ج8 - ف25

أَنَا هُوَ

ماريا فالتورتا

L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO

THE GOSPEL AS REVEALED TO ME

بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}

L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ

MARIA VALTORTA

الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.

 

الجزء الثامن

 

25- (رَجُل جبنيا ونهاية هرمست، توبيخ السامريين الّذين يفتقرون للمحبّة)

 

07 / 02 / 1947

 

لا بدّ أنّ أيّاماً قد انقضت. أقول ذلك لأنّني أرى أنّ الحبوب، الّتي كانت في الرؤى الأخيرة بالكاد تبلغ شبراً، بعد الهطول الأخير والإشراق الجميل الّذي أعقبه، فقد نمت كثيراً وتشرع بتكوين سنابل. ريح خفيفة تُموّج السنابل الّتي لا تزال غَضّة. والنسيم الخفيف يداعب الأوراق الجديدة للأشجار المثمرة الأقدم، الّتي ما كاد الزهر يتساقط منها، أو فيما البتلات تختلج وتسقط، حتّى تفتّحت وريقاتها الزمرّديّة الفاتحة، الطريّة، اللامعة، الجميلة مثل كلّ ما هو بِكر وجديد. الكروم، الأكثر تباطؤاً، ما تزال عارية ومليئة بالعُقَد، إنّما على الأغصان المتشابكة، مِن جذع إلى آخر، فإنّ البراعم قد اخترقت القشرة الداكنة الّتي كانت تُغلّفها، ومع أنّها لا تزال مقفلة، فهي تُظهِر بالفعل الزغب الرماديّ الفضّيّ، الّذي هو عشّ الأوراق المستقبليّة والمحاليق الجديدة. الضفائر المخشوشبة للكروم تبدو أنّها تلين وتأخذ كياسة جديدة. الشمس، وقد أضحت دافئة، تشرع بعملها التلوينيّ والاستخلاصيّ لأريج النباتات، وفيما تُلوِّن بألوان أكثر إشراقاً ما كان حتّى الأمس باهتاً، فهي تدفئ، وهكذا تُطلِق، مِن الأثلام، مِن المروج الـمُزهرة، مِن حقول الحبوب، مِن بساتين الخضراوات، مِن الأشجار، مِن الجدران، مِن الغسيل المنشور ليجفّ، الدرجات المتنوّعة للروائح، لتجعل منها سيمفونية شمّ فريدة تدوم طوال الصيف، إلى أن تخمدها الرائحة النّفَّاذَة لعصارة العنب في الـمَعاصِر، حيث تستحيل حبّات العنب خمراً. تآلف تغريد الطيور بين الأوراق، كِباش وخراف تُمأمئ بحماس في القطعان. وأغاني رجال على المنحدرات. وأصوات ضاحكة للأطفال وابتسامات النساء. إنّه الربيع. الطبيعة تحبّ. الرجل يتنعّم بمحبّة الطبيعة الّتي ستجعله غداً أغنى، ويتنعّم بأنواع محبّته الّتي تتّقد بأكثر حيويّة في هذه الصحوة الهانئة، محبوبة أكثر تبدو زوجته، حامياً أكثر يبدو الرجل لزوجته، وأعزّ لكليهما الأطفال، الّذين وهم للآن ابتسامة وعمل، سيكونون غداً، وقت الشيخوخة، ابتسامة بعد وحماية للعَجَزة الّذين يَخبون.

 

يسوع يعبر وسط الحقول، الّتي تصعد وتهبط تبعاً لاختلاف ارتفاعات الجبل. إنّه وحيد. يلبس كتّاناً، لأنّه أعطى صموئيل ثوبه الصوفيّ الأخير، إنّما مع رداء خفيف، زرقته فاقعة إلى حدّ ما، ملقى على كتف واحد فقط، ثمّ يلفّ الجسد بشكل فضفاض، يمسكه بذراع واحدة عند الصدر. الحاشية الملقاة على الذراع تُموّجها الريح اللطيفة الّتي تهبّ على الأرض، وتُموّج شعر الرأس المكشوف الّذي يلمع في الشمس. إنّه يعبر، وحيث يوجد أطفال ينحني ليداعب الرؤوس الصغيرة البريئة وليستمع إلى مكنوناتهم الطفوليّة، وليُبدي إعجابه بما يهرعون ليُروه له كما لو أنّه كنز.

