ج5 - ف26

أَنَا هُوَ

ماريا فالتورتا

L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO

THE GOSPEL AS REVEALED TO ME

بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}

L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ

MARIA VALTORTA

الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.

 

الجزء الخامس/ القسم الأول

 

26- (التينة غير المثمرة. على طريق صفد)

 

22 / 11 / 1945

 

الطريق المؤدّية إلى صفد تتجاوز سهل قورازين لِتَصعَد صوب سلسلة مِن الجبال هامّة ومزدانة بأنواع مِن الخُضرة. مجرى ماء يَنزِل مِن هذه الجبال ليتوجّه بالتأكيد صوب بحيرة طبريّا.

 

يَنتَظِر المسافرون على الجسر، حيث ينبغي أن يَصِل الآخرون الـمُرسَلون إلى بحيرة ميرون. بالفعل لم ينتظروا طويلاً. يَصِلون على الموعد تماماً، نَشِطين وينضمّون إلى المعلّم والرفاق بفرح ذاكِرين تفاصيل رحلتهم، وقد تبارَكَت بأعاجيب صَنَعَها «الرُّسُل جميعهم»، حسب قولهم. ولكنّ يهوذا يُصحِّح: «ما عدا أنا، فلم أنجح في شيء». وهو مكدَّر كثيراً باعترافه بهذا الأمر الذي يؤلمه.

 

«لقد قُلنا لكَ إنّ ذلك كان بسبب وجودنا في حَضرة خاطئ كبير» يُجيبه يعقوب بن زَبْدي. ويَشرَح الأمر: «هل تَعلَم، يا معلّم؟ كان يعقوب، وهو مريض جدّاً. لأجل ذلك أَرسَلَ في طلبكَ، ذلك أنّه خائف مِن الموت ودينونة الله. ولكنّه أكثر بُخلاً مِن أيّ وقت، الآن وهو يتوقّع كارثة حقيقيّة في محاصيله، وقد أتلَفَها البَرَد بالكامل. لقد خَسِر حبوب البِذار كلّها، ولا يمكنه زراعة غيرها، لأنّه مريض، وخادمته قد أنهَكَها التعب والجوع. بالفعل إنّه يقتصد حتّى بالطحين مِن أجل الخبز، ذلك أنّ الخوف مِن أن يأتي يوم يبقى فيه بلا أكل، قد أَخَذَ منه كلّ مأخَذ، وخادمته لا قُدرة لها على زراعة الحقل. قد نكون ارتكبنا خطيئة: فِعليّاً قد عَمِلنا الجمعة كلّه وبعد الغسق، حتّى الساعة الأخيرة مِن اليوم، وحتّى باستخدام المشاعل ونيران أُضرِمَت هناك لنتمكّن مِن الرؤية. وقد زَرَعنا مساحة كبيرة مِن قطعة الأرض تلك. ففليبّس ويوحنّا وأندراوس يُجيدون العمل، وكذلك أنا. ولقد عَمِلنا... سمعان ومتّى وبرتلماوس كانوا يتبعوننا لِيُنعِّموا الأثلام التي نَمَت فيها الحبّوب وماتت، ويهوذا ذَهَبَ يطلب باسمكَ بعض الحبوب مِن يوضاس وحنّة، واعداً إيّاهما بزيارة منّا اليوم. وقد حَصَلَ عليها، ومِن أفضل الأنواع. حينئذ قُلنا: "غداً نَبذرها". لذلك تأخّرنا قليلاً. لقد بدأنا مع بداية الشفق. فليسامحنا الأزليّ مِن أجل الدّافع الذي جَعَلَنا نرتكب الخطيئة. وفي أثناء ذلك مَكَثَ يهوذا إلى جانب سرير يعقوب لهدايته. فهو يجيد الكلام أكثر منّا. أقلّه هذا ما أراد برتلماوس والغيور قوله. ولكنّ يعقوب كان يصمّ أذنيه عن كلّ حجّة. كان يريد الشفاء لأنّ المرض يُكَلِّفه، وكان يشتم الخادمة ناعتاً إيّاها بأنّها لا تنفع لشيء. كما أنّه كان يقول: "سوف أهتدي إذا شُفيتُ"، ويهوذا، في محاولة لتهدئته، وَضَعَ يديه عليه، ولكنّ يعقوب ظلّ مريضاً كالسابق. وإذ قَنط يهوذا، قال لنا ذلك. وحاوَلنا نحن قبل أن ننام، ولكنّنا لم نحصل على المعجزة. والآن يهوذا يعزو ذلك لكونه فَقَدَ الحظوة لديكَ، بسبب الكَدَر الذي سبَّبَه لكَ، وتَصاغَرَ لذلك. ولكنّنا نقول إنّ ذلك كان بسبب وجوده في حضرة خاطئ متعنِّت، يَفتَرِض الحصول على كلّ ما يريد، فارضاً شروطه ومُصدِراً أوامره حتّى إلى الله. فَمَن يكون على حقّ؟»

