ج2 - ف63
أَنَا هُوَ
ماريا فالتورتا
L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO
THE GOSPEL AS REVEALED TO ME
بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}
L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ
MARIA VALTORTA
الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.
الجزء الثاني / القسم الثاني
63- (يسوع في بحيرة طبريّا. تعليم التلاميذ قرب هذه البلدة)
05 / 02 / 1945
يسوع مع جميع أتباعه، وقد أصبحوا ثلاثة عشر بالإضافة إليه. إنّهم سبعة في كلّ مركب في بحيرة الجليل. يسوع في مركب بطرس، وهو في الطليعة مع بطرس وأندراوس وسمعان ويوسف وابنيّ عمّه. وفي المركب الآخر ابنا زَبْدي مع الآخرين وهم الاسخريوطيّ وفليبّس وتوما ونثنائيل ومتّى.
يسير المركبان بسرعة بفضل الأشرعة، مدفوعَين بريح الشمال الرطبة التي تُشكّل على سطح المياه مجموعة كبيرة مِن التضاريس الخفيفة، وهي تكاد تكون ظاهرة مِن خلال خطوط مِن الزَّبَد ترسم نوعاً مِن الشف (Tulle) على أُفُق البحيرة الجميلة والهادئة الفيروزيّ. يتقدّم المركبان مخلِّفَين وراءهما مجرّتي سفن تلتقيان مُشَكّلتين زَبَدهما البهيج في خطّ واحد ضاحك على سطح الماء. تسيران بشكل ثابت، مركب بطرس يتقدّم الآخر بحوالي المترين.
مِن مركب لآخر، والمسافة بين التلاميذ لا تتعدّى الأمتار القليلة، يتمّ تبادُل الأحاديث والأفكار والتأمّلات. استَخلَصتُ منها أنّ الجليليّين يشرحون لليهود تفاصيل عن البحيرة وعن تجارتهم وشخصيّاتهم، وعن المسافات بين نقاط الانطلاق ونقاط الوصول، أي بين كفرناحوم وطبريّا. فالمراكب ليست مُعَدَّة للصيد إنّما لنقل الأشخاص.
يَجلس يسوع على مقدّمة المركب، يملؤه الحبور بشكل جليّ مِن الجمال الذي يحيط به، ومِن الصمت، ومِن كلّ هذا الأفق الصافي للسماء والمياه، وقد أحاطَت به الضفاف الخضراء، حيث تتوزّع قرى بيضاء في عمق الاخضرار. يتجرّد عن أحاديث التلاميذ، فهو على مقدّمة المركب، شبه ممدّد على كَوم مِن الأشرعة، ووجهه مُنحَن على مرآة الزفير هذه التي هي البحيرة، وكأنّه بصدد دراسة الأعماق، والاهتمام بكلّ ما يعيش في مياهها الصافية جدّاً. ولكن، مَن يدري بماذا يُفكّر... يسأله بطرس مرّتين ليعرف ما إذا كانت الشمس تضايقه. فالشمس قد سطعت في الشرق، ولَفَحَت المركب بأشعّتها التي لم تصبح بعد حارِقة، إنّما حارّة. ومِن جديد يَسأَله إذا ما كان يريد خبزاً وجبناً كالآخرين. ولكنّ يسوع لا يريد شيئاً، لا أشرعة ولا خبزاً. يدعه بطرس بسلام. مجموعة مِن المراكب الصغيرة الـمُستَخدَمة للتنـزّه على البحيرة، أحدها مُزيّن بمظلات أرجوانيّة فاخِرة ومَسانِد ممتعة، تقطع الطريق على مراكب الصيّادين. أصوات، ضحكات صاخبة ممزوجة بروائح عطريّة. هي مليئة بالنساء الجميلات والرومان والفلسطينيين الـمُبتَهِجين، الغالبيّة رومان مع أقليّة مِن الفلسطينّيين ويُفتَرَض وجود بعض اليونانيّين. استَنتَجتُ ذلك مِن كلام شاب نحيف، ممشوق القامة، أسمر مثل زيتونة شبه ناضجة، ومتأنّق. يرتدي رداء قصيراً أحمراً له أهداب مِن الأسفل، وهو محصور عند الخصر بحزام قد صِيغ صِياغة لامعة. وهو يقول: «البلاد الإغريقيّة جميلة، ولكن وطني الأولمبّي ليس فيه، مع ذلك، هذا الأُفُق وهذه الزهور. فلا عَجَب، بالحقيقة، إذا ما كانت الآلهة قد تَرَكَته لتأتي وتقيم هنا. فلنَرشق الآلهة، ليس اليونانيّة، بل اليهوديّة، بأوراق الزهور والورود وبتكريمنا...» ويَرمي على نساء مركبه تويجات ورود رائعة، ويَرمي أُخرى على المركب المجاور. يردّ أحد الرومانيّين: «ارشق الورد، ارشق أيها اليوناني! إنّما أنا ففينوس معي. ولن أرمي الزهور، بل أَقطُف الورود مِن على هذا الفم الجميل. وفي هذا متعة أكبر!» وينحني ليُقبّل فم مريم المجدليّة المبتسم، وهي نصف مُمَدَّدة على الـمَسانِد، ورأسها الأشقر على صدر الرومانيّ.
