ج7 - ف221
أَنَا هُوَ
ماريا فالتورتا
L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO
THE GOSPEL AS REVEALED TO ME
بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}
L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ
MARIA VALTORTA
الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.
الجزء السابع / القسم الثاني
221- (في منزل زكا مع الخاطئين المهتدين)
03 / 11 / 1946
تَجَمَّع الجميع في غرفة واسعة ومجرّدة. لقد كانت بالتأكيد جميلةً فيما مضى، وهي الآن ليست سوى قاعة كبيرة. لقد جلبوا المقاعد والـمَفارِش آخذين إيّاها مِن قاعات الطعام أو غرف النوم وجلسوا كلّهم حول المعلّم، الّذي أجلسوه على نوع مِن أريكة مِن خشب محفور، مغطّاة بسجّادة ذات نسيج كثيف، قطعة الأثاث الأكثر فخامةً في المنزل.
زكّا يتحدّث عن مِلكيّة قد تمّ الحصول عليها بالمال المجموع مِن قبلهم: «إنّما كان علينا أن نفعل شيئاً! فالخمول ليس علاجاً جيّداً لتجنّب الخطيئة. إنّها أرض ما تزال قليلة الخصب، لأنّها كانت متروكة، مثلنا، ومثلنا مليئة بالأشواك، الحجارة، الجفاف والأعشاب الضارّة. نيقي أعارتنا خُدّامها الفلاحين كي يُعَلّمونا كيفيّة فتح الآبار المهملة، تنظيف الحقول، تشذيب الأشجار القليلة الّتي كانت فيها وزرع أشجار جديدة. قد كنّا نعلم أموراً كثيرة… إنّما ليس أعمال الإنسان المقدّسة. لكن في هذا العمل، الجديد جدّاً بالنسبة لنا، نجد حقّاً حياةً جديدة. لا شيء حولنا يذكّر بالماضي. وحده الضمير يذكّر به. لكنّ ذلك جيّد… إنّنا خطأة… أتأتي لتراها؟»
«سوف نخرج مِن هنا معاً لنتوجّه صوب الأردن، وسوف أتوقّف في ذاك الموضع. تقول لي أنّه بالضبط على الطريق المؤدّية إلى النهر...»
«نعم يا معلّم. لكنّه بحال سيّئة. إنّ المنزل يتداعى. إنّه خالٍ مِن الأثاث. لم يكن معنا مال لكلّ شيء… بعد أن، بقدر الإمكان، قمنا بالتعويض عن تقصيرنا تجاه القريب. وباستثناء ديميتس، فالانس ولاوي، المتقدّمين جدّاً في السن بالنسبة لبعض أنواع الحرمان، والّذين ينامون هنا، فإنّ هؤلاء يكتفون بالتبن يا ربّ.»
«إنّني لمرّات كثيرة لم أحظَ حتّى بذلك. سأنام على التبن أنا أيضاً يا زكّا. لقد غفوتُ عليه غفواتي الأولى، وكانت عذبة لأنّ المحبّة كانت تسهر عليها. يمكنني أن أغفو عليها هذه الغفوة أيضاً، ولن تكون مضطربة، لأنّها ستكون وسط أناس قد عادت فيهم الإرادة الصالحة.»
وينظر نظرة مُلاطَفَة إلى هذه الباكورة مِن الـمُخَلَّصين مِن كلّ البلدان. وهم ينظرون إليه… وهم ليسوا رجالاً ممّن يذرفون الدموع بسهولة. لا بل مَن يدري حتّى كم من دموع قد تسبّبوا بذرفها. وجوههم هي كُتُب مكتوب عليها ماضيهم الشقيّ، وإذا ما كانت الآن حياتهم الجديدة تحجب بشاعة هذا الكلام، فإنّه مع ذلك لا يزال ممكناً فكّ رموزها بما يكفي للسماح برؤية الهُوّات الّتي يعاودون الصعود منها صوب النور. ومع ذلك تشرق وجوههم، تضيء، تكتسب نظراتهم ثقة، بريق رجاء فائق الطبيعة، رضىً معنويّ يلتمع فيها، لسماعهم المعلّم يقول بأنّهم عادوا للإرادة الصالحة.