 

تأتي فتاة صغيرة، الّتي لا تزال تتعثّر وهي تركض مِن فرط ما هي صغيرة، ويعيقها ثوب طويل للغاية بالنسبة لها، ربّما ورثته عن شقيقها الأكبر قليلاً. هي ابتسامة تنير عينيها وتكشف عن قواطعها الصغيرة بين شفتيها الورديّتين، تمسك باقة مِن الأقحوان، باقة كبيرة تمسكها بيديها الاثنتين، بقدر ما يمكن أن تحمل يدان هكذا طريتان وصغيرتان، وترفع غنيمتها قائلة: «خذ! إنّها لكَ. ولأُمّي فيما بعد، قُبلة، هنا!» وتضرب بيديها، وقد تحرّرتا مِن باقتها الّتي أخذها يسوع مع كلمات إعجاب وشكر، على فمها الصغير، وتلبث برأس مقلوب إلى الخلف، مستطيلةً على قدميها الحافيتين حتّى كادت أن تفقد التوازن، في محاولة عبثيّة لإطالة قامتها الصغيرة وصولاً إلى وجه يسوع. فيضحك وهو يحملها بين ذراعيه ويمضي معها، متربّعة هناك فوق كما عصفور صغير فوق شجرة عالية، صوب مجموعة نساء يغسلن أقمشة جديدة في المياه الصافية لجدول، لينشرنها بعد ذلك لتبييضها في الشمس.

 

النساء المنحنيات فوق الماء ينتصبن كي يحيّين، وإحداهنّ تقول باسمة: «تامار قد أزعجتكَ… إنّما هي هنا منذ الفجر تقطف زهوراً مع رجاء خفيّ بأن تراكَ تمرّ، لم تعطني ولا حتّى واحدة، لأنّها كانت تريد أن تقدّمها لكَ أوّلاً.»

 

«إنّها بالنسبة لي أثمن مِن كنوز الملوك، لأنّها بريئة مثل الأطفال ومُقدّمة مِن طفلة بريئة كالزهور.» يُقبّل الصغيرة واضعاً إيّاها أرضاً ويحيّيها: «لتحلّ عليكِ نعمة الربّ.» يحيّي النسوة ويتابع طريقه، ملقياً التحيّة على المزارعين والرّعاة الّذين يقومون بتحيّته مِن الحقول أو المروج.

 

يبدو متوجّهاً نزولاً، إلى الجهة الّتي تقود صوب أريحا. لكنّه بعد ذلك يرجع إلى الوراء، ليسلك درباً آخر يصعد مجدّداً صوب الجبال إلى الشمال مِن أفرايم. الأرض هنا، المكشوفة جيّداً والمحميّة مِن رياح الشمال، المحاصيل فيها أكثر جمالاً. للدرب بين الحقلين، مِن إحدى الجهات، أشجار مثمرة على مسافات منتظمة تقريباً، وبراعم الثمار الواعدة هي مثل لآلئ كثيرة على طول الأغصان.

 

طريق تهبط مِن الشمال صوب الجنوب تتقاطع مع الدرب. لا بدّ أنّها طريق مهمّة، حيث هناك عند التقاطع واحدة مِن الشاخصات الحجريّة الّتي يستخدمها الرومان، ومكتوب على الجانب الشماليّ: نيابوليس وأسفل هذا الاسم -المنقوش بقياس كبير بأحرف لاتينيّة مقتضبة، قاسية مثلهم- بخطّ أصغر بكثير، وبالكاد مُعلّم على حجر الغرانيت (الصوّان): "شكيم [نابلس]"، وعلى الجانب الغربيّ: "شيلوه -أورشليم"، وعلى ذاك المواجه للجنوب: "أريحا". على الجانب الشرقيّ لا يوجد أيّ اسم. إنّما يمكن القول بأنّه إن لم يكن هناك اسم لمدينة، فهناك إسم لمصيبة بشريّة. بالفعل على الأرض، بين الشاخصة الحجريّة والقناة الّتي تحاذي الدرب، كما في كلّ الطرق الّتي يشقّها الرومان، المحفورة لتصريف المياه وقت هطول المطر، يوجد رجل، مُتكوّر حول نفسه، كُتلة خِرَق وعظام، قد يكون ميتاً.