الآن، تتوجّه المراكب الصغيرة مباشرة باتّجاه المراكب الثقيلة. إن بسبب عدم مهارة الجذّافين، أو بسبب الرياح، وتكاد تصطدم، فيصرخ بطرس غاضباً، بينما هو ينعطف بحركة عنيفة لتَجنُّب الصدمة: «إذا كنتم حريصين على حياتكم فانتبهوا.» وتتعاقب، في المراكب الصغيرة، الشتائم مِن الشباب وصرخات الخوف مِن النساء. الرومان يشتمون الجليليّين بقولهم: «ابتعدوا أيّها اليهود الكلاب.» ولا يسكت بطرس وباقي الجليليّين على الإهانة، خاصّة بطرس، أحمراً مِثل عرف الديك، واقفاً على حافة المركب الذي يترنّح بشدّة، يداه على حقويه، ويَردّ واحدة بواحدة، لا يُوفّر أحداً رومانيّاً كان أو يونانيّاً، وكذلك اليهود واليهوديّات. بل على العكس، يُوجّه سَيلاً مِن التسميات الفخريّة، لا أنقُلها. تدوم الملاسنة طالما الاضطراب لم ينته، ثمّ يمضي كلّ في طريق.
لم يُبَدِّل يسوع وضعيّته أبداً. يبقى جالساً وكأنّه غائب، دون النَّظَر أو التكلّم مع المراكب وشاغِليها. متّكئاً على مرفقه، يستمرّ في النَّظَر إلى الضفّة البعيدة وكأنّ شيئاً لم يكن ليحدث. تَصِل إليه زهرة، لستُ أدري مَن رماها، إنّما هي حتماً مِن إحدى النساء، فلقد سَمِعتُ انفجار ضحكتها الـمُرافِقة للحركة. إنّما هو لا شيء. تَصدُم الزهرة وجهه وتهوي على الأرض، منتهية عند قَدَميّ بطرس الذي يغلي.
عندما أوشَكَت المراكب على الابتعاد، عند ذلك رأيتُ المجدليّة، وقد انتَصَبَت واقفة وهي تتبع الاتّجاه الذي تُعيّنه لها رفيقة الرذيلة، مُحدّقة بعينيها الرائعتين في وجه يسوع الهادئ والبعيد. كَم هذا الوجه بعيد عن العالم!...
ويصيح الاسخريوطيّ: «قُل لي يا سمعان، وأنتَ اليهوديّ مثلي، قُل لي. ولكن هذه الجميلة الشقراء على صدر اليونانيّ، هذه التي وَقَفَت للتوّ، أليسَت أخت لعازر الذي مِن بيت عنيا؟»
فيُجيب سمعان الكنعانيّ بجفاء: «أنا لا أعرف شيئاً. فمنذ وقت قريب عُدتُ بين الأحياء، وهذه المرأة شابّة...»
«لا أخالُكَ تريد أن تقول لي إنّكَ لا تعرف لعازر الذي في بيت عنيا! فإنّني أَعلَم جيّداً أنّكَ صديقه وأنّكَ زرتَه في بيته مع المعلّم.»
