ج6 - ف93

أَنَا هُوَ

ماريا فالتورتا

L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO

THE GOSPEL AS REVEALED TO ME

بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}

L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ

MARIA VALTORTA

الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.

 

الجزء السادس/ القسم الأول

 

93- (في الطريق إلى عِمّاوس السهل)

 

27 / 03 / 1946

 

يُلقِي الفجر نوراً أخضر حليبيّاً على قبّة السماء، فوق الوادي الصامت والمنعش. ثمّ إنّ هذا الضياء غير المحدّد، الذي هو نور وهو ليس بنور بعد، يَغمر قمّة المنحَدَرَين. يبدو وكأنّه يداعب أعلى قمم جبال اليهوديّة ويقول للأشجار العتيقة التي تكلّلها: "ها أنذا، أَنزل مِن السماء، آتي مِن الشرق، سابقاً الفجر، طارداً الظلمات، حاملاً النور، النشاط، وبركة يوم جديد يمنحكم إيّاه الله." وتستيقظ القمم مع تنهّد الأوراق، زقزقة طلائع العصافير، المستيقظة بأوّل ارتعاشة للأغصان، ببوادر الضياء هذه. ويستمر الفجر بالهبوط صوب خُضرة الأدغال، ثمّ صوب الأعشاب، ثمّ صوب المنحدرات، إلى الأسفل أكثر فأكثر، ويُستَقبَل بزقزقات تتزايد بين الأوراق وخشخشة السحليّات المستيقظة بين الأعشاب. ومِن ثمّ يَبلغ السيل في العمق، يغيّر ماءه الداكن إلى بريق فضّة كامد لا يكفّ عن الاستنارة والسطوع. وفي الأعلى، في السماء، حيث نِيل الليل كان بالكاد قد انكشف إلى زُرقة شاحبة مخضرّة للفجر، يُرسَم أوّل إعلان للفجر صابغاً إيّاه بزُرقة فاتحة مَشوبة باللون الورديّ... ثمّ ها هو سحاب خفيف، على شكل نُدَف يصل، مُزبِداً وورديّاً…

 

يَخرج يسوع مِن المغارة ويَنظُر... ثمّ يغتسل في السيل، يمشط شعره، يلبس ثيابه، يُلقي نظرة داخل المغارة... لا ينادي أحداً... على العكس هو يرتقي الجبل ويمضي ليصلّي على أنف الجبل الناتئ، وهو على ارتفاع كاف ليعطي نظرة واسعة على الشرق الذي أصبح ورديّاً بفضل الفجر، وعلى الغرب الذي ما يزال مصبوغاً بالنّيل. يصلّي... يصلّي جاثياً بحرارة، مِرفقاه على الأرض، يكاد يكون ممدّداً... ويصلّي هكذا إلى أن تصل مِن الأسفل أصوات الرُّسُل الاثني عشر الذين استيقظوا وينادونه.

 

يَنهَض ويجيب: «ها أنا آتٍ!» وصدى الوادي الضيّق يُرجّع صدى الصوت الكامل مرّات عدّة. يبدو وكأنّ الوادي ينقل إلى السهل، الذي يَظهَر في الغرب، وَعد الربّ: «ها أنا آتٍ.» لكي يبتهج به السهل مسبقاً.

 

يبدأ يسوع المسير وهو يتنهّد ويتلفّظ بجملة تُلخّص صلاته الطويلة وتفسّرها: «وأنتَ، أيّها الآب، امنحني تعزيتكَ...»

 

ينحدر مسرعاً، ولدى وصوله إلى أسفل، يحيّي رُسُله بابتسامة لطيفة وبالعبارات المعهودة: «السلام معكم في هذا اليوم الجديد.»

 

«ولكَ يا معلّم.» يُجيب الرُّسُل. جميعهم بما فيهم يهوذا. لستُ أدري إذ ما كان قد اطمأنّ لصمت يسوع الذي لم يلمه ويعامله كما الآخرون جميعهم، أو إذا ما كان قد تأمّل أثناء الليل بمخطّط للتخلّص مِن المأزق. نظرته أقلّ شزراً وأصبَحَ أقلّ تنحّياً، حتّى إنّه هو بالذات الذي يطرح السؤال باسم الجميع: «هل نحن ماضون إلى أورشليم؟ إن كان نعم، يجب العودة إلى الخلف قليلاً وسلوك هذا الجسر. فبعده طريق تؤدّي مباشرة إلى أورشليم.»

