ج9 - ف26
أَنَا هُوَ
ماريا فالتورتا
L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO
THE GOSPEL AS REVEALED TO ME
بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}
L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ
MARIA VALTORTA
الترجمة إلى اللغة العربية: ماري حلمي وفيكتور مصلح.
الجزء التاسع
26- (ليلة الجمعة المُقدّسة. مراثي العذراء.)
29 / 03 / 1945
مريم، تسندها النساء الباكيات، تستعيد وعيها وتبكي دون أن يكون لها قوّة إلاّ على البكاء بلا توقّف. يبدو حقّاً أنّ على حياتها أن تنساب وتفنى بالكامل في دموعها هذه.
يُردن أن ينعشنها. تقدّم لها مرثا قليلاً مِن النبيذ، وتريدها سيّدة المنـزل أن تتناول ولو قليلاً مِن العسل، مريم الّتي لحلفى، الجاثية على ركبتيها أمامها، تقدّم لها فنجاناً مِن الحليب الدافئ وهي تقول: «لقد حلبتُه بنفسي مِن عنيزة راحيل الصغيرة (ربما هي بنت أولئك الناس المتواجدين في منـزل لعازر كمستأجرين أو حرّاس، لا أعلم). ولكنّ مريم لا تريد شيئاً. البكاء، فقط البكاء. جلّ همّها سماع الوعود بالتفتيش عن الرُّسُل والتلاميذ، والبحث عن الرُّمح والملابس، وحينما يطلع النهار، لأنّهم الآن لا يريدون أن يتركوها تذهب، سيدعنها تدخل إلى قاعة العشاء [العلّية].
«نعم. إن سكنتِ قليلاً، إن ارتحتِ قليلاً، سآخذكِ إليها.» تقول سلفتها. «سندخلها معاً، وأنا على رُكبتَيّ سأبحث لكِ عن كلّ أثر ليسوع...» وتشهق مريم الّتي لحلفى بالبكاء. «إنّما هل ترين؟ ها هنا الكأس والخبز الّذي قطعه، واستخدَمه في الافخارستيا. هل هناك أقدس مِن هذا التذكار. أترين؟ يوحنّا أحضرهما لكِ منذ هذا الصباح كي تريهما هذا المساء... المسكين يوحنّا الّذي هو هناك والّذي يبكي وهو خائف...»
«خائف؟ لماذا؟ تعال يا يوحنّا.»
يَخرج يوحنّا مِن الظلّ، إذ لم يكن في الغرفة سوى مصباح صغير موضوع على المنضدة بالقرب مِن أغراض الآلام، ويركع عند قدميّ مريم، الّتي تلاطفه وتسأله: «لماذا أنتَ خائف؟»
ويوحنّا، مُقَبّلاً يديها وباكياً: «لأنّكِ بحال سيّئة. محمومة وفي ضيق... ولا تهدئين. وإن استمرّيتِ هكذا، فستموتين كما مات هو...»
«آه! لو كان هذا حقّاً!»
«لا! أُمّي! ماما! آه! إنّه لأعذب لي أن أقول: "ماما"، مثلما أقول لأُمّي! دعيني أقولها لكِ... ولكن، كما لا أجد فرقاً بين أُمّي وبينكِ، وحتّى إنّني أحبّكِ أكثر منها، لأنّكِ أنتِ هي الأُمّ الّتي أعطانيها هو ولأنّكِ أُمّه، فلا تجعلي فرقاً كبيراً بين الابن المولود منكِ والابن الّذي أُعطي لكِ... وأحبّيني قليلاً كما تحبّينه هو... ولو كان هو مَن يقول لكِ: "أنا خائف مِن أن تموتي"، فهل تجيبينه: "آه! لو كان هذا حقّاً"؟ لا. ما كنتِ لتقولي هذا. ولكنّكِ كنتِ تأسفين على رحيلكِ وتركه في عالم مِن الذئاب، هو حَمَلكِ... أفلا تتألّمين مِن أجلي؟... إنّني حَمَل أكثر منه، ليس بالصلاح والنقاء، ولكن بالغباء والخوف. ولو فقدتُكِ، لافترست الذئاب يوحنّا المسكين دون معرفته الثغاء ولو لمرّة واحدة ليتكلّم عن معلّمه... هل تريدين أن أموت هكذا، دون أن أخدمه؟ غبيّاً في الموت كما في الحياة؟ لا، أليس كذلك؟ فإذاً حاولي أن تهدئي يا ماما.. مِن أجله.. آه! ألا تقولين إنّه سيقوم؟ نعم، تقولين ذلك، وهذا صحيح. إذاً، هل تريدينه أن يجد المنـزل خالياً منكِ لدى قيامته؟ لأنّه بالتأكيد سيأتي إلى هنا... آه! يا للمسكين، يا ليسوع المسكين، فيما بدلاً مِن هتاف حبّكِ يسمع عويلنا المأتميّ، وبدلاً مِن حضنكِ يضع عليه رأسه الشهيد والممجّد يجد مغلاق قبركِ.... ينبغي لكِ أن تعيشي. كي تحيّيه حينما سيعود... لا أقول: "لحبّنا". جميعنا نستحقّ كلّ التأنيب بسبب طريقة سلوكنا. ولكن "لحبّكِ". آه! كيف سيكون اللقاء؟ وهو، كيف سيكون؟ يا أُمّ الحكمة، أُمّ يوحنّا الجاهل للغاية، أنتِ يا مَن تَعلَمين كلّ شيء، قولي لنا كيف سيكون، عندما يظهر قائماً.»
«جراح ساقيّ لعازر كانت ملتئمة، ولكنّا كنّا نرى آثارها. وظهر ملفوفا في لفائف مليئة بالنتانة.» تقول مرثا.
«ووجب أن نغسله مراراً وتكراراً...» تضيف مريم.
«وكان ضعيفاً، ووجب أن ننعش قواه حسب أمره.» تُنهي مرثا.
«ابن أرملة نائين كان كالمذهول وكان يبدو وكأنّه طفل غير قادر على المشي أو الكلام بطلاقة، حتّى إنّه ردّه إلى أُمّه كي تُعلّمه مِن جديد التمتّع بخيرات الحياة. وابنة يائيروس، هو بنفسه قاد أولى خطواتها.» يقول يوحنّا.
«أعتقد أنّ ربّي سيرسل إلينا ملاكاً كي يقول لنا: "ائتوني بثوب نظيف". وحبّي قد أعدّه بالفعل. إنّه في القصر. أنا لم أستطع نسجه، ولكنّني جعلتُ مُرضِعتي تنسجه، الّتي اطمأنّت على مستقبلي الآن، ولم تعد تبكي. لقد جلبتُ الكتّان الأغلى ثمناً، وحصلتُ على الأرجوان مِن بلوتينا، ونُعْمي نسجت حواف الثوب، وأنا صنعتُ الحزام والصرّة والشال، طرّزته آناء الليل حتّى لا يراني أحد. أنتِ الّتي علّمتِني يا أُمّي. ليس كاملاً. إنّما أكثرتُ فيه مِن اللآلئ الّتي ترسم اسمه على الحزام وعلى الصرّة، هي ماسات دموع حبّي وقبلاتي الّتي تجعله جميلاً. كلّ غرزة هي خفقة تفان لأجله. وسأحمله له. تسمحين بذلك، أليس كذلك؟»
«آه!... لم أكن أظنّ أنّهم يجرّدونه مِن ثوبه... لستُ معتادة على ممارسات العالم ووحشيّته... كنتُ أظنّني أعلم... (وتنحدر الدموع مِن جديد على طول خدّيها الشمعيّين) ولكنّني أرى أنّني لم أكن أعلم شيئاً... وكنتُ أفكّر: "وبعد ذلك أيضاً سيكون له ثوب الأُمّ." كان يعجبه كثيراً! لقد أراده هو بهذا الشكل، وقد قال لي ذلك منذ زمن بعيد: "ستصنعين ثوباً هكذا وهكذا، وستجلبينه لي في الفصح... إذ يجب أن تراني أورشليم في ثوب مَلِك أرجوانيّ..." آه! هذا الصوف، الأكثر بياضاً مِن الثلج، أثناء نسجه صار أحمراً في عينَيّ الله وعينَيّ، لأنّ قلبي تلقّى جرحاً جديداً مِن هذا القول... جراحي الأخرى، بعد سنوات أو شهور، إن لم تكن قد خُتمت، فعلى الأقلّ جفّ رشح الدم فيها. ولكن هذه! كلّ يوم، كلّ ساعة كانت تعيد السيف في القلب: "يوم أقلّ! ساعة أقلّ! بعد ذلك، يموت!" آه! آه!... كان الخيط على المغزل وعلى النول يصبح أحمراً بالنسبة لي... بعد ذلك تمّت صباغته مِن أجل العالم... ولكنّه كان آنئذ أحمراً...» وتبكي مريم مِن جديد.