«وإن يكن؟»
«لطالما هو كذلك، فينبغي أن تعرف هذه الخاطئة التي هي أخت لعازر، والتي حتّى القبور تعرفها! منذ عشر سنوات جَعَلَت الناس يتحدّثون عنها. ما كادت تبلغ السنّ حتّى ظَهَرَت لَعوباً. ولكن منذ أربع سنوات! لا يمكن أن تَجهَل الفضيحة، حتّى ولو كنتَ في "وادي الأموات". فلقد تَحَدَّثَت عنها أورشليم برمّتها. ومنذ ذلك الحين اعتَكَفَ لعازر في بيت عنيا... حسناً فَعَلَ. لم يعد أحد يطأ قصره الرائع في صهيون، حيث كانت ما تزال تروح وترجع، ما زالت تتردّد. أسمع مقولة: "لا أحد قدّيس". أمّا في الريف فالكلّ يَعلَم!... ومِن ثمّ فهي مع ذلك في كلّ مكان ما عدا بيتها... والآن، إنّها بالتأكيد في مجدلة. قد تكون وَجَدَت حُبّاً جديداً... ألا تجيب؟ هل بإمكانكَ تكذيبي؟»
«أنا لا أُكَذِّب. إنّني أصمت.»
«إذاً، إنّها هي! وأنتَ ذاتكَ تَعَرَّفتَ عليها!»
«لقد رأيتُها صغيرة، وقد كانت طاهرة حينذاك. والآن أعود لأراها ثانية. ولكنّني عرفتُها. بالرغم مِن كونها قليلة الحياء، فمظهرها يُذَكِّر بمظهر أُمّها، إنّما تلك فقد كانت قدّيسة.»
«إذن لماذا كُدتَ تنفي أنّها أخت صديقكَ؟»
«إنّنا نحاول إخفاء جراحنا وجراح الذين نحبّهم، خاصّة عندما نكون شرفاء.»
يبتسم يهوذا ابتسامة صفراويّة.
«إنّكَ تُحسِن التكلّم يا سمعان. وأنتَ رجل شريف.» يبدي بطرس ملاحظته على ذلك.
«وهل تَعَرَّفتَ عليها؟ إنّكَ بكل تأكيد تذهب إلى مجدلة لبيع السمك، ومَن يدري كم مرّة صادَفتَها!...»
«اعلَم يا ولد أنّ الإنسان الذي يتعب في عمل شريف لا تعود النساء تلفت انتباهه. إنّه يحبّ فقط سرير زوجته الشريف.»
«إيه! ولكنّ الجَّمال يروق للجميع! على الأقلّ إن لم يكن سوى بالنَّظَر.»
«لماذا؟ للقول: "هذا ليس غذاء لمائدتكَ"؟ لا. لعلمكَ إنّ البحيرة والمهنة قد علّماني أشياء كثيرة، وهذه واحدة منها: إنّ سمكة مِن المياه العذبة والعميقة ليست مؤهّلة لأن تعيش في المياه المالحة والتيّارات العكسيّة السطحيّة.»
«أتريد القول...؟»
«أريد القول إنّه ينبغي أن يبقى كلّ في مكانه لئلّا يموت بشكل مأساويّ.»
«أكانت المجدليّة تميتكَ؟»
«لا. إنّ لحمي قاسٍ. ولكن... أقُلتَ لي إنّكَ أنتَ مَن قد يشعر بالانزعاج؟»
«أنا لم أنظر إليها حتّى!...»
«كاذب! أراهن أنّكَ تتأكّل مِن الداخل لأنّك لم تكن على ذاك المركب الأوّل، ولم تكن أكثر دنوّاً منها...وكنتَ ستتحمّلني لتكون أكثر قرباً منها؛ ما أقوله هو الحقيقة، ذلك أنّ بفضلها مُنِحْتُ شرف كلامكَ معي بعد عدّة أيّام مِن الصمت.»
«أنا؟ ولكن إذا لم تكن حتّى لتراني! فهي لم تكن تنظر لغير المعلّم باستمرار!»
«آه! آه! آه! وتقول إنّكَ لم تكن تنظر إليها! ماذا فَعَلتَ لترى إلى أين كانت تنظر إن لم تكن تنظر إليها؟»
ويضحك الجميع لملاحظة بطرس ما عدا يهوذا ويسوع والغيور.
يضع يسوع حدّاً للنقاش الذي فَضَّلَ ألّا يَسمَعه بسؤاله بطرس: «أهذه طبريّا؟»
«نعم يا معلّم، سأُرسي المركب الآن.»
