ج3 - ف86
أَنَا هُوَ
ماريا فالتورتا
L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO
THE GOSPEL AS REVEALED TO ME
بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}
L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ
MARIA VALTORTA
الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.
الجزء الثالث / القسم الثاني
86- (الوصول إلى بِتّير)
20 / 07 / 1945
لقد طَرَأَ تغيير على التَّابع الحيوانيّ لجماعة الرُّسُل. لَم يَعُد هناك تَيس، بل تَبدَّلَ بنعجة وحَمَلين. نعجة سمينة بضروع مليئة، وحَمَلين صغيرين فرحين مثل صبيّين. قطيع مُصغَّر رغم مظهره الأقلّ سحراً مِن التيس الأسود، فإنّه يُعجِب الجميع أكثر.
«كنتُ قد قُلتُ لكم إنّ عنـزة تأتي لِتَجعل مِن مارغزيام راعياً صغيراً سعيداً. وها بَدَل العنـزة، بما أنّكم لا تريدون أن تعرفوا شيئاً عن التَّيس، قد أتت النِّعاج، بيضاء كما كان يَحلم بها بطرس.»
«بالتأكيد لا نريد! فقد كان يبدو لي أنّ بعلزبول يتبعني!» يقول بطرس.
«بالفعل، مُذ أصبَحَ مَعَنا، والأحداث المزعجة تتوالى. فقد كان كالسحر في إثرنا.» يؤكِّد الاسخريوطيّ ساخِطاً.
«سِحر جيّد إذن. فأيّ شَرّ حَصَلَ لنا؟» يقول يوحنّا بهدوء.
يَصرُخ الجميع، كما لِيَتَّهموه بالعمى. «ولكن ألم تَرَ كيف استَهزَؤوا بِنا في مودين؟» «وتلك السَّقطَة التي سَقَطَها أخي، ألا يبدو لكَ ذلك شيئاً؟ لقد كان مِن الممكن أن يُجرَح جُرحاً بَليغاً. وماذا كُنّا سنفعل لجلبه لو كان كُسِر له ساق أو عمود فقريّ؟» «وفي الليلة السابقة، هل بَدَت لكَ الاستراحة مُحَبَّبَة؟»
«لقد رأيتُ كلّ شيء، وأخذتُ كلّ شيء بعين الاعتبار، وباركتُ الربّ لأنّه لَم يَصبنا شرّ. فقد أقبَلَ الشرّ نحونا ثمّ هَرَبَ، مِثل كلّ مرة، وحتماً فإنّ اللقاء قد جَعَلَ زَرع خير عَميم يَدوم في مودين، كما لَدى الكَرَّامين الذين هَرَعوا وهُم على يقين بأن يَلقوا جريحاً واحداً على الأقلّ، والنَّدَم على التقصير في ممارسة المحبّة، لِدَرَجة أنّهم رَغبوا في إصلاح الأمور؛ إضافة إلى أن لصوص الليلة الماضية لَم يؤذونا، بينما نحن، أي بطرس، قد رَبِحنا فيها النِّعاج، بالتَّبادُل مع التَّيس وكهديّة بسبب إنقاذهم. والفُقراء حَصَلوا على مال كثير بفضل عطايا التجّار وتَقادم النساء. والأثمن مِن ذلك كلّه هو حصول الجميع على كلمة يسوع.»
«يوحنّا على حقّ.» يقول الغيور ويوضاس تدّاوس. ويَخلص هذا الأخير إلى: «يبدو بحقّ أنّ كلّ شيء يَحصَل بحسب معرفة واضحة مُسبَقة بالمستقبل. فالتواجد هنا بالضبط، متأخّرين بَعد سقوطي، وفي الوقت ذاته مع تلك النساء المكسوّات باللآلئ، وأولئك الرُّعاة مع قطعانهم السمينة، وأولئك التجّار الـمُحمَّلين نقوداً، وهُم معاً غنيمة ما بَعدها غنيمة لِقُطّاع الطُّرق! يا أخي، قُل لي الحقيقة؛ هل كنتَ تَعلَم ما سوف يَحصل؟» تدّاوس يَسأَل يسوع.
«لقد قلتُ لكم مرّات كثيرة إنّي أقرأ ما في القلوب، وحيث إنّ أبي لا يتصرّف بشكل مختلف، فإنّني لا أجهَل ما ينبغي أن يَحصل.»
