ج8 - ف36

أَنَا هُوَ

ماريا فالتورتا

L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO

THE GOSPEL AS REVEALED TO ME

بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}

L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ

MARIA VALTORTA

الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.

 

الجزء الثامن

 

36- (يسوع مُبعَد مِن السامرّين)

 

05 / 03 / 1947

 

طرسة محاطة ببساتين زيتون وافرة الخصوبة بحيث يتوجّب على المرء أن يكون قريباً جدّاً منها ليدرك أنّ المدينة موجودة هناك. حِزام مِن بساتين خُضار ذات خصوبة رائعة تشكّل حاجز الصدّ الأخير للمنازل مِن الرياح. في البساتين، الهندباء، الخسّ، البقوليّات، نباتات القرع الصغيرة، أشجار الفاكهة، الدوالي، تتمازج وتشبك تدرّجات اخضرارها المختلفة، أزهارها تبشّر بالثمار، أو ثمارها الصغيرة تعد بالأطايب. الأزهار الصغيرة للدوالي وأزهار أشجار الزيتون المبكّرة، تمطر عند هبوب نسيم قويّ إلى حدّ ما، وترشّ الأرض بثلج أبيض-أخضر.

 

مِن خلف ستار قصب وصفصاف قد نبتا قرب قناة جافّة إنّما لا يزال قاعها رطباً، ولدى سماع وقع خطوات الواصلين يَبرز الرُّسُل الثمانية الّذين أُرسِلوا إلى الأمام قبلاً. إنّهم قلقون ومحزونون على نحو جليّ، ويومئون بالتوقّف. يهرعون إلى الأمام. وعندما يصبحون قريبين كفاية بحيث يكونون مسموعين دونما حاجة لأن يصيحوا، يقولون: «ارحلوا! ارحلوا! تراجعوا، إلى الريف. لا يمكن دخول المدينة. كانوا على وشك أن يرجمونا. تنحّوا جانباً. إلى هناك، إلى ذاك الدغل، وسوف نتكلّم...» يدفعون إلى الوراء، إلى أسفل القناة الجافّة، يسوع، الرُّسُل الثلاثة، الصبيّ، النسوة، متلهّفين للابتعاد دون أن تتمّ رؤيتهم، ويقولون: «حاذروا أن يرونا هنا. لنرحل! لنرحل.»

 

عبثاً يحاول يسوع، يوضاس وابنيّ زَبْدي، معرفة ما حصل. عبثاً يقولون: «ولكن يهوذا بن سمعان؟ ولكن إليز؟»

 

لا يريد الثمانية سماع أيّ شيء. سائرين بين تشابك السُّوق والنباتات المائيّة، أقدامهم يجرحها الأَسَل (نبات تُصنع منه السّلال والأطباق)، وجوههم يصفعها الصفصاف والقصب، منزلقين على وحل القاع، متشبّثين بالأعشاب، مستندين إلى الحواف، مكتسين تماماً بالوحل، فإنّهم يبتعدون هكذا، مدفوعين مِن الوراء مِن قِبَل الثمانية، الّذين يسيرون ورؤوسهم تقريباً ملتفتة إلى الوراء كي يروا إن كان يخرج أحد مِن طرسة في إثرهم. إنّما على الطريق ليس هناك سوى الشمس الّتي تشرع بالمغيب، وكلب نحيل شارد.

 

أخيراً هم قرب تكتّل علّيق يحدّ إحدى الملكيّات. خلف التكتّل، حقل كتّان تُموّج الريح سوقه العالية، الّتي شرعت بإظهار زهورها ذات الزُّرقة السماويّة.

 

«هنا، هنا في الداخل. إذا ما لبثنا جالسين لن يرانا أحد، وعندما يحلّ المساء سنرحل...» يقول بطرس وهو يجفّف عَرَقه…

 

«إلى أين؟» يَسأَل يوضاس بن حلفى. «إنّ النسوة معنا.»

 

«نذهب إلى أيّ مكان. بكلّ الأحوال إنّ المروج مليئة بالقشّ المحصود. هذا أيضاً سيكون بمثابة سرير. وسنعمل خياماً للنسوة بأرديتنا ونراقب.»

 

«نعم. يكفي ألّا نكون مرئيّين، وأن ننزل عند الفجر إلى الأردن. لقد كنتَ على حقّ يا معلّم بعدم تفضيلكَ لطريق السامرة. فاللصوص بالنسبة لنا، نحن المساكين، هم أفضل مِن السامريّين!...» يقول برتلماوس، الّذي ما يزال يلهث.

 

«إنّما بالخلاصة ما الّذي حدث؟ هو يهوذا الّذي ارتكب بعض...» يقول تدّاوس.

 

يقاطعه توما: «يهوذا قد تلقّى بعض الضربات حتماً. إنّني مستاء بالنسبة لإليز...»

 

«هل رأيتَ يهوذا؟»

 

«أنا لا. إنّما مِن السهل التنبّؤ. فإذا ما قال بأنّه رسولكَ، فبالتأكيد قد ضُرِب. يا معلّم، إنّهم لا يريدونكَ.»

 

«نعم. لقد ثاروا كلّهم ضدّكَ.»

 

«إنّهم سامريّون حقيقيّون.»

 

يتحدّثون كلّهم معاً. يسوع يفرض الصمت على الجميع ويقول: «ليتكلّم واحد فقط. أنتَ يا سمعان الغيور، الأكثر سكينة.»

 

«يا ربّ، سوف أوجز. لقد دخلنا إلى المدينة ولم يزعجنا أحد طالما لم يعرفوا مَن نحن، طالما اعتقدوا أنّنا مسافرون عابرون. لكن عندما سألنا -وقد كان علينا فِعل ذلك!- إذا ما كان شاب، طويل القامة، أسمر، لباسه أحمر، عليه شال بشرائط بيضاء وحمراء، بصحبة امرأة مسنّة، نحيلة، بشعر بياضه أكثر مِن سواده، ورداء رماديّ داكن جدّاً، إذا ما كانا قد دخلا إلى المدينة، وبحثا عن المعلّم الجليليّ ورفاقه، وإذا بهم قد غضبوا على الفور… ربّما لم يكن علينا أن نتحدّث عنكَ. لقد أخطأنا بالتأكيد… لكن في مواضع أخرى قد تمّ استقبالنا جيّداً بحيث… لا أفهم ما الّذي حدث!... كانوا يبدون كالأفاعي أولئك الّذين قبل ثلاثة أيام فقط كانوا يُبدون لكَ الاحترام!...»