 

«أنتم السبعة. لقد قلتم الحقيقة. ويوضاس وحنّة؟ حقولهم؟»

 

«التَّلَف فيها قليل، إنّما لهما موارد، وكلّ شيء قد تمّ إصلاحه. ولكنّهما صالحان، هما! خُذ. لقد أَرسَلا لكَ هذه الصَّدقة وهذه المؤونة. يأملان رؤيتكَ. ما يُحزِن هو حالة يعقوب النفسيّة. وددتُ لو أشفي نفسه أكثر مِن جسده...» يقول أندراوس.

 

«وفي الأماكن الأخرى؟»

 

«آه! على طريق (Deberet)، قُرب البلدة، شَفينا أحدهم. متّى مَن أجرى الشفاء. كان مريض حمّى، وكان عائداً مِن عند الطبيب الذي صَرَّحَ بأنّ لا أمل يُرتجى منه. فمكثنا عنده مِن الغسق إلى الفجر، ولم تعاوده الحمّى. وهو كان يؤكّد شعوره بالتحسّن وبأنّه قويّ. ثمّ في طبريّا، شَفى أندراوس أحد العابرين، كان قد كَسَرَ كتفه بوقوعه على الجسر. وما أن وَضَعَ يديه حتّى شُفِيَ كتف ذاك. تصوّر ذلك الرجل! أراد نقلنا مجّاناً إلى مجدلة وكفرناحوم، ثمّ إلى بيت صيدا، وبقي هناك بسبب وجود التلاميذ تيمون الذي مِن عِرا وفليبّس الذي مِن أربيلا وهرمست ومرقس ابن يوشع، وهو أحد الذين حُرِّروا مِن الشيطان قرب جملا. والعابر يوسف أراد أن يكون كذلك تلميذاً... الأولاد، لدى يُوَنّا، في صحّة جيّدة. لم يعودوا يَبدون هُم أنفسهم. لقد كانوا في الحديقة وكانوا يَلعبون مع يُوَنّا وخُوزي...»

 

«لقد رأيتُهم. لقد مررتُ مِن هناك أنا أيضاً. تابِعوا.»

 

«في مجدلة، كان برتلماوس هو مَن هَدى قلباً آثماً وشَفى جسداً فاسداً. كم كان حديثه رائعاً! لقد أَظهَرَ أنّ اختلال الروح يُنتِج اختلال الجسد، وأنّ كلّ تساهل في عدم النزاهة يُولّد فقداناً للسكينة، واعتلالاً في الصحّة وفي النَّفْس. عندما وَجَدَه تائباً ومُقتَنِعاً وَضَع عليه يديه، وشُفِيَ الرجل. وقد أراد أن يستبقينا في مجدلة، ولكنّنا لم نرضخ، وبعد المساء تابعنا سيرنا باتّجاه كفرناحوم. وكان هناك خمسة أشخاص يطلبون نعمة منكَ. وكانوا على وشك العودة خائبين. شفيناهم. ولم نَرَ أحداً، إذ أخذنا الـمَركَب مباشرة إلى بيت صيدا، لتحاشي أسئلة إيلي وأوريا ورفاقهما. في بيت صيدا! ولكن حان دوركَ يا أندراوس، قُصّ على أخيكَ...» يقول يعقوب بن زَبْدي لِيُنهي حديثه. «آه! يا معلّم! آه! يا سمعان! لو كنتما رأيتُما مارغزيام! لم نَعُد نعرفه!...»