«ولكن لماذا تَرتَكِب الأخطاء أحياناً؟ كذهابكَ إلى فرّيسيّين أعداء أو إلى مدن مُعادية بِرمَّتها؟» يَسأَل يهوذا الاسخريوطيّ.
يُحدِّق فيه يسوع، ثمّ يقول بهدوء وببطء: «هذه ليست أخطاء. بل هي ضرورات رسالتي. يحتاج المرضى إلى طبيب والجاهِلون إلى معلّم. وهؤلاء مثل أولئك يَرفضون الطبيب أو المعلّم. إنّما إذا كان الأطبّاء جيّدين والمعلّمون صالحين، فإنّهم يستمرّون في الذهاب إلى أولئك الذين يَرفضونهم، لأنّ واجبهم يَكمُن في المضيّ إليهم. وأنتم تريدون أن تَسقُط كلّ مقاومة ورفض، حيثُمّا أحلّ. يمكنني فِعل ذلك، ولكنّني لا أُمارِس العنف مع أحد. أَعمَل على الإقناع، أَمّا الإكراه فيُستَخدَم في حالات استثنائيّة جدّاً، وفقط حينما يُدرِك الروح الـمُنار مِن الله أنّه يُمكن لذلك أن يُساهِم في الإقناع بوجود الله، وأَنّه الأقوى، أو أيضاً عندما يكون الهدف مِن ذلك خلاص أعداد غَفيرة.»
«كما حَصَل ليلة أمس؟» يَسأَل بطرس.
«ليلة أمس خاف قطّاع الطرق جرّاء رؤيتهم إيّانا متيقِّظين لمقابلتهم.» يقول الاسخريوطيّ باحتقار جَليّ.
«لا، بل هُم اقتَنَعوا نتيجة الكلام.» يقول توما.
«نعم! يمكنك الانتظار على الدوام! في الحقيقة إنَّ النُّفوس الرقيقة فقط هي التي اقتنعت بِكَلِمَتين، حتى ولو كان قائِلها هو يسوع بذاته! عرفت ذلك، أنا، في تلك المرّة التي هوجمنا فيها، عائلتي كلّها وأنا وأناس كثيرون مِن بيت صيدا، في مَسلَك أَدُمِّيم!» يُجيب فليبّس.
«يا معلّم، قُل لي: منذ الأمس كنتُ أودُّ سؤالك. بالنتيجة، هل هي كَلِماتكَ أَم هي إرادتكَ التي تؤدّي إلى مَنع حدوث أيّ مكروه؟» يَسأَل يعقوب بن زَبْدي.
يبتسم يسوع ويصمت.
يجيب متّى: «أظنُّها إرادته هي التي سَيطَرَت على قسوة قلوبهم وشَلَّتها، لِتَسمَح له بالكلام وتخليصهم.»
«أنا كذلك أظنُّ الأمر هكذا، لأجل ذلك بَقِيَ هناك وحيداً يَنظُر إلى الغابة. فقد كان يُبقيهم تحت سلطانه بِنَظرته، بِثِقته، بِسُكونه دون دفاع، فلم يكن معه حتّى عصا!...» يقول أندراوس.
«حسناً، ولكنّ هذا كله نقوله نحن. إنّها أفكارنا. أودُّ معرفة رأي المعلّم.» يقول بطرس.
وهذا ما أدّى إلى نقاش حادّ، لَم يتدخّل فيه يسوع. يقول البعض إنّ يسوع، باعتباره قد صَرَّحَ بأنّه لا يُرغِم أحداً، فهو لَم يَكُن لِيَستخدم العنف، حتّى مع قطّاع الطرق أولئك. هذا ما قاله برتلماوس. أمّا الاسخريوطيّ فعلى العكس، يقول، ويُسانده توما قليلاً، إنّه لا يمكن الاعتقاد بأن تكون لِنَظرة رَجُل كلّ ذلك السلطان. ويجيب متّى قائلاً: «ذلك السلطان، وأكثر أيضاً. فأنا قد اهتديتُ بنظرة منه، حتّى قبل سماع كلامه.» وتتقابل النَّعَم واللَّا بعنف، ويتمسّك كلّ بوجهة نَظره الخاصّة. أمّا يوحنّا فيصمت مثل يسوع، ويبتسم، خافضاً رأسه ليُخفي ابتسامته. يُعاوِد بطرس المواجهة، لأنّ حُجَج رفاقه لم تُقنِعه. يُفكِّر ويقول إنّ نظرة يسوع تختلف عن نظرة أيّ رجل كان، وهو يريد معرفة ما إذا كان ذلك لأنّه يسوع: مَسيّا، أم لأنّه الله.
