ج4 - ف101

أَنَا هُوَ

ماريا فالتورتا

L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO

THE GOSPEL AS REVEALED TO ME

بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}

L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ

MARIA VALTORTA

الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.

 

الجزء الرابع / القسم الأول

 

101- (مريم المجدليّة بصحبة مريم وسط التلاميذ)

 

30 / 07 / 1945

 

«قد تَهبّ العاصفة اليوم، يا معلّم. هل تَرَى تلك الحُّزَم، التي بلون الرصاص، تَصِل خلف حرمون؟ هل تَرَى البحيرة كيف تتجعّد؟ هل تحسّ بِلَفحات الريح الشماليّة التي تَتنَاوب مع الهَـــبّات الخماسينيّة الحارّة. الزوابع إشارة مؤكَّدة على هبوب العاصفة.

 

«في خلال كَم مِن الزَّمن، يا سمعان؟»

 

«قَبل نهاية الساعة الأولى. انظر كيف يُسرِع الصيّادون في العودة، إنّهم يَشعُرون بالبحيرة تُهدِّد. بعد قليل سوف يُصبِح لونها كذلك رماديّاً، ثمّ بلون القَطران، وبعد ذلك الهيجان.»

 

«ولكنّها تبدو ساكنة للغاية.» يقول توما مُشكِّكاً.

 

«أنتَ أَعلَم بِما يخصّ الذهب، وأنا أَعلَم بما يتعلّق بالماء. والأمر سيكون كما أقول. وهذه ليست عاصفة غير متوقَّعة، بل هي تَحدُث وفق إشارات مؤكَّدة. الماء ساكن على السطح، بالكاد تلك الطبقة الرقيقة، وهي لا تُشكَّل شيئاً. ولكنَّكَ لو كنتَ في المركب! لشعرتَ وكأنّ الآلاف مِن النَّقفات تَصطَدِم بالغاطس، وتهزّ المركب بشكل غريب. يهتزّ الماء الآن في الأسفل. انتظر حتّى تعطي السماء الإشارة، وسوف تَرَى بعدها!... دَع الريح الشماليّة تختلط بالخماسينيّة! ثمّ!... آه! النساء! أَدخِلوا ما نُشِرَ، وَضَعوا الحيوانات في المأوى. سوف تَنهَمِر بغزارة عما قريب، حجارة وماء.»

 

بالفعل تُصبِح السماء أكثر مَيلاً إلى الخُضرة، مع سُحُب رماديّة، بوصول حُزَم متواصِلة مِن الغيوم التي تبدو وكأنّ حرمون العظيم قد تقيَّأَها. إنّها تَدفَع الفجر لِتُعيدَه إلى الجهة التي أقبَلَ منها، وكأنّ الوقت يعود إلى الليل، بَدَل التقدُّم إلى الظُّهر. فَرجَة واحدة فقط، هي التي تستمرّ في الهَرَب بشكل مُنحَرِف مِن خلف حاجز الغيوم الرماديّة، وتُرسِل ضَربة فرشاة وهميّة صفراء-خضراء، على قمّة هضبة في الجنوب الغربيّ مِن كفرناحوم. ها قد فَقَدَت البحيرة لونها اللازورديّ، لِيَمتَقِع لونها بالأزرق القاتم، وطلائع الزَّبَد بين الموجات الصغيرة، المتكسّرة، تبدو ببياض وهميّ على عمق ماء مُظلِم. لَم يَعُد في البحيرة أيّ مَركَب. يُسرع الرجال في الجنوح بالـمَراكب وجَلب الشِّباك والسِّلال والأشرعة والمجاديف، أو إذا كانوا قَرويّين، فإنّهم يُفرِغون محاصيلهم، ويؤَمِّنون أوتاداً وحبالاً، ويُبيتون الحيوانات في الاصطبلات. وتُسرِع النساء في الذهاب إلى النبع قبل هطول الأمّطار، أو يَجمَعن الأطفال النَّاهِضين مع الشمس ويُعِدنهم إلى البيت، ويُغلِقن الأبواب، حريصات مثل الدجاجات الأُمّهات اللواتي يَشعُرن بقدوم البرد.