يحاولن التخفيف عنها بالحديث عن القيامة. تَسأَل سُوسَنّة: «ماذا تقولين؟ كيف ستكون قيامته؟ وكيف سيقوم؟»
وهي، تائهة، معميّة بساعة الشهادة الخلاصيّة هذه، تجيب: «لا أعلم... لم أعد أعلم شيئاً... سوى أنّه قد مات!...» وتنفجر مِن جديد ببكاء عنيف وتُقبّل قطعة القماش الّتي كانت عند خاصرة ابنها، وتضمّها إلى قلبها وتهدهدها كما لو كانت طفلاً…
وتتلمّس المسامير، الأشواك، الإسفنجة، وتهتف: «هذه! هذه هي ما عرف وطنكَ أن يعطيكَ إيّاه! حديد، أشواك، خلّ ومرّ! وشتائم، شتائم، شتائم! ومِن بين كلّ أبناء إسرائيل، كان اختيار واحد مِن قيروان ليحمل لكَ الصليب. هذا الرجل مكرّم بالنسبة إليّ مثل زوج. ولو كنتُ أعلم أنّ أيّ آخر مدّ يد المساعدة لابني، لقبّلتُ قدميه. ولكن ألم يشفق أحد؟ اخرجوا! ارحلوا! حتّى رؤيتكم تسبّب لي ألماً! لأنّ مِن بينكم جميعاً، مِن بينكم جميعاً، لم يعرف أحدكم حتّى أن يستحصل له على عذاب أخفّ وطأة. خدّام بطّالون وبلا جدوى لملككم، اخرجوا!» إنّها شديدة في حدّتها. واقفة، صلبة، بل تبدو أعظم، بعينيها الآمرتين، وذراعها الممدودة تشير إلى الباب. تأمر مثل مَلِكة على العرش.
يَخرج الجميع بلا ردّة فِعل لعدم إثارتها أكثر، ويجلسون خارج الباب المقفل، ليسمعوا أنينها وكلّ صوت يمكن أن يصدر عنها. ولكن بعد ضجيج الكرسيّ الّذي دفعته، وركبتيها اللتين ارتطمتا بالأرض، لأنّها ركعت ورأسها على الطاولة الّتي عليها أغراض الآلام، لا يُسمَع منها سوى بكاء بلا توقّف ولا عزاء.
تهمس، إنّما بهدوء حتّى إنّ الّذين في الخارج لم يتمكّنوا مِن سماعها: «أبتاه، أبتاه، غفرانكَ! إنّني أصبح متكبّرة وشرّيرة. ولكن أنتَ ترى ذلك: ما أقوله صحيح. كانت جموع حوله، وفي هذا العيد كانت كلّ فلسطين داخل الأسوار المقدّسة... مقدّسة؟ لا. لم تعد مقدّسة... كانت لتبقى هكذا لو هو مات داخلها. ولكنّ أورشليم لفظته مثل القيئ الّذي تجيش منه النَّفْس. لم يعد في أورشليم إذن سوى الجريمة... والآن، مِن كلّ الناس الّذين كانوا يتبعونه، لم يتمكّن مِن الالتئام سوى قبضة منهم ملتزمين، لا أقول لتخليصه -فقد كان عليه الموت مِن أجل الفداء- بل لجعله يموت بأقلّ مِن هذا العذاب. لقد قبعوا في الظلّ أو هربوا... وقلبي يثور أمام كلّ هذا الجُبن. أنا الأُمّ. ولهذا اغفر لي خطيئة قسوة كبريائي...» وتبكي…
كلّ مَن في الخارج هم على شوك ولأسباب عديدة.
يعود سيّد المنـزل، الّذي كان قد خرج بدافع الفضول، ويجلب أخباراً مريعة. يقال إنّ كثيرين ماتوا في الزلزال، وكثيرين جُرِحوا بسبب التصادم بين اليهود والأوفياء للناصريّ، وتمّ القبض على كثيرين، وأنّ إجراءات جديدة ستُتَّخذ بسبب أعمال الشغب والتهديدات ضدّ روما، وأنّ بيلاطس أمر بالقبض على كلّ أنصار الناصريّ وكلّ رؤساء السنهدرين الموجودين في المدينة أو الهاربين في أنحاء فلسطين، وأنّ يُوَنّا تحتضر في قصرها، وأنّ مَنَاين قبض عليه هيرودس لأنّه أهانه وسط البلاط بوصفه قاتل الله. خلاصة القول، كتلة مِن الأخبار الكارثية…
تئنّ النساء. ليس خوفاً على أنفسهنّ بقدر ما هو الخوف على أبنائهنّ وأزواجهنّ. سُوسَنّة تفكّر بزوجها، المعروف بأنّه مِن أتباع يسوع في الجليل. مريم الّتي لزَبْدي تفكّر بزوجها، الّذي يحلّ ضيفاً عند أحد الأصدقاء، وبابنها يعقوب الّذي ليس لديها أيّ خبر عنه منذ مساء الأمس. ومرثا تقول وهي تنتحب: «لابد أنّهم ذهبوا الآن إلى بيت عنيا! ومَن الّذي لم يكن يعلم مَن كان لعازر بالنسبة للمعلّم؟»
«ولكنّه محميّ مِن روما.» تجيبها مريم سالومة.
«آه! محميّ! مَن يعلم، مع الكراهية الّتي يكنّها لنا رؤساء إسرائيل، أيّ اتّهامات يوجّهونها له لدى بيلاطس... آه! يا الله!» تضع مرثا يديها في شعرها وتصيح: «السلاح! السلاح! المنـزل مليء به... وكذلك القصر! أنا أعلم! لقد جاء لاوي الحارس هذا الصباح، عند الفجر، وأخبرني... ولكنّكِ أنتِ أيضاً تعلمين! وقُلتِه لليهود على موضع الصلب... حمقاء! لقد وضعتِ بين أيدي الطغاة السلاح لقتل لعازر!...»
«قُلتُها، نعم، قُلتُ الحقّ دون علمي به. ولكن اصمتي، أيّتها الخوّافة! ما قُلتُه هو أكبر ضمان للعازر. سوف يحرصون على عدم المجازفة بالبحث حيث يعلمون بوجود أناس مسلّحين! إنّهم جبناء!»
«اليهود، نعم. أمّا الرومان، فلا.»
«أنا لا أخشى روما. فهي عادلة ورزينة في أحكامها.»
«مريم على حقّ.» يقول يوحنّا. «قال لي لونجين: "أتمنّى أن يتركوكم بسلام. وإن لم يفعلوا، تعال أو أَرسِل أحداً إلى دار الولاية. بيلاطس متسامح مع أتباع الناصريّ. وقد كان كذلك معه. وسندافع عنكم".»
«وماذا لو فعل اليهود كلّ شيء بأنفسهم؟ مساء أمس كانوا هم مَن قبض على يسوع! وإن قالوا إننا مُدنِّسين، فيكون لهم الحقّ في القبض علينا أيضاً. آه! أولادي! لي أربعة! أين قد يكون يوسف وسمعان؟ كانا على موضع الصلب، ثمّ نزلا حينما لم تصمد يُوَنّا. للمساعدة والدفاع عن النساء... هما، الرُّعاة، حلفى... الجميع! آه! يكونون قد قتلوهم بالتأكيد. هل سمعتِ أن يُوَنّا تحتضر؟ بالتأكيد هي كذلك لأنّها جُرِحت. وهما، قبل أن يتمكّن الرعاع مِن ضرب امرأة، لا بدّ أنّهما قد دافعا عنها وماتا!... ويوضاس ويعقوب؟ صغيري يوضاس! كنـزي! ويعقوب الوديع مثل صَبيّة! آه! لم يعد لي أبناء! صرتُ مثل أُمّ أولاد المكابيّين!...»
يبكي الجميع بيأس. فيما عدا سيّدة المنـزل الّتي مضت تبحث عن مخبأ لزوجها، ومريم المجدليّة، الّتي لا تبكي. ولكنّ عينيها تقذفان ناراً، إذ عادت المرأة المتسلّطة القديمة. لا تتكلّم، ولكنّها ترشق بعينيها رفيقاتها المنكسرات، وتكاد توجّه إليهنّ صفة في غاية الوضوح: «الجُبن!»
