ج2 - ف106
أَنَا هُوَ
ماريا فالتورتا
L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO
THE GOSPEL AS REVEALED TO ME
بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}
L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ
MARIA VALTORTA
الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.
الجزء الثاني / القسم الثاني
106- (على جِبال عِمّاوس)
17 / 04 / 1945
يسوع مع أَتبَاعه في مكان كثير الجبال. الطريق وَعِرَة وصعبة. الأكبر سنّاً تَعِبون جدّاً. الشباب على العكس، يُحيطون بيسوع وقد غَمَرَهم الفرح، ويَسيرون صعداً برشاقة، وهم يتحدّثون فيما بينهم. ابنا عمه وابنا زَبْدي وأندراوس فَرِحون لفِكرة العودة إلى الجليل، وقد وَصَلَت عدوى فرحهم إلى الاسخريوطيّ الذي يبدو، منذ بعض الوقت، في أحسن حالاته الروحيّة. ويكتفي بالقول: «في هذه الحال يا معلّم، عندما نأتي إلى الهيكل، في الفصح، هل ستُكرّر الزيارة لإسخريوط؟ فإنّ أُمّي تأمل دائماً بزيارتكَ. لقد أَعلَمَتني بذلك، وكذلك أبناء بلدتي...»
«بالتأكيد، أَمّا حاليّاً، فحتّى ولو كنّا نريد ذلك، فالطقس قاسٍ جدّاً ولا يَسمَح بالسير على تلك الطرقات الصعبة. انظروا مدى صعوبتها حتّى هنا. فلو لم يكونوا قد فَرَضوا عليَّ ذلك، لما كنتُ قرّرتُ السفر في هذا الوقت... إنّما لم يكن بمقدورنا بعد البقاء...» ويَصمت يسوع مستغرقاً في التفكير.
«وبعد، أودُّ القول: هل سنتمكّن مِن المجيء مِن أجل الفصح؟ فإنّني أرغب في أن أدلّ يعقوب وأندراوس على مغارتكَ.» يقول يوحنّا.
«هل تنسى حبّنا لبيت لحم؟» يقول الاسخريوطيّ. «خاصة المعلّم.»
«لا. ولكنّني بالحري أذهب مع يعقوب وأندراوس وبإمكان يسوع البقاء في يافا أو في بيتكَ...»
«آه! إنّ هذا لِيُسعدني. هل تفعلها يا معلّم؟ هُم يَذهَبون إلى بيت لحم، وأنتَ تبقى معي في إسخريوط. بالفِعل لم تكن قطّ لتبقى معي وحدي... وأتمنّى كثيراً لو تكون لي بكلّيّتكَ...»
«هل تَشعُر بالغَيرة؟ ألا تَعلَم أنّني أحبّكم جميعاً بالمقدار ذاته؟ ألا تظنّ أنّني معكم جميعاً، حتّى حينما يبدو لكم أنّني بعيد عنكم؟»
«أعرف أنّكَ تحبّنا. ولو لم تكن تحبّنا لكنتَ أكثر صَرامة، معي أنا على الأقلّ. أظنُّ أنّ روحكَ يَسهَر علينا دائماً. ولكنّنا لسنا مجرّد أرواح، بل نحن بشر كذلك، بكلّ ما في ذلك مِن أنواع حبّ الإنسان ورغباته وحَسْراته. يا يسوعي، أَعلَم أنّني لستُ ذاك الذي يجعلكَ الأكثر سعادة. ولكنّني أظنُّ أنكَ تَعلَم مدى رغبتي في إسعادكَ، وأَسَفي على كلّ الساعات التي أفقدكَ فيها بسبب بؤسي...»
«لا، يا يهوذا. أنا لا أُضيّع. وإنّني أَقرَب لكَ مِن الآخرين، وأكثر، تحديداً، لأنّني أعرف مِن تكون.»
«مَن أكون ربّي؟ قُل. ساعِدني لأُدرِك ما أكون. إنّني لا أَفهَم. يبدو لي وكأنّني امرأة مُضطَرِبة برغبات الحَمْل. فلديَّ رغبات مقدّسة، وأخرى منحطّة. لماذا؟ ماذا أكون؟»
يَرمقه يسوع بنظرة يَصعُب وصفها. إنّه حزين، ولكنّه حزن ممزوج بالشَّفَقة. ويا لها مِن شَفَقة! تَحسبه طبيباً يتنبّه إلى حالة مريض، وهو يَعرف أنّه غير قابل للشفاء... ولكنّه لا يتكلّم.