يتكلّم يسوع قائلاً: «الحقّ أقول لكم إنّني لستُ أنا فقط، بل أيّ إنسان كان، حينما يَذوب في الله بقداسة وطُهر وإيمان غير مَشوب، فسيمكنه فِعل ذلك وأكثر. وإنّ نَظرة طفل، إذا كان روحه مُتَّحِداً بروح الله، يمكنها هَدم معابد الأصنام، دون هَزّها مثل شمشون، وفرض اللُّطف والنُّعومة على الوحوش والناس المتوحِّشين، ودفع الموت، والانتصار على أمراض الروح، كما أنّ كلمة الطفل الذائب في الربّ، هي أيضاً أداة في يد الربّ، ويمكنها كذلك شفاء الأمراض، ونزع السموم مِن الحيّات، واجتراح كلّ أنواع المعجزات. لأنّ الله هو الذي يتصرّف مِن خلاله.»
«آه! لقد فهمتُ!» يقول بطرس ويَنظُر، يَنظُر إلى يوحنّا. ويَصِل بالتالي إلى استنتاج يُكوّنه داخليّاً ويقوله بصوت مُرتَفِع: «أنتَ يا معلّم، لديكَ هذا السلطان لكونكَ الله وإنساناً متّحداً بالله. ويمكن أن يَحصل ذلك لِمَن يتوصَّل، أو قد تَوَصَّل إلى الاتّحاد بالله. فهمتُ! فهمتُ!»
«ولكن ألا تَسأَل عن مفتاح هذا الاتّحاد، ولا عن سرّ هذا السلطان؟ ولكن ليس جميع البشر يتوصَّلون إلى ذلك، رغم أنّ لدى الجميع فُرَص النجاح ذاتها.»
«صحيح! أين هو مفتاح تلك القوّة التي تُوحِّد بالله وتُسيطر على كلّ شيء؟ أصلاة هو أم كلام سرّي؟...»
«منذ قليل، كان يوضاس بن سمعان يَتَّهِم التَّيس بأنّه السَّبَب في كلّ الحوادث المؤسِفة التي حَصَلَت لنا. وما مِن أسحَار متعلّقة بالحيوانات. اطردوا كلّ التشاؤم الذي ما زال مِن الوثنيّة، والذي يمكنه التسبّب بالشقاء. وكذلك ليست هناك صِيَغ لإجراء الشعوذات، وليست هناك كلمات سرّيّة تتحقّق بها المعجزات. فليس هناك سوى الحبّ. وكما قُلتُ مساء الأمس، إنّ الحبّ يُهدِّئ العَنيفِين ويُشبِع الشَّرِهين. الحبّ: هو الله. وحين يكون الله فيكم مُمتَلَكاً كلّيّاً باستحقاق حبّ كامل، تُصبِح العين ناراً تَحرق الأصنام، وتَرمي التماثيل أرضاً، والكلمة تُصبِح سلطاناً. وأيضاً تُصبِح العين سلاماً يَنـزَع كلّ سلاح. ولا أحد يُقاوِم الله والحبّ. وحده الشيطان يُقاوِم لأنّه الكراهية الكاملة، ومعه يُقاوِم أبناؤه. أمّا الآخرون، الضعفاء الذين يتملّكهم ميل أو هوى، ولكنّهم لَم يَبيعوا أنفسهم بإرادتهم إلى الشيطان، فلا يُقاوِمون. ومهما يَكن مَذهَبهم، أو غياب إيمانهم، ومهما يكن مستوى التدنّي الروحيّ لديهم، فإنّهم متأثّرون بالحبّ، وهو أعظم المنتَصِرين. حاوِل التوصّل إلى ذلك وبسرعة، وستفعل ما يفعله أبناء الله، والذين يَحملون الله.»
تبقى عينا بطرس تَنظُران إلى يوحنّا؛ كذلك الغيور، أمّا ابنا حلفى ويعقوب مع أندراوس فإنّهم متوقِّدو الذكاء وهُم يَتقَصُّون.
