ج4 - ف171

أَنَا هُوَ

ماريا فالتورتا

L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO

THE GOSPEL AS REVEALED TO ME

بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}

L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ

MARIA VALTORTA

الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.

 

الجزء الرابع / القسم الثاني

 

171- (يسوع يُعلِّم مارغزيام)

 

17 / 10 / 1945

 

يَخرُج يسوع مِن البيت مُمسِكاً الصبيّ بيده. لا يَدخُلان في مركز الناصرة، بل، على العكس، فإنّهما يَسلُكان الطريق ذاتها التي سَلَكَها يسوع عندما خَرَجَ لأوّل مرّة، مغادراً بيته إلى حياته العلنيّة، وإذ يَصِلان إلى طلائع بساتين الزيتون، يتركان الطريق الرئيسيّة لِيَسلُكا دروباً بين الأشجار، باحِثَين عن الشمس الخفيفة التي عَقَبَت أيّام العاصفة. يسوع يدعو الصبيّ إلى الركض والقفز. ولكنّ مارغزيام يُجيب: «أُفضِّل البقاء إلى جانبكَ. فأنا الآن كبير، وأنا تلميذ.»

 

يبتسم يسوع لهذه... المجاهرة الجادّة بالسنّ والأهليّة. حقاً إنّه بالغ صغير يسير إلى جانبه. لا أحد يُخمّن أنّ عمره يَزيد عن العشر سنوات، ولكن لا يمكن لأحد القول إنّه ليس تلميذاً، خاصّة يسوع الذي يكتفي بالقول: «سوف يصيبكَ الملل ببقائكَ صامتاً بينما أنا أُصلّي. لقد أتيتُ بكَ معي لتتسلّى.»

 

«لا يمكنني اللهو في هذه الأيّام... بينما البقاء إلى جانبكَ يُعزّيني كثيراً... تُقتُ إليكَ كثيراً في هذه الآونة... لأنّ... لأنّ...» يَزمّ الصبي شفتيه المرتجفتين، ويَصمُت عن الكلام.

 

يَضَع يسوع يده على رأسه فائلاً: «الذي يؤمن بكلامي، عليه ألّا يحزن مثل أولئك الذين لا يؤمنون. أنا أقول الحقيقة دائماً. حتّى عندما أؤكّد أنّ لا انفصال بين نفوس الأبرار الذين في أحضان إبراهيم، ونفوس الأبرار الذين على الأرض. أنا القيامة والحياة يا مارغزيام. وهذه الحياة، أُقدِّمها حتّى قبل إتمام رسالتي. كنتَ تقول لي دائماً إنّ أبويكَ كانا يتنهّدان بعد مجيء مَسيّا، وإنّهما كانا يطلبان مِن الله أن يمدّ بعمرهما حتّى يَرَياه. إذن فَهُما كانا يؤمنان بي. وقد رقدا على هذا الإيمان. بالنتيجة قد خَلصا به، وقد قاما وهُما حيّان الآن به. ذلك أنّه إيمان يَهِب الحياة، وهو يَمنَح العطش إلى البرّ. فَكِّر في عدد المرّات التي قاوموا بها التجارب، ليكونوا أهلاً لملاقاة الـمُخلِّص...»

 

«ولكنّهم ماتوا دون أن يروكَ، يا ربّ... وبأيّة طريقة ماتوا... لقد رأيتُهم، تَعلَم، عندما أخلوا الأرض مِن كلّ موتى المدينة... أبي، أُمّي... إخوتي الصغار... ماذا يهمّني إذا ما كانوا يقولون لي، لتعزيتي: "أهلكَ ليسوا كذلك، فَهُم لم يتعذّبوا"؟ آه! لم يتعذّبوا! فالحجارة التي سَقَطَت فوقهم، إذن، كانت ريشاً؟ التراب والماء اللذان خَنَقَاهما كانا هواء؟ وفِكرهُم ألم يكن يتفاعل عندما كانوا يَشعُرون بِدُنوّ أَجَلهم، وهم يُفكِّرون بي؟...» واضطَرَبَ الصبيّ كثيراً مِن الألم. يَشوّر وهو واقف أمام يسوع، بشكل شِبه عدوانيّ…

