ج3 - ف75
أَنَا هُوَ
ماريا فالتورتا
L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO
THE GOSPEL AS REVEALED TO ME
بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}
L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ
MARIA VALTORTA
الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.
الجزء الثالث / القسم الثاني
75- (في إسخريوط. يسوع يتحدّث في الهيكل)
09 / 07 / 1945
أُعاوِد قراءة ما كَتَبتُهُ في الأمس، لأعيد كتابة بعض الكلمات غير المفهومة، رأفة بعيونكم، أَبَتِ، إنّني أشعر بالأسى أثناء إعادة قراءته... فهو أدنى كثيراً مما كنتُ أختَبِره عندما كنتُ أَصِف حالتي النفسيّة! ومع ذلك، فحينئذ، لكي أستمدّ العَون في التعبير، كان الربّ يجعلني أختَبِره، وخوفاً مِن إساءة التعبير، ولكي أكون مرتاحة في ذلك -إذ إنّ في ذلك ألماً كذلك، أتعلمون؟- فقد استَدعَيتُ قدّيسي يوحنّا، وقُلتُ له: «إنّكَ تعرف جيّداً كلّ تلك الأشياء، ولقد اختبرتَها. فساعدني.» ولم يحرمني حضوره، ولا ابتسامته كطفل أزليّ صالح، ولا ملاطفاته. أمّا الآن فأشعر بأنّ كلمتي الفقيرة أدنى كثيراً مِن الشعور الذي كنتُ أَختَبِر... كلّ ما هو بشريّ لا يتعدّى كونه قَشّاً، فليس سوى فائق الطبيعة الذي يكون ذهباً. أمّا ما هو بشريّ فلا يمكنه حتّى وصفه.
داخل هيكل إسخريوط. في الوضع ذاته الذي تمدَّدَ فيه شاول ميتاً على الأرض، بعد أن رأى مجد المسيح المستقبليّ. وسط مجموعة متراصّة، يَظهَر يسوع ويهوذا، الاثنان الأكثر ضخامة، إنّهما بوجه مشعّ، الأوّل بحبّه، والآخر بفرح رؤية مدينته ما تزال وفيّة للمعلّم وتُكرِّمه بِأُبَّهة. في المقدّمة، هناك وُجَهاء إسخريوط، ثمّ، فيما بعد يسوع، إنّما وهُم مُتراصّون مِثل البقول في الكيس، يَغصّ الهيكل بالأهالي، حتّى غدا التنفّس صعباً، رغم أنّ الأبواب مفتوحة. ولتكريم المعلّم، وللاستماع إليه، يَنتَهون بخلق فوضى لا تُوصَف وضوضاء تَمنَع الاستماع.
يتحمّل يسوع بصمت. ولكنّ الآخرين يستاؤون، يُشَوِّرون، ويَصرُخون: «صمتاً!» ولكنّ الصَّرخَة تتوه في الضجّة مثل صَرخَة تُطلَق على شاطئ أثناء عاصفة.
لا يتسبّب يهوذا في المشاكل. إنّه يَصعَد على مَقعد عال، ويَضرب المصابيح المتدلّية كالعناقيد، فيرنّ المعدن المجوَّف، وتُدوّي السلاسل، وهي تصطدم، كآلات موسيقيّة. يهدأ الناس. أخيراً أَصبَحَ بالإمكان الاستماع إلى يسوع.
يقول لرئيس المعبد: «أعطني اللفافة العاشرة مِن ذاك الرفّ.» وحينما يَحصَل عليها يَفتَحها ويُقدِّمها للرئيس قائلاً له: «اقرأ الفصل الرابع مِن الرواية في سِفر المكابيّين الثاني.»
ويَقرأ الرئيس طائعاً: اختبارات أونيا وأخطاء ياسون وخيانات وسرقات منلاوس تتوالى هكذا أمام فِكر الحضور. انتهى الفصل. يَنظُر القارئ إلى يسوع الذي أَنصَتَ بانتباه.
