ج8 - ف28

أَنَا هُوَ

ماريا فالتورتا

L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO

THE GOSPEL AS REVEALED TO ME

بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}

L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ

MARIA VALTORTA

الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.

 

الجزء الثامن

 

28- (يهوذا الإسخريوطيّ سارق)

 

15 / 02 / 1947

 

يسوع مع التلميذات والرسولين فوق إحدى أولى تموّجات الجبل خلف أفرايم. لا الطفلان ولا إستير بصحبة يُوَنّا. أظنّ بأنّهم قد أُرسِلوا بالفعل إلى أورشليم برفقة يوناثان. بالإضافةً إلى أُمّ يسوع، هناك فقط مريم الّتي لحلفى، مريم سالومة، يُوَنّا، إليز، نيقي وسُوسَنّة. أُختا لعازر ليستا حاضرتين بعد.

 

إليز ونيقي تطويان ثياباً قد تمّ غسلها بالتأكيد في ساقية تتلألأ في الأسفل، أو قد تمّ جلبها إلى هنا مِن السيل على هذه الهضبة المشمسة. ونيقي، بعد أن تنظر إلى إحداها، تحملها إلى مريم الّتي لحلفى قائلةً: «وهذا أيضاً قد فَتَق ابنكِ هُدبه.»

 

مريم الّتي لحلفى تأخذ الثوب وتضعه قرب الأثواب الأخرى الّتي بجانبها على العشب.

 

كلّ التلميذات منهمكات بالخياطة، لإصلاح التمزّقات الحاصلة خلال الأشهر الكثيرة الّتي كان فيها الرُّسُل وحدهم.

 

إليز، الّتي تأتي بثياب جافّة أخرى، تقول: «مِن الواضح أنّكم منذ ثلاثة أشهر لم تحظوا بامرأة خبيرة معكم! فما مِن ثوب مرتّب، باستثناء ثوب المعلّم، رغم أنّ لديه فقط اثنين. الّذي يرتديه وآخر قد تمّ غسله اليوم.»

 

«لقد أعطاها كلّها. يبدو أنّه كان مأخوذاً بشدّة بعدم امتلاك شيء. إنّه يلبس ألبسة مِن كتّان بالفعل منذ أيّام عدّة.» يقول يهوذا.

 

«لحسن الحظّ أنّ أُمّكَ قد فكّرت بجلب ألبسة جديدة. ذاك المصبوغ بالأرجوان هو حقّاً جميل جدّاً. كان يلزمكَ ذلك يا يسوع، ولو أنّكَ بحال جيّدة وأنتَ تلبس الكتّان. إنّكَ بحقّ تشبه زنبقة!» تقول مريم الّتي لحلفى.

 

«زنبقة طويلة جدّاً يا مريم!» يتهكّم يهوذا.

 

«إنّما نقيّة كما لستَ أنتَ كذلك بالتأكيد، ولا كما هو يوحنّا أيضاً. أنتَ كذلك تلبس كتّاناً، إنّما، ثق، إنّكَ لا تشبه الزنبقة!» تردّ بصراحة مريم الّتي لحلفى.

 

«إنّني بُنيّ الشعر والبشرة. لذلك أنا مختلف.»

 

«لا. لا يتعلّق الأمر بذلك. الأمر هو أنّ البراءة تبدو عليكَ خارجيّاً، ولديه هو في داخله، وترشح مِن نظرته، مِن ابتسامته، مِن كلامه. هو الأمر كذلك! آه! كم نحن على ما يرام هنا مع يسوعي!» ومريم الطيّبة تضع إحدى يديها الذابلتين اللتين لامرأة عجوز وعاملة على ركبة يسوع، الّذي يداعب هذه اليد الشريفة.

 

مريم سالومة، الّتي تتفحّص أحد الأثواب، تصيح: «هذا أسوأ مِن مِزق! آه! يا بنيّ! مَن رتق لكَ الثقب بهذا الشكل؟» وتعرض، مصدومةً، على رفيقاتها نوعاً مِن… سُرّة متغضّنة جدّاً، بحيث تُشكّل حلقة تبرز فوق القماش، تضمّها بضعة قطب كفيلة بترويع امرأة. الإصلاح الغريب هو مركز سلسلة مِن ثنايا على شكل تموّجات تتّسع عند كتف الثوب. الكلّ يضحكون، أوّلهم يوحنّا، مُبتَكِر الرتق، الّذي يشرح: «لم أكن أستطيع الاستمرار مع المزق، وبالتالي… فقد رتقتُه!»