 

يسوع ينحني فوقه حين يكتشفه وسط أعشاب حافّة الطريق الّتي جعلتها الهطولات الربيعيّة كثيفة، ويلمسه منادياً إيّاه: «يا رجل؟ ما بكَ؟»

 

أنين يجيبه. إنّما كَومة الخِرَق تتحرّك، تستدير، ويظهر وجه نحيل جدّاً، يمكن أن يكون لميت، وعينان مرهقتان، متألّمتان وواهنتان، تنظران بدهشة إلى ذاك المنحني فوق بؤسه. يحاول الجلوس مستنداً إلى الأرض بيديه النحيلتين جدّاً، لكنّه بغاية الضعف بحيث أنّه لم يتمكّن مِن ذلك دون مساعدة يسوع.

 

يساعده يسوع، سانداً ظهره إلى الشاخصة الحجريّة، ويسأله: «ما بكَ؟ أأنتَ مريض؟»

 

«نعم» إنّها "نعم" ضعيفة جدّاً.

 

«إنّما كيف استطعت السفر وحدكَ وأنتَ بهذه الحال؟ أليس لديكَ أحد؟»

 

الرجل يومئ بالإيجاب. إنّه بغاية الضعف كي يجيب.

 

ينظر يسوع حوله. لا أحد في الحقول. إنّه موضع قَفْر للغاية. إلى الشمال، تقريباً عند قمّة تلّة، بضعة منازل، إلى الغرب، وسط خُضرة المنحدر، الّذي يتحوّل، صاعداً تلالاً أخرى، مِن حقول إلى مروج وخمائل، هناك رُعاة وسط قطيع ماعز هائج. يسوع يعاود خفض عينيه صوب الرجل. يَسأَل: «إن سندتكَ، فهل تشعر بأنّكَ قادر على الذهاب إلى تلك البلدة؟»

 

يهزّ الرجل رأسه، ودمعتان تسيلان على خدّيه، الذابلين كما لو أنّهما متجعّدين بفعل الشيخوخة، فيما تُظهِر لحيته السوداء بأنّه ما يزال شابّاً. إنّه يستجمع قواه ليقول: «لقد طردوني… خوفاً مِن البرص… لستُ كذلك… وأموت… مِن الجوع.» يموت مِن الضعف. يضع إصبعاً في فمه ويُخرِج مضغة مخضرّة: «أُنظر… لقد مضغتُ حبوباً… لكنّها ما تزال عشباً.»

 

«سأذهب إلى ذاك الراعي. سأجلب لكَ حليباً فاتراً. سوف أُسرِع.» ويتوجّه راكضاً تقريباً إلى حيث القطيع، الّذي يبعد حوالي مئتيّ متر إلى أعلى الطريق.

 

يصل إلى الراعي، يُكلّمه، يشير إلى حيث الرجل. الراعي يلتفت لينظر، متردّداً، يتساءل إذا كان يُفترض الاستجابة لطلب يسوع. ثمّ يحزم أمره. يفكّ مِن حزامه القصعة الخشبيّة الّتي يحملها كما كلّ الرّعاة، ويحلب معزاة ليعطي القصعة الممتلئة ليسوع، الّذي ينزل المنحدر بحذر، يتبعه طفل كان مع الراعي.

 

ها هو قرب الجائع مجدّداً. يركع قربه، يضع ذراعاً خلف كتفيه كي يسنده، ويُقرّب مِن شفتيه القصعة، حيث الحليب لا يزال يزبد. يجعله يرتشف جرعات صغيرة، ثمّ يضع القصعة على الأرض قائلاً: «للآن هذا يكفي. الكلّ دفعة واحدة قد يؤذيكَ. دع معدتكَ تنتعش بامتصاص الحليب الّذي أعطيتُكَ إيّاه.»

 

الرجل لا يحتجّ. يغمض عينيه ويصمت، يراقبه الطفل باندهاش شديد.

 

بعد مضيّ بعض الوقت يسوع يعاود تقديم القصعة ليرتشف جرعات أكبر، وهكذا يفعل، مع توقّف أقصر فأقصر، إلى أن ينتهي الحليب. يعيد القصعة للطفل ويصرفه.

 

الرجل ينتعش على مهل. يحاول بحركات لا تزال مرتبكة أن يرتّب نفسه بعض الشيء. لديه ابتسامة امتنان وهو ينظر إلى يسوع الّذي جلس على العشب بقربه. يعتذر: «إنّني أجعلكَ تهدر وقتكَ.»

 

«لا تغتمّ! ليس أبداً وقتاً ضائعاً ذاك الّذي نستخدمه في محبّة إخوتنا. حين تتحسّن صحّتكَ سوف نتكلّم.»