يُشير يسوع بأنّ ذلك كاف، ثمّ يَلتَفِت إلى الجمهور: «في مدينة تلميذي العزيز جدّاً، لن أقول الكلام المعتاد لتعليمي. سوف نقيم هنا بضعة أيّام، وأودُّ أن يكون هو مَن يقول لكم، لأنّني أودُّ أن يبدأ الاحتكاك المباشر مِن هنا، الاحتكاك المتواصِل بين الرُّسُل والشعب. وقد تقرّر ذلك في الجليل الأعلى، وهناك كانت التباشير. ولكنّ تَواضُع تلاميذي جَعَلَها تعود إلى الظلّ، لأنّهم يَخشون عدم معرفة القيام به واغتصاب مكاني. لا. ينبغي لهم القيام بذلك، وسوف يُجيدون القيام به، وسيُساعِدون معلّمهم. هنا إذن، بتوحيد التخوم الجليليّة-الفينيقيّة في حبّ واحد مع أراضي يهوذا، حدود فلسطين في أقصى الجنوب، حتّى بلد الشمس والرمال، ينبغي بدء الكرازة الرسوليّة الحقيقيّة. إذ لا يعود المعلّم كافياً ليفي بتلبية احتياجات الجموع، ولأنّه مِن العدل أن تُغادِر فِراخ النسر أعشاشها، وتقوم بأولى محاولات طيرانها، بينما ما تزال الشمس معها، وجناحه الصَّلب يقودها.
في أثناء ذلك، سوف أكون صديقكم ومعزّيكم. وسيكونون هم الكلمة، وسَيَمضون يزرعون الحبوب التي أعطيتُهم إيّاها. لن أُوجِد لكم إذن تعليماً عامّاً، ولكنّني سوف أعطيكم شيئاً متميّزاً. نبوءة، أرجوكم الاحتفاظ بِذِكرها للمستقبل، حينما يَحجب الحَدَث الأكثر فظاعة في تاريخ البشريّة الشمس، وفي الظلمات قد تُحمَل القلوب على إطلاق أحكام مَغلوطة. لا أريدكم أن تُحمَلوا على ارتكاب الخطأ، أنتم يا مَن كنتم طيّبين معي منذ اللحظة الأولى. لا أريد للعالم أن يقول: "إنّ إسخريوط قد ناصَبَت المسيح العَداء". إنّني عادل ومُنصِف. لا يمكن أن أسمح لانتقاد حاقِد أو عاشق لي أن يتمكّن، مدفوعاً بدافع العاطفة، مِن اتّهامكم بارتكاب الأخطاء تجاهي. ضمن عائلة كثيرة العدد، لا يمكن المطالبة بقداسة متساوية بين جميع الأولاد، وبالطريقة ذاتها، لا يمكن فَرضَها في مدينة كثير عدد سكّانها. إنّما يكون منافياً للمحبّة القول، مِن أجل واحد سيّئ أو أحد السكّان غير صالح: "كلّ العائلة أو كلّ المدينة ملعونة".