ويمضي بعض الوقت هكذا… ومِن آن إلى آخر تقوم واحدة وتفتح الباب بهدوء، تلقي نظرة خاطفة، ثمّ تغلقه.
«ماذا تفعل؟» تَسأَل الأخريات.
فتقول مَن نظرت: «إنّها ما تزال جاثية. تصلّي.» أو: «تبدو وكأنّها تتكلّم مع شخص ما.» أو: «وقفت وهي تشير متحرّكة هنا وهناك في الغرفة.»…
***
مراثي العذراء. [بلا تاريخ]
«يسوع! يسوع! أين أنتَ؟ هل مازلتَ تسمعني؟ هل تسمع أُمّكَ المسكينة الّتي تصرخ، في هذه اللحظة، باسمكَ المقدّس والمبارك، بعد الاحتفاظ به في قلبها لساعات كثيرة؟ اسمكَ القدّوس، الّذي كان حبّي، حبّ شفتيّ اللتين كانتا تتذوّقان طعم العسل حين النُّطق باسمكَ، والّذي الآن، على العكس، عندما أتفوّه به فإنّ شفتيّ تبدوان ترتشفان المرارة الّتي بقيت على شفتيكَ، مرارة المزيج الفظيع... اسمكَ، حبّ قلبي الّذي كان ينتفخ فَرَحاً حينما كان يقوله، كما كان قد تمدّد لكي ينقل دمه ويستقبلكَ ويكسوكَ حينما نزلتَ مِن السماء إليّ، صغيراً جدّاً، ضئيلاً جدّاً حتّى أمكنكَ أن تحطّ في كأس نعناع برّيّ.
أنتَ، العظيم للغاية، أنتَ، القدير، المتلاشي في بِذرة إنسان مِن أجل خلاص العالم. اسمكَ، ألم قلبي، الآن وقد انتزعوكَ مِن ملاطفات أُمّكَ لرميكَ بين أذرع الجلاّدين، الّذين عذّبوكَ حتّى الموت. لقد انسحق قلبي، مِن وجوب حبس هذا الاسم طوال ساعات كثيرة، والذي كانت صرخته تتصاعد كلّما تنامى ألمكَ، حتّى انكساره، كما لو أنّ أرجل عملاق تدوسه. آه! نعم، ألمي عملاق، يسحقني، يسحنني ولا يمكن لأيّ شيء أن يخفّفه.
لمن أقول اسمكَ؟ لا شيء يجيب على صرختي. حتّى ولو كنتُ أصيح حتّى يُفتَّت الحجر الّذي يُغلِق قبركَ، فما كنتَ لتسمعه، لأنّكَ ميت. ألم تعد تسمع أُمّكَ؟ كم ناديتُكَ خلال الأعوام الأربعة والثلاثين هذه، أيا بنيّ! منذ اللحظة الّتي تبيّنتُ فيها أنّه ينبغي لي أن أكون أُمّاً، وأنّ ابني الصغير يُدعى "يسوع!". لم تكن بعد قد وُلِدتَ، وأنا، إذ كنتُ ألامس أحشائي حيث كنتَ تنمو، كنتُ أناديكَ بهدوء: "يسوع!" وكان يبدو لي أنّكَ تتحرّك لتقول لي: "ماما". قد خمّنتُ لكَ منذئذ صوتاً، كنتُ أحلم به. كنتُ أسمعه قبل أن يُوجَد. وعندما سمعتُه، ضعيفاً مثل حَمَل مولود حديثاً، يرتعش في الليلة الباردة الّتي وُلِدت فيها، عرفتُ عمق الفرح... وكنتُ أظنّني قد عرفتُ عمق الألم بسبب دموع طفلي البردان، غير المرتاح، الّذي كان يسكب بواكير دموع الفداء، وأنا لم يكن لديّ نار ولا مهد ولم أكن أستطيع التألّم بدلاً عنكَ، يا يسوع. لم يكن لديّ سوى صدري كما نار ووسادة، وحبّي للتعبّد لكَ، يا ابني القدّوس.
كنتُ أظنّني قد عرفتُ عمق الألم... وقد كان فجر هذا الألم، كان حافّته. الآن أَوْجه. الآن هو القاع. هو العمق الّذي ألمسه الآن، بعد النـزول طوال الأعوام الأربعة والثلاثين تلك، مدفوعة بالكثير مِن الأمور وواهنة، اليوم، عند أقدام صليبكَ الرهيب.
حينما كنتَ صغيراً كنتُ أهدهدكَ وأنا أغنّي: "يسوع! يسوع!" أيّ تناغم أقدس وأجمل مِن هذا الاسم، الّذي يجعل ملائكة السماء تبتسم؟ بالنسبة إليّ، كان أكثر روعة مِن الغناء الشديد العذوبة للملائكة ليلة ميلادكَ. كنتُ أرى فيه السماء، بل هي السماء بأكملها الّتي كنتُ أراها مِن خلال هذا الاسم. والآن، في قولي ذاك لكَ وأنتَ ميت لا تسمعني، ولا تجيبني، كما لو أنّكَ لم تكن في الوجود أبداً، أرى الجحيم، كلّ الجحيم. هاك: الآن أفهم معنى كلمة مُدان. وهي عدم التمكّن بعد مِن قول: "يسوع!" يا للهول! يا للهول! يا للهول!...
كم سيدوم هذا الجحيم لأُمّكَ؟ أنتَ قلتَ: "في غضون ثلاثة أيّام سأعيد بناء هذا الهيكل". طوال اليوم وأنا أكرّر كلماتكَ هذه الّتي قُلتَها، كي لا أقع صريعة، لأكون مستعدّة لتحيّتكَ لدى عودتكَ، والاستمرار في خدمتكَ... ولكن كيف يمكن أن أعرفكَ ميتاً طوال ثلاثة أيّام؟ ثلاثة أيّام في الموت، أنتَ، أنتَ، حياتي؟
ولكن كيف؟ أنتَ الّذي تعرف كلّ شيء، لأنّكَ الحكمة اللامتناهية، ألا تعرف ألم أُمّكَ؟ ألا يمكنكَ تَصوّر هذا وأنتَ تتذكّر حينما فقدتُكَ في أورشليم ورأيتَني أشقّ الجموع الّتي كانت حولكَ، بوجه غريق يلمس الشاطئ بعد معركة طويلة مع الموج والموت، بوجه امرأة تخرج مِن عذاب، منهكة، وقد هرب منها الدم، عجوزاً، منكسرة؟ حينذاك فقط كان يمكنني التفكير بأنّكَ فُقِدتَ. كان يمكنني التوهّم أنّ الأمر هكذا فقط. اليوم لا. اليوم لا. أعلم أنّكَ ميت. الوهم غير ممكن. لقد رأيتُكَ تُقتَل. حتّى لو كان الألم قد جعلني أنساه، فها هنا دمكَ على وشاحي يقول لي: "لقد مات! لم يعد لديه دم! وهذا هو آخر دم خرج مِن قلبه!" مِن قلبه، مِن قلب ولدي، مِن ابني! مِن يسوعي! آه! إلهي! يا إله الرحمة، لا تجعلني أتذكّر أنّ قلبه قد فُتِح!
يسوع، لا يمكنني أن أبقى هنا، وحدي، بينما أنتَ هناك، وحدكَ. أنا الّتي لم أحبّ قطّ طُرُق العالم ولا الجموع، وأنتَ تعلم هذا، ومنذ أن غادرتَ الناصرة، وأنا أتبعكَ باطّراد كي لا أعيش بعيدة عنكَ. لقد واجهتُ الفضول والاحتقار، ولم أهتمّ بالتعب لأنّه كان يتلاشى حينما كنتُ أراكَ، لكي أعيش حيث تكون. والآن أنا وحيدة هنا، وأنتَ هناك وحيد! لماذا لم يتركوني في قبركَ؟ كنت سأجلس بجوار سريركَ المثلج، ممسكة بواحدة مِن يديكَ بين يديّ، لكي أُشعِرك بأنّني بالقرب منكَ... لا، للإحساس بأنّكَ أنتَ بالقرب منّي. إنّكَ لا تشعر بعد بشيء. إنّكَ ميت!