 

«أرى ذلك! يا لي مِن بائسة! أرى ذلك! إنّما ألم يكن بإمكانكَ أن تجعل مريم الّتي ليعقوب تخيطه؟»

 

«إنّها تقريباً عمياء، المرأة المسكينة! ومِن ثمّ… المشكلة أنّه لم يكن مِزقاً! لقد كان ثقباً حقيقيّاً، فقد بقي الثوب عالقاً بحزمة الحطب الّتي كنتُ أحملها على كتفي، وعند رفعي حزمة الحطب عن كتفي، فقد علقت قطعة الثوب معه، حينئذ أصلحتُه هكذا!»

 

«لقد أفسدتَه هكذا يا بنيّ. يلزمني...» تتفحّص الثوب، لكنّها تهزّ رأسها. تقول: «كنتُ آمل أن أتمكّن مِن نزع الهدب. إنّما بالفعل هو ما عاد موجوداً...»

 

«لقد نزعتُه أنا في نوبة، لأنّ الثنية كانت مقطوعة. لكنّني أعطيتُ الجزء الّذي نزعتُه لابنكِ...» تشرح إليز.

 

«نعم. لكنّني استخدمتُه كي أعمل حبلاً لكيسي...»

 

«يا للأبناء المساكين! كم مِن الضروريّ أن نبقى إلى جانبهم!» تقول مريم الكلّية القداسة، الّتي تصلح ثوب لا أدري مَن.

 

«ومع ذلك يلزم قماش هنا. أُنظروا. فالقطب قد انتهت إلى تمزيق ما حولها، ومِن سوء هو أساساً عظيم، قد نتج سوء غير قابل للإصلاح، إلّا إذا… أمكن إيجاد شيء يحلّ محلّ القماش الناقص. عندها… سيكون مرئيّاً بعد… إنّما يكون مقبولاً.»

 

«لقد أعطيتِني الفكرة لـمَثَل...» يقول يسوع، وفي ذات الوقت يقول يهوذا: «أظنُّ بأنّ لديَّ في قعر كيسي قطعة قماش مِن هذا اللون، إنّها بقية مِن ثوب، هو باهت جدّاً ليمكن ارتداؤه، قد أعطيتُه لرجل قصير القامة، أقصر منّي كثيراً بحيث اضطررنا لقصّ ما يقارب شبرين منه. إن تنتظري، سأذهب لأجلبه. إنّما أوّلاً أودُّ الاستماع للمَثَل.»

 

«ليبارككَ الله. استمع. أنا في غضون ذلك سوف أعيد وضع شرائط ثوب يعقوب. فهي بالية كلّيّاً.»

 

«تكلّم يا معلّم. ومِن ثمّ سوف أُسعِد مريم سالومة.»

 