 

«يا إلهي! ألم يصبح كما فتاة؟» يَهتف ويَسأَل بطرس.

 

«لا، أبداً! إنّه شابّ جميل، طويل ونحيف نتيجة النموّ السريع... إنّه رائع! لقد واجَهتنا صعوبة في التعرّف عليه. إنّه كبير مثل امرأتكَ ومِثلي...»

 

«آه! حسناً! لا بورفيرا ولا أنتَ ولا أنا لسنا أشجار نخيل! في الكثير يمكننا أن نُقارِن أنفسنا بأشجار الخوخ...» يقول بطرس الذي يَغتَبِط مع ذلك لدى سماعه أنّ ابنه بالتبنّي قد نما.

 

«نعم يا أخي. ولكنّه في عيد الأنوار كان ما يزال طفلاً، وكان يعاني كي يَصِل إلى أكتافنا. أمّا الآن فإنّه بحقّ رجل شابّ نظراً لقامته وصوته ورصانته. فإنّه كتلك الأشجار التي يتوقّف نموها سنوات، وفي لحظة لا نتوقّعها، تنمو بشكل مُدهِش. ولقد عَمِلَت زوجتكَ كثيراً في تطويل ثيابه وحياكة أخرى جديدة له. وهي تحيكها بِكَفَّات (قسم زائد مِن الثوب يتمّ ثنيه إلى الداخل) كبيرة وثنيات على الطول، لأنّها بالضبط تتوقّع أنّ مارغزيام سوف ينمو بعد. ثمّ إنّه ينمو بالحكمة. يا معلّم: إنّ حكمة نثنائيل المتواضعة لم تُنبِئكَ أنّه ولحوالي الشهرين قد كان برتلماوس مُعلّماً لأصغر التلاميذ وأكثرهم بطولة، الذي يَنهَض قبل طلوع النهار ليَحلب النّعاج ويَكسر الحطب ويَسحبّ الماء مِن البئر ويُضرِم النار ويتسوّق حبّاً بأُمّه بالتبنّي، ثمّ، بعد الظُّهر، وحتّى وقت متأخّر مِن الليل، يَدرُس ويَكتُب وكأنّه حَبْر صغير. تخيّل إذن! لقد جَمَعَ أولاد بيت صيدا كلّهم ليُقدّم لهم في السبت توجيهات تبشيريّة صغيرة. وهكذا يكون يوم صلاة الصغار، الذين يُخرِجونهم مِن المعبد كيلا يُعكِّروا جوّ الاجتماعات، شبيهاً بيوم الكبار. وتقول لي الأُمّهات أنّه حسن هو الاستماع إليه وهو يتحدّث، والأطفال يحبّونه ويطيعونه باحترام، وسلوكهم في تحسّن. أيّ تلميذ سيكون!»

 

«ولكن انظر! انظر. أنا... قد تأثَّرتُ... وَلَدي مارغزيام! ولكن قبلاً في الناصرة، هيه! يا للبطولة مِن أجل... تلك الصغيرة، راحيل، أليس صحيحاً؟» ويتوقّف بطرس محمرّاً، خشية أن يكون قد أَكثَرَ في الكلام.

 

لحسن الحظّ أنّ يسوع أقبَلَ لنجدته ويهوذا غارق في التفكير وشارد الذهن، أو يتظاهر أنّه كذلك. يقول يسوع: «نعم، راحيل. تتذكَّر جيّداً. لقد شُفِيَت، وحقولها سوف تغلّ الكثير مِن الحبوب. وقد مررنا بها، يعقوب وأنا. يمكن لتضحية طفل مستقيم أن تفعل الكثير.»

 

«في بيت صيدا يعقوب اجترح المعجزة لكسيح فقير، ومتّى، في الطريق إلى بيت يعقوب، شَفَى ولداً. إنّما اليوم بالذات، في ساحة هذه القرية، قُرب الجسر، قام فليبّس ويوحنّا بشفاء مريض عيناه عليلتان، وصبيّاً مُستَحوَذاً عليه.»

 

«لقد أحسنتم عملاً جميعكم. والآن سنمضي إلى هذه القرية على المنحدر، وسنتوقّف في أحد البيوت للنوم.»