 

يقاطعه تدّاوس: «عمل يهود...»

 

«لا أظنّ. لا أظنّ ذلك بسبب الملامات الّتي وجّهوها لنا وتهديداتهم. أنا أظنّ… بل بالأحرى أنا، نحن على يقين مِن أنّ سبب غضب السامريّين هو أنّ يسوع رفض حمايتهم له. لقد كانوا يصرخون: "ارحلوا! ارحلوا! أنتم ومعلّمكم! إنّه يريد أن يذهب للتعبّد على جبل موريا. ليذهب، وليمت هو وكلّ جماعته. فلا مكان بيننا لِمَن لا يعتبروننا أصدقاء، إنّما فقط كخدّام. لا نريد المزيد مِن المتاعب إن لم تكن هناك إفادة على سبيل التعويض. الحجارة بدل الخبز للجليليّ. الكلاب لمهاجمته، بدل المنازل لاستقباله". هذا ما كانوا يقولون، وأكثر بعد مِن هذا. وبما أنّنا كنّا نصرّ على معرفة مصير يهوذا على الأقلّ، فقد التقطوا حجارة لضربنا، وأطلقوا الكلاب حقّاً. وكانوا يصيحون فيما بينهم: "لنقف عند كلّ المداخل. وإذا ما هو أتى فسوف ننتقم". وهربنا. وامرأة -هناك دوماً مَن هو صالح حتّى وسط الأشرار- دفعتنا إلى بستانها، ومِن هناك قادتنا عبر مَسلَك بين البساتين وصولاً إلى القناة الخالية مِن الماء، حيث أنّهم قاموا بالريّ قبل السبت. وقد خَبَّأتنا هناك. ومِن ثمّ وعدتنا بأن تُعلِمنا عن أخبار يهوذا. لكنّها ما عادت أتت. إنّما لننتظرها هنا، لأنّها قالت بأنّها إن لم تجدنا في القناة، فستأتي إلى هنا.»

 

التعليقات كثيرة. البعض يواصل اتّهام اليهود. والبعض يوجّه لوماً خفيفاً إلى يسوع، لوماً مخفيّاً في الكلام: «لقد تكلّمتَ بغاية الجلاء في شكيم [نابلس]، ومِن ثمّ ابتعدتَ. وهم خلال هذه الأيّام الثلاثة قد قرّروا بأنّه مِن غير المفيد أن يتوهّموا ويتسبّبوا بالضرر لأنفسهم لأجل مَن لا يرضيهم… وأن يطردوكَ...»

 

يسوع يجيب: «لستُ أندم على قولي الحقيقة والقيام بواجبي. هم الآن لا يفهمون. قريباً سوف يفهمون عدلي وسوف يجلّونني أكثر بعد ممّا لو لم أُقِم لذلك اعتباراً، وأنّه أعظم مِن محبّتي الّتي أكنّها لهم.

 

«ها هي! ها هي المرأة هناك على الطريق. إنّها تجرؤ على إظهار نفسها...» يقول أندراوس.

 

«ألن تخوننا؟ إيه؟» يقول مرتاباً برتلماوس.

 

«إنّها وحدها!»

 

«يمكن أن تكون متبوعة مِن قِبَل أشخاص مختبئين في القناة...»

 

إنّما المرأة، الّتي تتقدّم حاملةً سلّة على رأسها، تتابع متجاوزةً حقول الكتّان، حيث ينتظر يسوع والرُّسُل، ومِن ثمّ تتّخذ مسلكاً وتغيب عن النظر… ثمّ تعاود الظهور فجأة وراء مَن ينتظرونها، الّذين يلتفتون إلى الخلف مرتعبين إلى حدّ ما وقد سمعوا حفيف الأعشاب.

 

المرأة تتكلّم إلى الثمانية الّذين تعرفهم: «ها أنا ذا! اعذروني إذا ما جعلتُكم تنتظرون طويلاً… لم أكن أريد أن يتبعني أحد. لقد قلتُ بأنّني كنتُ ذاهبةً إلى عند أُمّي… إنّني أعلم… وهنا جلبتُ لكم ما يقيتُكم. المعلّم… مَن يكون؟ أودّ أن أُبجّله.»

 

«هذا هو المعلّم.»

 

المرأة، الّتي وضعت سلّتها أرضاً، تسجد قائلةً: «اغفر خطيئة أهل مدينتي. لو لم يقم أناس بإثارتهم... إنّما فيما يتعلّق برفضكَ فقد أثّروا على عدد كبير...»

 

«ليس بي ضغينة يا امرأة. انهضي وتكلّمي. هل لديكِ أخبار عن رسولي والمرأة الّتي كانت برفقته؟»

 

«نعم. لقد تمّ طردهما طرد الكلاب، إنّهما خارج المدينة، مِن الجانب الآخر، بانتظار حلول الظلام. لقد كانا يريدان أن يعودا أدراجهما، صوب عين نون، للبحث عنكَ. كانا يريدان المجيء إلى هنا، لعلمهما أنّ رفاقهما هم هنا. أنا قلتُ بأن لا، بألّا يفعلا ذلك. وبأن يلبثا هادئين، وبأنّني سوف أقودكم إليهما. وسأفعل ذلك ما أن يحلّ الغسق. لحسن الحظّ أنّ زوجي غائب وأنا حرّة بمغادرة المنزل. سوف أقودكم إلى بيت إحدى أخواتي، المتزوّجة في أراضي السهل. ستنامون هناك، دون أن تقولوا مَن أنتم، ليس بسبب ميرود [أختها]، إنّما بسبب الناس الّذين معها. فهم ليسوا سامريّين، هم مِن المدن العشر، مستقرّون هنا. إنّما مِن الأفضل...»