كَم مِن الليالي قضيتُها بجوار مهدكَ، وأنا أصلّي، وأنا أحبّ، وأنا أتلذّذ بكَ. هل تريد أن أقول لكَ كيف كنتَ تنام، بقبضتين صغيرتين مغلقتين كبرعمي زهر بالقرب مِن وجهكَ الصغير القدّوس؟ هل تريد أن أقول لكَ كيف كنتَ تبتسم في نومكَ، وكيف، بتذكّركَ بالتأكيد لحليب أُمّكَ، كنتَ تقوم بحركة المصّ وأنتَ نائم؟ هل تريد أن أقول كيف كنتَ تستيقظ وتفتح عينيكَ الصغيرتين، وتضحك وأنتَ تراني أنحني على وجهكَ، وكيف كنتَ تمدّ يديكَ بفرح، نافذ الصبر كي أحملكَ، وكيف، بصيحة رقيقة مثل زغرودة طير الدخلة، كنتَ تطالب بغذائكَ؟ آه! كم كنتُ سعيدة حينما تلتصق بصدري وكنتُ أشعر بدفء نعومة خدّيكَ، ولمسات يديكَ لثديي!
لم تكن تعرف البقاء بدون أُمّكَ. والآن، أنتَ وحيد! سامحني يا بنيّ، لأنّني تركتُكَ وحيداً. سامحني لأنّني لم أَثُر لأوّل مرّة في حياتي ولأنّني لم أصرّ على البقاء هناك. هناك كان مكاني. لو كنتُ بجوار سريركَ المأتميّ، أرتّب لفائفكَ كما في الماضي وأُبدّلها، لكنتُ شعرت بحزن أقلّ... حتّى وإن لم يكن بمقدوركَ أن تكلّمني أو تبتسم لي، كان سيبدو لي وكأنّني أحظى بكَ، مِن جديد، صغيراً. لكنتُ سأضمّكَ إلى قلبي فلا أدعكَ تشعر ببرودة الحجر، وصلابة الرخام. ألم أحملكَ اليوم أيضاً؟ فصدر الأُمّ قادر دائماً على احتضان الابن، حتّى وإن كان رجلاً. الابن هو طفل دائماً بالنسبة لأُمّه، حتّى وإن كان مُنْـزَلاً مِن على الصليب، مكسوّاً بالجراح والإصابات.
كَم، كَم مِن الجروح! كَم مِن الألم! آه! يا يسوعي، يا يسوعي المجروح بقسوة بالغة! المجروح هكذا! المقتول هكذا! لا. لا. ربّي، لا! لا يمكن أن يكون صحيحاً! أنا مجنونة! يسوع مات؟ أنا أهذي. يسوع لا يمكن أن يموت! أن يتألّم، نعم. أن يموت، لا. فهو الحياة! هو ابن الله. هو الله. الله لا يموت.
لا يموت؟ وإذاً لماذا دُعي "يسوع"؟ ماذا تعني كلمة "يسوع"؟ هي تعني... آه! هي تعني: "مخلّص"! لقد مات! لقد مات لأنّه المخلّص. كان عليه أن يخلّص جميع البشر، باذلاً ذاته... لا، أنا لا أهذي؟ لا، لستُ مجنونة. لو كنتُ هكذا! لعانيتُ أقلّ! هو قد مات. هذا هو دمه. هذا هو إكليله. هي ذي المسامير الثلاثة: فبهذه ثقبوا جسده!
أيّها البشر، انظروا بماذا ثقبتم الله، ابني! وعليّ أن أغفر لكم. وعليّ أن أحبّكم. لأنّه هو غفر لكم. لأنّه هو قال لي بأن أحبّكم! جَعَلَني أُمّكم، أُمّاً لقتلة ولدي! واحد مِن أقواله الأخيرة، وهو يصارع حشرجة الاحتضار... "أُمّي هو ذا ابنكِ... أبناؤكِ". حتّى وإن لم أكن تلك الّتي تطيع، لوجب عليّ أن أطيع اليوم، لأنّها وصيّة المائت.
هاك. هاك يا يسوع. أنا أغفر. أنا أحبّهم. آه! قلبي يتحطّم في هذا الغفران، وفي هذا الحبّ! هل تسمع إنّني أغفر لهم وأنّني أحبّهم؟ أصلّي مِن أجلهم. هاك: أصلّي مِن أجلهم… أغمض عينيّ لكيلا أرى وسائل العذاب هذه كي أتمكّن مِن الغفران لهم، للتمكّن مِن أن أحبّهم، للتمكّن مِن أن أصلّي مِن أجلهم. كلّ مسمار يلزم لصلب كلّ إرادة لعدم الغفران مِن قِبَلي، لعدم الحبّ، لعدم الصلاة مِن أجل جلاّديكَ.
ينبغي لي، أريد أن أفكّر أنّني إلى جانب مهدكَ. حينذاك أيضاً كنتُ أصلّي مِن أجل البشر، إنّما حينذاك كان الأمر سهلاً. كنتَ حيّاً، وأنا، رغم أنّني كنتُ أعتبر البشر غليظي القلب، إلاّ أنّني لم يكن بوسعي التفكير أبداً أنّ بإمكانهم أن يكونون بمثل هذه الوحشيّة تجاهكَ، أنتَ الّذي أغدقتَ عليهم الإحسانات بما فاق كلّ حدّ. كنتُ أصلّي وأنا مقتنعة بأنّ كلامكَ كان ليجعلهم صالحين. وفي قلبي كنتُ أقول لهم وأنا أنظر إليهم: "أنتم أشرار، مرضى، الآن يا إخوتي. ولكن عمّا قليل سيتكلّم، ولكن عمّا قليل هو سينتصر على الشيطان فيكم. وسيمنحكم الحياة المفقودة!" الحياة المفقودة! وأنتَ، أنتَ، أنتَ الّذي فقدتَ حياتكَ مِن أجلهم، أيا يسوعي!
لو تمكّنتُ مِن رؤية هول هذا اليوم وأنتَ بعد في أقمطتكَ، لَتَحوَّل حليبي الحلو إلى سم بسبب الألم! لقد قالها سمعان: "سيف سيجوز في قلبكِ". سيف؟ بل غابة مِن السيوف! كم مِن الجراح أثخنوكَ يا بني؟ كم أنّة أطلقتَها؟ كم مِن تشنّج؟ كم قطرة دم سكبتَها؟ وكلّ منها كان سيفاً بالنسبة لي. أنا غابة مِن السيوف. فيكَ، لم يكن جزء واحد مِن جلدكَ دون جرح. وفيّ أنا، لم يكن جزء دون أن يُخرَق. سيوف خرقت جسدي وجازت في قلبي.
أثناء انتظاري ميلادكَ، كنتُ أهيّئ لكَ الأقمطة والبياضات بغزلها مِن أكثر كتّان الأرض نعومة، لم أنظر إلى الثمن للحصول على أملس نسيج. كم كنتَ جميلاً في أقمطة أُمّكَ! كان الجميع يقولون لي: "ابنكِ جميل يا امرأة!". كنتَ جميلاً! وجهكَ الصغير الورديّ كان يبرز مِن بياض الكتّان. كانت لكَ عينان أكثر زُرقة مِن السماء، ورأسكَ الصغير كان يبدو وكأنّه مغلّف بسُحُب ذهبيّة لشدّة ما كان شعركَ أشقر وناعماً. كانت تفوح منه رائحة زهر اللوز الموشك أن يتفتّح. كانوا يظنّون أنّني كنتُ أعطّركَ. لا، لم يكن لكنـزي سوى عطر الأقمطة الّتي تغسلها أُمّه، وتُدفّئها وتُقبّلها بقلبها وشفتيها. لم أكن أكِلّ أبداً مِن العمل لأجلكَ…
والآن؟ الآن لم يعد لي ما أفعله مِن أجلكَ. منذ ثلاث سنوات ابتعدتَ عن البيت، ولكنّكَ كنتَ ما تزال هدف أيّامي. التفكير فيكَ. في ملابسكَ. في غذائكَ: عَجن العجين وصنع الخبز، الاعتناء بالنحل لتعطيكَ العسل، العناية بالأشجار لتمنحكَ ثماراً. كم كنتَ تحب الأشياء الّتي كانت تحملها لكَ أُمّكَ! لا أيّ طعام مِن موائد الأثرياء، ولا أيّ ثوب مِن نسيج ثمين يضارع النسيج الّذي خاطته، واعتنت به، وأعدّته يد أُمّكَ. حينما كنتُ أذهب لرؤيتكَ، كنتَ تنظر على الفور إلى يديّ، كما عندما كنتَ صغيراً جدّاً، وكنّا، يوسف وأنا، نقدّم لكَ عطايانا الفقيرة كي نُشعِرك أنّكَ أنتَ "مَلِكنا". لم تكن أبداً شرهاً يا ولدي، ولكنّ الحبّ هو ما كنتَ تبحث عنه، كان هو غذاءكَ، وكنتَ تجده في عنايتنا. الآن أيضاً، هذا ما كنتَ تجده، وتبحث عنه، يا بنيّ المسكين، المحبوب قليلاً مِن العالم!