«قُل يا معلّمي، إنّ حُكمكَ على يهوذا المسكين، سيكون الأقلّ صرامة على الدوام. ثمّ... نحن إخوة. ولا يهمّني أن يَعلَموا مِن أيّ معدن أنا. بالعكس، لو عرفوا ذلك منكَ، فَسَيُقَوِّمون حكمهم، ويساعدونني. أليس كذلك؟»
الآخَرون متضايقون، ولا يعرفون ماذا يقولون. يَنظُرون إلى رفيقهم وينظرون إلى يسوع.
يَشدّ يسوع الاسخريوطيّ إلى جانبه، إلى المكان الذي كان فيه سابقاً يعقوب ابن عمه، ويقول: «إنّكَ، بكل بساطة غير مُنتَظِم. لديكَ كلّ العناصر الفُضلى، ولكنّها ليست محدَّدَة المعالم تماماً، وأقلّ نسمة هواء تُفكّكها.
منذ قليل مررنا بذاك الممرّ وظَهَرَت لنا الأضرار الحاصِلة للمساكن الفقيرة في تلك البلدة، بفعل الماء والتراب والشجر. والماء والتراب والشجر هي أشياء مُبارَكة ومفيدة، أليس هذا صحيحاً؟ ومع ذلك أَصبَحَت مَلعونة. لماذا؟ لأنّ مياه السّيل لم يكن لها مَجرى مُنتَظَم، ونتيجة استهتار الناس، حُفِرَت لها مجارٍ عديدة تِبعاً لهواها. كانت جميلة طوال الفترة الخالية مِن العواصف. حينها كانت المياه الصافية الجارية على الجبال في سَواقٍ صغيرة، مثل نِتاج مَشغَل للصياغة، حُليّ ماس أو عقود زمرّد، على حسب ما تَعكس مِن النور أو ظلّ الغَيضات. وكان الناس يُسَرّون مِن ذلك، لأنّها كانت ذات فائدة لحقولهم الصغيرة، شرايين الماء الهادرة تلك. وكم كانت جميلة تلك الأشجار التي نَبَتَت تبعاً لنـزوات الرياح، هنا وهناك، في مجموعات غير مَدروسة، تاركة مساحات نور تملؤها الشمس. وكانت جميلة، الأرض خفيفة التربة، المخطّطة لستُ أدري بايّة رواسب طَمي، بين تموُّجات الهضبة العديدة، وهي الخَصيبة جدّاً للزراعة. ولكن كان يكفي أن تهبّ العواصف منذ شهر حتّى تتجمّع تَفَرُّعات السيل غير المنتظمة وتتدفّق بشكل فوضويّ، مُتتبّعة مجرى آخَر، جَارَّة الشجر بشكل عشوائيّ، وجارِفة إلى الأسفل قِطَع الأرض الـمُنتَزَعَة مِن المكان. فلو كان مَجرى الماء مُنَظّماً، ولو كانت الأشجار مجتمعة في غَيضات مُنتَظَمة، ولو كانت الأرض مُثبَّتة بمصاطب مُعدَّة بشكل جيّد، لما كانت تلك العناصر الثلاثة الصالحة، الماء والتراب والشجر، لتصبح مصدر خَراب دَمَويّ لتلك البلدة الصغيرة.
وأنتَ تمتلك الذكاء والإقدام والثقافة والبديهة والـمَهابة. لديكَ الكثير الكثير مِن الـمَزايا. إلّا أنّ هذا كلّه موجود فيكَ بشكل عشوائيّ، وأنتَ تترك كلّ شيء على هذه الحال. انظر: أنتَ تحتاج إلى عَمَل صَبور ودَؤوب على ذاتكَ للترتيب. وهذا الترتيب يُصبِح فيما بعد قوّة، وسط ميزاتكَ، بحيث إنّ عاصفة التجارب حينما تهبّ، لا تجعل الخير الذي فيكَ يصبح شرّاً وَبالاً عليكَ وعلى الآخرين.»
«إنّكَ لَعَلى حقّ يا معلّم، ففي كلّ لحظة أترنّح بفعل الريح، وكلّ شيء ينقلب رأساً على عقب. وتقول إنّه بإمكاني...»
«إلإرادة هي كلّ شيء يا يهوذا.»
«إنّما تُوجَد تجارب لاذعة للغاية... فنختبئ خوفاً مِن أن يقرأها العالَم على وجهنا.»
