ج10 - ف28
أَنَا هُوَ
ماريا فالتورتا
L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO
THE GOSPEL AS REVEALED TO ME
بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}
L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ
MARIA VALTORTA
الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.
الجزء العاشر
28- (العذراء المباركة ويوحنّا في أماكن الآلام)
08 / 09 / 1951
إنّه الفجر، فجر صيفيّ صافٍ. مريم، مع الوفيّ يوحنّا، تخرج مِن منزل جَثْسَيْماني الصغير، وتسير بخطى سريعة عبر بستان الزيتون الساكن والـمُقفِر. فقط بعض تغريد لعصافير وزقزقة فراخ في الأعشاش يخرقان السكون التامّ للمكان. مريم تتّجه واثقة صوب صخرة النّزاع. تركع عندها، تطبع قبلة فوق شقوق رفيعة في الصخرة لا تزال تُظهِر آثاراً حمراء بلون الصدأ مِن دم يسوع، الّذي تغلغل في تلك الشقوق وتخثّر هناك. إنّها تلاطفها كما لو كانت تلاطف ابنها أو شيئاً ما منه.
يوحنّا يقف وراءها، يراقبها ويبكي بصمت، يمسح عينيه بسرعة حين تهمّ مريم بالنهوض، يساعدها على ذلك، وهو يفعل ذلك بكثير مِن الحبّ، الإجلال والتعاطف.
الآن مريم تنزل نحو المكان الّذي فيه جرى القبض على يسوع. تركع هناك أيضاً، وتنحني لتقبّل الأرض بعدما سألت يوحنا: «أهذا هو بالضبط موضع القبلة الفظيعة والشائنة، الّتي دنّست هذا المكان، أكثر ممّا دنّس الفردوس الأرضيّ الحوار الشائن والـمُفسِد للحيَّة مع حواء؟»
ثمّ تنهض لتقول: «إنّما أنا لستُ حواء. أنا سيّدة السلام عليكِ. لقد بدَّلْتُ الأمور. فحوّاء ألقت الأمور الّتي كانت سماويّة في الوحل البشع. أنا قد قبلتُ كلّ شيء: سوء الفهم، النقد، الشكوك، الآلام -الكثير مِن الآلام ومِن كلّ الأنواع، قبل الألم الأعظم- لأنزع مِن الوحل النجس ما ألقاه حوّاء وآدم، وأرفعه مجدّداً نحو السماء. إنّ الشيطان لم يستطع أن يتكلّم معي، على الرغم مِن أنّه قد حاول ذلك، كما حاول مع ابني، ليدمّر نهائيّاً التدبير الخلاصيّ. لم يستطع الشيطان أن يكلّمني لأنّني أقفلتُ عينيّ أمام مظهره وأذنيّ أمام صوته، وفوق كلّ شيء أقفلتُ قلبي وروحي بوجه كلّ هجمات ما ليس مقدّساً وطاهراً. وذاتي الصافية، إنّما الّتي يستحيل خدشها مثل ماسة نقيّة، لم تنفتح إلاّ للملاك الـمُبَشِّر. أذناي لم تُنصِتا إلاّ إلى ذلك الصوت الروحانيّ، وهكذا أصلحتُ وأعدتُ بناء ما خرّبته حواء ودمّرته. أنا سيّدة السلام عليكِ وليكن لي حسب قولكَ. قد أعدتُ النظام الّذي بلبلته حوّاء. وبقبلتي ودموعي يمكنني الآن أن أمحو وأن أغسل أثر تلك القبلة الملعونة وذلك التلوّث، وستكون عظيمة جدّاً، بل ستكون الأعظم، لأنّها ليست مقدّمة مِن مخلوق لمخلوق، بل مِن مخلوقة لمعلّمها وصديقها، لخالقها وإلهها.»
ثمّ تتّجه نحو البوّابة، الّتي يفتحها يوحنّا. يخرجان معاً مِن جَثْسَيْماني، ينزلان إلى قدرون، يجتازان الجسر الصغير، وهناك تركع مريم أيضاً لتقبّل سور الجسر البسيط، في الموضع الّذي سقط فيه ابنها. وتقول: «كلّ الأمكنة الّتي تكبّد فيها يسوع أشدّ الآلام والإهانات هي أمكنة مقدّسة بالنسبة لي. أودّ بأن أحتفظ بكلّ شيءٍ في منزلي الصغير، إنّما لا يمكننا أن نحظى بكلّ شيء!» تتنهّد ثم تضيف: «لنمضِ بسرعة، قبل أن يتجوّل الناس.»