 

«لا. نمضي إلى عِمّاوس السهل.»

 

«ولكن لماذا؟ والعنصرة؟»

 

«هناك متّسع مِن الوقت. أودُّ الذهاب إلى نيقوديموس ويوسف، عبر السهول صوب البحر...»

 

«ولكن لماذا؟»

 

«لأنّني لم أذهب بعد هناك وهذا الشعب ينتظرني... ولأنّ التلاميذ الصالحين رغبوا في ذلك. سيكون لنا الوقت الكافي لنفعل كلّ شيء.»

 

«أهذا ما قالته لكَ يُوَنّا؟ ألأجل هذا استدعتكَ؟»

 

«لم يكن مِن حاجة لذلك. فلي، مباشرة، لي أنا قيل ذلك، أثناء أيّام الفصح. ثمّ أنا أمين لمواعيدي.»

 

«أنا، لن أذهب إلى هناك... قد يكونون الآن في أورشليم... العيد قريب... ومن ثمّ... قد تلتقي بأعداء، و...»

 

«أعداء، ألتقيهم في كلّ مكان، وهم قريبون منّي على الدوام...» ويَحدج (يرمق) يسوع بِنَظرة الرسول الذي هو ألمه... لم يعد يهوذا يتكلّم. فخطر جدّاً الذهاب إلى أبعد مِن ذلك! يحسّ به ويصمت.

 

يعود أندراوس ويوحنّا بثمار صغيرة تبدو وكأنّها مِن فصيلة العلّيق أو ما شابه، ولكنّها أكثر قتامة، تكاد تكون كالتوت الذي لم ينضج بعد، ويقدّمانها للمعلّم: «ستعجبك. لقد انتبهنا لها أمس مساء، وقد صعدنا لنقطفها لكَ. كُلها، يا معلّم. إنّها لذيذة.»

 

يُلاطِف يسوع الرسولين الشابّين الصالحين اللذين يقدّمان له ثمارهما على ورقة عريضة غَسَلاها في السيل، واللذين، علاوة على الثمار، يقدّمان له حبّهما. يختار يسوع أجمل الثمار ليقدّم القليل منها لكلّ رَسول. يأكلونها مع الخبز.

 

«لقد بحثنا عن حليب لكَ، ولكن لم يكن مِن رُعاة بعد...» يقول أندراوس معتذراً.

 

«لا يهمّ. فلننطلق بسرعة لنصل إلى عِمّاوس قبل أن تشتدّ الحرارة.»

 

يَمضون وذوو الشهيّة ما يزالون يأكلون أثناء السير. يتّسع الوادي الرطب أكثر فأكثر لينتهي بأن ينفذ إلى سهل خصيب حيث الحصّادون في أوج عملهم.

 

«لم أكن أدري أنّ لنيقوديموس بيوتاً في عِمّاوس.» يُبدي برتلماوس ملاحظته.

 

«ليس في عِمّاوس، بل أبعد. حقول وَرِثها مِن الأهل...» يشرح يسوع.

 

«يا لها مِن أرياف جميلة!» يقول تدّاوس.

 

بالفعل هو بحر مِن السنابل المذهّبة تتخلّلها بساتين أحلام، كُروم أصبحت تَعِد بموسم عناقيد فاخر. فهي مرويّة بمئات مِن السيول الصغيرة المنحدرة مِن الجبال القريبة، في الأشهر التي تكون فيها بأكثر حاجة للسقاية، مع عروق مِن المياة الباطنيّة، إنّها عدن زراعية حقيقيّة.

 

«هوم! إنّها أجمل مِن تلك التي للعام الماضي. على الأقلّ فيها ماء وثمار...» يتمتم بطرس.

 

«تلك التي لشارون هي أجمل.» يجيبه الغيور.