الآن، لا شيء. كلّ شيء قد تمّ. أُمّكَ لن تفعل شيئاً لكَ بعد. أنتَ لم تعد بحاجة إلى شيء... الآن أنتَ وحيد... وأنا وحيدة... آه! مغبوط هو يوسف الّذي لم يرَ هذا اليوم. ليتني لم أكن بعد هنا أنا أيضاً! إنّما لما وجدتَ حينئذ حتّى هذه التعزية برؤية أُمّكَ المسكينة. لكنتَ وحيداً على الصليب، مثلما أنتَ وحيد في القبر، وحيد مع جراحكَ.
آه! إلهي! إلهي كم مِن الجراح في ابنكَ، في ابني! كيف أمكنني رؤيتها دون أن أموت، أنا الّتي كان يُغمى عليّ حينما كنتَ وأنتَ صغير تؤذي نفسكَ؟
مرّة سقطتَ في حديقة الناصرة وجرحتَ جبهتكَ. بضعة قطرات مِن الدم. أمّا أنا، الّتي شعرتُ أنّني أموت حينما رأيتُ قطرات دمكَ أثناء ختانكَ -بالفعل كان على يوسف أن يسندني لأنّني كنت أرتعش كمن يحتضر- كان يبدو لي أنّ هذا الجرح الضئيل سيقتلكَ، وبدموعي أكثر منه بالماء والزيت اعتنيتُ به، ولم أطمئنّ إلاّ حينما توقّف عن رشح الدم. مرّة أخرى، حينما كنتَ تتعلّم الشغل، وجرحتَ نفسكَ بالمنشار، جرحاً صغيراً. ولكن الأمر كان كما لو أنّ المنشار قد قطعني إلى اثنتين. لم أرتَح إلاّ بعد ستّة أيّام، حينما رأيتُ يدكَ وقد شفيَت.
والآن؟ والآن؟ الآن، قد فُتحت يداكَ، قدماكَ، جنبكَ، الآن جسدكَ ممزّق، الآن وجهكَ تكسوه الكدمات. هذا الوجه الّذي لم أكن أجرؤ على لمسه بقبلة. وجبهتكَ وعنقكَ تكسوهما الجراح، ولم يعطكَ أحد علاجاً ولا تعزية.
انظر إلى قلبي، أيا إلهي الّذي ضربتَني في ابني! انظر إليه! أليس مثخناً بالجراح مثل جسد ابني وابنكَ؟ إنّ ضربات السوط قد سقطت عليّ مثل وابل البَرَد حينما كانوا يجلدونه. ما هي المسافة بالنسبة إلى الحبّ؟ لقد تألّمتُ عذابات ابني! كما لو أنّني كابدتُها وحدي! كما لو أنّني كنتُ أنا على حجر القبر! انظر إليّ أيا إلهي! ألا ينـزف قلبي دماً؟ ها هي دائرة الأشواك، أنا أشعر بها. رباط يعصرني ويخترقني. ها هو ثقب المسامير: ثلاثة خناجر مثبتة في قلبي.
آه! يا لهذه الضربات! هذه الضربات! كيف لم تتهاوَ السماء بسبب هذه الضربات الـمُدَنِّسة لجسد الله؟ وعدم المقدرة على الصراخ! عدم مقدرتي على الوثوب لانتزاع السلاح مِن القتلة والدفاع عن ابني المحتضر. بل وجوب سماعها، السماع… وعدم القيام بأيّ شيء! ضربة على المسمار، والمسمار يدخل الجسد الحيّ. ضربة أخرى ويدخل أكثر بعد. وأخرى وأخرى والعظام والأعصاب تتحطّم، إلى أن تخترق جسد ابني وقلب أُمّه.
وحينما رفعوكَ على الصليب؟ كم عانيتَ مِن الآلام يا ابني القدّوس! ما زلتُ أرى يدكَ تتمزّق مِن اهتزاز السقطة. وقلبي تمزّق مثلها. لقد أُصِبتُ بالرضوض، والجَلْد، والوخز، والضرب، والخَرق مثلكَ. لم أكن معكَ على الصليب، ولكن انظر إليها، إلى أُمّكَ! هل هي مختلفة عنكَ؟ لا. ما مِن اختلاف في الاستشهاد. بل إنّ استشهادكَ انتهى، أمّا الّذي لي فما زال مستمرّاً. لم تعد تَسمَع الاتّهامات الكاذبة، أنا أسمعها. أنتَ لم تعد تَسمَع التجديفات المريعة، وأنا مازلتُ أسمعها. أنتَ لم تعد تشعر بنهش الأشواك والمسامير، ولا العطش ولا الحمّى، وأنا مليئة بلسعات النار كمن يموت محروقاً ويهذي.
لو كانوا على الأقلّ سمحوا لي أن أقدّم لكَ قطرة ماء! لمنحتُكَ دموعي، إذا كانت ضراوة البشر تمنع عن الخالق الماء الّذي خلقه. لقد أعطيتُكَ مِن الحليب الكثير، لأنّنا كنّا فقراء، يا بنيّ، وفي هروبنا إلى مصر فقدنا الكثير، وكان ينبغي علينا إعادة بناء سقف لنا، وأثاث عدا عن الملابس والطعام، ولم نكن نعرف كم سيدوم هذا المنفى، ولا ما كنّا سنجده عند العودة إلى البلاد. فأعطيتُكَ الحليب وقتاً أكثر مِن المعتاد كي لا تشعر بنقص في الغذاء. كنتُ أنا عنـزتكَ، إلى أن امتلكنا عنـزة، يا طفل أُمّكَ. كان لكَ آنذاك كثير مِن الأسنان وكنتَ تعضّ... آه! يا للفرح لدى رؤيتكَ تضحك في ألعابكَ الطفوليّة!... كنتَ تريد أن تمشي. كنتَ سليماً وقويّاً للغاية. وكنتُ أسندكَ لساعات وساعات، دون شعوري بألم في الظهر، وأنا منحنية عليكَ، وأنتَ الّذي كنتَ تخطو خطواتكَ الصغيرة، ومع كلّ خطوة كنتَ تقول: "ماما!"، "ماما!". آه! يا للغبطة لدى سماعكَ تغنّي هذا الاسم!
لقد كنتَ تقول لي اليوم أيضاً: "ماما، ماما!" ولكن لم يكن بإمكان أُمّكَ سوى أن تراكَ تموت، لم أكن أستطع حتّى أن ألامس قدميكَ! قدميكَ؟ آه! حتّى وإن كانتا في متناول يديّ، فلم أكن لأستطيع لمسها حتّى لا أزيد عذابكَ. كم كان على قدميكَ المسكينتين أن تتألّما، أيا يسوعي! لو كنتُ استطعتُ الصعود إليكَ، ووضع نفسي بين الخشب وجسدكَ، وأمنع اصطدامكَ بالخشب أثناء تشنّجات الاحتضار. ما زلتُ أسمع ارتطام رأسكَ بالخشب في انتفاضاتكَ الأخيرة. وهذا الصوت، هذا الصوت يجعلني أجنّ. إنّه كالمطرقة في رأسي.
ارجع، ارجع يا ابني الغالي! ابني القدّوس! إنّني أموت. لا أستطيع تحمّل غمّي هذا. أَرِني وجهكَ ثانية. نادني ثانية. لا يمكنني التفكير بأنّكَ بدون صوت، بدون نظر، جثمان بارد وبلا حياة! آه! أيّها الآب أنجدني. يسوع لا يسمعني! ألم تنتهِ الآلام؟ ألم يتمّ الكلّ؟ ألا تكفي هذه المسامير، هذه الأشواك، هذا الدم، وهذه الدموع؟ أيلزم شيء آخر بعد لشفاء الإنسان؟
أبتاه، إنّي أذكر لكَ أدوات تعذيبه ودموعي. ولكنّ هذه كانت الأقلّ أثراً. إنّ هجْركَ له هو الّذي أماته في هذا الضيق غير البشريّ. هجْرُكَ هو الّذي يجعلني أصرخ. لم أعد أسمعكَ. أين أنتَ يا أبي القدّوس؟ كنتُ "الممتلئة نعمة". الملاك قال ذلك: "السلام لكِ يا مريم الممتلئة نعمة، الربّ معكِ، مباركة أنتِ بين النساء". لا. ليس صحيحاً! ليس صحيحاً! أنا كمن هي ملعونة منكَ بسبب خطيئتها. لم تعد معي. النعمة انسحبت، كما لو كنتُ حوّاء ثانية خاطئة.