زكّا يقول: «إذن أنتَ تؤيّد كل ما فعلتُه؟ أُنظر يا معلّم، كنتُ قد قلتُ ذاك اليوم: "سوف أتبعكَ". وكنتُ أريد أن أتبعكَ فعليّاً بحقّ. إنّما بالضبط في تلك الأمسية أتى إليّ ديميتس لأجل إحدى… إحدى صفقاته الشائنة… وكان بحاجة للمال. كان آتياً مِن أورشليم… التي قد دُعيَت مقدّسة، لكن كلّ عار هو فيها، والأوائل الّذين يرغبون بذلك العار هم ذاتهم الّذين مِن بعدها يرجموننا كما لو كنّا برصاً… إنّما يجب أن أُفصح عن خطايانا، لا خطاياهم. وأنا وقتها لم أكن أملك مالاً بعد، فقد كنتُ قد أعطيتُك إيّاه، كلّه. كذلك المال الّذي كان لا يزال في المنزل كان كما لو أنّه أُعطِيَ، لأنّني كنتُ قد قسمتُه بالفعل إلى حصص كي أعيدها إلى أولئك الّذين سلبتُها منهم بالربا. فقلتُ له: "لا أملك مالاً، لكنّني أملك ما يفوق كلّ الكنوز". وحدّثتُه عن اهتدائي، عن كلامكَ، عن السلام الّذي كان فيَّ… لقد تحدّثتُ كثيراً بحيث دخل نور النهار الجديد ليجعل الوجوه بيضاء، ويجعل المصابيح عديمة الجدوى، فيما كنتُ لا أزال أتكلّم. ما الّذي قلتُه على وجه التحديد، لا أدري. أعلم أنّه ضرب بقبضته بقوّة على الطاولة الّتي كنّا نجلس عليها وصاح: "لقد خسر عطارد[1] أحد أتباعه، والساتير[2] قد خسروا رفيقاً. خذ أيضاً هذا المال، إنّه غير كافٍ للأمور الشائنة، إنّما يكفي لإعطاء زاد لمتسوّل، وخذني معكَ، أريد أن أعرف عطراً بعد إنتانات كثيرة". وبقي. وذهبنا معاً إلى أورشليم، أنا كي أبيع حاجيّات، وهو كي يتحرّر مِن كلّ… التزام. وأثناء العودة قلتُ… -كنتُ قد صلّيتُ في الهيكل، بعد مضيّ زمن طويل، بقلب نقيّ وهانئ كما لطفل- قلتُ لنفسي: "أليس هذا أيضاً هو اتّباع للمعلّم، وربّما أفضل، بالبقاء في أريحا حيث أصدقائي العشّارون الأشقياء مثلي، المقامرون، القوّادون، المرابون، بعدما كانوا مراقبين على المحكومين بالأشغال الشاقّة والـمُدانين، للعبيد، مُعذِّبي كلّ أنواع الشقاء، جنود بلا شريعة ولا شفقة، مُعربِدين كي ينسوا ندمهم بالسُّكر، الّذين كانوا يقصدونني لاستثمار مالهم الملعون، أو لعرض صفقات عليَّ، أو لدعوتي إلى ولائم وقذارات شائنة أخرى؟ المدينة تحتقرني. العبرانيّون سيظلّون يعتبرونني خاطئاً. أمّا هم فلا. هم مثلي. إنّهم قذارة، إنّما يمكن أن يكون فيهم شيء يدفعهم صوب الخير ولا يجدون مَن يمدّ لهم اليد للعون. أنا قد ساعدتهم في الشرّ. وربّما حتّى قد خطئوا بسبب نصائحي، بسبب ما طلبتُه منهم في بعض الأحيان. إنّ مِن واجبي مساعدتهم للمجيء إلى الخير. وكما أعدتُ لِمَن آذيتُهم، وكما عوّضتُ مواطنيَّ، فكذلك أيضاً يتوجّب عليَّ أن أسعى إلى الإصلاح معهم". وبقيتُ هنا. وقد أتوا، مرّة الواحد، ومرّة الآخر، مِن هذه المدينة أو مِن تلك، وكَلَّمتُهم. لم يكونوا كلّهم مثل ديميتس. البعض فرّوا بعد أن سخروا مني. آخرون راوَغوا، آخرون توقّفوا، إنّما بعد بعض الوقت عادوا إلى جحيمهم. هؤلاء بقوا. والآن أشعر بأنّه عليَّ أن أتبعكَ هكذا، بأنه علينا أن نتبعكَ هكذا، مجاهدين مع أنفسنا، محتملين احتقار العالم الّذي لا يُحسِن أن يغفر لنا. لن نفتقر إلى دموع القلب حين نرى أنّ العالم لا يغفر، عندما تعود الذكريات… وهي، لدى البعض، كثيرة ومؤلمة… ولدى البعض الآخر، هي...»