 

«ليكافئكِ الله. هل جُرِح التلميذان؟»

 

«الرجل قليلاً. المرأة لا شيء. إنّ العليّ قد حماها بالتأكيد، فهي، بإباء، قد حمت ابنها بشخصها عندما التقط السكّان حجارة. آه! يا لها مِن امرأة شجاعة! لقد كانت تصيح: "أهكذا تضربون شخصاً لم يسيء إليكم؟ وألا تحترموني، أنا الّتي أدافع عنه وأنا أُمّ؟ أليس لديكم أُمّهات أنتم كلّكم، بحيث لا تحترمون مَن وَلَدت؟ هل وُلِدتم مِن ذئبة أم تشكّلتُم مِن وحل وزبل؟". وكانت تنظر إلى المهاجمين ممسكةً بردائها مفتوحاً للدفاع عن الرجل، ومتراجعةً في غضون ذلك، دافعةً إيّاه خارج المدينة… وكذلك الآن هي تُشدّد مِن عزمه قائلةً: "ليتكرّم العليّ أيا عزيزي يهوذا، ويجعل دمكَ هذا، المراق لأجل المعلّم، بلسماً لقلبكَ". لكنّ جروحه طفيفة. ربّما الرجل خائف أكثر منه متألّم. إنّما الآن خذوا وكُلوا. بالنسبة للنسوة، هنا يوجد حليب قد تمّ حلبه للتوّ، وخبز وأجبان وفاكهة. لم أستطع إنضاج اللحم. إذ كنتُ سأتأخّر كثيراً. وهنا خمر للرجال. كُلوا بينما يحلّ المساء. ثمّ سنمضي عبر دروب آمنة إلى الاثنين، ومِن ثمّ سنقصد ميرود.»

 

«ليكافئكِ الله بعد.» يقول يسوع، ويقدّم الطعام ويوزّعه، واضعاً حصّتين جانباً للمُبعَدَين.

 

«لا. لا. لقد فكّرتُ بهما، وحملتُ لهما بيضاً وخبزاً تحت ردائي مع بعض الخمر والزيت للجراح. كُلوا بينما أراقب الطريق...»

 

يأكلون، لكنّ السخط يلتهم الرجال، والإحباط يثبط عزيمة النسوة، كلّهنّ ما عدا مريم المجدليّة، بحيث أنّ ما يخيف الآخرين ويخزيهم، له بالنسبة إليها تأثير شراب يحفّز الأعصاب والشجاعة. العينان تُرسِلان ومضات صوب المدينة المعادية. وحده وجود يسوع، الّذي قال بعدم حَمل ضغينة، يلجمها عن التفوه بكلام مُحتَقِر. ولعجزها عن الكلام وعن التصرّف، فإنّها تصبّ جام غضبها على الخبز البريء، الّذي تقضمه بطريقة معبّرة إلى حدّ أنّ الغيور لا يستطيع الامتناع عن القول لها باسماً: «مِن حسن حظّ أهل طرسة عدم إمكان وقوعهم بين يديكِ! إنّكِ تشبهين وحشاً مُكبّلاً يا مريم!»

 

«نعم. لقد أصبتَ. وكبح نفسي هذا عن الدخول إلى هناك بالطريقة الّتي يستحقّونها، له قيمة في عينيّ الله أكثر مِن كلّ ما فعلتُه حتّى الآن في سبيل التكفير.»

 

«تحلّي بالطيبة يا مريم! إنّ الله قد غفر لكِ خطايا أعظم مِن خطيئتهم.»

 

«هذا صحيح. هم قد أساؤوا إليكَ يا إلهي مرّة، وبإيحاء مِن الغير. وأنا لمرّات كثيرة… وبإرادتي الشخصيّة الخالصة… ولا يمكنني أن أكون متصلّبة ولا متكبّرة...» تعاود خفض عينيها صوب خبزها الّذي تسقط عليه دمعتان.

 

مرثا تضع يدها على ركبتيها قائلةً لها بصوت هامس: «إنّ الله قد غفر لكِ. لا تزدري نفسكِ بعد… تذكّري ما حظيتِ به: عزيزنا لعازر...»

 

«لستُ أزدري نفسي. إنّه عرفان بالجميل. انفعال… والتحقّق مِن أنّني لا أتحلّى بعد بتلك الرحمة الّتي تلقّيتُها بكثير مِن الوفرة… اغفر لي يا رابّوني!» تقول وهي ترفع عينيها الرائعتين، اللتين أعاد إليهما التواضع عذوبتهما.

 

«إنّ المغفرة لا تُحجَب أبداً عمّن هو متواضع القلب يا مريم.»

 

المساء يحلّ، صابغاً السماء بمسحة بنفسجيّة رقيقة. الأشياء البعيدة إلى حدّ ما تتمازج. سوق الكتّان، الّتي كانت باديةً بجمالها، هي الآن تمتزج بكتلة قاتمة. الطيور تصمت بين الأوراق. النجمة الأولى تضيء. أوّل صرصار حقل ترنّ صرصرته في الهواء. إنّه المساء.

 

«يمكننا الذهاب. هنا، وسط الحقول، لن نكون مرئيّين. تعالوا مطمئنّين. أنا لا أخونكم. لا أفعل ذلك طمعاً بفائدة. أطلب فقط الرحمة مِن السماء، حيث كلّنا بحاجة للرحمة.» تقول المرأة متنهّدةً.

 

ينهضون. يتبعونها. مبتعدين عن طرسة، وسط حقول وبساتين شبه مظلمة، إنّما ليس بعيداً لدرجة ألّا يروا رجالاً حول النيران عند نقطة انطلاق الطرق…

 

«إنّهم يتربّصون بنا...» يقول متّى.

 

«الملاعين!» يصفّر فيلبّس بين أسنانه.

 

بطرس لا يتكلّم، لكنّه يرفع ذراعيه نحو السماء في دعاء أو احتجاج صامت.

 

إنّما يعقوب ويوحنّا ابنا زَبْدي، اللذان تحدّثا فيما بينهما بلا توقّف، هناك، إلى الأمام قليلاً مِن الآخرين، يعودان على أعقابهما ليقولا: «يا معلّم، إن أنتَ لكمال محبّتكَ لا تريد اللجوء إلى العقاب، أتريد أن نفعل نحن ذلك؟ أتريد أن نقول لنار السماء أن تنزل وتفني هؤلاء الخطأة؟ لقد قلتَ لنا أنّنا قادرون على كلّ شيء نطلبه بإيمان و...»