 

ولكنّ يسوع يتفهّم ذلك الألم، وتلك الحاجة إلى الكلام، ويَدَعهُ يتكلّم. فيسوع ليس مِن أولئك الذين يقولون: "اصمت فإنّكَ تثير سخطي." للذين يهذون بسبب ألم حقيقيّ.

 

يُتابِع الصبيّ: «وبعد؟ وماذا حَصَلَ بعد ذلك؟ أنتَ تَعلَم ماذا حَصَلَ بعد ذلك! لو لم تكن أتيتَ أنتَ، لكنتُ أصبحتُ حيواناً بريّاً، أو كنتُ مُتُّ مِثل أفعى في الغابة. ولما كنتُ سأمضي إلى أُمّي وأبي وإخوتي الصغار، لأنّني كنتُ أكره دوراس، و... وما عدتُ لِأُحِبّ الله كما في السابق، عندما كانت أُمّي ما تزال هنا لتحبّني، ولتجعلني أُحِبُّ القريب. كنتُ أكاد أحقُد على العصافير التي كانت تملأ الحَوصَلة، وتملك ريشاً دافئاً، والتي تُعيدُ بناء أعشاشها، بينما أنا جائع وثوبي ممزّق ولا بيت لي... كنتُ أتصيّدُها، أنا الذي أُحِبُّ العصافير، بسبب الغضب الذي كان ينتابني عندما كنتُ أُقارِن نفسي بها، وبعد ذلك كنتُ أبكي، لأنّني كنتُ أتنبّه إلى أنّني كنتُ شرّيراً وأستحقّ جهنّم...»

 

«آه! كنتَ تندم إذن لكونكَ شرّيراً؟»

 

«نعم، يا ربّ. ولكن كيف العمل لأكون صالحاً؟ جدّي كان كذلك، ولكنّه كان يقول: "قريباً سينتهي كلّ شيء. إنّني عجوز..." إنّما أنا، فلم أكن عجوزاً! كم سَنة عليَّ الانتظار للتمكّن مِن العمل والأكل كإنسان، وليس ككلب متشرّد؟ كنتُ سأصبح سارقاً، لو لم تأت أنتَ.»

 

«لم تكن لتصبح كذلك، لأنّ أُمّكَ كانت تُصلّي مِن أجلكَ. أترى أنّني أتيتُ وأخذتُكَ؟ وهذا يبرهن على أنّ الله كان يحبّكَ، وكانت أُمّكَ تَسهَر عليكَ.»

 

يَصمت الصبيّ ويُفكّر. يبدو وكأنّه يَطلُب نوراً مِن الأرض التي يدوسها، لكثرة ما كان يَنظُر إليها وهو يسير إلى جانب يسوع على العشب الذي أَصبَحَ أَصهَب قليلاً، بسبب الريح الشماليّة التي هَبَّت في الأيّام السابقة. ثمّ يرفع رأسه سائلاً: «ولكن ألم يكن البرهان أجمل لو لم يَدَع أُمّي تموت؟»

 

يبتسم يسوع للمنطق البشريّ لذلك العقل الصغير. ولكنّه يَشرَح بِجدّيّة وطيبة: «يا مارغزيام، سوف أجعلكَ تُدرك الأمور بواسطة مقارنة. قلتَ لي إنّكَ تحبّ العصافير، أليس كذلك؟ الآن اسمعني قليلاً. هل جُعِلَت العصافير لِتَطير أم لِتُوضَع في قفص؟»

 

«لتطير.»