«إنّ نمسيس[3] الرهيبة توبّخنا على جرائمنا، وتعدنا بالانتقام علاوة على القبر.» يقول أحدهم.
«إنّه نواح أولئك الّذين أُنهِكوا وضربتُهم كي أجعلهم يعملون.»
«إنّها لعنات أولئك الّذين جعلتُهم عبيداً بعد أخذي لكلّ ممتلكاتهم بالربى.»
«إنّها توسّلات الأرامل واليتامى الّذين لم يكن باستطاعتهم الدفع، والّذين صادرتُ آخر مواردهم باسم الشريعة.»
«إنّها الضراوة الّتي تمّت ممارستها، في البلدان المغزوّة، على أناس عُزّل قد أرعبتهم الهزيمة.»
«إنّها دموع أُمّي، زوجتي، ابنتي، اللواتي متن مِن الحرمان، فيما كنتُ أبدّد كلّ شيء على الولائم.»
«إنّها… آه! الجريمة الّتي لا اسم لها! يا ربّ، إنّ يديَّ ليستا ملطّختين بالدماء، لم أسرق مالاً، لم أفرض ضرائب باهظة، لم أرتّب فوائد فاحشة، لم أضرب المهزومين، لكنّني استغلّيتُ كلّ الأهوال، وجمعتُ مالاً على حساب فتيات المهزومين البريئات، على حساب اليتيمات، على حساب نساء بيعت كأنّها بضاعة لقاء رغيف خبز. لقد جلتُ العالم مقتنصاً هذه الفرص، وراء الجيوش، حيث وُجِدَت مجاعة، حيث فيضان نهر قد انتزع كلّ طعام، حيث ترك وباء حياة شباب بلا حماية، وجعلتُ منها سِلَعاً، سِلَعاً وضيعة رغم كونها بريئة، وضيعة بالنسبة لي أنا الّذي كنتُ أكسب منها مالاً، بريئة لأنّها لم تكن تعرف الهول بعد. يا ربّ، يداي ملطّختان ببكارة فتيات صغيرات مُنتَهَكات، وشرف زوجات شابّات قد تمّ سبيهنّ مِن المدن المغزوّة. إنّ متاجري… ومواخيري كانت مشهورة يا ربّ… لا تلعنّي، الآن وقد عرفتَ!...»
الرُّسُل ابتعدوا مِن غير قصد عن الأخير الّذي تكلّم. يسوع ينهض ويدنو منه. يضع يده على كتفه ويقول: «هذا صحيح! إنّ جريمتكَ عظيمة. عليكَ الكثير لتعوّضه. إنّما أنا، الرحمة، أقول لكَ أنّ، حتّى لو كنتَ الشيطان بذاته، وكنتَ مسؤولاً عن كلّ جرائم الأرض، إن أردتَ، يمكنكَ التعويض عن كلّ شيء ويغفر لكَ الله، الله الحقّ، العظيم والأبوي. إن أردتَ. ضُمّ إرادتكَ إلى إرادتي، فأنا أيضاً أريد أن يُغفَر لكَ. اتّحد بي، أعطني روحكَ المسكينة المخزية، الهالكة، المغطّاة بالندوب وبالـمَذلّة مذ تركتَ الخطيئة. أنا سأضعها في قلبي، حيث أضع أكبر الخطأة، وسآخذها معي إلى ذبيحة الفداء. إنّ الدم الأكثر قداسة، الّذي هو دم قلبي، الدم الأخير للّذي سوف يموت لأجل البشر، سوف يُراق على أكبر الخرائب وسوف يحييها. الآن تحلّى بالرجاء، رجاء أعظم مِن جريمتكَ الهائلة، برحمة الله، لأنّها بلا حدود، أيّها الرجل، لِمَن يُحسِن الوثوق بها.»