ولكنّني كنتُ وفيّة لكَ على الدوام. بماذا خيّبتُ أملكَ؟ فعلتَ بي كلّ ما بدا لكَ، وقلتُ لكَ على الدوام: "نعم يا أبي، أنا مستعدّة". إذاً هل يمكن للملائكة أن تكذب؟ وحنّة1، الّتي أكّدت لي أنّكَ ستعطيني ملاككَ ساعة الألم؟ أنا وحيدة. ما عدتُ أجد نعمة في عينيكَ، لم أعد أمتلككَ فيّ، أنتَ، النعمة. لم يعد لي ملاك. هل يكذب القدّيسون إذاً؟ بماذا خيّبتُ أملكَ، إن كانوا هم لا يكذبون، وأنا استحققتُ هذه الساعة؟
ويسوع؟ بماذا قصّر، حَمَلكَ النقيّ والوديع؟ في أيّ شيء أخطأنا إليكَ، كي نستحقّ، بالإضافة إلى الاستشهاد الّذي سبّبه البشر، وجوب تحمّل عذاب هجركَ الّذي لا قياس له؟ هو، هو، بعدئذ، الّذي كان ابنكَ والّذي كان يناديكَ بهذا الصوت الّذي هزّ الأرض وارتجف بنحيب شفقة! كيف أمكنكَ تركه وحيداً في هذه العذابات الكثيرة؟
مسكين قلب يسوع الّذي كان يحبّكَ كثيراً! أين هي علامة جرح القلب؟ ها هي. انظر، يا أبي، إلى هذه العلامة. هنا أثر يدي الّتي دخلت في جرح الحربة الواسع. هنا.. هنا... لا الدموع، ولا قُبلة الأُمّ، الّتي أحرقت عينيها وأضنت شفتيها مِن الدموع والقبلات، قد محتها. هذه العلامة تصيح وتعاتب. هذه العلامة، أكثر مِن دم هابيل، تهتف نحوكَ مِن الأرض. وأنتَ، يا مَن لعنتَ قايين وأجريتَ عليه انتقامكَ، لم تتدخّل مِن أجل هابيلي، المنـزوف مِن كلّ قايين له، وسمحتَ بآخر إهانة! فسحقتَ قلبه بهجركَ، تركتَ إنساناً يعرّيه، كي أراه، وأنسحق. ولكن بالنسبة لي لا يهمّ. بل مِن أجله هو، مِن أجله، أسأل هذا الطلب وأناديكَ لتستجيب. لم يكن ينبغي لكَ أن…
آه! عفوكَ يا أبي! عفوكَ يا أبي القدّوس! اغفر لأُمّ تبكي ولدها... لقد مات! مات ابني! مات وقلبه مفتوح. آه! أبي، يا أبي، الرحمة! أنا أحبّكَ! نحن أحببناكَ وأنتَ أحببتَنا كثيراً! كيف سمحتَ أن يُجرَح قلب ابننا؟ آه! يا أبي!... يا أبي، الرحمة لامرأة مسكينة. أنا أهذي يا أبي.. أنا، أمتكَ، اللاشيء الّذي لكَ، أجرؤ على توجيه العتاب لكَ! الرحمة! لقد كنتَ صالحاً. لقد كنتَ صالحاً. الجرح، الجرح الوحيد الّذي لم يسبّب له ألماً، هو هذا.
هجرُكَ له جعله يموت قبل غروب الشمس، لتمنع عنه عذابات أخرى. لقد كنتَ صالحاً. تفعل كلّ شيء بهدف صالح. نحن المخلوقات الّذين لا نفهم. كنتَ صالحاً. صالحاً كنتَ. قولي يا نفسي، هذه الكلمة، لرفع عضة الآلام عنكِ. الله صالح وأحَبّكِ على الدوام يا نفسي. مِن المهد إلى هذه الساعة، أَحَبَّكِ دائماً. مَنَحَكِ كلّ فرح الزمان. كلّه. لقد مَنَحَكِ ذاته. قد كان صالحاً، صالحاً، صالحاً. شكراً يا ربّ، فلتكن مباركاً لصلاحكَ اللامتناهي!
شكراً. يا يسوع، أقول شكراً لأجلكَ كذلك! فأقلّه هذا الجرح لم تشعر به يا بنيّ! أنا وحدي شعرتُ به في قلبي حينما رأيتُ قلبكَ مفتوحاً. الآن رمحكَ هو في قلبي يحفر ويمزّق. ولكنّ هكذا أفضل! فأنتَ لا تشعر به.
لكن، يا يسوع، الرحمة! إشارة منكَ! لمسة، كلمة لأُمّكَ المسكينة بقلبها الممزَّق! إشارة، إشارة يا يسوع، إن شئتَ أن تجدني على قيد الحياة لدى رجوعكَ.»
***
تتمّة رؤيا: 29 / 03 / 1945
قَرْع قويّ على الباب يجعل الجميع يرتجف. صاحب البيت يهرب بجسارة. مريم الّتي لزَبْدي تودّ لو يتبعه ابنها وتدفع يوحنّا نحو الدار. الأخريات، ما عدا المجدليّة، يلتصقن ببعضهنّ بأنين. هي مريم المجدليّة الّتي تنتصب بشجاعة وتتّجه نحو الباب وتَسأَل: «مَن الطارق؟»
يجيب صوت امرأة: «أنا نيقي. لديّ ما أعطيه للأُمّ. افتحوا! بسرعة. الدوريّة تطوف.»
يوحنّا، الّذي انفصل عن أُمّه، وجرى إلى جوار المجدليّة، يتولّى فتح الأقفال العديدة، الّتي أُقفِلت كلّها هذا المساء. يفتح. تدخل نيقي مع خادمتها ورجل مفتول العضلات يصحبها. يُغلِقون.
«لديّ شيء...» وتبكي نيقي ولا تتمكّن مِن الكلام…
«ماذا؟ ماذا؟» يقترب منها الجميع في فضول.
«على موضع الصلب... رأيتُ يسوع في تلك الحالة... وكنتُ قد أعددتُ وشاحاً لخاصرته كي لا يستعمل خِرَق الجلاّدين... ولكنّه كان يتصبّب عرقاً، والدم على عينيه، ففكّرت أن أعطيه له كي يتنشّف. وقد فعل... وأعاد لي الوشاح. ولم أعد أستخدمه... كنتُ أريد الاحتفاظ به كذخيرة بعرقه ودمه. وحينما رأينا هياج اليهود بعد لحظة، مع بلوتينا والأخريات الرومانيّات، ليديا وفاليريا، كلّناً معاً، قررنا أن نرجع، خوفاً مِن أن ينتزعوا منّا هذا الوشاح. الرومانيّات نساء قويّات. وضعننا وسطهنّ، أنا والخادمة، ودافعن عنّا. حقّاً هنّ دَنَس لإسرائيل... وخطر هو لمس بلوتينا. ولكنّ هذه الأمور، نفكّر فيها زمن الهدوء. اليوم، كان الجميع سكارى... وفي البيت بكيتُ... لساعات... ثمّ حدث الزلزال وأُغمي عليّ... وحينما أفقتُ، أردت أن أُقبّل هذا الوشاح ورأيتُ... آه!... عليه وجه الفادي!...»
«دعينا نرى! دعينا نرى!»
«لا. الأُمّ أوّلاً، فهذا حقّها.»
«إنّها منهكة للغاية! ولن تصمد...»
«آه! لا تقولا هذا! بل على العكس سيكون تعزية لها. أخبراها!»
يقرع يوحنّا برفق عند المدخل.
«مَن؟»
«أنا يا أُمّي. نيقي بالخارج... وقد جاءت ليلاً... حاملةً لكِ تذكاراً.. هديّة... تأمل أن تعزّيكِ بها.»
«آه! هديّة واحدة يمكنها أن تعزّيني! ابتسامة وجهه...»
«أُمّي!» ويحيطها يوحنّا بذراعيه خوفاً مِن أن تسقط ويقول لها كمن يأتمنها على اسم الله الحقيقيّ: «إنّه هو. إنّها ابتسامة وجهه المطبوعة على الوشاح الّذي مسحته به نيقي على موضع الصلب.»
«آه! أبتاه! يا أيّها الله العليّ! الابن القدّوس! الحبّ الأبديّ! فلتكونوا مباركين! الإشارة! الإشارة الّتي سألتُكَ إيّاها! دعها، دعها تدخل!»
تجلس مريم، لأنّها لم تعد تتمالك نفسها، وبينما يشير يوحنّا للنسوة اللواتي يترقّبن دخول نيقي، تستعيد مريم وعيها.