«انتظر، هل تستطيع الوقوف في هذا الخليج الهادئ؟ فإنّني أودُّ التحدّث إليكم وحدكم.»
«سأسبر العمق وأجيبكَ.» ويُنـزِل بطرس عصا طويلة ويسير ببطء نحو الضفّة. «نعم أستطيع ذلك يا معلّم. هل يمكنني التقدّم أكثر؟»
« إلى أكثر ما تستطيع. هناك ظلّ وعُزلة. وهذا يروق لي.»
يذهب بطرس إلى مشارف الضفّة. اليابسة على بُعد لا يتجاوز الخمسة عشر متراً. «الآن أُلامِس العمق.»
« توقّف. وأنتم اقتربوا قدر المستطاع، واستمعوا.»
يترك يسوع مكانه ويجلس في وسط المركب على مِقعَد يَصِل الحافّة بالحافّة الأخرى، في مقابل المركب الآخر، وحوله التلاميذ الذين معه في المركب.
« اسمعوا.
يبدو لكم أنّني أنعزل فكريّاً عن مناقشاتكم، أحياناً، وأنّني إذن معلّم كسول، لا يسهر على تلاميذه الخاصّين. اعلَموا أنّ نفسي لا تترككم لحظة واحدة. هل لاحظتم طبيباً يدرس حالة مريض، مرضه غير محدّد والأعراض لديه متضاربة؟ يُخضِعه للمراقبة، بعد معاينة، إن كان ينام أو يسهر، في الصباح كما في المساء، عندما يصمت أو يتكلّم، فكلّ شيء يمكن أن يكون عَرضَاً ودلالة للكشف عن الـمَرَض الخفيّ وتحديد العلاج. وأنا أتصرّف بالطريقة ذاتها معكم. فأنتم مرتبطون بي بخيوط غير مرئيّة، ولكنّها حساسة جدّاً، ومتعلّقة بي، وتنقل لي أضعف اهتزازات الأنا لديكم. أَدَعُكم تؤمنون بحرّيتكم، لكي تَظهَروا باستمرار على حقيقتكم. هذا ما يحدث عندما يعتقد أحد الطلاب أو المهووسين أنّه أفلَتَ مِن عين الـمُراقِب. فأنتم جماعة أشخاص، ولكنّكم تُشكّلون نواة، يعني شيئاً واحداً. فأنتم مجموعة معقّدة تَظهَر إلى الوجود وتُدرَس كلّ مميّزاتها، الصالحة منها قليلاً أو كثيراً، لتشكيلها ودمجها وثَلم حِدّها وتوسيعها في ميولها المتعدّدة الأشكال، وجعلها كلّاً متكاملاً. لأجل ذلك أدرُسُكم وأراقبكم حتّى وأنتم نيام. ما هو حالكم؟ ماذا ينبغي أن تصبحوا؟ أنتم ملح الأرض، هذا ما ينبغي أن تصبحوه: ملح الأرض. فبالملح تُحفَظ اللحوم مِن التفسّخ، وكذلك أغذية أخرى. وهل يمكن للملح أن يملِّح إن لم يكن هو مالحاً؟ فَبِكُم أودُّ أن أُملِّح العالم، لأمنحه طعماً سماويّاً. ولكن كيف يمكنكم أن تُملِّحوا إذا كنتم أنتم فاقدي الطَّعم؟