 

«ولكن أليست هي هذه؟»

 

«لا، هي فيما بعد هذه. ولكنّ هذه قريبة منها...» ويَشرع الرّسولان بالكلام فيما بينهما، مبتعدَين قليلاً.

 

«أملاك فرّيسيّين، أليس كذلك؟» يَسأَل يعقوب بن زَبْدي. مشيراً إلى القرية الجميلة.

 

«بالتأكيد هي ليهود. لقد استولوا على أحسن الأراضي بألف طريقة مِن المالكين الأوائل!» يجيبه تدّاوس الذي مِن المحتمل أنّه يتذكّر الخيرات الأبويّة في اليهوديّة التي طُردوا منها فاقدين بذلك جزءاً كبيراً مِن ثروتهم.

 

غَضِب الاسخريوطيّ بشدّة: «إذا ما أُخِذَت منكم فلأنّكم، أنتم الجليليّين، أقلّ قداسة، أدنى مرتبة...»

 

«أرجوكَ أن تتذكّر أنّ حلفى ويوسف كانا مِن نسل داود. لذلك أرغمهما المنشور بالذهاب إلى بيت لحم اليهوديّة للاكتتاب. وهو قد وُلِد هناك لهذا السبب.» يُجيب يعقوب بن حلفى بهدوء متلافياً الردّ القارص لأخيه المندَفِع، ومشيراً إلى الربّ الذي يتحدّث إلى متّى وفليبّس.

 

«آه! حسناً!» يقول توما المسالم والبارّ. «أنا، مِن جهتي، أقول إنّ هناك الصالح والطالح في كلّ مكان. ففي تجارتنا قابلنا أناساً مِن كُلّ جنس وأؤكّد لكم أنّني وجدت أناساً نزيهين وأناساً غير نزيهين في جميع الأنساب. وثمّ... لماذا التبجّح لكون المرء مِن اليهود؟ ألعلّنا نحن الذين أردنا ذلك؟ هوم! هل كنتُ أعلم عندما كنتُ في بطن أُمّي ما كان يعني أن أكون يهوديّاً أو جليليّاً؟! كنتُ هناك... وبقيتُ. وعندما وُلِدتُ، كنتُ في القمط، دافئاً، دون أن أتساءل ما إذا كان الهواء الذي أتنفّسه يهوديّاً أو جليليّاً... لم أكن أعرف سوى ثدي أُمّي... وجميعنا مثل حالي. والآن لماذا الغضب هكذا لأنّ واحداً وُلِد في العالي والآخر في الأسفل؟ ألسنا جميعنا متماثلين مِن إسرائيل؟»

 

«أنتَ مُحقّ يا توما.» يجيب يوحنّا. ويخلص بالقول: «وثمّ الآن، نحن مِن أصل واحد، الذي ليسوع.»

 

«نعم، هو -أظنّ ذلك مِن إرادته تعالى، ليُفهمنا أنّ الانقسامات هي عكس حبّ القريب، وأنّه أُرسِل ليجمعنا كلّنا كالدجاجة الودودة التي تتحدّث عنها الكتب المقدّسة- فهو مِن أصل يهوديّ، وقد حُبِل به وسَكَن في الجليل، بعد أن وُلِد في بيت لحم، كما ليقول لنا بلسان المجريات إنّه هو فادي اسرائيل كلّها، مِن شمالها إلى جنوبها. وفقط لأنّه دُعي "الجليليّ" فينبغي ألاّ نَحتَقِر الجليليّين.» يقول يعقوب بن حلفى بوداعة وثبات.

 

يسوع، الذي كان على بُعد أمتار ويبدو وكأنّه منشغل بالتحدّث إلى متّى وفليبّس، يلتفت ليقول: «أحسنتَ قولاً، يا يعقوب بن حلفى. أنتَ تَفهم الحقّ والحقائق، وعدالة أفعال الله كلّها. بالفعل، تذكّروا جميعكم وعلى الدوام، أنّ الله لا يفعل شيئاً مطلقاً دون هدف، وفي الوقت ذاته لا يدع فِعلاً يقوم به ذوو القلوب المستقيمة دون مكافأة. طوبى للذين يعرفون رؤية أفكار الله في الأحداث حتّى الأكثر إبهاماً، وردود الله على تضحيات الناس.»