«سأتكلّم. أقارن النَّفْس بقماش. حين تُنفَث تكون جديدة، دون مِزَق. بها فقط اللطخة الأصليّة، إنّما لا تحمل جروحاً في بنيتها، ولا لطخات أخرى، ولا اهتراء. ثمّ، بمرور الوقت، وبسبب تَقَبُّل الرذائل، تبلى إلى أن تتقطّع، تتلطّخ بتهوّرها، وبعدم تنظيمها تتمزّق. والآن، حين تتمزّق، يجب ألّا تُرتَق بغير مهارة، الأمر الّذي يسبّب مزيداً مِن الـمِزَق، إنّما يتوجّب الصبر والرتق طويلاً وبشكل تام، لإزالة الخراب الّذي حدث بأكثر ما يمكن. وإذا كان القماش شديد التمزّق، لا بل إن كان ممزّقاً إلى درجة ضياع قطعة منه، فلا ينبغي التبجّح بكبرياء بالقدرة على إزالة الخراب بأنفسنا، إنّما بالتوجّه إلى مَن نعلم بأنّه قادر على إعادة نزاهة الروح، لأنّه مسموح له بأن يفعل كلّ شيء، وهو قادر على فِعل كلّ شيء. أتحدّث عن الله، أبي، وعن المخلّص الّذي أنا هو. لكنّ كبرياء الإنسان يجعله، كلّما كان خراب نفسه أعظم، كلّما سعى أكثر إلى رتقه بعلاجات منقوصة تخلق بلاءً أكبر فأكبر. يمكنكم أن تعارضوني بأنّ مِزقاً سيكون مرئياً على الدوام. إنّ مريم سالومة قد قالت ذلك أيضاً. نعم. سوف تُرى دوماً الجروح الّتي أصيبت بها نَفْس. لكنّ النَّفْس تخوض معركتها، وبالتالي يتأتّى مِن ذلك أن تُجرَح. كُثُر هم الأعداء الّذين يحيطون بها. إنّما ما مِن أحد -وقد رأى إنساناً مغطّىً بالندوب، الّتي هي علامات جروح كثيرة قد أصيب بها وهو في معركة إحراز النصر- يمكنه القول: "هذا الإنسان نَجِس". بل على العكس سيقال: "هذا بطل. ها هي ذي الآثار الأرجوانية لِقَدْره. فلن نرى أبداً جندياً يتحاشى أن يتمّ علاجه خجلاً مِن جرح مجيد، بل على العكس هو يقصد الطبيب ويقول له بأنفة مقدّسة: "هو ذا، لقد حاربتُ وانتصرتُ. لم أوفّر نفسي. أنتَ ترى ذلك. عالجني الآن كي أكون مستعدّاً لمعارك وانتصارات أخرى". وعلى العكس، مَن ابتلى بقروح أمراض نَجِسة، أحدثتها به رذائل شائنة، فهذا يخجل مِن جراحه أمام أهله وأصدقائه، وكذلك أمام الأطباء، وأحياناً يكون بغاية الغباء بحيث يبقيها مخفيّة إلى أن يكشفها إنتانها. إنّما إذ ذاك يكون قد فات أوان الإصلاح. إنّ المتواضعين هم دوماً صادقون، وأيضاً شجعان بحيث لا يخجلون مِن الجراح الّتي أصيبوا بها في الجهاد. المتكبّرون هم دوماً كاذبون وجبناء، وبسبب كبريائهم يبلغون الموت، لعدم رغبتهم بالذهاب إلى مَن يقدر أن يشفيهم وأن يقولوا له: "أبتاه، لقد خطئتُ. إنّما، إن شئتَ، فبإمكانكَ أن تشفيني". كثيرة هي النفوس الّتي، بسبب الكبرياء تنعدم لديها إرادة الاعتراف بخطيئة أوّليّة، تبلغ إلى الموت. وإذ ذاك يكون قد فات الأوان بالنسبة لها أيضاً. هي لا تفكّر بأنّ الرحمة الإلهيّة هي أقدر وأرحب مِن أيّة آكِلة [غنغرينا]، مهما كانت قويّة وواسعة، وأنّ بإمكانها أن تشفي كلّ شيء. إنّما هي، نفوس المتكبّرين، عندما تُدرِك أنّها قد ازدرت كلّ وسيلة خلاص، تقع في اليأس، بما أنّها مِن دون الله، وتقول: " قد فات الأوان". وتستسلم للموت الأخير، موت الهلاك الأبديّ. والآن اذهب يا يهوذا لجلب قماشكَ...»

 

«أنا ذاهب. لكنّ هذا الـمَثَل لم يعجبني. لم أفهمه.»

 

«لكنّه بغاية الوضوح! أنا، المرأة المسكينة، قد فهمتُه!» تقول مريم سالومة.

 

«وأنا لا. سابقاً كنتَ تقول أمثالاً أجمل. الآن… النحل… القماش… المدن الّتي تُبدّل أسماءها… النفوس القوارب… أمور ركيكة ومُبهَمة لم تعد تعجبني ولا أفهمها… إنّما الآن أَذهَب لجلب القماش، لأنّني بشكل عمليّ أقول أنّه ضروريّ، لكنّه سيظل دوماً ثوباً متهالكاً.» وينهض يهوذا ويبتعد.