تدخل نيقي وتركع عند قدميها والخادمة إلى جانبها. ويوحنّا، واقفاً بالقرب مِن مريم، يمرّر ذراعه حول كتفيها كما ليسندها. نيقي لا تتفوّه بكلمة، بل تفتح الصندوق وتُخرِج منه الوشاح، وتبسطه. ووجه يسوع، الوجه الحيّ ليسوع، الوجه المتألّم ومع ذلك المبتسم ليسوع، ينظر إلى الأُمّ ويبتسم لها.
تُطلِق مريم صيحة حبّ موجعة وتمدّ ذراعيها. تردّد النسوة صرختها مِن الباب حيث هنّ مجتمعات، ويقتدين بها جاثيات أمام وجه المخلّص.
لا تجد نيقي كلاماً. تمرّر النسيج مِن يدها إلى يد الأُمّ، وتنحني بعد ذلك لتُقبّل طرفه. ثمّ تخرج وهي تتراجع دون انتظار عودة مريم مِن انتشائها.
تمضي... لقد أصبحت خارجاً، في ظلام الليل، عندما يفطنون لها... لم يبق سوى إقفال الباب كما كان سابقاً.
مريم مِن جديد وحدها، في حديث النَّفْس مع صورة ابنها. ذلك أنّ الجميع ينسحبون مِن جديد.
يمرّ بعض الوقت. ثمّ تقول مرثا: «ماذا نفعل بشأن الدهن [الطيوب]؟ غداً هو السبت...»
«ولن نستطيع جلب شيء...» تقول سالومة.
«يجب أن نقوم بصنعه... بضعة أرطال مِن الصَبر والمرّ... ولكنّ غسله كان سيّئاً...»
«يجب أن يكون كلّ شيء جاهزاً لفجر أوّل يوم بعد السبت.» تلاحظ مريم الّتي لحلفى.
«والحرّاس؟ كيف سنتصرّف؟» تسأل سُوسَنّة.
«سنخبر يوسف إن لم يَدَعونا ندخل.» تجيب مرثا.
«لن نستطيع تحريك الحجر.»
تجيب المجدليّة: «آه! تقولين إنّنا كوننا خمساً لن نستطيع؟ نحن جميعاً قويّات... والحبّ يتكفّل بالباقي.»
«وأنا سآتي معكنّ.» يقول يوحنّا.
«أنتَ بالتأكيد لا. لا أريد أن أفقدكَ أيضاً يا بنيّ.»
«لا تفكّر بالأمر. نحن نكفي.»
«ولكن في هذه الأثناء... مَن يعطينا الطيوب؟»
يلبثن جميعهنّ مثقلات…
ثمّ تقول مرثا: «كان يمكن أن نسأل نيقي إن كان حقّاً ما قيل عن يُوَنّا... عن الاضطرابات...»
«هذا صحيح! لكنّنا حمقاوات. وكان بإمكاننا حينذاك أخذ الطيوب أيضاً... فقد كان إسحاق على عتبة بابها حينما رجعنا...»
«في القصر، الكثير مِن القوارير الصغيرة لخلاصات، والبخور الفاخر. سأذهب لأجلبها.» وتنهض مريم المجدليّة مِن مكانها وتضع الرداء.
تصيح مرثا: «لن تذهبي.»
«سأذهب.»
«أنتِ مجنونة! سوف يقبضون عليكِ!»
«أختكِ على حقّ. لا تذهبي!»
«آه! يا لكنّ مِن نساء عديمات الجدوى وصَيّاحات! في الحقيقة كان ليسوع مجموعة جميلة مِن التابعات! هل استنفذتنّ مخزون شجاعتكنّ؟ بالنسبة لي، فعلى العكس، على قدر ما أستنزفها يأتيني منها.»
«أنا سأذهب معها. أنا رجل.»
«وأنا أُمّكَ وأمنعكَ.»
«كوني مطمئنّة يا مريم سالومة، وأنتَ أيضاً يا يوحنّا. أذهب بمفردي. لستُ خائفة. أعرف ما يكون التجوال في الشوارع أثناء الليل. قد فعلتُ ذلك آلاف المرات مِن أجل الخطيئة... هل عليّ أن أخشى الآن وأنا أذهب لخدمة ابن الله؟»
«ولكن اليوم المدينة في اضطراب. لقد سمعتِ الرجل.»
«إنّه أرنب، وأنتم أيضاً. سأذهب.»
«وإن التقيتِ الجنود؟»
«سأقول: "أنا ابنة ثيوفيلوس، السوري، خادم قيصر الأمين". وسيتركونني أمضي، ثمّ... إنّ الرجل أمام امرأة شابة وجميلة هو لعبة مسالمة أكثر مِن قشة تبن. أنا أعلم ذلك، لخجلي...»
«ولكن أين يمكنكِ إيجاد الطيوب في قصر مهجور منذ سنوات؟»
«أتظنّين هذا؟ آه! مرثا! ألا تتذكرين كيف أنّ إسرائيل قد أرغمتكم على مغادرته لأنّه كان واحداً مِن أماكن لقائي مع عشّاقي؟ وكان عندي فيه كلّ ما يُستَخدَم في جعلهم أكثر جنوناً بي. وحينما خلّصني مخلّصي، خبّأتُ في مكان، أعلمه أنا وحدي، قوارير المرمر والبخور اللذين كنتُ أستخدمهما في قصوف الحبّ. وأقسمتُ أن تكون دموعي وحدها على خطيئتي وتعبّدي ليسوع كلّيّ القداسة هي عطري وبخوري العَطِر لمريم التائبة، وأنّ علامات عبادتي الدَّنِسة للحواسّ والجسد، سأستخدمها فقط لأقدّسها عليه ولدهنه. الآن هي الساعة. أنا ذاهبة. امكثوا في سكون. معي ملاك الله ولن يحدث لي سوء. وداعاً. سآتيكم بالأخبار. ولا تقولوا لها شيئاً... فهذا يفاقم قلقها...»
وتخرج مريم المجدليّة واثقة مِن نفسها، مهيبة.
«أُمّي، هذا يعلّمكِ درساً... ويقول لكِ: "لا تجعلي العالم يقول إنّ ابنكِ جبان". غداً، أو بالأحرى اليوم، إذ الآن هو الهزيع الثاني، سأذهب للبحث عن الرفاق، كما أرادت...»
«إنّه السبت... لا يمكنكَ...» تعترض سالومة كي تبقيه.
«"السبت مات" أقول ذلك أنا أيضاً مع يوسف. العهد الجديد قد بدأ. ومعه شرائع أخرى، تضحيات أخرى، وطقوس أخرى.»
تحني مريم سالومة رأسها على ركبتيها وتبكي بلا احتجاج.
«آه! لو يمكننا الحصول على الأخبار عن لعازر!» تنوح مريم الّتي لكلوبا.
«لو تدعوني أمضي، فستحصلون عليها. لأنّ سمعان الكنعانيّ قد تلقّى أمراً بأن يقود الرفاق إلى بيته، بيت لعازر. يسوع قال هذا لسمعان بحضوري.»
«واحسرتاه! كلّهم هناك؟ إذاً فقد ضاع الجميع!» مريم الّتي لكلوبا وسالومة تسكبان دموع الهمّ.
يمضي بعض الوقت وسط الدموع والانتظار. ثمّ تعود مريم المجدليّة منتصرة، محمّلة بحقائب مليئة بالقوارير الثمينة.
«أترون أنّه لم يحدث شيء؟ ها هي زيوت مِن كلّ نوع، وناردين، ولبان، وراتنج بلسميّ. وما مِن مرّ ولا صبر... لم أكن أريد أيّة مرارة... فأنا أتجرّعها كلّها الآن... إنّما في هذه الأثناء سنمزج هذه وغداً سنأخذ... سنأخذ المرّ والصبر... آه! بالدفع، إسحاق سيمنحنا إيّاها حتّى ولو كان سبتاً.»
«هل رأوكِ؟»
«لا. لم أصادف في الأرجاء ولا حتّى خفّاش.»
«والجنود؟»
«الجنود؟ أظنّهم يشخرون في مضاجعهم.»
«والعصيانات... والاعتقالات...»
«خوف ذاك الرجل هو الّذي رآها...»