«ولكن، يا ربّ» يقول يعقوب بن زَبْدي. «ماذا جَرى لأخي؟ إنّكَ تتحدّث عنه. فهو الوَلَد الذي يَجتَرِح المعجزات! هل هذا ما تعنيه؟ هل الأمر كذلك؟»
«ماذا فَعَلَ؟ لقد قَلَبَ صفحة في كتاب الحياة، وقَرَأَ، وعَرِف أسراراً جديدة. لا شيء أكثر. لقد سَبَقَكم، فهو لا يتوقّف ليأخذ العوائق بعين الاعتبار، أو ليَزن كل الصعوبات ويَحسب العائد. ولكنّه لا يَنظُر إلى الأرض. لَم يَعد يراها. إنّه ينظر إلى النور ويتوجَّه إليه، دون توقُّف. إنّما دَعوه وشأنه. فالنُّفوس التي تُصيبها الشُّعلة، ينبغي لها ألّا تَضطَرِب بالحرارة التي تملأها فرحاً وتَحرقها. يجب تركها تَحتَرِق. إنّه الفرح الأعظم والتعب الأكبر. والله يمنحهم فترات ظلام، لأنّه يَعلَم أنّ الحرارة تقتل النُّفوس-الزهور، إذا ما كانت معرَّضة للشمس بشكل مستمرّ. ويَمنح الله صَمتاً وندى سرّياً لتلك النُّفوس-الزهور، كما لِزهور الحقل. دَعوا رياضيّ الحبّ يستريح، عندما يَدَعه الله يَفعل ذلك. اقتدوا بمعلّمي الرياضة الذين يَمنَحون تلاميذهم استرخاءات عاديّة... عندما تتوصّلون أنتم كذلك، إلى حيث توصَّلَ هو، وأَبعَد أيضاً، لأنّكم سَتَمضون أبعد، سَتُدرِكون الحاجة إلى الاحترام والصمت، إلى شبه الظلّ الذي تَختَبِره النُّفوس التي جَعَلَ منها الحبّ فريسته وأداته. فلا تُفكِّروا: "ستكون لي، أنا، متعة معروفة، ويوحنّا غبيّ، لأنّ نَفْس القريب، مثل تلك التي للأطفال، تسعى لأن تجتذبها الخوارق". لا. فعندما ستتوصّلون إلى ذلك، ستكون لكم الرغبة ذاتها في الصمت والظلّ التي ليوحنّا الآن. وعندما لا أعود فيما بينكم، تَذَكَّروا أنّه إذا كان لكم أن تَحكموا على هِداية أو على دَرَجة مِن القداسة، فينبغي أن يكون الأساس بالنسبة إليكم هو التَّواضع. وإذا ما أَصرَّ أحد على الكبرياء، فلا تُخدَعوا بهدايته. وإذا هَيمَن الكبرياء على أحد يُقال عنه "قدّيس"، فَكونوا على يقين بأنّه ليس قدّيساً. يمكنه تَصَنُّع القداسة، كَدَجَّال ومُنافِق، وكذلك التَّظاهُر بِفِعل الخوارق، ولكنّه ليس قدّيساً. فمظهره مجرّد رياء، وخوارقه شيطانيّة. هل أدركتم الآن؟»
«نعم يا معلّم.»... ويَصمت الجميع، ويَغرَقون في التفكير. وإن بَقيَت الأفواه مُغلَقَة، فيمكن التكهّن بجلاء بأفكارهم، مِن نظراتهم، ومِن تعبير مَحيّاهم. رغبة عارمة في المعرفة تَرتَعِش كالأثير حولهم، وقد أفلَتَت منهم…
يتفنّن الغيور في الترفيه عن رفاقه، لتكون له فرصة التحدّث إليهم بشكل خاصّ، وحتماً لينصحهم أيضاً بالصمت. لديَّ انطباع بأنّ الغيور يُمارِس هذا الدور كثيراً ضمن المجموعة الرَّسوليّة. إنّه الـمُلطِّف والـمُصلِح والنَّاصِح لرفاقه، عدا عن أنّه الذي يَفهَم المعلّم بشكل جيّد جدّاً. وهو يقول الآن: «ها قد أصبحنا ضِمن أراضي يُوَنّا. البلدة هنا تُدعى بِتّير. وذاك القصر الذي على القمّة هو القصر، مسقط رأسها. هل تتنشّقون هذا الأريج في الجوّ؟ إنّها حدائق الزهور، وهي التي تبدأ بنشره عند شمس الصباح، وفي المساء يُصبِح العطر قويّاً. ولكنّها الآن جميلة جدّاً للنَّظَر في انتعاش الصباح هذا، وهي ما تزال مغطّاة بالندى الذي يَلمَع على التويجات، كملايين الماسات، بينما تتفتّح للشمس. وعند المغيب تُقطَف كلّ الزهور التي اكتَمَل نموّها. تعالوا. سوف أريكم، من إحدى الزوايا، مَنظَر مجموعة مِن حدائق الورود التي تَفيض مِن القمّة، كشلّال، على المنحدرات في السفح الآخر. إنّه شلّال زهور يتصاعد، بعد ذلك، مِثل مَدّ على الرابيتين الأخريين. إنّها مُدَرَّج، نهر زهور. إنّها رائعة. الدرب هنا أشدّ انحداراً، ولكنّه جدير باتّباعه، لأنّنا بذلك نطلّ على تلك الجنّة كلّها. وسوف نَصِل بسرعة إلى القصر. فيه تعيش يُوَنّا حرّة، وسط فلّاحيها الذين يَحرسون، وحدهم، كلّ تلك الثروة. ولكنّهم يُحبّون معلّمتهم حبّاً جمّاً، فهي تَجعَل مِن تلك الوديان عَدَن الجمال والسلام، وهُم أفضل مِن حُرّاس هيرودس. هي ذي، انظر يا معلّم، انظروا يا أصدقائي.» ويُشير بيده إلى مُدَرَّج نصف دائري مِن الروابي تغمرها الورود.
في إحدى الجهات التي تطلّ عليها الأنظار، تحت الأشجار الشاهقة التي تقوم بالحماية مِن الرياح، ومِن أشعّة الشمس شديدة الحرارة، ومِن البَرَد، تُرى شجيرات وشجيرات ورد. تنتشر الشمس وكذلك الهواء تحت تلك الملاذات التي تَستر المزروعات قليلاً، ولكنّها لا تَطغى عليها. ويُحافِظ البستانيّون على وضعها، ذلك أنّ تحتها تعيش، مُنتَشِية، أجمل شجيرات الورد في العالم. وهناك منها الآلاف والآلاف مِن كلّ نوع: شجيرات ورد قزمة، قصيرة، كبيرة، وكبيرة جدّاً. مرتبة على شكل طاقات، كوسادات موشّاة بالزهور عند أسفل الأشجار، في حقول العشب الأخضر، أو تُشكِّل أسيجة على طول الدروب، على ضفاف الأنهار، ودائريّة حول برك الإرواء، ومُبعثَرَة عَبْر مُنتَزَه يَشمل عدّة روابي، أو بالحريّ تلتفّ حول الأشجار، بِشَعر مُزهِر، يُشكِّل، بين الشجرة والأخرى، ضفائر وأكاليل. إنّها بحقّ حديقة الأحلام. ففيها المقاسات كلّها والأشكال جميعها، ويَختَلِط بعضها ببعض، جاعلة ألوان العاج في بعض الورود إلى جانب ألوان الدم الأحمر لتويجات أخرى، ومُهيمِنة مِثل مَلِكات بِفَضل عددها، الورود الحقيقيّة التي بلون خَدَّي طفل تتدرّج على الضفاف بألوان الأبيض المتّشح بالورديّ.
يبقى التلاميذ كلّهم في ذُهول لهذا الكمّ مِن الجمال.
«ولكن، ماذا تفعل بكلّ هذا؟» يَسأَل فليبّس.
«تتمتّع بها.» يُجيب توما.
«لا. بَل تَستَخرِج منها العطر كذلك، مُتيحة بذلك فُرَص العمل لمئات البستانيّين والمتمرّسين في استخلاص العطور. فالرومان مُتعطِّشون لها. كان يوناثان يقول لي ذلك مُظهِراً لي حسابات آخر قِطاف. ولكن ها هي ذي هناك مريم التي لحلفى مع الصبيّ. لقد رَأَيَانا ويُناديان الأُخريات...»
بالفعل، هي ذي يُوَنّا ومريم ومريم، يَسبقهنّ مارغزيام الذي يَنحَدِر جرياً، فاتِحاً ذراعيه للعناق. يتوجّهون بسرعة إلى يسوع وبطرس، ويَركَعون أمام يسوع.