الرجل يودّ بحقّ مسك وتقبيل تلك اليد الموضوعة على كتفه، الشاحبة جدّاً والنحيلة فوق ثوبه القاتم وكتفه الصلب، لكنّه لا يجرؤ. يسوع يُدرك ذلك ويمدّ يده إليه قائلاً: «قَبّل راحتها يا رجل، سوف أجد ثانيةً هذه القبلة لأداوي واحدة مِن عذاباتي. يد مُقَبَّلة، يد مجروحة. مُقَبَّلة بمحبّة. مجروحة بدافع المحبّة. آه! لو كان الجميع يعرفون تقبيل الضحيّة العظمى، وأنّها تموت في ثوب جراحها عالمةً أنّ في كلّ منها القبلات وعواطف البشر الـمُفتَدين!» ويُبقي راحة يده موضوعة على الشفتين الحليقتين للرجل، الّذي وفقاً لمظهره العام أقول بأنّه رومانيّ. يبقيها إلى أن ينفصل عنها الرجل كأنّه شبع، بعدما أطفأ لهيب تأنيب ضميره بارتشافه رحمة الربّ في راحة اليد الإلهيّة.
يسوع يعود إلى مكانه، وفيما يمرّ، يضع يده على الشعر المجعد لشاب فتيّ. أُقدّر أنّه بالكاد يبلغ العشرين عاماً، إن لم يكن أقلّ. هو لم يتكلّم أبداً. إنّه هو حتماً مِن العِرق العبريّ. يسوع يَسأَله: «وأنتَ يا بنيّ، ألا تقول شيئاً لمخلّصكَ؟»
الشاب يرفع رأسه وينظر إليه… تلك النظرة تحمل خطاباً كاملاً. إنّها قصّة ألم، كراهية، توبة، محبّة.
يسوع، المنحني قليلاً فوقه، عيناه محدّقتان في عينيّ الشاب، يقرأ فيهما قصّة صامتة، ومِن ثمّ يقول: «لأجل هذا أدعوكَ "بنيّ". أنتَ لم تعد وحدكَ. اغفر لكلّ الّذين مِن دمكَ وللغرباء، كما يغفر الله لكَ. وأحبّ المحبّة الّتي خلّصتكَ. تعال معي للحظة. أريد أن أقول لكَ كلمة على انفراد.»
الشاب ينهض ويتبعه. عندما يصبحان وحيدين، يقول له يسوع: «أريد أن أقول لكَ هذا يا بنيّ. الربّ قد أحبّكَ كثيراً، رغم أنّ الأمر لا يبدو كذلك بموجب حكم سطحيّ. الحياة قد اختبرتكَ كثيراً. البشر قد آذوكَ كثيراً. كان يمكن لها ولهم أن يجعلوا منكَ خراباً غير قابل للإصلاح. لقد كان خلفهم الشيطان، الّذي كان يحسد نفسكَ. لكنّ عين الله كانت عليكَ وهذه العين المباركة أوقفت أعداءكَ. إنّ محبّته قد أرسلت زكّا إلى دربكَ الوَعِرة. ومع زكّا، أرسَلَني أنا، الّذي أكلّمكَ. والآن أنا الّذي أكلّمكَ أقول لكَ أنّ عليكَ أن تجد في هذه المحبّة كلّ ما لم تحصل عليه، عليكَ أن تنسى كلّ ما سَبَّب لكَ المرارة، وأن تغفر، تغفر لأُمّك، تغفر لسيّدكَ المخزي، تغفر لنفسكَ. لا تحمل تجاه نفسكَ كراهية رديئة يا بنيّ. إكره الزمن الّذي خطئتَ فيه، إنّما ليس روحكَ الّذي أَحسَنَ ترك هذه الخطيئة. ليكن فكركَ صديقاً صالحاً لروحكَ، وليبلغا معاً الكمال.»
«كامل، أنا!»
«أَسَمِعتَ ما قلتُه لذاك الرجل؟ ومع ذلك هو كان في قاع الهاوية… وشكراً يا بنيّ!»
«على ماذا يا ربّي؟ أنا مَن ينبغي لي أن أقول لكَ شكراً...»
«على أنّكَ لم ترد الذهاب إلى مَن يشترون الناس كي يخونوني.»