 

يسوع، الّذي كان يسير منحنياً بعض الشيء، كما لو أنّه مُتعَب، ينتصب فجأةً ويصعقهما بنظرتين تلتمعان في ضوء القمر. الاثنان يتراجعان بصمت، خائِفَين أمام هذه النظرة. يسوع، الّذي يستمرّ في التحديق بهما هكذا، يقول: «لا تعلمان مِن أيّ روح أنتما. إنّ ابن الإنسان لم يأتِ كي يخسر النفوس، بل كي يخلّصها. ألا تتذكّران ما قلتُه لكما؟ لقد قلتُ في مَثَل القمح والزُّؤان: "دعوا الآن القمح والزُّؤان ينموان معاً. لأنّ توخّي فصلهما الآن فيه مخاطرة نزع القمح مع الزُّؤان. فدعوهما إذن حـتّى الحصاد. وفي أوان الحصاد سأقول للحاصدين: ’اجمعوا الآن الزُّؤان واربطوه في حُزَم لتحرقوه، وأَدِخلوا القمح الجيد إلى أهرائي‘".» إنّ يسوع قد خفّف مِن حدّة امتعاضه تجاه الاثنين اللذين، بدافع غضب أثارته محبّتهما له، كانا يطلبان معاقبة أهل طرسة، وهما الآن يلبثان خافِضَي الرأس أمامه. يمسكهما مِن المرفق، الواحد إلى اليمين والآخر إلى اليسار، ويستأنف السير وهو يقودهما هكذا، ويتوجّه بالحديث إلى الجميع، الّذين احتشدوا حوله حينما توقّف: «الحقّ أقول لكم إنّ زمن الحصاد قريب، حصادي الأوّل. ولن يكون هناك ثانٍ لكثيرين. إنّما -ولنحمد العليّ على ذلك- البعض ممّن لم يُحسِنوا أن يصبحوا سنابل قمح جيّد في زمني، بعد تطهير الذبيحة الفصحيّة، سوف يولدون ثانيةً بنَفْس جديدة. وحتّى ذلك اليوم لن أغضب على أحد… وبعدها سيكون القضاء...»

 

«بعد الفصح؟» يَسأَل بطرس.

 

«لا. بعد الزمن. لا أتحدّث عن هؤلاء الناس، عن الزمن الحالي. إنّني أنظر إلى العصور الآتية. فالإنسان لا يني يتجدّد كما الحصاد في الحقول. والغلال تأتي تباعاً. وأنا سأترك ما يلزم كيما يتمكّن مَن سوف يأتون في المستقبل أن يكونوا قمحاً جيّداً. وإن لم يريدوا ذلك، فعند نهاية العالم سوف يفصل ملائكتي الزُّؤان عن القمح الجيد. حينئذ يكون اليوم الأبديّ لله وحده. الآن، في العالم هو يوم الله والشيطان. الأوّل يزرع الخير، والثاني يلقي بين بِذار الله زؤانه الملعون، أهواله، آثامه، بذوره الّتي تُنبِت الإثم والخزي. فسيكون على الدوام أناس يؤلّبون ضدّ الله، كما حصل هنا، مع هؤلاء، الّذين هم في الحقيقة، أقلّ ذنباً مِن أولئك الّذين يدفعونهم إلى الشرّ.

 

«يا معلّم، إنّنا نُطهّر أنفسنا كلّ عام في فصح الفطير، ولكنّنا نبقى دوماً على ما كنّا عليه. هل سيكون مختلفاً هذا العام يا ترى؟» يَسأَل متّى.

 

«مختلفاً كثيراً.»

 

«لماذا؟ فَسّر لنا.»

 

«غداً… غداً، أو عندما سنكون على الطريق ويكون معنا يهوذا بن سمعان، سأقول لكم ذلك.»

 

«آه! نعم. ستقوله لنا وسنصبح أفضل… في غضون ذلك اغفر لنا يا يسوع.» يقول يوحنّا.

 

«لقد دعوتُكما حقاً باسمكما الحقيقيّ. لكنّ الرعد لا يؤذي. الصاعقة نعم، يمكن أن تقتل. لكنّ الرعد غالباً ما ينبئ بالصاعقة. هكذا يحدث لِمَن لا ينتزع مِن روحه كلّ اضطراب ضدّ المحبّة. اليوم يَسأَل التمكّن مِن المعاقبة. وغداً يقوم بالمعاقبة دون أن يَسأَل. وبعد غد يقوم بالمعاقبة حتّى دون سبب. سهل هو الانحدار… كذلك أقول لكم أن تُجرّدوا أنفسكم مِن كلّ قسوة قلب تجاه قريبكم. افعلوا كما أفعل وستكونون على يقين بأنّكم لن تخطئوا أبداً. أرأيتموني يا ترى يوماً أنتقم ممّن آلمني؟»

 

«لا يا معلّم. أنتَ...»

 

«يا معلّم! يا معلّم! نحن هنا. أنا وإليز. آه! يا معلّم، كم قلقنا عليكَ! وأيّ خوف مِن الموت...» يقول يهوذا الاسخريوطيّ خارجاً مِن وراء صفوف الكُرُوم وراكضاً صوب يسوع. ضمادة تلفّ جبهته. إليز تتبعه برويّة أكثر.

 

«هل عانيتَ؟ هل خشيتَ الموت؟ هل الحياة عزيزة عليكَ كثيراً لهذه الدرجة؟» يَسأَل يسوع وهو يتحرّر مِن يهوذا الّذي يعانقه ويبكي.

 

«ليس الحياة. كنتُ أخشى الله. الموت دون مغفرتكَ… أنا لا أكفّ عن الإساءة إليكَ. إنّني أسيء للجميع. حتّى إليها… وهي ردّت عليَّ بأن قامت مقام أُمّ لي. لقد شعرتُ بأنّني مذنب وخشيتُ الموت...»

 

«آه! هي خشية خلاصيّة إن كان يمكنها أن تجعلكَ قدّيساً! لكن أنا أغفر لكَ، على الدوام، أنتَ تعلم ذلك، يكفي أن تمتلك إرادة التوبة. وأنتِ يا إليز؟ هل غفرتِ؟»

 

«إنّه طفل كبير جامح. إنّني أُجيد الإشفاق.»