 

«تعال معي يا سمعان. أَرسِل في طَلَب خادم مرثا ويعقوب أخي. خُذ شراعاً ضخماً، طويلاً وعريضاً، هناك امرأتان على الطريق، ويجب الذهاب للقائهما.»

 

يَنظُر إليه بطرس بِفُضول، ولكنّه يُطيع دون إضاعة الوقت.

 

وعلى الطريق، بينما هُم يَركُضون، يَجتَازون البلدة متوجِّهين إلى الجنوب، يَسأَل سمعان: «ولكن مَن هُما؟»

 

«أُمّي ومريم المجدليّة.»

 

وكانت المفاجأة عظيمة لدرجة أنّ بطرس يَقِف بُرهة، وكأنّه قد تَسمَّرَ في الأرض، ويقول: «أُمّكَ؟!!! ومريم المجدليّة؟!!! معاً؟!!!» ثُمّ يُعاوِد الجَّري، لأنّ يسوع لَم يتوقّف، ولا يعقوب، والخادم كذلك. ولكنّه يُكرِّر القول: «أُمّكَ ومريم المجدليّة! معاً!... منذ متى؟»

 

«منذ أن لَم تَعُد سِوى مريم يسوع. أَسرِع يا سمعان. هي ذي القَطَرات الأولى...»

 

ويُحاوِل بطرس الإسراع أكثر مِن رِفاقه الأكبر والأسرع منه. ويَعجّ الغبار الآن كالغيم في الأرض المحروقة، يعجّ بفعل الريح التي تشتدّ بين لحظة وأُخرى، ريح تَرفَع البحيرة مُشكِّلة ذَرى تَشرع بالتكسّر بِـجَلَبة على الشاطئ. عندما تُصبح رؤية البحيرة ممكنة، تُشاهَد وقد أَصبَحَت قِدْراً عملاقاً يغلي الماء فيه بشدّة. أمواج، بارتفاع متر على الأقلّ، تتراكض فيه في كلّ الاتّجاهات، ترتَطِم ببعضها، ثمّ تتفرّق مُتراكِضة في اتّجاهات متعاكسة، بحثاً عن موجة أخرى ترتَطِم بها. إنّه نِزال زَبَد وذَرى وحَدَبات مُنتَفِخة، وأصوات متفجِّرة، وهزير رياح، ولَطمَات تَصفَع البيوت الأقرب إلى الشاطئ. وعندما لَم تَعُد البيوت تُرى، تَجعَل البحيرة الجميع يحسّون بوجودها، بضجيج أقوى مِن هدير الرياح التي تَثني الأشجار، مُنتَزِعة منها الأوراق ومُوقِعة الثمّار، ويَطول دويّ الرَّعد مُهدّداً، وقد سَبَقَته البُروق المتقاربة والأكثر شدّة.

 

«مَن يدري مِقدار خوف هاتين المرأتين!» يقول بطرس لاهثاً.

 

«أُمّي، لا. أمّا الأُخرى فلا أعرف. إنّما بالتأكيد إن لم نُسرِع فَستتبلَّلان.»

 

تَجاوَزوا كفرناحوم ببضعة مئات مِن الأمّتار، عندما، في غيوم مِن الغُبار، وسط زمجرة أوّل هَطل مُتسارِع بشكل مائل بعنف، مُخطِّطاً الهواء المظلم، والذي يُصبِح مباشرة شلاّلاً يَرشّ، يَعمي، ويَقطَع التنفُّس، حينذاك يَروا امرأتين تَجرِيان بحثاً عن مَلجأ تحت شجرة كثيفة.

 

«ها هما! فلنُسرِع!»

 

ولكن، رغم أن حُبّه لمريم يَمنَحه أجنحة، فإنّه، مع ساقيه القصيرتين، اللَّتين ليس فيهما أيّ أثر لِعَدَّاء، يَصِل عندما يكون يسوع ويعقوب قد تَلقَّيا المرأتين تحت شِراع ثقيل.

 

«لا يمكن البقاء هنا. قد نتعرّض إلى ضربة صاعقة، وبعد قليل تُصبِح الطريق سيلاً. هيّا بنا يا معلّم، أَقلَّه حتّى أوائل البيوت.» يقول بطرس وهو يَلهَث.