 

«إنّني أحسن حالاً. الحرارة تعود إلى أطرافي، والنَّظَر… لقد ظننتُ بأنّني سأموت هنا… مساكين أطفالي! كنتُ قد فقدتُ كلّ أمل… وقد كان بي الكثير منه حتّى الآن… لو لم تأتِ أنتَ، لكنتُ متُّ… هكذا… على طريق...»

 

«لكان ذلك محزناً جدّاً، صحيح. لكنّ العليّ قد نظر إلى ابنه وأغاثه. استرح قليلاً.»

 

الرجل يطيع لبرهة. ثمّ يفتح عينيه ويقول: «أشعر بأنّني أحيا مجدّداً. آه! لو كنتُ أستطيع الذهاب إلى أفرايم!»

 

«لماذا؟ ألديكَ هناك مَن ينتظركَ؟ أأنتَ مِن هناكَ؟»

 

«لا. إنّني مِن أرياف جبنيا، قرب البحر الكبير. لكنّني ذهبتُ إلى الجليل، على طول الضفاف، وصولاً إلى قيصريّة. ثمّ ذهبتُ بعد ذلك إلى الناصرة. لأنّني مريض هنا (يضرب على معدته). مرض لم يُحسِن أحد شفاءه، ويمنعني مِن العمل بالأرض. وأنا أرمل، مع خمسة أطفال… أحد الأشخاص مِن مناطقنا، لأنّني مِن مواليد غزّة، مولود مِن أب غير مستنير، وأُمّ سوريّة فينيقيّة. واحد مِن أهلنا، الّذي كان تابعاً للرابّي الجليليّ، قد أتى إلينا مع آخر، كي يحدّثنا عن هذا الرابّي. أنا أيضاً سمعتُه. وعندما شعرت باشتداد مرضي قلتُ: "إنّني سوريّ وغير مستنير، قذارة بالنسبة لإسرائيل. لكنّ هرمست كان يقول بأنّ رابّي الجليل طيّب بقدر ما هو قادر. وأنا أصدّق ذلك. وأذهب إليه". وما أن حلّ الطقس الأفضل، حتّى تركتُ الأطفال عند حماتي، جمعتُ مدّخراتي الضئيلة، ذلك أنّ كثيراً منها قد استُهلك بسبب المرض، وأتيتُ لأبحث عن الرابّي. لكنّ المال ينتهي بسرعة في السفر. خصوصاً عندما لا يمكننا أن نأكل مِن كلّ شيء… والإقامة في النُّزُل، عندما كانت الآلام تمنعني مِن السير. في سيفوريس بعتُ الحمار، لأنّه لم يبقَ معي مال لنفسي، وكي أعطي ما يتوجّب للرابّي. لقد فكّرت بأنّني ما أن أُشفى، حتّى أتمكّن مِن تناول كلّ شيء على الطريق، وأعود سريعاً إلى المنزل. وهناك، بالعمل في حقولي وحقول الغير، أُصلح وضعي… لكنّ الرابّي ليس في الناصرة، ولا في كفرناحوم. أُمّه قد قالت لي ذلك. لقد قالت لي: "إنّه في اليهوديّة. إبحث عنه عند يوسف سيفوريس في بيزيتا، أو في جَثْسَيْماني، هم يجيدون القول لكَ أين يكون". وعدتُ أدراجي، مشياً. وكان المرض يتعاظم… والمال يتضاءل. في أورشليم، حيث تمّ إرسالي، وجدتُ رجالاً إنّما لم أجد الرابّي. لقد قالوا لي: "آه! لقد طردوه منذ زمن طويل. لقد تمّ لعنه مِن قِبَل السنهدرين. وقد هرب لا نعلم إلى أين". أنا… شعرت بأنّني أموت… كما اليوم. بل أكثر مِن اليوم. ومضيتُ سائلاً مئات البشر عبر المدينة وفي الأرياف. لم يكن أحد يعلم. البعض كانوا يبكون معي. كُثُر ضربوني. ثمّ في أحد الأيّام، حيث أخذتُ أتسوّل خارج أسوار الهيكل، سمعتُ فرّيسيّيَن يقولان: "الآن وقد علمنا أنّ يسوع الناصريّ في أفرايم…" ولم أهدر الوقت، وعلى ما كنتُ عليه مِن ضعف، فقد أتيتُ وصولاً إلى هنا، مستجدياً قوتي، ممزَّقاً ومريضاً أكثر فأكثر. ولعدم خبرتي، فقد أخطأتُ الطريق… اليوم قد أتيتُ مِن هناك، مِن تلك البلدة. ليومين وأنا لا آكل سوى الشمّر البرّي، وأمضغ الهندباء وحبوباً ما تزال خضراء. لقد ظنّوا بأنّني أبرص بسبب شحوبي، وقد طردوني راجمين إيّاي بالحجارة. لم أكن أطلب سوى خبز وإرشادات عن الطريق إلى أفرايم… لقد وقعتُ هنا… لكنّني أودّ الذهاب إلى أفرايم. إنّني قريب جدّاً مِن الغاية! هل مِن المعقول ألّا أبلغها؟ إنّني أؤمن بالرابّي. لستُ إسرائيليّاً. إنّما ولا هرمست كان كذلك، وهو كان يحبّه على حدّ سواء. هل يمكن أنّ يُثقِل إله إسرائيل يده عليَّ كي ينتقم مِن آثام مَن أنجباني؟»