 

مريم تزيد في انحناء رأسها فوق عملها بينما كان يهوذا يتكلّم، أمّا يُوَنّا فقد رفعته، مُـحَدِّقة بسخط بالأرعن. إليز أيضاً قد رفعته، إنّما بعدها اقتدت بمريم، وكذلك نيقي. سُوسَنّة جحظت عينيها الكبيرتين، منذهلة، ونظرت إلى يسوع بدلاً مِن الرسول، كما للتساؤل لماذا لم يتفاعل. واحدة منهنّ لم تتكلّم أو تقم بحركة. لكن مريم سالومة ومريم الّتي لحلفى، الأكثر شعبيّة، قد تبادلتا النظر هازّتين رأسيهما، وما أن غادر يهوذا، حتّى قالت سالومة: «إنّه هو الّذي رأسه في حال سيّئة!»

 

«نعم. ولهذا السبب لا يفهم شيئاً، ولا أدري حتّى ما إذا كنتَ قادراً على أن تعيده له إلى المكان الصحيح. لو كان ابني هكذا، لكنتُ هشّمتُه له تماماً. نعم، فقد صنعتُه له ليكون رأس بارّ، هكذا أهشّمه له. فَمِن الأفضل أن يكون الوجه ذا نَدَب، على أن يكون القلب كذلك!» تقول مريم الّتي لحلفى.

 

«كوني متسامحة يا مريم. لا يمكنكِ مقارنة أبنائكِ، الّذين نموا في عائلة فاضلة، في مدينة كالناصرة، بهذا الرجل.» يقول يسوع.

 

«أُمّه طيّبة، وأبوه لم يكن سيّئاً، بحسب ما سمعتُ منه.» تردّ مريم الّتي لحلفى.

 

«نعم. لكنّ قلبه لم يكن يخلو مِن كبرياء. لذلك فقد أبعد الابن عن أُمّه باكراً جدّاً، وهو أيضاً قد أسهم في تنمية الميراث الأخلاقيّ الّذي كان قد أعطاه لابنه، بإرساله إلى أورشليم. مِن المؤلم قول ذلك، لكنّ الهيكل ليس بالتأكيد المكان الّذي فيه يمكن تحجيم الكبرياء الموروث...» يقول يسوع.

 

«ما مِن مكان في أورشليم، وإن يكن مكان وجاهة، معدّ لتحجيم الكبرياء وأيّ عيب آخر.» تتنهّد يُوَنّا. وتضيف: «ولا حتّى أيّ مكان وجاهة آخر، سواء كان في أريحا أو في قيصريّة فيلبّس، في طبريّا كما في قيصريّة الأخرى...» وتخيط بسرعة، حانيةً رأسها فوق عملها بأكثر ممّا يلزم.

 

«إنّ مريم لعازر متسلّطة، إنّما لا كبرياء فيها.» تلاحظ نيقي.

 

«الآن. إنّما قبلاً كانت بغاية التكبّر، على عكس أبويها اللذين لم يكونا أبداً كذلك.» تجيب يُوَنّا.

 

«متى ستأتيان؟» تَسأَل سالومة.

 

«قريباً، إذا ما كان علينا أن نغادر خلال ثلاثة أيّام.»

 

«لنعمل بسرعة إذن. بالكاد لدينا الوقت لإنهاء كلّ شيء.» تحثّهنّ مريم الّتي لحلفى.

 

«لقد تأخّرنا بالمجيء بسبب لعازر، إنّما ذلك كان حسناً، فقد وفّر تعباً كثيراً على مريم.» تقول سُوسَنّة.

 

«إنّما أتشعرين بأنّكِ قادرة على هكذا مسير طويل؟ إنّكِ شاحبة ومتعبة جدّاً أيا مريم!» تَسأَل مريم الّتي لحلفى واضعةً يدها على ركبتيّ مريم وناظرةً إليها بأسى.

 

«أنا لستُ مريضة يا مريم، وبالتأكيد يمكنني السير.»

 

«مريضة لا. إنّما محزونة جدّاً يا أُمّي. إنّني لأبذل عشرة وعشرة أعوام مِن عمري، وأحتضن كلّ الآلام كي أعاود رؤيتكِ كما رأيتُكِ في المرّة الأولى.» يقول يوحنّا الّذي ينظر إليها بإشفاق.