وتستأنف السير مجدّداً مع يوحنّا. لا تدخل إلى المدينة. إنّها تحاذي وادي هنّوم والكهوف حيث يعيش البُرص. ترفع عينيها نحو كهوف الألم تلك. تومئ إلى يوحنّا، الّذي يضع على الفور فوق صخرة بعض الأطعمة الّتي كان يحملها في كيس، مُطلِقاً في الوقت نفسه صيحة ليستدعيهم. بعض البُرص يَطلّون ويأتون نحو الصخرة شاكرين. إنّما ما مِن أحد منهم يطلب أن يُشفى. مريم تلاحظ ذلك وتقول: «إنّهم يعلمون أنّه لم يعد موجوداً، وهم يبدون مصدومين بسبب موته الفظيع، لم يعودوا يُحسِنون الإيمان به ولا بتلاميذه. لقد تضاعفت تعاستهم! لقد تضاعف برصهم! الضعف؟ لا، بل إنّهم تعساء إلى أقصى الحدود، بُرص، أموات! على الأرض وفي العالم الآخر.»
«هل تريدين أن أحاول التحدّث إليهم يا أُمّي؟»
«لا جدوى مِن ذلك! لقد جرّب ذلك كلّ مِن بطرس ويوضاس بن حلفى وسمعان الغيور... وقد سَخِروا منهم. مريم أخت لعازر أتت. هي تساعدهم دوماً لذكرى يسوع، وقد سَخِروا منها أيضاً. لعازر أيضاً ذهب مع يوسف ونيقوديموس، لإقناعهم بأنّه كان حقّاً المسيح، وقد أخبروهم عن إقامة لعازر مِن الموت مِن قِبَل يسوع، وذلك بعد بقائه أربعة أيام في القبر، وقيامة الإنسان-الله بقدرته الذاتيّة، وصعوده. كلّ ذلك كان بلا جدوى. لقد أجابوا: "إنّها أكاذيب، هذا ما يقوله الّذين يعرفون الحقيقة."»
«وأولئك هم بالتأكيد الفرّيسيّون والكَهَنَة. إنّهم هم الّذين يعملون على هدم الإيمان به. أنا متأكّد مِن أنّهم هم!»
«هذا ممكن يا يوحنّا. ما هو أكيد هو أنّ البُرص الّذين لم يَهتدوا قبلاً، ولا حتّى أمام معجزات يسوع، لن يهتدوا بعد الآن، أبداً. إنّها علامة ورمز لكلّ الّذين لن يهتدوا إلى المسيح خلال العصور، وسيكونون، بإرادتهم الحرّة، مصابين ببَرص الخطيئة، أمواتاً حيال النعمة الّتي هي حياة، رمز لكلّ الّذين مات مِن أجلهم عبثاً... وبتلك الطريقة!...» وتبكي، بهدوء، مِن دون نحيب، إنّما بفيض دموع حقيقيّ.
يوحنا يمسكها مِن ذراعها عندما مريم، لتخفي دموعها عن بعض العابِرين الّذين يراقبونها، تغطّي وجهها بحجابها. يوحنّا يقول لها، وهو يقودها بحنوّ: «هل يمكن لدموعكِ، وصلواتكِ، محبّتكِ، بالأحرى، محبّتكما لكلّ البشر، محبّتكِ لأنّها فعّالة، بقدر ما هي فاعلة، بشكل مطلق، محبّة يسوع الممجّد في السماء، هل يمكن لألمكما، ألمكِ بسبب صمم البشر، وألمه بسبب تعنّت الكثيرين في الخطيئة، ألاّ تُثمِر. تحلّي بالأمل أيا أُمّي! البشر قد ألحقوا بكِ وسوف يُلحِقون بكِ الكثير مِن الألم، ولكنّهم سوف يَمنحونكِ أيضاً الحبّ والفرح. مَن لن يحبّكِ حين يعرفكِ؟ الآن أنتِ هنا، مجهولة، غير معروفة للعالم. ولكن حين ستعلم الأرض، لكونها ستصبح مسيحيّة، كم مِن الحبّ سيأتي إليكِ! أنا واثق مِن ذلك أيا أُمّي القدّيسة.»
الجلجلة أصبحت الآن قريبة، وبستان يوسف أقرب. وحين يصلان إلى هذا الأخير، مريم لا تدخل إليه. فهي تذهب أوّلاً إلى الجلجلة. والأماكن الّتي وقعت فيها أحداث خاصّة خلال الآلام، أي في مواضع السّقطات، اللقاء مع نيقي، واللقاء معها هي، تركع وتقبّل الأرض.