 

«إنّ الله الحقّ هو أبو البشر. هو عادل، إنّما صالح. يكافئ مَن يتحلّى بالإيمان، ولا يجعل الأبرياء يدفعون ثمن آثام ليست آثامهم. إنّما لماذا قلتَ، عندما سمعتَ بأنّ مكان إقامة الرابّي كان مجهولاً، قد شعرتَ بأنّكَ تموت بأكثر مِن اليوم؟»

 

«كان ذلك لأنّني قلتُ: "لقد أضعتُه حتّى قبل أن أجده".»

 

«آه! بسبب صحّتكَ!»

 

«لا. ليس فقط لأجل ذلك. إنّما لأنّ هرمست كان يقول عنه أموراً عدّة، بحيث كان يبدو لي بأنّني لو عرفتُه، فلا أكون بعد قذارة.»

 

«أتؤمن إذن بأنّه المسيا؟»

 

«أؤمن بذلك. لا أعلم جيّداً ما يكون عليه المسيا، إنّما أؤمن بأنّ رابّي الناصرة هو ابن الله.»

 

يسوع يبتسم بابتهاج وهو يَسأَل: «وهل أنتَ واثق، بأنّه إن كان كذلك، سوف يستجيب لكَ، أنتَ غير المختون؟»

 

«إنّني واثق مِن ذلك، لأنّ هرمست كان يقول ذلك. كان يقول: "هو مخلّص الجميع. بالنسبة له ليس هناك عبرانيّون ووثنيّون، إنّما فقط مخلوقات ينبغي أن تخلص، إذ إنّ الربّ الإله قد أرسله لأجل ذلك". كُثُر كانوا يضحكون. أنا صدّقتُه. لو أمكنني أن أقول له: "يا يسوع، إرحمني"، فهو سوف يستجيب لي. آه! إن كنتَ مِن أفرايم، قدني إليه. ربّما أنتَ واحد مِن تلاميذه...»

 

يسوع يبتسم أكثر فأكثر ويَنصَح: «حاول أن تطلب منّي أنا أن أشفيكَ...»

 

«إنّكَ طيّب أيّها الرجل. قربكَ ثمّة سلام كثير. نعم، إنّكَ طيّب مثل… مثل الرابّي نفسه، وحتماً كان ليمنحكَ قدرة اجتراح معجزة، فأن تكون طيّباً كما أنتَ، فلا يمكن إلّا أن تكون أحد تلاميذه. كلّ مَن قالوا لي أنّهم كذلك قد وجدتُهم طيّبين. إنّما لا أقصد إهانتكَ إن قلتُ لكَ بأنّكَ ربّما تستطيع أن تشفي الأجساد، إنّما ليس النفوس. وأنا أودّ أن تُشفى تلك كذلك، كما حصل مع هرمست. أن أغدو مستقيماً... وهذا وحده الرابّي يستطيع فِعله. إنّني خاطئ علاوة على أنّني مريض. لا أريد أن أرى جسدي وقد شفي ثمّ يموت يوماً ما، ومعه النَّفْس. أريد أن أحيا. هرمست كان يقول بأنّ الرابّي هو حياة النَّفْس، وأنّ النَّفْس الّتي تؤمن به تحيا على الدوام في ملكوت الله. قدني إلى الرابّي. كُن طيّباً! لماذا تبتسم؟ أربّما لأنّكَ تُفكّر بأنّني أتجرّأ على أن أرغب بالشفاء دون أن تكون لديَّ القدرة على تقديم صدقة؟ إنّما ما أن أُشفى، يمكنني أن أعاود زراعة الأرض. لديَّ ثمار رائعة. إن يأتِ الرابّي في فصل نضوج الثمار فسوف أدفع له واستضيفه بقدر ما يشاء.»