 

«إنّما محبّتكَ هي بالفعل دواء يا يوحنّا. أشعر بأنّ قلبي يسكن لرؤيتي كم تحبّون ابني. إذ ما مِن سبب آخر لمعاناتي، ما مِن سبب آخر سوى رؤيتي إيّاه غير محبوب. فهنا، قربه وبينكم، أنتم الأوفياء جدّاً، أُزهِر مجدّداً. إنّما بالتأكيد… في الأشهر الأخيرة هذه… وحيدةً في الناصرة… بعدما رأيتُه يرحل وهو معذّب جدّاً، مُضطَهَد جدّاً… وسماعي كلّ تلك الإشاعات… آه! يا له مِن ألم! إنّما بقربة، فإنّني أرى، أقول: "على الأقلّ لدى يسوع أُمّه الّتي تعزّيه، الّتي تقول له كلاماً يغطّي الكلام الآخر"، وأرى أيضاً بأنّها لم تمت كلّ محبّة في إسرائيل. وأحظى بالسلام، بالقليل مِن السلام، ليس كثيراً… إذ إنّ...» مريم لا تقول المزيد. تخفض وجهها الّذي كانت قد رفعته كي تُكلّم يوحنّا، ولم يعد يُرى منه سوى أعلى جبهتها الّذي يصبغه بالأحمر انفعال صامت… ومِن ثمّ دمعتان تلتمعان فوق الثوب الداكن الّذي ترتقه.

 

يسوع يتنهّد وينهض مِن مكانه ويذهب ليجلس عند قدميها، أمامها، وهناك يُضجِع رأسه على ركبتيّ مريم، يُقبّل اليد الّتي تمسك القماش، ومِن ثمّ يلبث هكذا كطفل يرتاح. مريم تنزع الإبرة مِن القماش لئلّا تجرح ابنها، ثمّ تضع يدها اليمنى على رأس يسوع المنحني على ركبتيها، وترفع وجهها ناظرةً إلى السماء. إنّها حتماً تصلّي، رغم أنّ شفتيها لا تتحرّكان، كلّ مظهرها يُخبِر أنّها تصلّي. ثمّ تنحني لتُقبّل ابنها على شعره، قرب الصدغين المكشوفين.

 

الآخرون لا يتكلّمون إلى أن تقول مريم سالومة: «إنّما كم يستغرق يهوذا! ستغرب الشمس! ولن أرى جيّداً!»

 

«ربّما استوقفه أحدهم.» يجيب يوحنّا، ويَسأَل أُمّه: «أتريدينني أن أذهب كي أستعجله؟»

 

«تُحسِن صنعاً. لأنّه، إن لم يجد القماش المماثل، فسوف أُقَصّر لكَ الكُمّين، لا سيما أنّ الصيف يُقبِل، ومِن أجل الخريف سوف أعدّ لكَ ثوباً آخر، حيث أنّ هذا لن يعود ينفع، ومع التقصير فسأصلحه لكَ هنا. سيكون نافعاً للذهاب إلى الصيد. فحتماً ستعودون إلى الجليل بعد عيد الخمسين...»

 

«إذن سأذهب.» يقول يوحنّا، وبلطف دائماً، يَسأَل النسوة الأخريات: «ألديكنّ ثياباً جاهزة يمكنني حملها إلى منازلنا؟ إن نعم، فأعطينني إيّاها، سيكون حملكنّ أخفّ عند العودة.»

 

النسوة يجمعن ما أصلحنه ويعطينه ليوحنّا، الّذي يستدير كي يمضي، لكنّه يتوقّف فوراً وقد رأى مريم الّتي ليعقوب تصل وهي تجري.

 

العجوز الطيّبة تجري متثاقلةً بقدر ما تسمح لها سنواتها الكثيرة، وتصيح بيوحنّا: «هل المعلّم هنا؟»

 

«نعم يا أُمّي، ماذا تريدين؟»

 

المرأة تجيب وهي تتابع الجري: «آدا بحال سيّئة… وزوجها يودّ أن يعزّيها باستدعاء يسوع… إنّما منذ كان أولئك السامريّون… الأشرار جدّاً، فلم يجرؤ… وقد قلتُ له: "إنّكَ لا تعرفه بعد. أنا أذهب ولن… يقول لي لا".» العجوز تلهث مِن الجري والصعود.

 

«لا تركضي بعد. فأنا آتٍ معكِ. أو بالأحرى أتقدّمكِ. أنتِ اتبعينا بهدوء. إنّكِ عجوز يا أُمّي، على هكذا جري.» يقول لها يسوع. ومِن ثمّ يقول لأُمّه والتلميذات: «أنا باقٍ في البلدة. السلام لكنّ.»