وعندما تصل إلى القمّة فإنّ قبلاتها تتضاعف في موضع الصلب. قبلات ودموع، قبلات متشنّجة تقريباً، ودموع هادئة، إنّما غزيرة مثل المطر، تسقط على الأرض المصفرّة، مُبلِّلة إيّاها وجاعلةً لونها الأصفر يزداد اصفراراً. نبتة صغيرة نبتت بالضبط حيث أزيلت التربة لغرس الصليب، نبتة برية عشبية صغيرة متواضعة، بأوراق على شكل قلب، وزهرات صغيرة حمراء مثل ياقوتات. مريم تنظر إليها، تفكّر، ثم تنزعها برفق مِن الأرض ومعها القليل مِن التراب، وتضعها في طيّة مِن ردائها قائلة ليوحنّا: «سوف أضعها في إناء. تبدو كأنّها دم منه، ونبتت فوق الأرض الّتي خَضَّبها دمه. إنّها بالتأكيد بِذرة حملتها زوبعة ذلك اليوم، آتية مَن يدري مِن أين، وسقطت هنا مَن يدري لماذا، لتُثبِت جذوراً في التراب الّذي أخصبه ذاك الدم. لو كان ممكناً أن يكون الأمر هكذا بالنسبة إلى جميع النفوس! لماذا الأكثريّة منها أقسى مِن أرض الجلجلة القاحلة والملعونة، مكان تعذيب اللصوص والقَتَلَة، وموضع قتل الله مِن قِبَل شعب بأسره؟ ملعونة؟ لا. لأنّه قَدَّسَ هذا التراب. الملعونون مِن الله هم الّذين حوّلوا هذه التلّة إلى مكان الجريمة الأكثر هولاً، الأكثر ظلماً، الأكثر تدنيساً الّتي شهدتها الأرض على الإطلاق.» الآن النحيب يمتزج بالدموع.
يوحنّا يحيط كتفيها بذراعه ليشعرها بكلّ حبّه، وإقناعها بمغادرة هذا المكان، المؤلم للغاية بالنسبة لها.
ينزلان مجدّداً إلى أسفل التلّة. يدخلان إلى بستان يوسف. القبر يُظهِر ما بداخله مِن فتحته الواسعة، الّتي لم تعد مغلقة بالحجر، الّذي لا يزال مطروحاً على الأرض وسط العشب ومقلوباً. الداخل فارغ. اختفت كلّ آثار الدفن والقيامة. كأنّه قبر لم يُستَخدم أبداً. مريم تُقبّل حجر الدَهن، تلاطف بنظرها الجدران. ثمّ تسأل يوحنّا: «أخبرني مجدّداً كيف وجدتَ الأشياء هنا، عندما جئتَ إلى هذا الموضع مع بطرس، عند فجر القيامة.»
ويشرع يوحنّا بالوصف، متنقّلاً هنا وهناك، خارج القبر وداخله، كيف كانت الأشياء، وماذا فعل هو وبطرس، مُنهياً بقول: «كان علينا جمع البياضات. إنّما كنّا منتفضين للغاية بفعل كلّ أحداث تلك الأيّام، إلى حدّ أنّنا لم نفكّر بالأمر. وحين عدنا إلى هنا، البياضات لم تعد هنا.»
«جماعة الهيكل أخذوها ليدنّسوها.» تقاطعه مريم وهي تبكي. وتختم: «ولا حتّى مريم المجدليّة فكّرت بأنّه كان يجب أخذها لإعطائي إيّاها. هي كانت بغاية الاضطراب.»
«الهيكل؟ لا. أعتقد بأنّ يوسف هو مَن أخذها.»
«لكان أخبرني بذلك... آه! لا بدّ أنّ أعداء يسوع أخذوها مِن أجل إهانة أخيرة!» تقول مريم نائحة.
«كُفّي عن البكاء، كُفّي عن العذاب. هو الآن في المجد، في الحبّ الكامل واللامتناهي. الكراهية والازدراء لم تعد تستطيع النيل منه.»
«هذا صحيح، إنّما تلك البياضات...»
«تُسبّب لكِ العذاب، كما يعذّبكِ الكفن الأول، الّذي لا تملكين قوّة بسطه، لأنّه بالإضافة إلى آثار دمه، فإنّه يحمل آثار تلك القذارات الّتي ألقيت على الجسد الكلّيّ القداسة.»
«ذاك الكفن، نعم. إنّما تلك البياضات، لا. لقد تشرّبت كلّ ما كان ينضح منه عندما لم يعد يعاني... آه! لا يمكنكَ أن تفهم!»
«أفهم يا أُمّي. إنّما كنتُ أعتقد بأنكِ أنتِ، الّتي بالتأكيد لم تنفصلي عنه إلهاً، كما هو حالنا، وكما هو أكثر بعد حال المؤمنين به البسطاء، لم تكوني تشعرين برغبة شديدة كهذه، وحتّى بالحاجة إلى امتلاك شيءٍ ما منه إنساناً مُعذَّباً. سامحي غبائي. تعالي... سوف نعود إلى هنا مجدّداً. لنرحل الآن لأنّ الشمس ترتفع أكثر فأكثر، وهي حادّة، والطريق طويلة بالنسبة إلينا نحن الّذين علينا تحاشي المدينة.»
يخرجان مِن القبر ومِن ثمّ مِن البستان، ويعودان إلى جَثْسَيْماني عبر الطريق ذاتها الّتي سلكاها في المجيء. مريم تسير بسرعة وبصمت، ملتفّة تماماً بردائها. تبدي فقط حركة استياء وهول عندما تمرّ قرب بستان الزيتون الّذي فيه شنق يهوذا نفسه، وقرب المنزل الريفيّ لقيافا، وتتمتم: «هنا أتمّ الحكم على نفسه يائساً غير نادم، وهناك أبرم الصفقة المهولة.»