ما الذي يجعلكم تفقدون الطَّعم السماويّ؟ ما هو بشريّ. إنّ مياه البحر، البحر الحقيقيّ، ليست صالحة للشرب لشدّة ملوحتها، أليست كذلك؟ ومع ذلك، إذا ما أَخَذَ أحدهم كأس ماء مِن البحر وأَفرَغَها في إبريق ماء حلو، يصبح شربها ممكناً، ذلك أنّ ماء البحر قد تمدد إلى الدرجة التي فَقَدَ معها الطَّعم اللّاذِع. الإنسانيّة كالماء الحلو الذي يمتزج بملوحتكم السماويّة. وأيضاً، بافتراض إمكانيّة تحويل ساقية مِن البحر لتصبّ في هذه البحيرة، فهل يمكنكم تمييز هذا الخيط مِن ماء البحر فيها؟ لا. ذلك أنّه يضيع في هذا الكَمّ مِن الماء الحلو. هكذا يكون الحال معكم عندما تَغمرون، أو بالأحرى، تُغرِقون رسالتكم في الكثير مِن الإنسانيّة. أنتم بشر. نعم، أعرف ذلك. إنّما أنا مَن أكون؟ أنا كُلّيّ القُدرة. وماذا أفعل؟ إنّني أُطلِعكم على هذه القُدرة لأنّني دعوتُكم. إنّما بماذا يفيد إطلاعكم عليها إذا كنتم تُبدّدونها تحت وطأة سَيل مِن الأحاسيس والمشاعر الإنسانيّة؟
أنتم، يجب أن تكونوا نور العالم، فأنا قد اخترتُكم: أنا، نور الله، للاستمرار في إنارة العالم عندما أعود إلى الآب. ولكن هل يمكنكم الإنارة إذا كنتم مصابيح مُطفأة أو مدخّنة؟ لا. فإنّ دخان الفتيل غير الجليّ هو أسوأ مِن انطفائه تماماً. وبهذا الدخان تُظلِمون وميض النور الذي يمكن أن تكون القلوب ما تزال تمتلكه. آه! يا لبؤس الذين عند بحثهم عن الله يتوجّهون صوب رُسُل لديهم بَدَل النّور دخان! فإنّهم سيصابون بالصدمة والموت. ولكن هؤلاء الرُّسُل غير الجديرين سوف تصيبهم اللعنة والعقاب. عظيم هو قَدرُكم، إنّما أيضاً: رسالتكم عظيمة ورهيبة! تذكّروا أن مَن وُهِب أكثر فهو مُطالَب كذلك بالكثير. وأنتم قد أُعطيتم الحدّ الأقصى مِن الثقافة والنِّعم. لقد ثَقَّفتُكم، أنا، كلمة الله، وتنالون مِن الله نعمة أن تكونوا "التلاميذ"، يعني استمراريّة ابن الله.
أريد منكم ألا تَكفّوا عن التأمّل في هذا الاختيار الذي أنتم موضوعه، وأيضاً أن تَختَبِروا، وأن تَزِنوا كذلك... وأن تتحقّقوا إذا كنتم غير قادرين سوى على أن تكونوا مؤمنين، فقط مؤمنين. لستُ أبغي القول حتّى إذا أحسستم بأنّكم خَطَأَة وقُساة، إنّما مؤمنون فقط، دون أن تكون لديكم طاقة الرَّسول، فيجب أن تَنسَحِبوا. فالعالم، لِمَن يحبّه، واسع جدّاً، وجميل جدّاً، كافٍ، ومُتنوّع! يَمنَح الجميع الزهور والفواكه لإمتاع الحواسّ. أمّا أنا فلا أُعطي سوى شيء واحد: القداسة. وهي على هذه الأرض الأكثر ضيقاً والأكثر فقراً والأكثر خشونة والأكثر شوكاً والأكثر اضطهاداً. أمّا في السماء فضيقها يتحوّل إلى رحابة، وفقرها إلى غنى، وأشواكها إلى سجّادة مِن الزهور، وخشونتها إلى درب سهل ومُحبَّب، واضطهادها إلى سلام وغبطة. إنّما هنا، في هذه الدنيا فمجهود بطوليّ للتوصّل إلى القداسة، وأنا لا أمنحكم سوى هذا.