 

«قد كنتِ شجاعة يا إليز. أعرف ذلك.»

 

«لو لم تكن هناك! لا أعلم إذا ما كنتُ أراكَ ثانيةً يا معلّم!»

 

«أنتَ ترى إذن أنّها لا بدافع كراهية، بل بدافع محبّة كانت قد بقيت إلى جانبكَ… ألم تُجرَحي يا إليز؟»

 

«لا يا معلّم. كانت الحجارة تتساقط حولي مِن دون أن تجرحني. إنّما قلبي كان قلقاً جدّاً وأنا أفكّر بكَ...»

 

«ها قد انتهى كلّ شيء. لنتبع المرأة الّتي تريد أن تقودنا إلى منزل آمن.»

 

يستأنفون السير، سالكين درباً ينيره القمر الّذي يميل نحو الشرق.

 

يسوع قد أمسك الاسخريوطيّ بذراعه وهو إلى الأمام معه. إنّه يحدّثه بتؤدة. هو يسعى للعمل على قلبه الّذي هزّه الخوف، الّذي عبر مِن حكم الله: «أنتَ ترى يا يهوذا، كم هو الموت سهل. الموت مترصّد حولنا دائماً. إنّكَ ترى كيف أنّ ما يبدو لنا أمراً ضئيلاً عندما نكون مفعمين بالحياة، يغدو عظيماً، عظيماً على نحو مخيف حينما يلامسنا الموت. إنّما لماذا السعي لأن تتملّكنا هذه المخاوف، لماذا نسبّبها لأنفسنا لنجدها أمامنا في ساعة الموت، في حين أنّنا بحياة قداسة يمكننا أن نجهل الخوف مِن دنوّ دينونة الله؟ ألا يبدو لكَ أنّه مِن الأجدر بكَ أن تحيا بالبرّ كي تحظى بموت مطمئنّ؟ يا يهوذا، يا صديقي، إنّ الرحمة الإلهيّة، الأبويّة، قد سمحت بهذا الحدث ليكون بمثابة نداء لقلبكَ. إنّ الوقت لا يزال سانحاً لكَ يا يهوذا… لماذا لا تريد أن تمنح معلّمكَ الّذي هو على وشك الموت هذه الغبطة العظيمة، العظيمة جدّاً بأن يعلم أنّكَ قد رجعتَ إلى الخير؟»

 

«إنّما أيمكنكَ أن تغفر لي بعد يا يسوع؟»

 

«وهل أكلّمكَ هكذا لو لم أكن أستطيع ذلك؟ كم لا تزال تعرفني إلّا قليلاً! أنا أعرفكَ. أعرف أنّكَ مثل شخص يقبض عليه أخطبوط عملاق. لكن، لو كنتَ تريد، لأمكنكَ التحرّر بعد. آه! سوف تتألّم بالتأكيد. سوف يكون مؤلماً أن تنتزع نفسكَ مِن تلك السلاسل الّتي تعضّكَ وتسمّمكَ. إنّما، بعدها، كَم مِن فرح يا يهوذا! أتخشى ألّا تمتلك القدرة على صدّ محرّضيكَ؟ بإمكاني أن أحلّك مسبقاً مِن عصيان الطقس الفصحيّ… فأنتَ مريض. وبالنسبة للمرضى الفصح ليس إجباريّاً. لا أحد أكثر مرضاً منكَ. إنّكَ مثل أبرص. والبرص لا يصعدون إلى أورشليم طالما هم كذلك. صَدّق يا يهوذا، أنّ المثول أمام الربّ بروح نجس، مثل روحكَ، ليس تكريماً، بل إساءة له. يجب أوّلاً...»

 

«لماذا إذن لا تطهّرني وتشفيني؟» يَسأَل يهوذا، وقد أضحى قاسياً، متمرّداً.

 

«لا أشفيكَ! حين يكون المرء مريضاً يسعى بنفسه لطلب الشفاء. إلّا إذا كان صغيراً أو أبلهاً لا يُحسِن الإرادة...»

 

«عاملني كهؤلاء الأشخاص. عاملني كأنّني أبله وتدبّر أنتَ الأمر، دون عِلمي.»

 

«لا يكون ذلك عدلاً، لأنكَ تُحسِن الإرادة. وأنتَ تعلم ما هو خير وما هو شرّ بالنسبة لكَ. ولن يفيد في شيء أن أشفيكَ دون إرادتكَ بالبقاء مُبرأً.»

 

«امنحني هذه أيضاً.»

 

«أمنحكَ إيّاها؟ أفرض عليكَ إذن إرادةً صالحةً؟ وإرادتكَ الحرّة؟ ماذا ستغدو آنذاك؟ ما الّذي ستكون عليه أناكَ كإنسان، مخلوق حرّ؟ عفريتة؟»

 

«كما أنا عفريت للشيطان، يمكنني أن أكونه لله!»

 

«كَم تجرحني يا يهوذا! كم تطعن قلبي! إنّما ما تفعله بي، أنا أغفره لكَ. عفريت للشيطان، قلتَ. أنا لم أكن أقول هذا الشيء المهول...»

 

«لكنّكَ كنتَ تفكّر به، لأنّه أمر صحيح ولأنّكَ تعرفه، إن كان صحيحاً أنّكَ تقرأ في قلوب البشر. وإذا كان الأمر كذلك، فإنّكَ تعلم بأنّني لم أعد حرّاً بنفسي… لقد استحوذ عليَّ و...»