 

«حسناً. وأُمّهات العصافير، كيف تعمل لِتُطعمها وهي صغيرة؟»

 

«تُعطيها الزقّة. (ما يحمله العصفور في منقاره لِيُطعم به فراخه)»

 

«نعم، ولكن بماذا؟»

 

«بحبوب، بذباب، بيسروع، بكسر خبز أو نُتَف مِن فاكهة تَجِدها هنا وهناك أثناء طيرانها.»

 

«حسناً جدّاً. اسمع الآن. لو وَجَدتَ في هذا الربّيع عشاً على الأرض فيه فراخ وأُمّها، فماذا تفعل؟»

 

«آخُذها.»

 

«جميعها؟ بما فيها الأُمّ؟»

 

«جميعها، فإنّه بَشِع جدّاً أن يكون هناك صغار بدون أُمّ.»

 

«في الحقيقة، قيل في تثنية الاشتراع أن يؤخذ الصغار فقط وتُترك الأمّ حُرّة، فهي مُكرَّسة للتكاثُر.»

 

«إنّما لو كانت الأُمّ صالحة فلا تذهب، بل تَهرَع إلى حيث هُم صغارها. هكذا كانت أُمّي لَتَفعل. لم تكن لتهبني بشكل دائم، حتّى ولا لكَ أنتَ، ذلك أنّني كنتُ ما أزال طفلاً. وأيضاً لم تكن لتستطيع المجيء معي، لأنّ إخوتي الصغار كانوا أصغر منّي بعد. لذلك فهي لم تكن لِتَدَعني أمضي.»

 

«حسناً. ولكن اسمع: حسب رأيكَ، هل كنتَ لتحبّ أُمّ العصافير والعصافير أنفسهم أكثر لو تركتَ باب القفص مفتوحاً لذهاب الأُمّ ومجيئها حامِلة لها الطعام المناسب، أم لو أبقيتَها أسيرة؟»

 

«هيه!... يكون حبّي لها أكثر لو تركتُها تروح وتجيء حتّى يكبر صغارها... ويكون حبّي لها تامّاً، إذا ما تركتُها حُرّة حينما يكبر صغارها، ذلك أنّ العصفور خُلِق ليطير... في الحقيقة... لكي أكون صالحاً تماماً، عليَّ ترك الفراخ تطير حالما تَكبر، فأُعيدُها إلى الحرّيّة... وذلك يكون الحبّ الحقيقيّ الذي أكُنُّه لها، والأكثر استقامة... هيه! نعم! الأكثر استقامة، إذ لا أكون قد فعلتُ غير إفساح المجال لما أراده الله أن يتحقّق في العصافير...»

 

«لا فُضَّ فوكَ، يا مارغزيام! حقّاً لقد تكلّمتَ كحكيم. ستكون معلّماً عظيماً لسيّدكَ، والذي سوف يسمعكَ سيؤمن بما تقول لأنّكَ تتكلّم بحكمة!»

 

«حقّاً يا يسوع؟» والوجه الصغير الذي كان في البدء مضطرباً وحزيناً، ثمّ أَصبَحَ متجهّماً بسبب التفكير، غامضاً بسبب المجهود المبذول للحُكم فيما كان الأفضل، تنفرج أساريره، ويُشرِق في بهجة ذلك المديح.

 