 

«مَن قال لكَ بأنّ الرابّي يريد مالاً؟ هرمست؟»

 

«لا. بل على العكس كان يقول بأنّ الفقراء هم أوّل مَن يشفق عليهم الرابّي ويغيثهم. إنّما هكذا جرت العادة مع كلّ الأطبّاء… ومع الجميع، إجمالاً.»

 

«إنّما ليس معه. أؤكّد لكَ ذلك. وأقول لكَ بأنّكَ إن كنتَ تُحسِن دفع إيمانكَ لطلب المعجزة هنا، وأن تؤمن بأنّ ذلك ممكناً، فسوف تنالها.»

 

«أتقول الحقّ؟ أأنتَ واثق مِن ذلك؟ بالطبع، إن كنتَ أحد تلاميذه، فلا يمكنكَ أن تكذب ولا أن تخطئ. وعلى الرغم مِن أسفي لعدم رؤية الرابّي… أريد أن أطيعكَ… ربّما هو، الـمُضطَهَد هكذا… لا يريد أن تتمّ رؤيته… حيث ما عاد يثق بأحد بعد. معه حقّ. إنّما لن نكون نحن مَن سيُهلكه، سيكونون العبرانيّين الحقيقيّين… ومع ذلك، هوذا. إنّني أقول هنا (يركع بكثير مِن الألم): "يا يسوع، يا ابن الله، إرحمني!"»

 

«وليكن لكَ كما يستحقّ إيمانكَ.» يقول يسوع وهو يقوم بحركته الآمرة على الأمراض.

 

الرجل بنوع مِن الانبهار، بالأحرى بنور غير متوقّع. يُدرِك -لا أدري إن كان بانفتاح ذهني، أو بإحساس مادّي، أو بالأمرين معاً- مَن هو ذاك الّذي أمامه، ويصيح بحدّة، بحيث أنّ الراعي، الّذي نزل صوب الطريق، ربّما كي يرى، يحثّ خطاه.

 

الرجل على الأرض ووجهه في العشب. والراعي، مشيراً إليه بعصاه، يقول: «هل مات؟ يلزم شيء آخر غير الحليب عندما تحلّ نهاية أحدهم!» ويهزّ رأسه.

 

الرجل يسمع ويهبّ واقفاً، قويّاً، معافىً. يصيح: «ميت؟ لقد شفيتُ! لقد قمتُ مِن الموت. هو مَن فعل لي هذا. ما عاد بي وهن الجوع ولا آلام المرض. إنّني كما عندما كنتُ في يوم عرسي! آه! أيّها المبارك يسوع! وكيف لم أعرفكَ قبلاً؟! كان يجب أن تُفصح لي رحمتكَ عن اسمكَ! السلام الّذي كنتُ أحسّ به قربكَ! كنتُ أحمقاً. إغفر لخادمكَ المسكين!» ويرتمي مجدّداً على الأرض، عابداً.

 

الراعي يترك ماعزه ويمضي وهو يجري ويقفز، صوب البلدة.

 

يسوع يجلس قرب الـمُبرأ ويقول: «كنتَ تحدّثني عن هرمست كما عن ميت. إنّكَ إذن تعرف نهايته. إنّني لا أريد سوى أمر واحد منكَ، أن تأتي معي إلى أفرايم وأن تروي نهايته لأحدهم وهو معي. ثمّ سأرسلكَ إلى أريحا، إلى تلميذة، كي تساعدكَ في رحلة العودة.»

 

«إن أردتَ ذلك، فسوف أذهب. إنّما، حيث أنّني سليم الآن، فما عاد بي خوف مِن الموت على الطريق. وحتّى العشب يمكن أن يغذّيني، وليس عيباً مدّ اليد، فليس لأجل حماقات، وإنّما لغاية صالحة قد استهلكتُ مالي.»

 

«أريد ذلك. ستقول لها أنّكَ رأيتَني وأنّني أنتظرها هنا. وأنّها تستطيع المجيء مِن الآن فصاعداً. وأنّ لا أحد سوف يزعجها. هل ستُحسِن قول ذلك؟»

 

«سوف أُحسِن ذلك. آه! لماذا يكرهونكَ، أنتَ الطيّب جدّاً؟»

 

«لأنّ الكثيرين منهم فيهم روح تستحوذ عليهم. لنذهب.»