«وهذا هو الخطأ. فهذه اللحظة بالضبط هي الـمُناسِبة لعدم الاختباء، إنّما للبحث عن المشاركة: مشاركة الصالحين للحصول منهم على العَون. فبمجرّد الاحتكاك بسلام الصالحين، تهدأ وتَسكُن الحرارة. وكذلك مُعاوَدة البحث عن مُشارَكة اللّائِمين، فهُم سبب ذاك الكبرياء الذي يَدفَع إلى الاختباء لكي لا تُفَكَّ رموز سرّ نفوسنا الـمُجَرَّبة، وهذا ما يتفاعل ضدّ الضعف الأخلاقيّ، فلا نعود نسقط.»
«أنتَ ذَهَبتَ إلى البريّة...»
«لأنّني كنتُ أستطيع فِعل ذلك. ولكن الويل لِمَن يكونون بمفردهم، إذا لم يكونوا، في وحدتهم، طائفة مقابل طائفة.»
«كيف؟ لا أفهم.»
«طائفة مِن الفَضائِل مقابل طائفة مِن التجارب. وعندما يكون هناك القليل مِن الفَضائِل، يجب العمل على غِرار ذلك اللّبلاب غير الـمُتماسِك: التشبث بأغصان الأشجار القويّة للصعود.»
«كلّ الشكر لكَ يا معلّم. إنّني أتشبث بكَ وبالرّفاق، فساعدوني جميعكم. إنّكم جميعاً أفضل منّي.»
«الأفضل كان الوَسَط البسيط والنـزيه الذي نَشَأنا فيه، يا صديقي. ولكن الآن أنتَ معنا، ونحن نحبّكَ كثيراً. سوف ترى... وهذا ليس ذَمّاً باليهود، إنّما ثِق أنّ في الجليل، على الأقلّ في بلداتنا، فالثراء هناك أقلّ، والفساد أقلّ. طبريّا، مجدلا، وأمكنة أخرى، حيث الانشراح، قريبة منّا. ولكنّنا نحن نعيش مع نفسنا البسيطة، الجَّلِفة لو أَرَدتَ، ولكنّها الـمُجِدَّة والـمُشبَعَة بشكل قدسيّ بما وَهَبَنا الله.» يقول يعقوب بن حلفى.
«ولكن هل تَعلَم يا يعقوب أنّ أُمّ يهوذا قدّيسة، والصلاح مُرتَسِم على محيّاها؟» يقول يوحنّا.
«يبتسم يهوذا الاسخريوطيّ سعيداً بهذا المديح، وابتسامته تُصبِح أكثر إشراقاً عندما يُضيف يسوع: «أَحسَنتَ قولاً يا يوحنّا. فهي إنسانة قدّيسة.»
«إيه! نعم، ولكنّ أبي كان يحلم أن يجعل منّي أحد عظماء العالم، فَفَصَلَني عن أُمّي تماماً بشكل مبكّر...»
«ولكن ما الذي تتحدّثون عنه؟ أنتم يا مَن لا تَكفّون عن الكلام.» يَسأَل بطرس مِن بعيد. «توقّفوا! انتظرونا. فليس لطيفاً أن تمضوا هكذا دون التفكير بي وبساقيَّ القصيرتين.»
يتوقّفون ريثما تلحق بهم المجموعة الأخرى.
«أوف! كم أحبّكَ يا مَركَبي الصغير! هنا نكدّ مثل العبيد...ماذا كنتم تقولون؟»
«كنّا نتحدّث عن المزايا اللّازمة لبلوغ الصّلاح.» يُجيب يسوع.
«أفلا تقولها لي أيضاً يا معلّم؟»
«بالتأكيد: إنّها الترتيب والصبر والمثابرة والتّواضُع والمحبّة... لقد قُلتُها مرّات عدّة!»
«ولكن الترتيب، لا. ما دخله؟»
«لم تكن الفوضى يوماً مزيّة. وقد شرحتُ ذلك لرفاقكَ، وهُم سوف يُعيدون الحديث لكَ. ولقد وَضَعتُ مزيّة الترتيب في الأوّل، بينما وَضَعتُ مزيّة المحبّة في النهاية، فهما الطرفان لمستقيم تامّ. وأنتَ تَعلَم أنّ مستقيماً مرسوماً على سطح، لا بداية له ولا نهاية. فبإمكان النهايتين تَبادُل الـمَواضِع. بينما اللّولب أو أي رسم غير مُنغَلِق على نفسه، فله على الدوام بداية ونهاية. لذلك، فالقداسة خطّية، بسيطة وتامّة، وليس لها سوى نهايتين مثل الخطّ المستقيم.»