اسَمعوا إذن، تَذَكَّروا، كونوا أوفياء على الدوام، وكما أحبّكم لدرجة أنّني أريد الدفاع عنكم ضدّ اتّهام ظالم، أنتم كذلك، اعرفوا أن تحبّوا مَن ليسوا بِمُذنبين. على الدوام. مهما كانوا. وإن يكن أحد أفراد أسرتهم مِن الـمُذنِبين. الآن اسمعوا: سوف يأتي زمن، حيث يكون في إسرائيل أناس يَنهَبون الكنـز ويخونون الوطن، وهُم، على أمل كَسب صداقة الأجانب، سَيَفتَرون على الكاهن الأعظم الحقيقيّ باتّهامه، بالاتّفاق مع أعداء إسرائيل وسوء التصرّف حيال أبناء الله. وللوصول إلى هدفهم، سيكونون قادرين على ارتكاب الجرائم التي يُحَمِّلون البريء مسؤوليّتها. وسيأتي زمن، ودائماً في إسرائيل، حيث، حتّى أكثر ممّا حَصَلَ في زمن أونيا، أحد الذَّليلِين، سعيد لكونه هو الحَبر، يمضي للقاء ذوي السُّلطة في إسرائيل ويُفسِدهم بالإغراء بالذهب، وبِتَفاقُم عيبه بالكلام الكاذب، وفي الوقت ذاته يُشَوِّه حقيقة الأفعال. ولن يتحدّث عن الأخطاء، بل على العكس، مُتَّبِعاً هدفه المخزي، وسيعمل على تغيير العادات، ليكون له، وبسهولة أكبر، تأثير على النفوس المحرومة مِن صداقة الله: وكلّ ذلك للوصول إلى هدفه. وسوف ينجح. آه! حتماً! لأنّه إذا لم تكن في محل الإقامة ذاته على جبل مورياح مَلاعِب ياسون الكافر، في الحقيقة، فإنّها في قلوب سكّان الجبل المؤهَّلين لبيع ما هو أكثر مِن مَلعَب، ضميرهم ذاته. وثمار الخطأ القديم أَضحَت الآن ظَاهِرة للعيان، ومَن له عينان فليَنظُر إلى ما يجري هناك، حيث ينبغي أن تكون الـمَحبّة والطُّهر والعدل والصَّلاح وديانة قُدسيّة وعميقة. ولكن إذا كانت هناك ثمار تَبعَث الآن على الرّعدة، فالثمار الناتجة عن الزّرع الذي بُذِرَ لن تكون علّة خوف فقط، بل إنّما سبب لعنة إلهيّة.
وإذا عُدنا إلى النبوءة ذاتها، الحقّ أقول لكم، إنّ مَن انتزع المكان والثقة بفضل لعبة طويلة الأمد ومُخادِعة، فذاكَ، مِن أجل حفنة مِن الفضّة، سوف يُسَلِّم الكاهن الأعظم، الكاهن الحقّ خادعاً إيّاه بحجج عاطفيّة، مُسَلِّماً إيّاه إلى الجلّادين بِفِعل يُشير إلى الحبّ، أمّا هو فسوف يَنفُق خِلافاً لكلّ قانون عدل. ما هي التُّهَم التي سَتُوَجَّه للمسيح، طالما أتحدّث عن نفسي، لتبرير صوابيّة قَتله؟ ما هو مصير الذين سيتصرّفون هكذا؟ مصير مباشر بعدل رهيب. مصير ليس شخصيّاً، بَل هو جماعيّ لِشُرَكاء الخائن. مصير أبعد مدى، وأيضاً أكثر رهبة وفظاعة مِن ذاك الذي للرجل الذي سيقوده تأنيب ضميره إلى تتويج حياته كشيطان بالجريمة الأخيرة ضدّ ذاته. فهذا الأخير لن يدوم بالفعل سوى لحظة. القصاص الآخَر سيكون طويلاً ومُريعاً. تَجِدونه في هذه الجملة: "ومُضطَرِماً غيظاً، أَمَرَ بتجريد أندرونيكوس مِن الأرجوان وإعدامه في الموضع الذي ارتَكَبَ فيه النّكران ضدّ أونيا". نعم، سوف تُضرَب المرتبة الكهنوتيّة في أبنائها، فضلاً عن مُنَفِّذيّ الجريمة. ومصير المجموعة المشتركة، اقرأوا ذلك في هذه الكلمات: "صوت ذاك الدم يَصرُخ إلى مَن في الأرض. ستكون إذن ملعوناً..." والله هو مَن سيقولها لشعب برمّته لم يَعرف حماية عطيّة السماء. إذ كوني أتيتُ حقاً للفِداء، فالويل لِمَن سيكونون قَتَلَة، ولن يُفتَدوا، مِن هذا الشعب الذي نال كلمتي فِداء أوّلياً له.