 

«لا. هو قد اقترب منكَ، مُجرّباً إيّاكَ، ممتحناً إيّاكَ، وأنتَ قد استقبلتَه. ما مِن استحواذ إن لم يكن هناك في البداية قبول لتجربة شيطانيّة ما. إنّ الحيّة تُولج رأسها بين القضبان المتراصّة الموضوعة لحماية القلوب، لكنّها لا تدخل لو لم يكن الإنسان يُوسّع لها ممرّاً كي يبدي إعجاباً بمظهرها المغوي، كي ينصت إليها، كي يتبعها… آنذاك فقط يغدو الإنسان عفريتاً، ممسوساً، إنّما لأنّه هو يريد ذلك. كذلك الله يُطلِق مِن السماوات الأنوار اللطيفة جدّاً لمحبّته الأبويّة، وأنواره تتغلغل فينا. أو بالأحرى: إنّ الله، القادر على كلّ شيء، ينزل في قلوب البشر. إنّه حقّه. فلماذا إذن الإنسان، الّذي يُحسِن أن يكون عبداً، عفريتاً للرهيب، لا يعرف أن يجعل نفسه عبداً لله، او بالأحرى ابناً لله، ولماذا يطرد أباه كليّ القداسة؟ ألا تجيبني؟ ألا تقول لي لماذا فضّلتَ الشيطان على الله؟ إنّما ما تزال تملك الوقت لتخليص نفسكَ! أنتَ تعلم أنّني ماضٍ إلى الموت. لا أحد يعلم ذلك مثلكَ… وأنا لا أرفض الموت… إنّني ماضٍ. إنّني ماضٍ إلى الموت لأنّ موتي سيكون الحياة لكثيرين. فلماذا لا تريد أن تكون واحداً مِن هؤلاء؟ ألكَ وحدكَ، يا صديقي، يا صديقي المريض المسكين، سيكون موتي بلا جدوى؟»

 

«سوف يكون بلا جدوى لكثيرين، لا تتوهّم. إنّكَ تُحسِن عملاً بالهروب والعيش بعيداً عن هنا، بالتمتّع بالحياة، بتعليم عقيدتكَ، لأنّها صالحة، إنّما ليس التضحية بنفسكَ.»

 

«تعليم عقيدتي! إنّما أي حقّ أُعَلّمه، إذا ما كنتُ أفعل عكس ما أُعَلّم؟ أيّ معلّم سأكون إن كنتُ أُبشّر بإطاعة مشيئة الله ولا أطيعها؟ بمحبّة البشر ومِن ثمّ إن كنتُ لا أحبّهم، العزوف عن الجسد والعالم، ومِن ثمّ إن كنتُ أحبّ جسدي وأمجاد العالم، رفض إثارة الشكوك، ومِن ثمّ أُثير شكوك لا البشر فقط، بل والملائكة؟ هو الشيطان الّذي يتكلّم مِن خلالكَ في هذه اللحظة. كما تكلّم في أفرايم. كما قد تكلّم وتصرّف في مرّات كثيرة، بواسطتكَ، كي يربكني. لقد تعرّفتُ إلى كلّ أفعال الشيطان تلك، المنفّذة بواسطتكَ، ولم أكرهكَ، لم أتعب منكَ، إنّما فقط تألّمتُ، ألماً لا متناهياً. ومِثل أُمّ تتابع تطوّر مرض يقود ابنها إلى الموت، فقد راقبتُ تطوّر المرض فيكَ. ومِثل أب لا يأسف على شيء شريطة أن يجد أدوية لابنه المريض، فلم أوفّر شيئاً لأخلّصكَ، لقد تجاوزتُ النفور، السخط، المرارة، الإحباط... وكما أب وأُمّ يائسَين، مُحبَطَين مِن كلّ قدرة أرضيّة، يتوجّهان إلى السماء لنيل حياة ابنهما، فهكذا نحت وأنوح متوسّلاً معجزة تخلّصكَ، تخلّصكَ، تخلّصكَ، عند حافّة الهاوية الّتي بدأت تنفتح تحت قدميكَ. يا يهوذا، انظر إليَّ! قريباً سيراق دمي لأجل خطايا البشر. لن تبقى لي منه قطرة. سوف تشربه الأرض، الحجارة، العشب، ثياب مُضطَهديّ وثيابي… الخشب، الحديد، الحبال، أشواك النبق (نوع من العنّاب في فلسطين)... وسوف تشربه الأرواح الّتي تنتظر الخلاص… أأنتَ فقط لا تريد أن تشربه؟ أنا أمنح دمي هذا كلّه لكَ وحدكَ. إنّكَ صديقي. كم نموت عن طيب خاطر لأجل الصديق! لتخليصه! يُقال: "أنا أموت، إنّما أواصل الحياة في الصديق الّذي منحتُه الحياة". على مثال أُمّ، على مثال أب يواصلان الحياة مِن خلال ذرّيتهما حتى بعد موتهما. يا يهوذا، إنّني أتوسّل إليكَ لذلك! لا أطلب شيئاً آخر في عشيّة موتي هذه. إنّ القضاة أنفسهم، وحتّى الأعداء، يستجيبون لرغبته المحكوم عليه الأخيرة. أنا أطلب منكَ ألّا تُهلِك نفسكَ. إنّني لا أطلب هذا مِن السماء بقدر ما أطلبه منكَ، مِن إرادتكَ… فَكّر بأُمّكَ يا يهوذا. ماذا ستكون عليه أُمّكَ بعد ذلك؟ ما الّذي سيكون عليه اسم عائلتكَ؟ إنّني أناشد كبرياءكَ، الّتي هي متّقدة أكثر مِن أيّ وقت مضى، لتحميكَ مِن عاركَ. لا تُخزِ نفسكَ يا يهوذا. فَكّر. سوف تمضي الأعوام والعصور، سوف تسقط الممالك والإمبراطوريات، سوف تخبو النجوم، سوف يتغيّر شكل الأرض، وأنتَ ستكون دوماً يهوذا، كما أنّ قايين هو دوماً قايين، إذا استمرّيتَ في خطيئتكَ. سوف تنتهي العصور، وسيبقى فقط جنّة وجهنّم. وفي الجنّة وفي جهنّم، بالنسبة للبشر القائمين والساكنين بالروح والجسد، إلى الأبد، حيث مِن العدل أن يكونوا، أنتَ ستكون دوماً يهوذا، الملعون، الآثم الأعظم، إن لم تتب. أنا سأنزل لأحرّر الأرواح مِن اليمبس، سوف أُخرجها أفواجاً مِن المطهر، وأنتَ… لن أستطيع جلبكَ إلى حيث أنا… يا يهوذا، إنّني ماضٍ إلى الموت، بسرور ماضٍ، لأنّ الساعة الّتي كنتُ أنتظرها منذ آلاف الأعوام قد حانت، ساعة إعادة جمع البشر مع أبيهم. كُثُر لن أعيد جمعهم. لكنّ عدد الـمُخَلَّصين الّذين سأتأمّلهم وأنا أموت، سوف يعزّيني مِن تمزّق أن أموت بلا جدوى بالنسبة لكثيرين. لكن، أنا أقول لكَ ذلك، سيكون أمراً مهولاً أن أراكَ وسط هؤلاء، أنتَ، رسولي، صديقي. لا تُسبّب لي هذا الألم الهمجيّ!... أريد تخليصكَ يا يهوذا. تخليصكَ. انظر. إنّنا ننحدر باتّجاه النهر. غداً عند الفجر، حين يكون الجميع لا يزالون نائمين، نحن سوف نعبره كلانا، وأنتَ سوف تذهب إلى بصرى، إلى أربيلا، إلى عِرا، إلى حيث تريد. إنّكَ تعرف منازل التلاميذ. في بصرى ابحث عن يواكيم ومريم، البرصاء الّتي شفيتُها. سوف أعطيكَ رسالة لهما. سأقول أنّه لأجل صحّتكَ، فإنّكَ بحاجة لراحة هادئة في جوّ مختلف. إنّها الحقيقة، مع الأسف، حيث أنّ روحكَ مريض وجوّ أورشليم سيكون قاتلاً لكَ. لكن هما سيعتقدان بأنّكَ مريض بالجسد. ستمكث هناك إلى أن آتي لأصطحبكَ. بالنسبة لرفاقكَ أنا سأتدبّر الأمر… لكن لا تأتِ إلى أورشليم. أترى؟ لم أشأ نسوة، ما عدا الأكثر شجاعةً مِن بينهنّ، واللواتي بحقّ الأمومة يجب أن يكنّ قرب أبنائهنّ.»