 

يسوع يبدأ السير صوب أفرايم، والرجل يتبعه بثقة. فقط نحوله الشديد يذكّر بمرضه وحرماناته الماضية.

 

في هذه الأثناء ينزل مِن البلدة أناس كُثُر يصيحون ويشوّرون. ينادون يسوع. يقولون له أن يتوقّف. يسوع لا يستمع إليهم، لا بل يحثّ الخطى. وأولئك يتبعونه…

 

ها هو مجدّداً في جوار أفرايم. المزارعون الّذين يستعدّون للعودة إلى منازلهم، حيث أنّ غروب الشمس يبدأ، يحيّونه ناظرين إلى الرجل الّذي برفقة يسوع.

 

يخرج يهوذا الاسخريوطيّ مِن أحد الدروب. ينتفض مِن المفاجأة وقد رأى المعلّم. لكنّ يسوع لا يبدي أيّة دهشة. هو فقط يقول مخاطباً الرجل: «هذا أحد تلاميذي. حَدّثه عن هرمست.»

 

«إيه! سريع هو قول ذلك. كان لا يتعب مِن التبشير بالمسيح، حتّى بعدما أراد الانفصال عن رفيقه كي يبقى عندنا. كان يقول بأنّنا كنّا بحاجة إلى معرفتكَ أكثر مِن الجميع، أيا أيّها الرابّي، وأنّه كان يريد أن يجعلكَ معروفاً في وطنه، وأنّه كان ليعود إليكَ عندما يُعلن اسمكَ في جميع أصغر البلدات. كان يعيش كما تَوّاب. وإذا ما أعطاه أحد الرحماء رغيف خبز، كان يباركه باسمكَ. وإذا ما رموه بالحجارة، كان ينسحب مباركاً إيّاهم على حدّ سواء، وكان يقتات مِن ثمار بريّة أو مِن رخويّات بحريّة كان ينتزعها مِن الصخور أو يستخرجها مِن الرمل. كُثُر كانوا يقولون عنه "مجنون". إنّما ما مِن أحد كان يكرهه في الصميم. على الأكثر كانوا يطردونه كما لو أنّه كان نذير شؤم. وذات يوم وُجِد ميتاً على الطريق، بالضبط قريباً مِن قريتي، على الطريق الّتي تمضي إلى اليهوديّة، تقريباً عند الحدود. لم يُعرَف قطّ سبب موته. إنّما يُشاع بأنّه قُتل على يد شخص لم يكن يريد أن يُكرَز بالمسيح. كان لديه جرح عميق في الرأس. يقال أنّ حصاناً دهسه. لكنّني لا أعتقد ذلك. كان مبتسماً وهو ممدّد على التراب. نعم. كان يبدو بحقّ وكأنّه يبتسم للنجوم الأخيرة لأصفى ليلة مِن أيلول (سبتمبر)، ولشمس الصباح الأولى. لقد عَثَر عليه بستانيّون كانوا يمضون عند خيوط النهار الأولى مع خضارهم إلى المدينة، وأخبروني بذلك حين مرّوا كي يأخذوا الخِيار مِن عندي. وهرعتُ لأرى. كان في سلام عظيم.»

 

«هل سمعتَ؟» يسوع يَسأَل يهوذا.

 

«لقد سمعتُ. إنّما ألم تكن قد قلتَ له بأنّه سيخدمكَ ويحيا حياة مديدة؟»

 

«لم أقله بالضبط هكذا. إنّما الزمن الّذي مضى قد شَوّش تفكيركَ. ألم يخدمني يا ترى، مبشّراً في بلدات الرسالة، وألم يحظَ بحياة مديدة؟ أيّة حياة مديدة أكثر مِن تلك الّتي يفوز بها مَن يموت وهو يخدم الله؟ مديدة ومجيدة.»

 

ليهوذا تلك الضحكة القصيرة والغريبة، تلك الّتي تصدمني كثيراً، ولا يردّ بشيء.

 

في تلك الأثناء فإنّ أولئك الّذين مِن البلدة الصغيرة قد انضمّوا للكثيرين مِن أفرايم، ويتحدّثون معهم مشيرين إلى يسوع.

 

يسوع يأمر يهوذا: «رافق الرجل إلى المنزل وأَنْهِ إطعامه. سوف يرحل بعد السبت الّذي يبدأ.»

 

يهوذا يطيع ويسوع يبقى وحده، ويسير ببطء وهو ينحني ليراقب سوق القمح الّتي تشرع بتكوين سنابل.