«آه! يا ربّ! وهل كان يمكنني أن أفعل ذلك وأنا عالم بأنّكَ لا تحتقرنا حتّى نحن اللصوص؟ أنا أيضاً كنتُ مع الّذين جلبوا لكَ الحَمَل إلى كاريت. أحدنا قد قبض عليه الرومان -على الأقل هذا ما يقال، ما هو أكيد هو أنّ أحداً لم يره منذ ما قبل عيد المظالّ في مخابئ اللصوص- هذا الرجل قال لي كلامكَ في أحد الوديان قرب مودين... لأنّني آنذاك لم أكن بعد مع اللصوص. لقد ذهبتُ إليهم في نهاية أذار (مارس) المنصرم، وتركتُهم في بداية إيتانيم (أكتوبر). لكنّني لم أفعل شيئاً يستحقّ شكركَ. أنتَ كنتَ طيّباً، وأنا أردتُ أن أكون طيّباً، وأُحَذّر أحد أصدقائكَ… أيمكنني أن أدعو زكّا هكذا؟»
«نعم، يمكنكَ قول ذلك. كلّ الّذين يحبّونني هم أصدقائي. أنتَ كذلك صديقي.»
«آه!... أردتُ أن أحذّركَ كي تنتبه لنفسكَ. لكنّ تحذيراً واحداً لا يستحقّ الشكر...»
«أعاود القول لكَ: لأنّكَ لم تبع نفسكَ ضدّي أشكركَ. هذا ما له قيمة.»
«والتحذير لا؟»
«يا بنيّ، لا شيء سوف يستطيع منع الكراهية مِن مهاجمتي. هل سبق لكَ أن رأيتَ سيلاً يفيض؟»
«نعم. كنتُ قرب يابيش جلعاد، ورأيتُ الخراب الّذي سَبَّبه النهر الخارج مِن مجراه قبل أن يصبّ في نهر الأردن.»
«وهل تمكّن أيّ شيء مِن إيقاف المياه؟»
«لا، لقد اجتاحت كلّ شيء ودمّرته. حتّى إنّها أسقطت بعض المنازل.»
«هكذا هي الكراهية. لكنّها لن تسقطني. سوف تغمرني، لكنّها لن تدمّرني. وفي الساعة الأكثر مرارة، فإنّ محبّة الّذي لم يُرِد أن يكره البريء ستكون تعزيتي، نوري في ظلمة ساعة الظلمات تلك، حلاوتي في كأس الخمر الممزوج بعلقم ومرّ.»
«أنتَ؟ أنتَ تتحدّث عن نفسكَ كما لو أنّ… إنّ تلك الكأس للصوص، لِمَن يمضي للموت على الصليب. ولكنّكَ لستَ لصّاً! لستَ آثماً! أنتَ...»
«الفادي. أعطني قبلة يا بنيّ.»
يمسك رأسه بين يديه ويقبّله على جبهته، ومِن ثمّ ينحني ليتلقّى قبلة الشاب. قبلة خجولة، بالكاد تلامس الخدّ النحيل… ومِن ثمّ يرتمي الشاب باكياً على صدر يسوع.
«لا تبكِ يا بنيّ. إنّني أضحية المحبّة. وهي تضحية عذبة على الدوام، حتّى وإن كانت عذاباً للطبيعة البشريّة.»
يبقيه بين ذراعيه إلى أن يتوقّف عن البكاء، ومِن ثمّ يعود ممسكاً إيّاه مِن يده، قربه، في المكان حيث كان بطرس قبلاً.
يستأنف الكلام: «بينما كنّا نتناول الطعام، أحدكم، وهو ليس مِن إسرائيل، قال أنّه كان يريد أن يطلب تفسيراً. فليطلبه الآن، حيث علينا أن نعود عاجلاً إلى الناس، ومِن ثمّ المغادرة.»
«أنا مَن قلتُ ذلك. إنّما كُثُر يرغبون بمعرفته. زكّا لا يُحسِن شرح ذلك جيّداً، ولا آخرون مِن بيننا الّذين هم مِن دِينكَ. لقد سألنا تلاميذكَ عن ذلك عندما مرّوا مِن هنا، لكنّهم لم يقولوه لنا بوضوح.»