هل تودّون البقاء معي؟ ألا تملكون الإحساس بالشجاعة لتفعلوا ذلك؟ آه! لا تَنظُروا بعضكم إلى بعض، مندهشين وحزينين! سوف تسمعونني أَطرَح هذا السؤال مرّات عديدة. وعندما تَسمَعون ذلك، فكّروا بأنّ قلبي يبكي، لأنّه مجروح مِن إيجادكم تصمّون آذانكم عن ندائي. حينئذ افحصوا ضمائركم واحكموا باستقامة وصدق، وقَرّروا. قَرّروا لئلّا تكونوا منبوذين مِن الله وهالكين. وقولوا: "يا معلّم، أيّها الأصدقاء، لقد أَدرَكتُ أنّني لم أُخلَق لأتبع هذه الطريق. إنّني أقبّلكم قبلة الوداع، وأقول لكم: ’صلّوا لأجلي‘". فهذا أفضل مِن الخيانة. هذا أفضل…
ماذا تقولون؟ خيانة مَن؟ مَن؟ خيانتي. خيانة قضيّتي، يعني قضيّة الله، فأنا والآب واحد، وأنتم، نعم، تخونون ذواتكم. تخونون نفسكم بإعطائها للشيطان. أتريدون البقاء يهوداً؟ أنا لا أجبركم على التَّغيير. إنّما لا تخونوا. لا تخونوا نفسكم والمسيح والله. أؤكّد لكم أنّني، لا أنا ولا المخلصين لي، لن ننتقدكم ولا نشير إليكم باحتقار وسط جماعة المؤمنين. منذ وقت قريب قال أحد إخوتكم عبارة عظيمة: "نحاول إبقاء جراحنا وجراح الذين نحبّهم مخفية". ومَن ينفصل يصبح جرحاً، غرغرينا طارئة في قلب كياننا الرَّسولي. يَنفَصِل بسبب الغرغرينا غير القابلة للشفاء التي أصابته، تاركة ندبة مؤلمة، نعمل على إبقائها مخفيّة بعناية كبيرة.
لا، لا تبكوا، أنتم الأفضل. لا تبكوا، فأنا لا أحمل أي حقد تجاهكم، كما لستُ متشدّداً إذ أراكم بطيئين جدّاً. لقد اتّخذتُكم منذ وقت قريب، ولا يمكن أن أطالبكم الآن بأن تكونوا كاملين. ولن أطالب بهذا حتّى بعد سنوات، بعد أن أقول لكم مائة مرّة أو مائتي مرّة الأمور نفسها دون جدوى. بل على العكس، اسَمعوا: بعد سنوات سوف تكونون أقل حرارة مِن الساعة، وأنتم مُستَجِدّون. الحياة هكذا... الإنسانيّة هكذا... يفقد الإنسان حماسه بعد القفزة الأولى. ولكن، (ويقف يسوع فجأة) أؤكّد لكم أنّني أنا مَن سوف ينتصر. وأنتم الـمُفَضَّلين، الـمُطَهَّرين بانتقاء طبيعي، الـمُشَدَّدين بشراب فائق الطبيعة، سوف تصبحون أبطالاً لي. أبطال المسيح. أبطال السماء. وقوّة القياصرة تصبح كالهباء بالمقارنة مع سلطان كهنوتكم. أنتم، صيّادي الجليل المساكين، أنتم اليهود المجهولين، أنتم الأرقام ضمن كوم البشر الذين يحيطون بكم، سوف تصبحون أكثر شهرة وتهليلاً واحتراماً مِن قياصرة، مِن كلّ قياصرة الأرض الذين كانوا والذين سيصبحون. ستصبحون مشهورين، ستصبحون مبارَكين في المستقبل القريب جدّاً، وفي الدهور الأكثر بُعداً وحتّى نهاية العالم.
لهذا المصير السامي قد اخترتُكم. أنتم يا مَن تمتلكون إرادة مستقيمة وكذلك القُدرة على اتّباعها، وها أنا ذا أمنحكم الخطوط الرئيسيّة لميّزاتكم كرُسُل.
فلتكونوا دائماً متيقّظين وجاهزين، ولتكن أحزمتكم على خصوركم، دائماً على خصوركم، ومصابيحكم مشتعلة مثل أناس ينبغي ذهابهم بين لحظة وأخرى، أو أن يَهرَعوا للقاء أحد القادمين. بالفعل، إنّكم الآن، وسوف تكونون دائماً، حتّى يوقفكم الموت، المسافرين الذين لا يكلّون في البحث عن الضالّ؛ وإلى أن يوقفكم الموت، ينبغي أن يبقى مصباحكم عالٍ ومتَّقِد، يهدي التائهين، مِن الـمُقبِلين صوب حظيرة المسيح، إلى الطريق.