 

«وأنتَ يا معلّمي، ماذا فعلتَ؟ كيف هي مريم؟ ومريم الأخرى؟» يَسأَل يوحنّا.

 

«هما بخير، وتهديانكم السلام جميعاً. هما الآن تُحضِّران الثياب وكلّ ما يلزم لرحلة الربيع. هما في عجلة لتَنتَهيا مِن ذلك للمكوث معنا.»

 

«سُوسَنّة ويُوَنّا وكذلك أُمّنا لهنّ اللّهفة ذاتها.» يقول يوحنّا.

 

يقول برتلماوس: «زوجتي كذلك تريد المجيء هذا العام، مع بناتها، إلى أورشليم. وهي تقول إنّه لن يكون أبداً ما هو أجمل مِن هذا العام... لستُ أدري لماذا تقول هذا، ولكنّها تؤكّد أنّها تشعر بذلك في قلبها.»

 

«بالتأكيد إذن تأتي زوجتي كذلك. لم تقل لي... إنّما ما تفعله حنّة، تفعله مريم على الدوام». يقول فليبّس.

 

«وأُختا لعازر؟ أنتَ الذي رأيتَهما...» يَسأَل سمعان الغيور.

 

«تُلبِّيان بألم أمر المعلّم والضرورة... لعازر يتألّم كثيراً، أليس كذلك يا يهوذا؟ فهو يُلازِم الفراش تقريباً دائماً. ولكنّهما تنتظران المعلّم بلهفة كبيرة» يقول توما.

 

«ولكنّ الفصح وشيك، ونحن سوف نذهب إلى بيت لعازر.»

 

«ولكن ماذا فعلتَ في الناصرة وفي قورازين؟»

 

«في الناصرة سَلَّمتُ على الأهل والأصدقاء وأهل التلميذين. وفي قورازين تحدّثتُ في المعبد وشفيتُ امرأة. بِتنا لدى الأرملة التي فقدت أُمّها. ألم، وفي الوقت ذاته مؤاساة نظراً للموارد القليلة والوقت الذي كانت تمضيه في العناية بالمريضة، ممّا كان يمنع الأرملة مِن العمل. وشَرَعَت تنسج لحساب الآخرين، ولكنّها لم تَعُد يائسة. لقد تأمَّنَ لها الضروريّ مِن حاجياتها، وهي راضية. يوسف يذهب كلّ صباح عند أحد النجّارين في "بئر يعقوب" ليتعلّم المهنة.»

 

«هل أَصبَحَ أهل قورازين أفضل؟» يَسأَل متّى.

 

«لا، يا متّى، إنّهم يزدادون سوءاً.» يعترف يسوع بصراحة. «ولقد أساؤوا معاملتنا. أصحاب النّفوذ بالطبع، وليس الشعب البسيط.»

 

«إنّه بحقّ مكان سيّئ. يجب عدم الذهاب إلى هناك» يقول فليبّس.

 

«وهذا يُسبّب الألم للتلميذ إيلي، وللأرملة والمرأة التي شُفِيَت اليوم، وللصالحين منهم.»

 

«نعم، ولكنّهم قليلو العدد جدّاً لدرجة أنّني... لا أعود أولي هذا المكان اهتماماً. ولقد قلتَها أنتَ: "مستحيل ترويضهم".» يقول توما.

 

«الراتنج شيء والقلوب شيء آخر. يبقى شيء ما كالبِذار المدفونة تحت تكتّلات وكُتَل كثيفة جدّاً. ولكي يتمّ الاختراق يتطلّب الأمر وقتاً طويلاً، إنّما في النهاية يتمّ الاختراق. هكذا هو الأمر في قورازين. سوف ينمو، في يوم، ما زرعتُه. يجب عدم السّأم مِن الفشل في المرّات الأولى. اسمعوا هذا الـمَثَل. يمكن وضع عنوان له: "مَثَل الزّارع الجيّد".