«ما الّذي تريد إذن معرفته؟»
«نحن لم نكن حتّى نعلم أنّ لنا نَفْساً. أي... نحن على الأقلّ كان علينا أن نعلم ذلك، إذ إنّ أسلافنا… لكنّنا لم نكن نقرأ الأسلاف. كنّا بهائم… وما عدنا نعرف ما هي هذه النَّفْس. ولا حتّى الآن نعلم ذلك. ما هي النَّفس؟ أهي العقل يا ترى؟ لا نظنّ ذلك، لأنّنا في هذه الحالة سوف نكون مُـجَرَّدين منها، وقد سمعنا أنّه مِن دون نَفْس لا توجد حياة. فما هي إذن النَّفْس الّتي يقولون أنّها غير مادّية، الّتي يقال أنّها خالدة، إن لم تكن العقل؟ إنّ الفِكر غير ماديّ، لكنّه ليس خالداً، لأنّه يتوقّف مع توقّف حياتنا. فحتّى أكثر الناس حكمةً لا يعود يفكّر بعد الموت.»
«النّفْس ليست الفِكر يا رجل. النّفْس هي الروح، هي الأصل غير المادّيّ للحياة، الأصل غير المحسوس، إنّما الحقيقي، الّذي يبثّ الحياة في الإنسان كلّه والّذي يدوم بعد الإنسان. لذلك تدعى خالدة. إنّها شيء سامٍ لدرجة أنّ حتّى الفِكر الأقدر هو لا شيء بالمقارنة معها. للفِكر نهاية. بينما النَّفْس رغم أنّ لها بداية، إنّما ليس لها نهاية. سواء مغبوطة أو ملعونة، فهي تُواصِل الوجود. طوبى لأولئك الّذين يُحسِنون إبقاءها نقيّة، أو إعادة النقاء لها بعد جَعلها نَجِسة، لإعادتها إلى خالقها كما هو أعطاها للإنسان لإنعاش إنسانيّته.»
«ولكن أهي فينا، أم فوقنا، كما عين الله؟»
«فينا.»
«سجينة حتّى الموت، إذن؟ عبدة؟»
«لا. مَلِكة. ففي الفِكر الأزلي، النَّفْس، الروح، هي الشيء الّذي يسود في الإنسان، في الحيوان المخلوق المدعوّ إنساناً. وهي، الآتية مِن الـمَلِك وأب كلّ الملوك والآباء، نَفخَته وصورته، هِبَته وحقّه، بمهمّة جعل المخلوق المدعوّ إنساناً، مَلِكاً للملكوت العظيم الأبديّ، لجعل المخلوق المدعوّ إنساناً، إلهاً فيما وراء الحياة، "حيّاً" في مَسكَن الكلّي السمو، الله الوحيد، هي قد خُلِقت مَلِكة، وبسلطان ومصير مَلِكة. خادماتها هي كلّ فضائل الإنسان وقدراته. وسيلتها إرادة الإنسان الصالحة، خادمها الفِكر، خادم وتلميذ هو فِكر الإنسان. ومِن الروح يكتسب الفِكر القدرة والحقّ، يكتسب البرّ والحكمة، ويمكنه أن يرتقي إلى كمال مَلَكيّ. إنّ فِكراً مجرّداً مِن نور الروح سيكون دوماً مليئاً بالفجوات والظلمات، لن يتمكّن أبداً مِن إدراك الحقائق. بالفعل، بالنسبة للّذين انفصلوا عن الله وقد فقدوا مَلَكيّة الروح، هذه الحقائق هي أكثر غموضاً مِن ألغاز. فِكر الإنسان سيكون أعمى، سيكون بليداً، إذا كان يفتقر إلى نقطة الارتكاز، للرافعة الّتي لا غنى عنها للفهم، كي يرتقي تاركاً الأرض ومنطلقاً نحو الأعالي، لملاقاة الذكاء، القدرة، الألوهيّة بكلمة واحدة. إليكَ أتحدّث هكذا يا ديميتس، لأنّكَ لم تكن دائماً صيرفيّاً فقط، ويمكنكَ أن تفهم وتشرح للآخرين.»
«إنّكَ حقّاً بَصير يا معلّم. لا. لم أكن فقط صيرفيّاً… لا بل تلك كانت الدرجة الأخيرة لهبوطي… قل لي يا معلّم. ولكن إن كانت النَّفْس مَلِكَة، فلماذا إذن لا تملك ولا تكبح الفِكر السيّئ والجسد الشرّير للإنسان؟»
«لن يكون الكبح حرّيةً ولا استحقاقاً، سيكون إرغاماً.»