ينبغي أن تكونوا أوفياء للمعلّم الذي كَلَّفَكم بهذه الخدمة. وسوف يُكافأ الخادم الذي سيجده المعلّم متيقّظاً دائماً، وإذا فاجأه الموت وَجَدَه في حالة النعمة. لا يمكنكم، بل ولا ينبغي لكم القول: "أنا فَتيّ ولديّ متّسع مِن الوقت لأعمل كذا وكذا، وفيما بعد أفكّر بالمعلّم وبالموت وبنفسي". فالشبّان يموتون مثل الشيوخ، والأقوياء مثل الضعفاء. الشيوخ والفتيان، الأقوياء والضعفاء يتساوون جميعاً في تعرُّضهم لهجمات التجربة. اعلَموا أنّه يمكن للنَّفْس أن تموت قبل الجسد، وأنه يمكنكم أن تَحملوا في صدوركم، ودون معرفة منكم، نفساً تتفسّخ. فموت نَفْس يكاد لا يُحَسّ به! إنّه مثل موت زهرة. لا صراخ ولا اضطراب... تخبو شعلتها، مثل تويج زهرة يذبل، ثمّ تنطفئ. بعد ذلك، أطال الزّمن أم قصر، وأحياناً مباشرة بعدها، يُلاحِظ الجسد أنّه يحمل في داخله جيفة تَنهَشها الديدان. يصبح مجنوناً مِن الذُّعر، ويقتل نفسه ليهرب مِن هذا الاتّحاد... آه! إنّه لا يهرب! بل يقع، في الحقيقة، مع نفسه التي تَنهَشها الديدان، في عجيج مِن الثعابين، في جهنّم.
لا تكونوا غير نزيهين مثل السماسرة والمحامين الذين يُسايِرون زَبونَين خَصمَين. لا تكونوا مخادعين مثل سياسيّ يقول: "صديقي" لهذا وذاك، وبعدئذ تراهم أعداء. لا تحاولوا اتّباع الازدواجيّة في العمل. فالله لا يُستَهزأ به ولا يُخدَع. تصرّفوا مع الناس تصرّفكم مع الله، إذ إنّ كل إساءة للناس هي إساءة لله. فليكن هاجسكم أن يراكم الله كما تريدون أن يراكم الناس.
كونوا متواضعين. لا يمكنكم اتّهام معلّمكم أنّه غير ذلك. إنّني مثلكم. افعلوا كما أفعل أنا. كونوا متواضعين وودعاء وصبورين. وهكذا نجتاح العالم، ليس بالعنف والقوّة. كونوا عنيفين وأقوياء ضدّ رذائلكم. انزعوها مِن جذورها، حتّى ولو اضطرّ الأمر لتمزيق قلبكم. منذ بضعة أيّام قُلتُ لكم بأن تَسهَروا على نظركم. ولكنّكم لا تعرفون أن تفعلوا ذلك. وأنا أقول لكم: الأفضل لكم أن تصبحوا عمياناً بانتزاع أعينكم المليئة بالشهوة، مِن أن تصبحوا فاسقين.
كونوا صادقين. فأنا الحقّ. في أمور العَلاء كما في الأمور الإنسانيّة. أريدكم صريحين أنتم أيضاً. لماذا استخدام الخداع معي أو مع إخوة أو مع القريب؟ لماذا التسلية بالخداع؟ ماذا؟ كم أنتم مُتكبّرون، ولا تملكون عزّة النَّفْس لتقولوا: "لا أودُّ أن يَكتَشِفوا أنّني كاذب"! كونوا صادقين مع الله. هل تعتقدون أنّ بإمكانكم خداعه بصلوات طويلة واستعراضات؟ آه! أيّها الأبناء المساكين! الله يرى القلب!
كُونوا كَتومين عند فعلكم للخير. حتّى عندما تتصدّقون. أحد العشارين عَرف أن يكون كذلك قبل اهتدائه. وأنتم، ألن تعرفوا أن تكونوا كذلك؟ نعم، إنّي أغبّطكَ يا متّى على الصَّدَقَة السريّة الأسبوعيّة التي لم يكن ليعرفها سوى الله وأنا، إنّي أُورِد ذلك كمثال. إنّ هذا التحفّظ والتكتّم هو أيضاً شكل مِن أشكال العفّة يا أصدقائي. لا تكشفوا عن صلاحكم، كما لن تكشفوا عن شابّة فتيّة أمام عيون حَشد. كونوا أنقياء عندما تفعلون الخير. ففعل الصلاح يبقى نقيّاً عندما لا يكون مرتبطاً بخلفيّة فكرة تمجيد أو شهرة أو مشاعر كبرياء.