«السلام لكم جميعاً. أين هي أُمّي؟»
«إنّها وسط حدائق الورد، يا معلّم، مع إليز. آه! لقد شُفِيَت تماماً! ويمكنها مجابهة العالم وأتّباعكَ. شكراً لاستخدامكَ إيّايَ مِن أجل ذلك.»
«شكراً لكِ يا يُوَنّا. أَتَرَين أنّ مجيئنا إلى اليهوديّة كان مُجدياً؟ مارغزيام، هذه هدايا لكَ. هذه الدمية الجميلة وتلك النِّعاج الجميلة. هل يعجبكَ هذا؟»
كاد تَنَفُّس الصبي يَنقَطِع مِن شدّة الفرح. يمضي إلى يسوع الذي ينحني كي يعطيه التمثال الصغير، وقد بقي هكذا يَنظُر إلى وجهه. يرتمي الصبيّ على عُنقه، مُقبِّلاً إيّاه بحميّة قدر استطاعته.
«هكذا ستكون لطيفاً مع النِّعاج، لِتُصبح، فيما بعد، راعياً صالحاً للذين يؤمنون بيسوع. أليس كذلك؟»
يقول مارغزيام: «نعم، نعم، نعم...» وهو يَلهَث، وعيناه تُشِعّان فرحاً.
«اذهَب الآن لملاقاة بطرس، وأنا سأمضي إلى أُمّي. إنّني أرى هناك رفل وشاحها يجري على طول سياج مِن الورود.»
يَهرَع إلى مريم، ويَتلقَّاها على صدره عند منعطف الدرب. ومريم، بعد القُبلة الأولى، تَشرَح لاهِثة أيضاً: «إليز آتية خلفي... لقد رَكَضتُ لأُقَبِّلكَ... ذلك أنّني لا أستطيع ألّا أُقبِّلكَ... ولا أرغب في فعل ذلك بحضورها... لقد تَبَدَّلَت كثيراً... ولكن قلبها ما يزال يَعتَصِر ألماً أمام أفراح الآخرين، التي ما زالت مرفوضة بالنسبة إليها. ها هي ذي آتية.»
تحثّ إليز خطواتها الأخيرة، وتجثو لِتُقبِّل ثوب يسوع. لَم تَعُد المرأة المأساويّة التي كانت في بيت صور، بل هي عجوز صارمة، وقد مَيَّزَها الألم والآثار التي تَرَكَها على وجهها وفي نظرتها.
«مُبارك أنتَ يا معلّم، الآن ودائماً، لإعادتكَ إليَّ ما كنتُ قد فَقَدتُه.»
«فليكن لكِ المزيد مِن السلام على الدوام، يا إليز. إنّني مسرور لرؤيتكِ هنا. انهضي.»
«أنا كذلك مسرورة. لديَّ الكثير أرويه لكَ وأطلبه منكَ يا سيّدي.»
سيكون لدينا المتّسع مِن الوقت، ذلك أنّني سأمكث هنا لبضعة أيام. تعالي أُعرِّفكِ برفاقكِ.»
«آه! فإذن أَدرَكتَ ما كنتُ أودُّ قوله لكَ؟! إنّني أودُّ لو أُولَد ثانية في حياة جديدة: حياتكَ؛ أن أُعيد تكوين عائلة لي: عائلتكَ؛ أن يعود لي أبناء: الذين لكَ؛ كما قُلتَ أثناء حديثكَ عن نُعْمي، في بيتي، في بيت صور. فأنا نُعْمي جديدة، بفضلكَ يا سيّدي. لِتَكُن مباركاً. لَم أعد عقيمة ولا أحسّ بالمرارة. سأظلّ أُمّاً. وإذا سَمَحَت مريم، أُمّكَ أيضاً، بعض الشيء، إضافة إلى كَوني أُمّاً لأبناء مذهبكَ.»
«نعم، ستكونين كذلك. لن تغار مريم، وأنا سوف أحبّكِ بشكل لا تندمين فيه على مجيئكِ. هيّا بنا الآن إلى أولئك الذين يَودُّون القول لكِ إنّهم يحبّونكِ كإخوة.» ويأخذها يسوع بيدها ليقودها إلى عائلتها الجديدة.
الرحلة، في انتظار العنصرة، قد انتهت.
--- نهاية الجزء الثالث ---