«لكنّ الفِكر والجسد يُنهِكان النّفْس غالباً، أتحدّث عن ذاتي، عنّا، ويجعلانها عبدة في أحيان كثيرة. لهذا كنتُ أقول أنّها كانت فينا عبدة. وكيف يمكن أن يسمح الله أنّ شيئاً بهذا السموّ -أنتَ حدّدتَها بأنّها "نفحة الله وصورته"- أن يُهان ممّا هو أدنى منه؟»
«في الفِكر الإلهي لم يكن على النَّفْس أن تعرف العبوديّة. إنّما أتنسى عدوّ الله والبشر؟ إنّ أرواح العالم السفليّ معروفة مِن قبلكم أيضاً.»
«نعم. وكلّها برغبات شرسة. وأنا يمكنني أن أقول، بتذكّري أيّ طفل كنتُه، أنّني فقط لأرواح العالم السفليّ تلكَ يمكنني أن أنسب الإنسان الّذي غدوتُه، والّذي كنتُه، حتّى بلغتُ عتبة الشيخوخة. الآن أعاود إيجاد الطفل المفقود الذي لآنذاك. إنّما أيمكنني أن أجعل مِن نفسي طفلاً بحيث أعود إلى نقاء ذاك الزمن؟ هل السير العكسي في الزمن متاح به يا ترى؟»
«لا حاجة للسير إلى الوراء. لن تستطيع فِعل ذلك. إنّ الزمن المقضيّ لا يرجع أبداً، لا يمكن جعله يعود، ولا يمكن العودة إليه. لكنّ ذلك ليس ضروريّاً.
البعض مِن بينكم هم مِن مناطق تُعرَف فيها نظريّة المدرسة الفيثاغورسيّة [التقمّص]. إنّها نظرية خاطئة. فالنفوس، ما أن تنقضي إقامتها على الأرض، لا تعود أبداً إلى الأرض في أيّ جسد. لا جسد حيوان، حيث مِن غير اللائق أنّ شيئاً فائق الطبيعة لهذه الدرجة كما هي عليه، أن يسكن في بهيمة. ولا في جسد إنسان، فكيف يكافأ الجسد المتّحد مجدّداً بالنَّفْس وقت الدينونة الأخيرة، إذا كانت هذه النَّفْس قد لبست أجساداً عديدة؟ يقال مِن قِبَل مَن يؤمنون بهذه النظرية أنّ الجسد الأخير هو الّذي يبتهج، لأنّ النَّفْس، خلال التطهيرات المتعاقبة، خلال حيوات متعاقبة، هي فقط في التقمّص الأخير تبلغ الكمال الّذي يستحقّ الثواب. إنّ هذا خطأ وإساءة! خطأ وإساءة تجاه الله، حيث أنّ ذلك هو تسليم بأنّه لم يستطع أن يخلق سوى عدد محدود مِن النفوس. خطأ وإهانة للإنسان، لأنّ ذلك هو حكم عليه أنّه بغاية الفساد بحيث أنّه لا يستحقّ ثواباً إلّا بصعوبة. هو لن يَنال ثواباً على الفور، بل سيتعيّن عليه أن يجتاز تطهيراً فيما بعد الحياة لتسعة وتسعين مرّة مِن مئة. لكنّ هذا التطهير هو تهيئة للفرح. لذلك فمن يُطهَّر قد بات مُخلَّصاً. وما أن يخلَّص، حتّى يبتهج في اليوم الأخير مع جسده. لا يمكنه أن يملك سوى جسد واحد لنَفْسه، سوى حياة واحدة هنا، وبالجسد الّذي عمله له أبواه، وبالنَّفْس الّتي خلقها له الخالق كي يُحيي الجسد، سوف ينعم بالثواب.
إنّ التقمّص غير متاح. كذلك كما أنّ الرجوع بالزمن غير متاح، إنّما إعادة خلق الذات بفعل إرادة حرّة فنعم، هو متاح، والله يبارك هذه الإرادة ويعينها. كلّكم قد حصلتم عليها. فها هو ذا الإنسان الخاطئ، الفاجر، الـمُدَنَّس، المجرم، اللصّ، الفاسد، الـمُفسِد، القاتل، الـمُدنِّس، الزاني، يُولَد روحيّاً مِن جديد تحت غَسل التوبة، يدمّر العنصر الفاسد للإنسان العتيق، يشتّت الأنا العقليّة الأكثر فساداً، كما لو أنّ إرادة الافتداء هي أسيد (حمض) يهاجم ويدمّر الغلاف التالف حيث يتمّ إخفاء كنز، وإذ قد عَرَّى روحه الـمُطَهَّر، الّذي عاد سليماً، الّذي أعيد إلباسه فِكراً جديداً، ثوباً جديداً نقيّاً، صالحاً، طفوليّاً. آه! ثوباً يمكنه التقرّب مِن الله، فيمكنه أن يكسو كما يليق النَّفْس المعاد تكوينها، ويحرسها، ويعينها، وصولاً إلى خلقها الفائق، الّذي هو القداسة الكاملة، الّتي غداً -في غد ربّما بعيد، إذا ما تمّت رؤيته بفِكر ومقياس زمن بشريّ، القريب جدّاً، إذا ما تمّ تأمّله بفِكر الأبديّة- ستكون ممجّدة في ملكوت الله.