 

«أُمّي أيضاً؟»

 

«لا. مريم لن تكون في أورشليم...»

 

«هي كذلك أُمّ رسول، وقد كرّمتكَ دوماً.»

 

«نعم. ولها الحق كما الأخريات بأن تكون قربي، هي الّتي تحبّني ببرّ كامل. إنما تحديداً لأجل ذلك لن تكون هناك، لأنّني قلتُ لها ألّا تكون هناك، وهي تُحسِن الطاعة.»

 

«لماذا يجب ألّا تكون هناك؟ بماذا تختلف عن أُمّ أخويكَ وعن أُمّ ابنيّ زَبْدي؟»

 

«أنتَ. وأنتَ تعلم سبب قولي هذا. لكن لو تصغي إليَّ، لو تذهب إلى بصرى، فسوف أُرسِل لإعلام أُمّكَ وسوف أجعلها تصحبكَ، كيما هي، الصالحة للغاية، تساعدك على الشفاء. ثق أنّنا نحن وحدنا نحبّكَ هكذا، بلا حدود. ثلاثة هم الّذين يحبّونكَ في السماء: الآب، الابن، الروح القدس، الّذين تأمّلوكَ وينتظرون إرادتكَ كي يجعلوا منكَ جوهرة الفداء، الفريسة الأعظم الـمُنتَزَعة مِن الهاوية، وثلاثة على الأرض: أُمّك وأُمّي وأنا. اجعلنا سعداء يا يهوذا! نحن أهل السماء، نحن أهل الأرض، الّذين يحبّونكَ محبّةً حَقّة.»

 

«أنتَ تقول ذلك: ثلاثة فقط هم الّذين يحبّونني، الآخرون… لا.»

 

«ليس مثلنا. لكنّهم يحبّونكَ كثيراً. إليز قد دافعت عنكَ. الآخرون كانوا قلقين عليكَ. وعندما ابتعدتَ، فالجميع قد حملوكَ في قلوبهم وحملوا اسمكَ على شفاههم. أنتَ لا تعلم كلّ المحبّة الّتي تحيط بكَ. فمن يضطهدكَ يخفيها عنكَ. ولكن ثق بكلامي.»

 

«إنّني أصدّقكَ. وسوف أسعى لإرضائكَ. لكنّني أريد أن أتصرّف مِن تلقائي، فمن تلقائي أخطأتُ، ومِن تلقائي يجب أن أعرف كيف أشفي نفسي مِن الشرّ.»

 

«وحده الله هو مَن يستطيع التصرّف مِن ذاته. إنّ هذا التفكير هو مِن الكبرياء. وفي الكبرياء لا يزال الشيطان. كن متواضعاً يا يهوذا. تشبّث بهذه اليد الّتي تُقدّم لكَ صداقتها. خُذ ملجأً لكَ هذا القلب الّذي ينفتح ليحميكَ. هنا، معي، لن يستطيع الشيطان أن يؤذيكَ.»

 

«لقد حاولتُ أن أكون معكَ… فانحدرتُ أكثر فأكثر… إنّ ذلك عديم الجدوى!»

 

«لا تقل ذلك! لا تقل ذلك! أُنبذ اليأس. إنّ الله قادر على كلّ شيء. تشبّث بالله. يا يهوذا! يا يهوذا!»

 

«اصمت! كي لا يسمع الآخرون…»

 

«وأنتَ تهتمّ بشأن الآخرين ولا تهتمّ بشأن روحكَ؟ يا يهوذا البائس!...»

 

يسوع يكفّ عن الكلام. لكنّه يواصل البقاء إلى جانب رسوله إلى أن تدخل المرأة، الّتي كانت إلى الأمام على بُعد بضعة أمتار، إلى منزل يَبرز مِن بستان أشجار زيتون. حينئذ يقول يسوع لرسوله: «أنا لن أنام هذه الليلة. سوف أصلّي لأجلكَ وأنتظركَ… ليكلّم الله قلبكَ. ولتنصت إليه أنتَ… سوف أبقى هنا، حيث أنا الآن، للصلاة. حتّى الفجر… تذكّر ذلك.»