 

يلتفت بطرس وهو على وشك الكلام. ثمّ يصمت ويكتفي بالابتسام لمعلّمه الذي ينضمّ الآن إلى رُسُله، إذ إنّهم يسيرون الآن على طريق ذات حركة واسعة عبر حقول مذهّبة.

 

يسيرون نحو عِمّاوس التي أَصبَحَت قريبة، مجموعة مِن البيوت البيضاء بشكل ساطع وسط اللون الأشقر للحبوب اليانعة والبساتين المخضوضرة.

 

«يا معلّم! يا معلّم! توقّف! تلاميذكَ!» تهتف أصوات بعيدة، بضعة رجال، تاركين في المكان فلاحين يأخذون قسطاً مِن الراحة في ظلّ شجرة تفّاح، يهرعون إلى يسوع عبر ممرّ مُشمس. إنّهم متّياس ويوحنّا، راعيان سابقان، وتلميذان ليوحنّا المعمدان فيما بعد، ومعهما نيقولاوس وهابيل، أبرصان سابقان، صموئيل وهرمست وآخرون أيضاً.

 

«السلام لكم. أأنتم هنا؟»

 

«نعم، يا معلّم. لقد عَمِلنا في كلّ شواطئ البحر. والآن كنّا ذاهبين إلى أورشليم. في الأعلى هناك استفانوس مع آخرين. وثمّ إسحاق، معلّمنا الصغير، في مكان أعلى، أقلّه كان هناك. وكذلك تيمون كان فيما وراء الأردن. ولكنّهم مِن الآن سيكونون جميعاً في طريقهم إلى عيد العنصرة. لقد انطلقنا في مجموعات، صغيرة، ولكنّها لم تكن غير فاعلة. وهكذا إذا ما اضطهدونا، فيمكنهم القبض على البعض، وليس على الجميع.» يشرح متّياس.

 

«أحسنتم صنعاً. فلقد دُهِشتُ لعدم رؤيتكم في اليهودية الجنوبيّة كلّها...»

 

«يا معلّم... كنتَ ذاهباً إلى هناك... ومَن هو أفضل منكَ؟ وثمّ... آه! لقد كان لليهوديّة أكثر ممّا يجب لتصبح قدّيسة!... ومع ذلك!... هي ترجم مَن يحمل لها كلمة السماء. لقد ضُرب إيلي ويوسف في شُعَب قدرون وذهبا إلى ما وراء الأردن، إلى بيت سليمان. وكان يوسف على وشك الموت بحجر في الرأس. ولقد مكثوا في مغارة عميقة ثمانية أيّام، مع أحدهم أرسلتَه أنت وكان يعرف كلّ أسرار الجبال. ثمّ، على مهل، ذَهبوا ليلاً إلى الجهة الأخرى...»

 

خُضَّ التلاميذ والرُّسُل لذكرى ونبأ هذه الاضطهادات، ولكنّ يسوع يُهدّئهم قائلاً: «لقد صَبَغَ الأبرياء طريق المسيح بأرجوان دمهم البريء. ولكن على هذه الطريق أن تكون أرجوانيّة على الدوام لتمحو بصمات الشرّ على طريق الله. إنّها الطريق الملوكيّة. الشهداء يصبغونها بالأرجوان حبّاً بي. طوباويّون، بين الطوباويّين، هم الذين يتألّمون مِن الاضطهاد بسببي.»

 

«يا معلّم، كنّا نتحدّث إلى هؤلاء الفلاّحين. أنتَ، ألن تتحدّث الآن؟»

 

«امضوا وقولوا لهم إنّني سأتكلّم عند الغسق قرب باب عِمّاوس. الآن الشمس تمنعني. اذهبوا. وليكن الله معكم. سأكون في نهاية هذه الطريق.»

 

يباركهم ويعاود المسير باحثاً عن الظلّ، فالشمس حارقة على الطريق البيضاء التي يلقي بعض النبات المزروع على الجانبين بعض الظلّ.