ج1 - ف61

أَنَا هُوَ

ماريا فالتورتا

L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO

THE GOSPEL AS REVEALED TO ME

بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}

L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ

MARIA VALTORTA

الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.

 

الجزء الأول

 

61- (في هذا البيت يُراعَى النظام)

 

26 / 01 / 1944

 

يقول يسوع:

 

«الأمور التي تَرَينَها هي درس يُعطى لكِ وللآخرين. درس في التواضع وفي الخضوع وفي الوفاق الكامل، درس مُقتَرَح لكلّ العائلات المسيحيّة وبشكل خاصّ للعائلات المسيحيّة في هذا الزمن الخاصّ والأليم.

 

لقد رأيتِ بيتاً متواضعاً فقيراً. والمؤلم في الأمر أنّه منزل فقير في بلد غريب.

 

كثيرون هُم المؤمنون "الـمُقبِولون" الذين يُطالِبون بحياة ماديّة سهلة، تَقيهم أدنى المعاناة، حياة مُزدَهِرة وسعيدة، وذلك فقط لأنّهم يُصَلّون ويتقبّلونني في الإفخارستيا، لأنّهم يُصَلّون ويتناولون مِن أجل احتياجاتهم "الخاصّة" وليس مِن أجل احتياجات النفوس الـمُلِحّة ومجد الله، (بالفعل، إنّه لَمِن النادر جدّاً ألّا نكون أنانيّين في صلواتنا).

 

يوسف ومريم كانا يمتلكانني أنا، الإله الحقيقيّ، كابن لهما. ومع ذلك لم يكن لهما حتّى حدّ الإشباع المتواضِع لكونهما فقيرَين جدّاً، بينما في وطنهما، في بلدهما، كانا معروفَين، أو على الأقلّ كان لهما بيت صغير "يخصّهما"، ولم يكن لأحد صِلة في مسألة سكنهما؛ في بلدهما كان مِن السهل عليهما تأمين العمل وسُبُل العيش، لأنّهما كانا معروفَين، وبسببي أنا أصبَحَا لاجِئَين في مناخ مختلف وفي بلد مختلف، بلد كئيب جدّاً إذا ما قورِن بِقُرى الجليل اللطيفة، وكذلك مع لغة وعادات مختلفة، ووسط أناس لا يعرفونَهما، ولديهم تلك الريبة المعتادة التي لدى الشعوب تجاه اللاجئين والمجهولين.

 

لقد حُرِموا مِن مفروشات بيتهم الصغير المريحة والعزيزة، مِن كثير كثير مِن الأشياء الصغيرة المتواضعة والضروريّة، التي لم تكن لتبدو كذلك هناك، بينما هنا، مع هذا العَوَز الذي يحيط بهم، تبدو جميلة جدّاً، مثل تلك الكماليّات التي تضفي على البيوت الفارهة عذوبة خاصّة. إنّهما يشعُران بالحنين إلى وطنهما وإلى بيتهما، وأفكارهما تذهَب إلى تلك الأشياء المتواضعة هناك، وإلى البستان الصغير، أو إلى ما قد لا يَحسب لـه أحد حساباً، إلى الكرمة والتينة وإلى المزروعات الأخرى المفيدة. إنّهما في عَوَز تأمين الغذاء اليومي، والثياب والنار، خاصّة لي أنا الطفل الذي لا يمكن إطعامي مما هو جائز لهما. وفوق كلّ ذلك آلام كثيرة في القلب، بالحنين، وبالترقُّب لما ينتظرهما غداً، في ريبة الناس المتعنّتة بهما، خاصّة في الفترات الأولى، إذ لا أحد يَقبَل بسهولة عروض عمل مِن مجهولين.

 

ومع ذلك فقد رأيتِ كيف يهيمن في هذا المسكن الصفاء والابتسامة والوِئام، وبِتآلف مشترَك تجري محاولة جعله أكثر جمالاً، حتّى البستان الفقير، لكي يصبح كلّ شيء مشابهاً للبيت الذي تُرِك، بل وحتّى أكثر راحة. لم تكن هناك سوى فكرة واحدة: تلك التي مِن أجلي، أنا المقدّس، أن تصبح الأرض الغريبة أقلّ بؤساً بالنسبة لي أنا الآتي مِن الله. إنّه حبّ المؤمنين والأهل الذي يتبدّى بألف اهتمام؛ ها هي العنزة التي تَتَطلَّب إضافة ساعات كثيرة مِن العمل، واللُّعَب الصغيرة المنحوتة مِن القطع الخشبيّة الزائدة، والفواكه المشتراة لي وحدي، بينما هما يَحرمان نفسيهما مِن لقمة غذاء.