«حقّاً. الآن انظر قليلاً! أنتَ، فقط لأنّكَ وَلَد شاطر، تَحكُم هكذا. فَكِّر كيف سيحكم الله، وهو الكمال في كلّ شيء، في ما يخصّ النُّفوس وخيرها الحقيقيّ. النُّفوس هي كالعصافير التي يَأسرها الجسد في قفصه. الأرض هي المكان الذي أتت إليه في القفص. ولكنّها تتوق إلى الحرّيّة في السماء؛ إلى الشمس التي هي الله؛ إلى الغذاء الذي صَنَعَته هي، والذي هو التأمّل في الله. ما مِن حُبّ بشريّ، حتّى حُبّ الأُمّ المقدّس لأولادها، أو حُبّ الأولاد لأُمّهم، يمكنه أن يكون بالقوّة التي تجعله قادراً على خَنق رغبة النُّفوس تلك بالاتّحاد بأصلها الذي هو الله. وهكذا، كما أنّ الله، بسبب حبّه الكامل لنا، لا يَجِد أيّ سبب قويّ لتجاوز رغبته في الاتّحاد بالنَّفْس التي تتوق إليه. حينئذ، ماذا يحصل؟ أحياناً يحبّها لدرجة أن يقول لها: "تعالي! إنّني أحرّركِ". ويقول ذلك حتّى ولو كان هناك أولاد حول الأُمّ. هو يَرَى كلّ شيء. هو يَعرِف كلّ شيء. هو يُجيد كلّ ما يَفعَل. عندما يُحرِّر نَفْساً -هذا ليس بديهيّا للناس ذوي العَقل النسبيّ- عندما يُحرِّر نَفْساً، يَفعَل ذلك دائماً لخير أعظم، للنَّفْس ذاتها وللمتّحدين بها.

 

هو، حينذاك، وقد قلتُ لكَ ذلك في مرّات سابقة، يُضيف إلى مهامّ الملاك الحارس مهمة العناية بالنَّفْس التي دعاها إليه، والتي تحبّ، حبّاً متحرّراً مِن كلّ الأعباء البشريّة، أهلها الذين تحبّهم في الله. عندما يُحرِّر نفساً، يهتمّ بإيجاد البديل الذي يتولّى العناية باحتياجات الذين بقوا. ألم يفعل ذلك معكَ؟ ألم يجعل منكَ، وأنتَ ابن إسرائيل الصغير، تلميذي، كاهِني المستقبليّ؟»

 

«بلى يا سيّدي.»

 

فَكِّر الآن قليلاً. أُمّكَ سوف أُحرّرها أنا، ولن تكون في حاجة إلى صلواتكَ. أمّا أنتَ، لو كانت ماتت بعد الفِداء، واحتاجت إلى صلوات، هل كنتَ تستطيع توفيرها لها ككاهن؟ فَكِّر: لم يكن باستطاعتكَ أن تفعل شيئاً غير دفع مصاريف تقدمة لكاهن مِن الهيكل، ليقدّم مِن أجلها ذبائح، كَحِملان على سبيل المثال، أو طيور حمام، أو مِن نِتاج الأرض. هذا فقط لو كنتَ بقيتَ أيّوب الصبيّ الريفيّ الصغير قرب أمّكَ. بينما وأنتَ مارغزيام، كاهِن المسيح، يمكنكَ، على العكس، يمكنكَ أن تُقدِّم مِن أجلها الذبيحة الحقيقيّة الكاملة التي باسمها تُمنَح كلّ الغفرانات!»

 

«أولن أستطيع فعل ذلك؟»

 

«مِن أجل أبيكَ وأُمّكَ وإخوتكَ، لا. إنّما يمكنكَ ذلك مِن أجل أصدقائكَ وتلاميذكَ. أليس جميلاً كلّ ذلك؟»

 

«نعم يا سيّدي.»

 

«إذن، هيّا بنا نعود إلى البيت، مستعيدين الصفاء.»

 

«نعم... ولكنّني لم أدعكَ تُصلّي!... وهذا يُكدّرني...»

 

«ولكنّنا صلّينا! لقد تأمَّلنا في الحقيقة، وتأمَّلنا الله في صلاحاته... كلّ ذلك صلاة هو. وقد فعلتَ ذلك كبالغ حقيقيّ. هيّا بنا! ولنُرتّل الآن مزمور تسبيح جميل، للفرح الذي فينا.»

 

ويُنشِد: «"مِن قلبي خَرَجَ نشيد جميل…"» ويضمّ مارغزيام صوته الفضّيّ إلى صوت يسوع البرونزيّ والذهبيّ.