 

يهوذا لا يجيبه. لقد وصل الآخرون وكذلك النسوة، ويلبثون كلّهم معاً في انتظار عودة المرأة السامريّة. هي لا تتأخّر أبداً في العودة. إنّها برفقة امرأة أخرى تشبهها، والّتي تحييّهم قائلةً: «ليس عندي غرف كثيرة، لأنّ عندي الحصّادين الّذين يشتغلون الآن على أشجار الزيتون. إنّما عندي مخزن للغلال كبير وفيه الكثير مِن القشّ. للنسوة لديّ مكان. تعالوا.»

 

«اذهبوا! أنا سأبقى هنا للصلاة. السلام لكم جميعاً.» يقول يسوع. وفيما يمضي الآخرون، يستبقي أُمّه ليقول لها: «أنا باقٍ للصلاة لأجل يهوذا يا أُمّي. ساعديني أنتِ أيضاً…»

 

«سوف أساعدكَ يا بنيّ. هل ستعاود الإرادة النهوض فيه يا ترى؟»

 

«لا يا أُمّي. إنّما علينا أن نتصرّف كما لو أنّ… إنّ السماء قادرة على كلّ شيء يا أُمّاه!»

 

«نعم. وأنا يمكنني أن أتوهّم بعد. لا أنتَ يا بنيّ. أنتَ تعلم، يا ابني القدّوس. إنّما أنا سأقتدي بكَ على الدوام. اذهب وكن مطمئنّاً يا حبيبي! فحتّى عندما لا تعود تستطيع التكلّم إليه، لأنّه سيهرب منكَ، فأنا سوف أسعى لأن آتي به إليكَ. وفقط لو ينصت الآب كلّي القداسة إلى ألمي… أتدعني أصلّي معكَ يا يسوع؟ سوف نصلّي معاً وستكون ساعات عديدة أنعم بكَ فيها وحدي…»

 

«ابقي يا أُمّي. إنّني أنتظركِ هنا.»

 

مريم تمضي مسرعةً وتعود بسرعة. يجلسان على كيسيهما، عند أسفل أشجار الزيتون. في الصمت المطبق يُسمَع صوت خرير النهر البعيد بعض الشيء، وصداح صراصير الحقل يبدو قويّاً في صمت الليل المطبق. ثمّ تغرّد العَنادِل [جمع عندليب]. بوم يصيح وبومة قرناء صغيرة تنوح. والنجوم تنتقل على مهل في الفضاء كما مَلِكات، الآن حيث القمر الّذي غاب ما عاد يحجبها. ومِن ثمّ ديك يخرق الجوّ الساكن بصياحه الرنّان. إلى أبعد كثيراً، ديك آخر، بالكاد يمكن سماعه، يجيبه. ثمّ الصمت مجدّداً، يقطعه تتابع قطرات ندىً تسقط مِن قرميد منزل مجاور على الأرضيّة الّتي تحيط به. ثمّ حفيف جديد في الورق، كما لو أنّه ينفض رطوبة الليل، وصيحة منفردة لعصفور يستيقظ، وفي الوقت نفسه تَبَدُّل في السماء، عودة للنور. إنّه الفجر. ويهوذا لم يأتِ…

 

يسوع ينظر إلى أُمّه، البيضاء مثل زنبقة على خلفيّة شجر الزيتون الداكن، ويقول لها: «لقد صلّينا يا أُمّي. وصلاتنا سوف يستخدمها الله...»

 

«نعم يا بنيّ. أنتَ شاحب كما الموت. إنّ حيويتكَ قد تصاعدت كلّها بحقّ في هذه الليلة كي تضغط على أبواب السماوات وعلى قضاء الله!»

 

«أنتِ أيضاً شاحبةً يا أُمّي. عظيم هو عناؤكِ.»

 

«عظيم هو ألمي بسبب ألمكَ.»

 

باب المنزل يُفتَح باحتراس… يسوع يختلج. إنّما ليست سوى المرأة الّتي قادتهم، هي الّتي تخرج دون إحداث ضجّة. يسوع يتنهّد: «لقد أملتُ أن أكون مخطئاً!»

 

المرأة تتقدّم بسلّتها الفارغة. ترى يسوع. تحيّيه وتشرع بالمتابعة. إنّما هو يناديها ويقول لها: «ليكافئكِ الربّ على كلّ شيء. أنا أيضاً أودّ، إنّما ليس معي أيّ شيء.»

 

«لا أودّ شيئاً أيّها الرابّي. لا أريد تعويضاً. إنّما إن كنتُ لا أريد مالاً، لكنّني مع ذلك أودّ أمراً. وهذا يمكنكَ أن تمنحني إيّاه!»

 

«ماذا يا امرأة؟»

 

«أن يتغيّر قلب زوجي. وهذا يمكنكَ فِعله، لأنّكَ بحقّ قدّوس الله.»

 

«اذهبي بسلام. سوف يكون لكِ كما تطلبين. وداعاً.»

 

المرأة تمضي مسرعة صوب منزلها، الّذي لا بدّ أنّه بغاية الكآبة. مريم تعلّق: «تعيسة أخرى. لذلك هي طيّبة!...»

 

يطلّ مِن مخزن الغلال الرأس الـمُشَعَّث لبطرس، وخلفه الرأس المضيء ليوحنّا، ومِن ثمّ المظهر الجانبيّ الصارم الّذي لتدّاوس، والوجه الضارب للسمرة الّذي للغيور، والوجه النحيل للفتى بنيامين… الجميع قد استيقظوا. وها هي مريم المجدليّة تخرج مِن المنزل الأولى، وخلفها نيقي، ومِن ثمّ الأخريات. يجتمع الجميع، والمرأة الّتي استضافتهم تجلب سطل حليب لا يزال يزبد، حينئذ يظهر الاسخريوطيّ. لم يعد يضع الضمادة. لكنّ ازرقاق الكدمة الناتجة عن الضربة تُلوّن نصف جبينه، وعينه لا تزال أكثر قتامة في الدائرة الضاربة إلى اللون البنفسجيّ. يسوع ينظر إلى يهوذا. يهوذا ينظر إلى يسوع ومِن ثمّ يدير رأسه إلى اتّجاه آخر.

 

يسوع يقول له: «اشتر مِن المرأة ما يمكنها تزويدنا به. نحن سوف نتقدّم. الحق بنا.»

 

ويسوع، بعد تحيّة المرأة، ينطلق بالفعل. الجميع يتبعونه.