قُلتُ احفظوا ذلك في ذاكرتكم. وعندما سَتَسمَعون ما يُقال عنّي إنّني مجرم، قولوا: "لا، هو قال ذلك. إنّه إتمام لما أشار إليه، وهو الضحيّة التي تَحَمَّلَت الموت مِن أجل خطايا العالم".»
يَفرَغ الهيكل، والجميع يتحدّثون ويُشَوِّرون بخصوص النبوءة والتقدير الذي يوليه يسوع ليهوذا. لقد أُثير أهالي إسخريوط بالشَّرف الذي أولاهم إيّاه مَسيّا باختيار مدينة أحد الرُّسُل، وبالتحديد الرَّسول الذي مِن إسخريوط، ليبدأ الرسالة، وكذلك مِن أجل هبة النبوءة. إذ رغم كآبتها فإنّه لشرف عظيم ينالونه، ومع كلام الحبّ الذي سَبَقَها…
يَبقَى يسوع ومجموعة الرُّسُل في الهيكل. أو بالحريّ يَخرُجون إلى الحديقة الصغيرة الواقعة بين الهيكل وبيت الرئيس. يهوذا جالس ويبكي.
«لماذا تبكي؟ لستُ أرى مبرّراً لذلك...» يقول يوضاس.
«أنا أيضاً شعرتُ بالرَّهبَة. هل سَمِعتُم؟ الآن نحن أيضاً يجب أن نُعلِّم...» يقول بطرس.
«ولكنّنا ابتدأنا ذلك على الجبل. وسَنُصبِح مع الوقت مُؤَهَّلين أكثر فأكثر. أنتَ ويوحنّا مؤهَّلان لذلك مباشرة.» يقول يعقوب بن زَبْدي لِيُشجِّعهُما.
«الأسوأ هو أنا... ولكنّ الله سَيُعينني. أليس كذلك يا معلّم؟»
يسوع الذي كان يتصفّح اللفائف التي حَمَلَها معه، يَلتَفِت ويقول: «ماذا كنتَ تقول؟»
«سوف يساعدني الله عندما أُضطَرُّ للحديث. سأحاول تِكرار أقوالكَ بأفضل ما أستطيع. ولكنّ أخي خائف ويهوذا يبكي.»
«هل تبكي؟ لماذا؟» يَسأَل يسوع.
«لأنّني، في الحقيقة، أخطأتُ. ويمكن لأندراوس وتوما قول ذلك. لقد نَمَمتُ عليكَ وأنتَ تُكافِئني بتسميتي "التلميذ العزيز جدّاً"، وتريدني أن أُعلِّم هنا... يا له مِن حبّ!...»
«ولكن ألم تَكُن تَعلَم أنّني كنتُ أحبّكَ؟»
«بلى ولكن... شكراً يا معلّم. لَن أَنُمّ بعد. فأنا الظلام وأنتَ بحقّ النور.»
يَعود رئيس المعبد ويدعوهم إلى بيته. وبينما هُم سائِرون يقول ليسوع: «أُفكِّر في كلامكَ. إن أَحسَنتُ الفَهم، فَكَما وَجَدتَ أحد الرُّسُل المفضّلين لديكَ في إسخريوط، يهوذا بن سمعان، فإنّك تتنبّأ أنّكَ سَتَجِد فيها أيضاً أحد غير الـمُستَحِقّين. وهذا يؤرّقني. إنّما لحسن الحظّ أن يُعَوِّض يهوذا عن ذاك الآخَر...»
«سأَبذُل كلّ جهدي.» يقول يهوذا الذي استعاد رباطة جأشه.
لا يتكلّم يسوع، بَل يَنظُر إلى مُحدِّثيه، ويقوم بحركة فاتحاً ذراعيه كما لِيَقول: «إنّه هكذا.»