كُونوا أزواجاً أوفياء لدعوتكم الربانيّة. فلا يمكنكم خدمة مُعَلِّمَين. والسرير الزوجي لا يمكنه قبول زوجتين في وقت واحد. لا يمكن أن يتقاسم الله والشيطان معاً مُلاثَماتكم. لا يمكن للإنسان ولا لله ولا للشيطان تقاسم تَلاثُم ثلاثيّ بين كائنات ثلاثة يتضادّ الواحد مع الآخر. كُونوا ضدّ شهوة الذَّهب، كما ضدّ شهوة الجَّسَد، كما ضدّ شهوة السُّلطة. فهذا ما يُقدّمه لكم الشيطان. آه! يا لثراءاته الخَدَّاعة! عزّ، نجاح، سُلطة، فضّة: تجارة فاسدة تدفعون ثمنها مِن نفسكم. ارضوا بالقليل، والله يمنحكم الضروريّ. وهذا يكفي. إنّه يضمن ذلك لكم، كما يضمنه لطير السماء، وأنتم أهمّ بكثير مِن الطيور. ولكنّه يطلب منكم الثقة والقناعة. فإذا كانت لديكم الثقة فهو لا يخيّب آمالكم، وإذا كانت لديكم القناعة، فعطاؤه اليوميّ يكفيكم.
لا تكونوا أوثاناً وأنتم تنتمون إلى الله بالاسم فقط. إنّهم الوثنيّون، أولئك الذين يحبّون الذَّهب والسُّلطة أكثر مِن الله لكي يَظهَروا كأنصاف آلهة. كُونوا قدّيسين، وسوف تكونون شبيهين بالله إلى الأبد. لا تكونوا متشدّدين. فالجميع خَطَأَة. وينبغي لكم أن تُعامِلوا الآخرين كما تريدون أن يعاملكم الآخرون. يعني أن تتعاملوا بالشفقة وتستعدّوا للمسامحة.
لا تدينوا. آه! لا تدينوا! منذ وقت قريب وأنتم معي. ومع ذلك تَرَون كم مرّة قد أُدِنتُ، أنا النـزيه والبريء، خطأً، واتُّهِمتُ بارتكاب خطايا لا وجود لها. فالدينونة الخاطئة إساءة. ووحده القدّيس الحقّ لا يردّ على الإساءة بالإساءة. امتَنِعوا إذن عن الإساءة لكي لا يُساء إليكم. وهكذا لا تُقَصِّروا تجاه المحبّة ولا تجاه التواضع المقدّس، المحبوب واللطيف، عدوّ الشيطان هو والعَفاف. اغفروا، اغفروا دائماً. وقولوا: "إنّني أغفر أيّها الآب لكي تَغفر لي خطاياي التي لا تحصى".
صِيروا إلى الأحسن مِن ساعة إلى ساعة، بصبر وثبات وبطولة. ومَن قال لكم إنّ الصيرورة إلى الصَّلاح غير مضنية؟ بل حتّى أقول لكم: إنّها العمل الأكثر قَسوة، ولكنّ السماء تكون هي المكافأة لهذا العمل، وهو يستحقّ هذا العناء وهذا الجهد.
وأَحبّوا. آه! أيّة كلمة، أيّة كلمة ينبغي أن أقول لأغرس في أذهانكم الحبّ؟ ما مِن كلمة يمكنها أن تهديكم إلى الحبّ، أيّها الناس المساكين، الـمُثارون مِن الشيطان! وإذن ها أنذا أقول: "أيّها الآب قَرِّب ساعة التطهير. إنّ هذه الأرض مُجدِبة، وهذا القطيع، قطيعكَ، مريض. إنّما يوجد ندى يمكنه تلطيف وتطهير كلّ شيء. افتح، افتح نبع هذا الندى. إنّه أنا مَن ينبغي أن يَفتَح. وأنا، ها أنذا، أيّها الآب، أَتحرَّق لإتمام رغبتكَ التي هي رغبتي ورغبة الحبّ الأزلي. أيّها الآب، أيّها الآب، أيّها الآب، انظر إلى حَمَلكَ وكُن له الكاهِن مُقدّم الذبيحة".»
يسوع مُلهَم حقّاً. إنّه واقف وذراعاه على شكل صليب، ووجهه صوب السماء. يتجلّى بثوبه الكتّاني الأبيض على عُمق أُفُق البحيرة مثل رئيس ملائكة يصلّي.
وعلى هذا المشهد تتلاشى الرؤيا بالنسبة إليَّ.