 

رجال مِن أفرايم يسألونه: «جميل هو هذا القمح، أليس كذلك؟»

 

«جميل. لكنّه لا يختلف عن قمح المناطق الأخرى.»

 

«بالتأكيد يا معلّم، فكلّه قمح! وحتماً يجب أن يكون متماثلاً.»

 

«أتقولون ذلك؟ فالقمح إذن أفضل مِن البشر. ببالفعل، فإذا ما فقط تمّ بِذاره كما يجب، فسوف يُنتِج الثمار ذاتها، هنا كما في اليهوديّة أو الجليل، أو، لنقل في السهول على طول البحر الكبير. أمّا البشر، فلا يُنتِجون الثمار ذاتها. وكذلك هي الأرض أفضل مِن البشر، لأنّنا حينما نأتمنها على بِذرة، تكون صالحة لها، دون أن تُفرّق فيما إذا كانت البذرة مِن السامرة أو مِن اليهوديّة.»

 

«هذا صحيح. لكن لماذا تقول بأنّ الأرض والقمح هما أفضل مِن البشر؟»

 

«لماذا؟... منذ قليل طلب رجل رغيف خبز، على سبيل الرحمة، عند أبواب بلدة، وتمّ طرده مِن قِبَل أهل ذاك المكان ظنّاً منهم أنّه مِن مكان ما مِن اليهوديّة. تمّ طرده بالحجارة وبصيحات "أبرص"، الّتي ظَنَّ بأنّها كانت بسبب هزاله، إنّما الّتي قيلت بسبب أصله. وهذا الرجل كان على وشك أن يموت مِن الجوع على الطريق. ولذلك فإنّ أهل تلك البلدة، أولئك الأشخاص الّذين هم هناك والّذين أرسلوكم كي تسألوني، والّذين يودّون المجيء إلى المنزل حيث أقيم كي يروا الّذي جرت عليه المعجزة، هم أدنى مِن القمح ومِن الأرض، لأنّهم، رغم أنّني اشتغلتُ عليهم لفترة طويلة، لم يُحسِنوا طرح ذات الثمر الّذي طرحه هذا الرجل الّذي لا هو يهوديّ ولا سامريّ، الّذي لم يرني ولم يسمعني أبداً، إنّما الّذي تقبّل كلام أحد تلاميذي وآمن بي دون أن يعرفني. ولأنّهم أدنى مِن الأرض، فقد رفضوا الرجل لأنّه كان مِن بِذار آخر. والآن يودّون أن يأتوا لإشباع جوع فضولهم، هم الّذين لم يُحسِنوا إشباع جوع إنسان خائر القوى. قولوا لأولئك الناس بأنّ المعلّم لن يُشبِع هذا الفضول عديم الجدوى. وتعلّموا كلّكم شريعة المحبّة الكبرى، الّتي مِن دونها لن تستطيعوا أبداً أن تتبعوني. فليس حبّكم لي، ليس هذا فقط ما سوف يخلّص نفوسكم، إنّما حبّكم لعقيدتي. وعقيدتي تُعلّم المحبّة الأخويّة دون تمييز في العِرق ولا في الثروة. فليرحل إذن، أولئك قُساة القلوب الّذين آلموا قلبي، وليندموا إذا ما أرادوا أن أحبّهم. ذلك أنّني، تذكّروا هذا كلّكم، إن كنتُ صالحاً، فأنا عادل أيضاً، وإذا كنتُ لا أقيم فرقاً وأحبّكم بمقدار ما أحبّ الآخرين في الجليل واليهوديّة، فذلك يجب ألّا يجعلكم، بغرور أحمق، مُفَضَّلين، ويمنحكم الإذن بفعل الشرّ دون الخوف مِن لومي. إنّني أمنح الثناء وأوجّه اللوم وفقاً لمقتضيات العدل، لأهلي ورُسُلي كما لأيّ مخلوق آخر، وفي لومي محبّة، فأنا أفعل ذلك لأنّني أريد البرّ في القلوب، كي أتمكّن مِن أن أكافئ مَن مارسه يوماً ما. اذهبوا وقولوا لهم ذلك. وليُثمر الدرس في الجميع.»

 

يسوع يلتفّ بردائه ويحثّ الخطى نحو أفرايم، تاركاً خلفه مخاطبيه الّذين يمضون، مرتبكين إلى حدّ ما، يردّدون كلام المعلّم على أهل البلدة الّذين لم يتحلّوا بالرحمة.