 

أيّها الأب الأرضيّ الحبيب، كم كنتَ محبوباً مِن الله، مِن الله الآب السماويّ، ومِن الله الابن الذي أصبَحَ مخلّصاً على الأرض!

 

في هذا البيت لا يوجد أناس عصبيّو المزاج، شديدو الحساسيّة، ذَوو ملامح شرسة، ولا وجود لـمَلامات متبادلة كذلك، ولا حتّى تجاه الله الذي لا يُسبِغ عليهما وضعاً ماديّاً جيّداً. فيوسف لا يُلقي باللائمة على مريم لكونها السبب في الخسائر التي مُنِيَ بها، ومريم مِن جهتها لا تلوم يوسف لعدم معرفته توفير وضع جيّد أفضل لها. إنّهما يتحابّان بقداسة وهذا كلّ ما في الأمر. ولا اهتمام لأحدهما بمصلحته الشخصيّة، إنّما بالمصلحة المشتركة. فالحبّ الحقيقيّ لا يعرف الأنانيّة. والحبّ الحقيقيّ عفيف على الدوام، حتّى ولو لم يكن كاملاً في هذا المجال بقدر حبّ عروسين بتولين.. فالعفّة المتّحدة بالمحبّة تجرّ وراءها موكباً مِن الفضائل الأُخرى وتُحَقِّق لشخصين يحبّان بعضهما بعفاف، الكمال الزوجيّ.

 

حُبّ أُمّي ويوسف كان كاملاً. لقد كان يَحمِل على اكتساب الفضائل الأخرى، وخاصّة محبّة الله المبارَك في كلّ حين، حتّى ولو كانت إرادته المقدّسة تُضني الجسد والقلب؛ فلقد كان الروح عند هذين القدّيسَين أكثر حيويّة ويسود على كلّ شيء. لقد كان ذلك الروح هو الذي يجعلهما يُعَظِّمان الربّ بشكره على اختياره إيّاهما كحارِسَين لابنه الأزليّ.

 

في هذا البيت كانت الصلاة. ضمن البيوت الحاليّة، الصلاة قليلة الوجود جدّاً. في مَطلع النهار وفي الغَسَق، في بداية العمل ولدى الجلوس إلى المائدة، فلا يخطر على بال أحد الربّ الذي أَذِن بيوم جديد أو أَذِن بإمكانيّة الوصول إلى مساء جديد، الربّ الذي بارَكَ أتعابكم وأَذِن بأن يُوَفَّر لكم هذا الطعام وهذه النار وهذه الثياب وهذا السقف، وكذلك كلّ هذه الأشياء الضروريّة في وضعكم البشريّ. فكلّ شيء "جيد" على الدوام حين يأتي مِن الله الصالح. حتّى ولو كانت هذه الخيرات فقيرة وقليلة، فالحبّ هو الذي يمنحها الطّعم والقيمة، الحبّ الذي يجعلكم تَرَون في الخالق الأزليّ الأب الذي يحبّكم.

 

في هذا البيت كان التقشّف. وكان سيبقى كذلك حتّى ولو لم يكن المال قليلاً. لقد كانت غاية الطعام استمرار الحياة، ولم تكن يوماً لإشباع الشّراهة وجَشَع النَّهَم وشهوات الشّرِهين الذين يبتلعون الأطعمة حتّى التُّخمة، ويُبذِّرون ممتلكاتهم على منتجات باهظة الثمن دون أن يفكّروا في الذين لا يجدون كفايتهم أو يُضطَرّون لأن يُحرَموا منها، دون التفكير بأنّهم في اعتدالهم يمكنهم أن يُوفِّروا على الكثيرين ألم الجوع.