«مَن في القصر؟»
«إنّما لاوي وزوجته. إنّهما في سلام مثل الأطفال. لقد فرّ الرجال المسلّحون… إيه! إيه! لدينا شجعان لا يهابون، بإيماني!... لقد فرّوا بمجرّد أن علموا بالإدانة. أقول الحقّ: روما قاسية وتستعمل السوط... لكن بهذا تُخيف وتُخدَم. ولديها رجال، وليس أرانب... آه! نعم! هو كان يقول: "سيعرف أتباعي مصيري نفسه". هوم! لو انضمّ كثير مِن الرومان إلى يسوع، هذا ممكن. أمّا لو استلزم الأمر شهداء مِن الإسرائيليّين! فسيبقى بمفرده... هذه حقيبتي. وهذه ليُوَنّا، الّتي... نعم. نحن لسنا جبناء فقط، بل كَذَبَة. يُوَنّا منهكة فقط. هي وإليز شعرتا بالتوعّك على الجلجلة. الواحدة، أُمّ رأت ابنها ميتاً، وبسماعها حشرجات يسوع شعرت بتوعّك. والأخرى رقيقة، لم تعتد على السير الطويل وتحت الشمس. ولكن لا جراح ولا احتضار. بالتأكيد هي تبكي مثلنا. ليس أكثر. وهي تتأسّف لابتعادها. وستأتي غداً وهي ترسل طيوبها، ما كان لديها. ومعها كانت قد مكثت فاليريا بأمر مِن بلوتينا، والآن رحلت مع العبيد إلى منزل كلوديا، ذلك أنّ لديهنّ الكثير مِن البخور. وحينما تأتي، لأنّها هي أيضاً، شكراً للسماء، ليست أرنباً برّياً يرتعش دائماً، لا تبدأن في الصراخ كما لو كنتنّ تشعرن بسيف ذي حدّين على رقابكنّ. هيّا، انهضن! لنأخذ الهاونات، ولنعمل. البكاء لن يجدي نفعاً، أو على الأقلّ ابكين واعملن. بلسَمنا سترطّبه دموعنا، وسيشعر بها عليه... سيشعر بحبنا.» وتعضّ شفتيها حتّى لا تبكي ولتهب الشجاعة للأخريات، المنهكات حقّاً.
ويعملنَ بهمّة.
مريم تستدعي يوحنّا.
«أُمّي، ما بكِ؟»
«هذه الضربات...»
«إنّهنّ يسحقن البخور...»
«آه! ولكن... عذراً... لا تُصدِروا هذه الضجة... تبدو لي أنّها المطارق...»
بالفعل المدقّات النحاسيّة على قدور الهاون تُصدِر حقّاً صوت المطارق.
يخبر يوحنا النساء فيخرجن إلى الدار حتّى يخفت الصوت.
يعود يوحنّا إلى الأُمّ.
«كيف حصلن عليه؟»
«مريم أخت لعازر ذهبت إلى قصرها وإلى يُوَنّا... وسيُجلَب المزيد...»
«ألم يأتِ أحد؟»
«لم يأتِ أحد بعد نيقي.»
«ولكن انظر إليه يا يوحنّا، كم هو جميل حتّى في ألمه هذا!» مريم ويداها متشابكتان، مستغرقة أمام الوشاح الّذي بسطته على صندوق وثبتته بأثقال.
«جميل، نعم يا أُمّي. ويبتسم لكِ... لا تبكي بعد... ها قد مرّت عدّة ساعات. ويقلّ زمن انتظار عودته...» ومع ذلك يبكي يوحنّا…
تمسح مريم خدّه، وهي لا تنظر إلاّ إلى صورة ابنها. يخرج يوحنّا، وقد أعمته الدموع.
كذلك المجدليّة، الّتي رجعت لتأخذ القوارير، كانت في نفس الظروف. ولكنّها تقول للرسول: «يجب ألا يرانا أحد نبكي، وإلاّ فإنّ هؤلاء لن يُحسِنَّ فِعل شيء بعد. وينبغي العمل...»
«...وينبغي الإيمان.» ينهي يوحنّا.
«نعم، الإيمان. لو لم يكن بالإمكان الإيمان، لساد اليأس. أنا أؤمن. وأنتَ؟»
«وأنا أيضاً...»
«أنتَ تقولها بشكل سيّئ. أنتَ لا تحبّ بعد كفاية. فلو كنتَ تحبّ بكلّ ذاتكَ، فلا يمكنكَ ألّا تؤمن. الحبّ هو نور وصوت، كذلك في مواجهة ظلمات الإنكار نفسه وصمت الموت يقول: "أؤمن".»
المجدليّة رائعة، فارعة للغاية وجليلة، حاسمة في اعترافها الإيمانيّ! لا بدّ أنّ قلبها معذَّب، وعيناها اللتان تحرقهما الدموع تقولان ذلك، ولكنّ نَفْسها لم تُقهَر.
ينظر إليها يوحنّا بإعجاب ويهمس: «أنتِ شجاعة!»
«دائماً. كنتُ هكذا إلى درجة تحدّيّ العالم، وكنتُ بدون الله حينذاك. الآن وقد حصلتُ عليه هو، أشعر أنّني أستطيع أن أتحدّى حتّى الجحيم. أنتَ الصالح، عليكَ أن تكون أكثر شجاعة منّي. ذلك أنّ الخطيئة تُحبِط، هل تعلم؟ أكثر مِن الهزال. ولكن أنتَ بريء... ولهذا كان يحبّكَ كثيراً...»
«وكان يحبّكِ كذلك...»
«وأنا لم أكن بريئة. ولكنّني كنتُ غنيمته و...»
قرع شديد على الباب.
«إنّها فاليريا، افتح.»
يفتح يوحنّا بلا خوف، يسوده هدوء مريم.
فعلاً هي فاليريا مع عبيدها الّذين يحملون الـمِحَفّة الّتي نزلت منها. تدخل وهي تحيّي باللاتينية: «السلام [Salve].»
«السلام لكِ يا أخت، ادخلي.» يقول يوحنّا.
«هل أستطيع أن أقدّم للأُمّ تقدمة بلوتينا؟ وكلوديا ساهمت أيضاً. إن لم تسبّب رؤيتها لي ألماً.»
يدخل يوحنّا عند مريم.
«مَن الطارق؟ بطرس؟ يهوذا؟ يوسف؟»
«لا، إنّها فاليريا. لقد أحضرت راتنجاً ثميناً. وتودّ تقديمه لكِ... إن لم يسبّب لكِ هذا ألماً.»
«عليّ أن أسمو فوق الألم. هو دعا أبناء إسرائيل والوثنيّين إلى ملكوته. دعاهم جميعاً. الآن... هو مات... ولكنّني أنا هنا مِن أجله، وسأستقبل الجميع. فلتدخل.»
تدخل فاليريا. خلعت رداءها الداكن وهي ترتدي ثوباً ناصع البياض. تنحني حتّى الأرض، تحيّي وتتكلّم: «سيّدتي، أنتِ تعرفين مَن نحن. إنّنا أوّل المفتديات مِن ظلمة الوثنيّة. لقد كنّا وحلاً وظلمة. ابنكِ منحنا أجنحة ونوراً. الآن هو.... يرقد في سلام. ونحن نعرف عاداتكم. ونريد أن تُصَبّ طيوب روما أيضاً على الظافر.»
«فيلبارككنّ الرب يا بنات ربّي. و... اغفرن لي إن كنتُ لا أعرف أن أقول أكثر...»
«لا تجهدي نفسكِ يا سيّدتي. روما قويّة، ولكنّها تعرف كذلك أن تدرك الحزن والحبّ. إنّها تفهمكِ أيتها الأُمّ المتألّمة. الوداع.»
«ليكن السلام معكِ يا فاليريا! ولبلوتينا، ولكنّ جميعاً، بركتي.»
تنسحب فاليريا تاركة بخورها وخلاصات أخرى.
«أترين يا أُمّي؟ الجميع يقدّم لِمَلِك السماء والأرض.»
«نعم.» تقول مريم. «كلّ العالم. وأُمّه لم تستطع أن تهبه سوى الدموع.»
يصيح ديك فَرِحاً في مكان ما غير بعيد مِن هنا. ينتفض يوحنّا.
«ماذا بكَ يا يوحنّا؟» تسأل العذراء.
«كنتُ أفكّر بسمعان بطرس...»
«ولكن ألم يكن معكَ؟» تسأل المجدليّة الّتي دخلت الغرفة.
«بلى. في منـزل حنّان. ثمّ أدركتُ أنّه كان عليّ أن آتي إلى هنا. وما عدتُ رأيتُه بعد ذلك؟»
«عمّا قليل ينبلج الفجر.»
«نعم. افتحوا.»
يفتحون النوافذ، وتتبدّى الوجوه أكثر هلعاً في شحوب نور الفجر الأخضر.
انتهت ليلة الجمعة المقدّسة.
----------
1- حنّة التي لفانوئيل: معلّمة مريم في الهيكل.