 

كان لغنيّ كَرْم كبير وجميل، فيه أشجار تين مِن مُختَلَف الأنواع، وفي الكَرْم كان أحد خُدّامه، وهو كَرّام ذو خبرة، وكان عليماً بتقليم أشجار الفاكهة. كان يقوم بواجبه حُبّاً بمعلّمه والأشجار. وفي كلّ سنة، في فصل الجمال، كان يأتي مرّات عديدة إلى كرمه ليرى حبّات العنب والتين تنمو ويتذوّقها، ويقطفها بيديه مِن على الأشجار. وذات يوم توجَّهَ إلى تينة كانت تعطي مِن الثمار أروعها نوعية، وكانت الوحيدة في الكَرْم التي تعطي تلك النوعيّة. إنّما في ذاك اليوم أيضاً، كما في السنتين السابقتين، لم يجد فيها سوى الأوراق، بلا أيّة ثمرة. فطلب الكَرَّام وقال له: "هذه السنة هي الثالثة التي آتي فيها إلى شجرة التين هذه طَلَباً للثّمَر، فلا أجد سوى الأوراق. فيظهر أنّ هذه الشجرة قد توقّفت عن الإثمار. فاقطعها إذن. فَمِن غير المجدي أن تبقى وتشغل المكان، وتستهلك منكَ الوقت، دونما أيّ مردود. فاقطعها وأحرقها وخَلِّص التربة مِن جذورها، وَضَعْ مكانها غرسة أخرى، تعطي ثماراً خلال بضعة سنوات". وأجاب الكَرَّام الذي كان صبوراً ومُِحبّاً: "إنّكَ لعلى حقّ. إنّما دعني أعتني بها هذه السنة أيضاً. لن أقطعها، بل على النقيض من ذلك، سوف أُضاعِف العناية بها، فَأقلب الأرض حولها وأُسمِّدها وأُشذِّبها. مَن يدري؟ فقد تُعطي ثماراً. أمّا إذا لم تعطِ ثماراً بعد هذه المحاولة الأخيرة، فسأقطعها حسب رغبتكَ."

 

قورازين هي هذه التينة التي لا تُعطي ثماراً. وأنا الكَرَّام الجيّد، والغنيّ الذي لا صبر له هو أنتم. فدعوا الزّارع الجيّد يعمل.»

 

«حسناً. ولكن مَثَلكَ لا يُبيّن النتيجة. هل أثمَرَت التينة في العام التالي؟» يَسأَل الغيور.

 

«لم تُثمِر وقُطِعَتْ. ولكنّ فِعل الزّارع كان مُبرَّراً، كونه قد قَطَعَ نبتة فتية ونَضِرة، إنّما بعد أن قام بواجبه كاملاً. وأنا أيضاً أريد أن يكون عملي مُبرَّراً تجاه الذين سوف أُضطرّ لاستخدام الفأس لاقتلاعهم مِن كَرْمي، الأشجار العقيمة والسامّة، أوكار الأفاعي، ماصّي النّسغ المغذّي، الطفيليّون، النباتات السامّة الذين يُفسِدون التلاميذ رفاقهم أو يُسبِّبون لهم الأذى، أو أيضاً الذين يَلِجون كرمي بجذورهم المؤذية للتزايد مِن غير أن يكونوا مَدعوّين، الذين يَعصون كلّ تطعيم، الداخلون فقط للتجسّس والتحقير وجعل حقلي عقيماً. هؤلاء سوف أجتزُّهم بعد تجريب كلّ الوسائل لهدايتهم. والآن، وقبل استخدام الفأس، أُجرِّب مِقصّ وساطور المشذِّب، فأشذِّب وأُطعِّم... آه! سوف يكون عملاً شاقّاً، بالنسبة إليَّ، أنا الذي أعمل، وبالنسبة إلى الذين سيقع عليهم هذا العمل. إنّما لا بدّ مِن عَمَله حتّى يمكن أن يُقال في السماء: "لقد عَمِل كلّ ما يمكن عَمَله، ولكنّهم أصبحوا أكثر عُقماً وأكثر سوءاً، رغم أنّه شَذَّبَهم، طَعَّمَهم، عزّقهم، سمّدهم، وقد سال عَرَقه مِن شدّة التعب وانهمرت الدموع دماً... ها قد وصلنا إلى القرية، امضوا جميعاً للبحث عن مأوى. أنتَ، يا يهوذا الاسخريوطيّ، ابقَ معي.»