 

في هذا البيت العمل محبوب. إنّه محبوب حتّى ولو كان المال موجوداً بوفرة. لأنّ في العمل يطيع الإنسان أوامر الله، ويَهرب مِن الرذيلة التي مثل العشقة (نبات مُعَرِّش يشبه اللبلاب) الدَّبِقَة تُطوّق وتَخنق العاطلين عن العمل الذين يُشبِهون أكواماً هامدة. الغذاء جيّد، والراحة لذيذة والقلب يرضى عندما نعمل جيّداً، كما تُقَدَّر لحظة الاستراحة بين عمل وآخر. والرذيلة في جميع أوجهها لا يمكنها الدخول إلى بيت أو في روح مَن يحبّ العمل. وبما أنّها لا تَنبت فيهما فإن العطف ينمو وكذلك التقدير والاحترام المتبادَل. وفي مناخ الطهارة تتعاظم التَّساميات الحنونة التي تخلق في المستقبل عائلات تُزهِر فيها القداسة.

 

في هذا البيت يسود التواضع. وأيّ درس في التواضع للمتكبِّرين منكم. فَمِن وجهة نظر بشريّة كان لدى مريم ألف ألف سبب لتتكبّر وتجعل قرينها يَسجد لها. فهناك الكثير من النساء اللواتي يفعلن ذلك لأنّ ثقافتهنّ أوسع وعائلتهن أكثر نُبلاً وثروتهنّ تفوق ثروة أزواجهنّ. أمّا مريم، وهي عروسة وأُمّ الله، فهي تَخدم قرينها، ولا تطلب أن تُخدَم، وكذلك هي تَكُنُّ له الكثير مِن العاطفة. ويوسف الذي وَجَدَه الله أهلاً هو سيّد هذا البيت، وهو الأهل بحقّ ليكون رأس البيت ويتقبّل مِن الله حراسة الكلمة المتجسّد وعروسة الروح الأزليّ، ومع ذلك فهو يسهَر باهتمام بالغ على تخفيف وطأة الأتعاب والأشغال عن مريم. إنّه يتحمّل أعباء البيت الأكثر تواضعاً ليوفّر على مريم العناء، وثمّ، كما يستطيع، وبالقدر الذي يستطيع، يُحاوِل إرضاءها، ويتفنّن في جعل المسكَن عَمَليّاً أكثر، وأن يجعل الحديقة الصغيرة أكثر بهجة بالزهور.

 

في هذا البيت يُحترَم الترتيب فائق الطبيعة والوجدانيّ والمادّيّ. الله هو السيّد الـمُطلَق وله العبادة والحبّ. وهذا هو الترتيب الفائق الطبيعة. يوسف هو سيّد العائلة وله يُقَدَّم العطف والاحترام والطاعة. وهذا هو الترتيب الوجدانيّ. والبيت عطيّة مِن الله وكذلك الثياب والمفروشات، وفي كلّ هذه الأمور تَظهَر عناية الله، هذا الإله الذي يَمنَح النِّعاج صوفها والطيور ريشها والحقول خُضرتها، وكذلك يمنَح العلف للحيوانات الداجنة، والحبوب والأوراق للطيور، وهو الذي يَنسج ثياب زنابق الوادي. فالمأوى والملبَس والمفروشات نتلقّاها كلّها بامتنان ونحن نبارِك اليد الإلهيّة التي وفّرتها، وذلك بمعاملتها باحترام كعطايا مِن عند الربّ، دون النظر إليها باشمئزاز لكونها مُتواضِعة، ودون تخريبها مستغلّين العناية الإلهيّة. وهذا هو الترتيب المادّيّ.

 

لم تُدرِكي معنى الكلمات المتبادَلَة في حِوار الناصرة، ولا كلمات الصلاة، إلّا أن مَشهَد مجريات الأمور أعطى درساً عظيماً. فتأمّلوا فيه أنتم يا مَن تُعانون كثيراً مِن تقصيركم أمام الله في الكثير مِن الأمور، ومنها أيضاً تلك التي لم يُقَصِّر بها العروسان القدّيسان اللذان هما أُمّي وأبي.

 

أمّا أنتِ فكوني سعيدة في تذكّركِ يسوع الصغير. ابتسمي وأنتِ تفكّرين بخطواته الطفوليّة الصغيرة. فبعد قليل سوف تَرَينَه يسير تحت وطأة صليبه، وستكون رؤيا الدموع.»