 

ويَسيرون جاعِلِين المرأتين في الوسط، مادِّين الشِّراع فوق رؤوسهم وظهورهم.

 

أوّل كلمة يقولها يسوع لمريم المجدليّة، التي ما تزال ترتدي الثوب ذاته الذي كانت ترتديه أثناء الوليمة في بيت سمعان، إنّما بإضافة معطف لمريم الكُلّيّة القداسة على كتفيها: «هل أنتِ خائفة يا مريم؟»

 

وهي التي كان رأسها منحنياً على الدوام، تحت الوشاح الذي يغطّي شعرها، وقد تخرَّبَ وَضعه أثناء الجري، فإنّها تَحمَرّ، تَحني رأسها أكثر وهي تُهمهِم: «لا يا سيّدي.»

 

والسيّدة العذراء فَقَدَت دبابيسها كذلك، وتبدو كَصَبيّة بجدائلها الـمُدلاّة على كتفيها، ولكنّها تبتسم لابنها الذي يسير إلى جانبها ويُحدِّثها بابتسامته.

 

«أنتِ مُبلَّلة يا مريم.» يقول يعقوب بن حلفى وهو يَلمس معطف ووِشاح السيّدة العذراء.

 

«لا يهمّ، ونحن الآن في مأمن. أليس كذلك يا مريم؟ لقد أُنقِذنا كذلك مِن المطر.» تقول مريم بلطف لمريم المجدليّة التي تَشعُر بالارتباك المؤلم. وتُشير تلك برأسها أن نَعَم.

 

«سوف تُسرُّ أختكِ برؤيتكِ. إنّها في كفرناحوم، وقد كانت تبحث عنكَ.» يقول يسوع.

 

تَرفَع مريم رأسها لِبُرهة، وتُحدِّق بعينيها الرائعتين في وجه يسوع الذي يُحدِّثها باللهجة الطبيعية نفسها التي يُحدِّث بها التلاميذ الآخرين. ولكنّها لا تقول شيئاً. فهي مُنكَسِرة بانفعالات كثيرة.

 

يُضيف يسوع: «إنّني مسرور بإبقائها. سوف أَدَعكُما تذهبان بعد أن أُبارِككما.»

 

وتَضيع كَلِمَته في دَويّ صاعقة قريبة. وتَصدُر عن مريم المجدليّة حركة تُنبِئ عن فَزَع. تَضَع يديها على وجهها وتنحني، وقد انفَجَرَت بالبكاء.

 

«لا تخافي!» يقول بطرس لِيُطمئِنها. «لقد عَبَرَت الضربة، ومع يسوع لا مجال للخوف مِن أيّ شيء.»

 

كذلك يعقوب، القريب مِن مريم المجدليّة، يقول لها: «لا تبكي، إنّ البيوت قريبة جدّاً.»

 

«أنا لا أبكي مِن الخوف... بل أبكي لأنّه قال لي إنّه سوف يُبارِكني... أنا... أنا...» ولَم تَعُد تستطيع قول شيء آخر.

 

وتَتدَخَّل العذراء لِتَهدِئتها بِقَولها: «أنتِ، يا مريم، قد تجاوَزتِ عاصفتكِ الآن. لا تُفكِّري بها أبداً. لَم يَعُد الآن سوى الصَّفاء والسلام. أليس كذلك يا بُنيَّ؟»

 

«نعم يا أُمّي، بالفعل هذا صحيح. عَمّا قليل ستعود الشمس، وسيكون كلّ شيء أجمل، أنقى، وأكثر نَداوة مِن الأمّس. كذلك سيكون الأمر بالنسبة إليكِ يا مريم.»

 

وتعود الأمّ لتتكلّم، وهي تَشدّ على يد مريم المجدليّة: «سوف أقول لمرثا ما قُلتَه أنتَ. إنّني مسرورة لإمكانيّة رؤيتها حالاً، والقول لها كَم مريمها مُفعَمَة إرادة حَسَنَة.»

 

بطرس الذي يتخبّط في الوحل ويَتحمَّل الطَّوَفان بصبر، يترك الملاذ ليذهب إلى أحد المنازل طَلَباً لِمَلجأ.