهم، سيكون هذا بمثابة الموافقة على سلوكهم. لا. مِن أجل مجد الله، لا يمكنني، أنا ابنه، السماح بأن يظنّ المساكين والمتواضعون والصالحون أنّني، أنا، أوافق على خطيئتهم. لقد أتيتُ لأجعل مِن الوثنيين أبناء لله، ولكن لا يمكنني فِعل ذلك إذا كانوا هُم يَرَون أبناء الشريعة -يَدَّعون ذلك، ولكنّهم فاسدون- يُمارِسون وثنيّة أكثر إثماً مِن التي لهم. بالفعل، هؤلاء اليهود قد عرفوا شريعة الله والآن هم يبصقون عليها، مثل حيوانات نجسة، قيء أهوائهم المشبعة. هل عليَّ الظنّ، يا يهوذا، أنّكَ مثلهم؟ أنتَ يا من تلومني على الحقائق التي أقولها؟ أم عليَّ التفكير بأنّكَ قَلِق على حياتكَ؟ على مَن يتبعني أن يتجرّد عن الاهتمامات البشريّة. أنا، قلتُ ذلك. ما زال الوقت متاحاً، يا يهوذا، للاختيار بين طريقي وتلك التي لليهود التي توافق عليها. وفي هذه الأثناء فَكّر: طريقي تقود إلى الله، والأخرى تقود إلى عدوّ الله، فكّر وقرّر، إنّما كن صادقاً.
وأنتَ يا صديقي، انهض وامشِ. انزع هذه العصابات. عد إلى بيتكَ. لقد برئتَ بسبب إيمانكَ.»
يَنظُر إليه المستجدي بدهشة. لا يجرؤ على مدّ يده... ثمّ يُحاوِل. إنّها سليمة، وقد عادت مماثلة لليد اليسرى. يدع العصا جانباً، يتّكئ بيديه على كوم مِن الحجارة ويبذل جهداً. ينهض. الشلل الذي كان يشوّه ساقه قد شفي. يحرّك ساقه، يثنيها... يخطو خطوة، اثنتين، ثلاث. يسير... يَنظُر إلى يسوع، هاتفاً وباكياً مِن الفرح. يَنزَع العصابة من على رأسه. يتفحّص نفسه مِن جانب القذال (قفا الرأس) حيث كانت الحفرة الملتهبة. ما مِن شيء. كلّ شيء قد برئ. ينزع مِن العصابة القماش الملطّخ بالدم: البشرة سليمة.
«أيّها المعلّم، معلّمي وإلهي!» يهتف رافعاً ذراعيه ومرتمياً بعد ذلك على ركبتيه لتقبيل قدميّ يسوع.
«اذهب الآن إلى بيتكَ، وآمن بالربّ على الدوام.»
«وماذا ينبغي لي أن أفعل، يا معلّمي وإلهي، إن لم يكن اتباعكَ أنتَ القدّيس والصالح؟ لا تُقصِني يا معلّم...»
«اذهب إلى السامرة وتحدّث عن يسوع الناصريّ. ساعة الفِداء أضحت قريبة. كُن تلميذي لدى إخوتكَ. اذهب بسلام.»
يباركه يسوع ويفترقون. يمضي الرجل المبرأ برشاقة صوب الشمال، وهو يلتفت بين الفينة والأخرى لينظر مِن جديد.
يسوع، مع الرُّسُل، يَخرُج عن الطريق ويَلِجون في حقول مُهمَلة باتجاه الشرق عبر درب يقطع الطريق الرئيسيّة وهو لا يتّسع إلاّ بعد مسافة بعيدة. قد تكون طريق أريحا. لستُ أدري.