 

يَبقَيان وحدهما، وفي ظلّ المساء يسيرون الواحد خلف الآخر في صمت مُطبِق.

 

أخيراً يقول يسوع، كما لو أنّه يُكلِّم نفسه: «مع ذلك، وحتّى ولو فقدنا الحظوة لدى الله بمخالفة الشريعة، فبالإمكان دائماً العودة إلى الحالة السابقة، بالإقلاع عن الخطيئة...»

 

لا يُجيب يهوذا بشيء.

 

يُتابِع يسوع: «وإذا ما فُهِم أنّه لا يمكن الحصول على قُدرة الله، لأنّ الله لا يتواجد حيث يكون الشيطان، فيمكن تدارُك ذلك بتفضيل ما يَهِب الله على ما تُريده كبرياؤنا.»

 

يَصمت يهوذا.

 

وهُما الآن قُرب أوّل بيت في القرية. ويسوع، وكأنّه كان يُكلِّم نفسه دائماً، يقول: «والتفكير بأنّي تحمَّلتُ ألم كفّارة قاسية كي يتوب ويعود إلى أبيه...»

 

يَنتَفِض يهوذا، يَرفَع رأسه ويَنظُر إليه... ولكنّه لا يقول شيئاً.

 

وينظر إليه يسوع كذلك... ثمّ يَسأَل: «يهوذا، مع مَن أتحدّث أنا؟»

 

«معي أنا يا معلّم. وبسببك أنتَ لم يَعُد لي سلطان. فلقد نَزعتَه منّي لتزيد الذي ليوحنّا وسمعان ويعقوب والجميع، إلّا أنا. فأنتَ لا تحبّني، هاك! وسوف ينتهي بي الأمر إلى ألّا أحبّكَ، وإلى أن ألعن الساعة التي أحببتُكَ بها وحطّمتُ نفسي في عيون العالم مِن أجل مَلِك لا يعرف أن يُحارِب، لِيَترك حتّى العامّة تُهيمِن عليه. فليس هذا ما كنتُ أنتظره منكَ!»

 

«ولا حتّى أنا ما كنتُ أنتظر منكَ هذا. إلّا أنّني لم أغششكَ، أنا. ولم أُرغِمكَ. فلماذا إذن تستمرّ برفقتي؟»

 

«لأنّني أحبّكَ. لم يَعُد بإمكاني الابتعاد عنكَ. أنتَ تجذبني وتنفّرني. أرغب بكَ كالهواء للتنفّس و... تُخيفني. آه! أنا ملعون! أنا هالِك! لماذا لا تَطرد الشيطان، وأنتَ القادر على ذلك؟» وجه يَهوذا مُمتَقِع ومضطَرِب، مجنون، مَذعور وحاقِد... إنّه يُذكِّر، ولو قليلاً، بقناع يهوذا الشيطانيّ المستخدم يوم الجمعة العظيم المقدّس.

 

ووجه يسوع يُذكِّر بالناصريّ الذي جُلِد والذي، إذ كان جالساً في قاعة المحكمة على سطل خشبيّ مقلوب، يَنظُر إلى الذين كانوا يَهزأون منه بكلّ رحمته المفعمة حبّاً. يتكلّم، ويبدو أنّ في صوته بحّة بكاء: «لأنّه ليست فيكَ توبة، بل فقط كراهية لله، كما لو أنّه كان هو المسؤول عن خطيئتكَ؟»

 

يهوذا يتفوّه بلعنة بذيئة بين أسنانه…

 

«يا معلّم، لقد وَجَدنا، خمسة في مكان وثلاثة في آخر واثنين في مكان ثالث وواحد فقط في مكانين آخرين. لم يكن بالإمكان أفضل ممّا كان.» يقول التلاميذ.

 

«حسناً! أنا أذهب مع يهوذا الاسخريوطيّ» يقول يسوع.

 

«لا.أُفضِّل أن أكون بمفردي. أنا مُضطَرب. فلا أدعكَ تستريح...»

 

«كما تشاء... إذن اذهب مع برتلماوس. أنتم افعلوا ما يحلو لكم. وفي هذه الأثناء فلنذهب إلى حيث تُوجَد أماكن أكثر، لنتمكّن مِن تناول العشاء معاً.»