«رسم المستقيم سهل...»
«أتظنّ ذلك؟ أنتَ مُخطئ. ففي أيّ رسم، ولو كان مُعقَّداً، يمكن لخطأ بسيط أن يمر دون أن يُلاحَظ، إنّما في الخط المستقيم، فأي خطأ يَظهَر للعيان فوراً: مَيلاً كان أم تَعرُّجاً. عندما كان يوسف يعلّمني المهنة، كان يُصرّ كثيراً على أن تكون الطاولات مستوية تماماً، وكان يقول لي بحقّ: "أترى يا بنيّ؟ إنّ أبسط العيوب في الزخرفة أو العمل الذي على الـمِخرَطَة، يمكنه أن يمرّ، إذ إنّ عيناً غير خَبيرة، إذا ما نَظَرَت إلى نقطة لا تَرى أُخرى. ولكنّ اللّوح الخشبيّ إذا لم يكن مستوياً كما يجب، حتّى في العمل الأكثر بساطة، كطاولة قروية مثلاً، فهو عمل مَعيب. فتنحني الطاولة أو تختلّ ولا تعود صالحة لغير النار". ويمكننا قول ذلك أيضاً بالنسبة إلى النُّفوس. فلكي لا تكون صالحة لنار جهنم فقط، أي لكي تَكسَب السماء، يجب أن تكون كاملة مثل دَفّ أملس ومستقيم تماماً. فالذي يبدأ عمله الروحيّ بشكل فوضويّ، بابتدائه بأمور لا طائل منها، أو بأن يقفز مثل عصفور مُضطَرِب مِن شيء لآخر، فعندما يَرغَب في جمع أجزاء عَمَله المختلفة، لا يعود يتوصّل إلى شيء، إذ ما مِن تجميع يعود ممكناً. فإذن الترتيب، وإذن المحبّة. ثمّ، بالحفاظ على هذين الطرفين ثابتين بين الـمَلزَمتين، بحيث لا يعودان يتحرّكان أبداً، يبدأ العمل بالباقي كلّه: إن يكن تزييناً أو حَفراً. هل فهمتَ؟»
«فهمتُ.» يهضم بطرس بصمت الدرس الذي أُعطي له. وفجأة يَخلُص إلى نتيجة: «إذن فأخي أفضل منّي. إنّه حقيقة مُنَظَّم. خطوة خطوة وبصمت وهدوء. يبدو وكأنّه لا يتحرّك، وهو على عكس ذلك... بينما أنا أريد أن أنهي أشياء كثيرة وبسرعة، وبالنتيجة أجدني لا أُنهي شيئاً. فَمَن يساعدني؟»
«رَغبتكَ الصالحة. لا تَخَف يا بطرس. أنتَ أيضاً تَعمَل. إنّكَ تَبذل مجهوداً.»
«وأنا؟»
«وأنتَ أيضاً يا فليبّس.»
«وأنا؟ يبدو لي أنّني لستُ صالحاً لشيء على الإطلاق.»
«لا يا توما، فأنتَ أيضاً تَجتَهِد. جميعكم تَجتَهِدون. إنّكم أشجار بريّة، ولكنّكم بالتطعيم تتغيّرون ببطء وبشكل أكيد. وفرحي أنا كامِن فيكم.»
«هو ذا: نحن حزانى وأنتَ تعزّينا، ضُعَفَاء وأنتَ تقوّينا، خَوّافون وأنتَ تمنحنا الشجاعة. لنا جميعاً، وفي كلّ الأحوال، لديكَ مباشرة النصيحة والتعزية. ماذا تفعل يا معلّم لتكون، على الدوام، بهذه الجاهزيّة وهذا الصّلاح؟»
«أصدقائي، مِن أجل هذا أتيتُ، وكنتُ عارفاً مُسبَقاً ماذا سأجد، وماذا سأفعل. وعندما لا توجد أوهام، فلا وجود لخيبة الأمل، ولا يَضيق نَفَسنا. بل نسير في المقدّمة. تذكّروا ذلك، حتّى أنتم أيضاً، حينما تريدون، ينبغي لكم تحويل الإنسان الحيوان إلى الإنسان الروح.»