والجميع بإمكانهم، إذا ما أرادوا، أن يعيدوا تكوين الطفل الطاهر الّذي لأيّام الطفولة في ذواتهم. الطفل الـمُحِبّ، المتواضع، الصريح، الطيّب، الّذي كانت أُمّه تضمّه إلى صدرها، وكان أبوه ينظر إليه بفخر، وملاك الربّ يحبّه، وكان الله يتأمّله بمحبّة. أُمّهاتكم! ربّما كنّ نسوة عظيمات الفضيلة… والله لن يدع فضيلتهنّ بلا ثواب. اعملوا إذن بحيث تمتلكون واحدة مماثلة كي تنضمّوا إليهنّ، حينما سيكون لكلّ الفاضلين أمر واحد: ملكوت الله للصالحين. ربّما لم يكنّ صالحات وساهمن في هلاككم. إنّما إن هنّ لم يحببنكم، إن كنتم لا تعرفون المحبّة، إن كان هذا النقص في المحبّة قد جعلكم أشراراً، فكونوا الآن قدّيسين وقد جمعتكم محبّة إلهيّة، لتكونوا قادرين، بفرح سماويّ، على أن تنعموا بالمحبّة الّتي تتخطّى كلّ محبّة.
ألديكم أمر آخر تسألون عنه؟»
«لا يا ربّ. لنا أن نتعلّم كلّ شيء. إنّما ليس لدينا شيء آخر الآن...»
«سوف أترك لكم يوحنّا وأندراوس لبضعة أيّام. بعدها سأرسل إلى هنا تلاميذ طيّبين وحكماء. أريد أن تعرف المهور البرّية طرق الربّ ومراعيه، مثل مهور إسرائيل، لأنّني جئتُ مِن أجل الجميع، وأُحبّ الجميع بالطريقة ذاتها. انهضوا ولنمضِ.»
ويخرج أوّلاً إلى الحديقة الـمُستَصلَحة، يتبعه عن كثب جماعته الّذين يَشْكون بهدوء: «يا معلّم، لقد تحدّثتَ إليهم كما لا تفعل إلّا نادراً مع مختاريكَ...»
«وتشتكون مِن ذلك؟ ألا تعلمون أنّ ذلك يتمّ فِعله أيضاً في العالم عندما يراد استمالة شخص نحبّه؟ إنّما مع أولئك الّذين نعلم أنّهم يحبّوننا بكلّ ذواتهم وقد أصبحوا مِن عائلتنا، فلا حاجة لفنّ الاستمالة. يكفي التلاقي لنكون في بعضنا البعض بفرح وسلام.» يقول يسوع بابتسامة إلهيّة، إلهيّة بحقّ مِن فرط ما تنشر مِن الفرح. ويَكفّ الرُّسُل عن التشكّي، لا بل ينظرون إليه بغبطة، غارقين في حبور المحبّة المتبادلة.
----------
[1]- إله المكاسب المالية، والتجارة، والفصاحة، والرسائل، والاتصالات (بما في ذلك الكهانة)، والمسافرين، والحدود، والحظ، والخداع واللصوص؛ ويعمل أيضًا مرشدًا للنفوس إلى العالم السفلي.
[2]- ساتير في الأساطير اليونانية هو ذَكَر من القوات المصاحبة لإله المراعي والصيد البري والأحراش بان وديونيسوس إله الخمر عند الإغريق القدماء ومُلهِم طقوس الابتهاج والنشوة، وله ملامح تشبه ملامح الماعز.
[3]- إلهة الانتقام في الأساطير اليونانية.