 

يُمسك يوحنّا مِن ذراعه وينزل معه مسرعاً. العجوز، وقد استردّت أنفاسها، تهمّ باللحاق بهما بعدما أجابت النسوة اللواتي يستجوبنها: «همم! وحده الرابّي قادر على إنقاذها، وإلّا ستموت مثل راحيل. إنّها تبرد وتفقد قواها وتتشنّج في اختلاجات الألم.»

 

لكنّ النسوة يستوقفنها قائلات لها: «إنّما ألم تجرّبن آجرّاً ساخناً أسفل الكليتين؟»

 

«لا! مِن الأفضل لفّها بصوف مُشبّع بنبيذ معطّر، بأسخن ما يمكن.»

 

«بالنسبة لي قد نفعني عند ولادتي ليعقوب دَهْن الزيت، ومِن ثمّ الآجرّ الساخن.»

 

«اجعلنها تشرب كثيراً.»

 

«لو كان بإمكانها الوقوف والقيام ببضع خطوات، وفي تلك الأثناء إحداهنّ تفرك لها خاصرتيها بقوّة.»

 

النسوة-الأُمّهات، أي كلّهنّ ما عدا نيقي وسُوسَنّة، ومريم الّتي لم تُعانِ آلام كلّ امرأة بولادة الابن، يوصين بهذا أو ذاك.

 

«كلّ شيء! لقد تمّت تجربة كلّ شيء. إنّما خاصرتاها متعبتان جدّاً. إنّه الولد الحادي عشر! إنّما أمضي الآن. لقد استرحتُ. صلّين لتلك الأُمّ! ليحفظها العليّ حيّة إلى أن يصل الرابّي إليها.» وتمضي باستعجال، العجوز المسكينة الوحيدة والطيبة.

 

يسوع في تلك الأثناء ينزل سريعاً صوب البلدة الّتي تدفئها الشمس. يدخل البلدة مِن الموضع المقابل لمكان وجود منزلهم، أي مِن الشمال الغربي لأفرايم، فيما منزل مريم الّتي ليعقوب هو في الجنوب الشرقي. يسير مسرعاً، دون أن يتوقّف للتحدّث إلى مَن يودّون إيقافه. إنّه يحيّيهم ويمضي.

 

رجل يلاحظ: «إنّه مستاء منّا. أولئك الّذين مِن القرى الأخرى قد أساؤوا التصرّف. معه حقّ.»

 

«لا. إنّه ذاهب إلى عند يانوح. إنّ امرأته تموت في ولادتها الحادية عشرة.»

 

«يا للأبناء المساكين! والرابّي يذهب إلى هناك؟ المثلّث الطيبة، المهان، ويغدق أعمال خير.»

 

«لكنّ يانوح لم يسئ إليه! لا أحد منّا أساء إليه!»

 

«إنّما يظلّون أناساً مِن السامرة.»

 

«إنّ الرابّي عادل ويُحسِن التمييز. هيّا بنا كي نرى المعجزة.»

 

«لن نستطيع الدخول. إنّها امرأة وعلى وشك أن تلد.»

 

«لكنّنا سنسمع المولود الجديد يبكي، وسيكون صوت معجزة.»

 

«يهرعون كي يلحقوا بيسوع. كذلك آخرون ينضمّون إليهم كي يروا.»

 

يسوع يصل إلى المنزل المكروب بالفاجعة الوشيكة. الأبناء العشرة -الأكبر هي فتاة صغيرة تبكي، يلتصق بها إخوتها الأصغر منتحبين- يقبعون في زاوية الردهة قرب الباب المفتوح على مصراعيه. نسوة يرحن ويجئن، أصوات همس، وقع أقدام حافية تهرع على الآجرّ [الطوب] المرصوف.

 

إحدى النسوة ترى يسوع وتصيح: «يانوح! تحلّى بالرجاء! لقد أتى!» وتمضي مسرعة مع إبريق يدخّن.

 

يهرع رجل، يسجد. لا يقوم إلّا بإيماءة واحدة ويقول: «أؤمن. الرحمة. لأجل هؤلاء.» ويشير إلى الأبناء.

 

«انهض وتشجّع. إنّ العليّ يُعين مَن يتحلّى بالإيمان، ويرحم أبناءه المحزونين.»

 

«آه! تعال يا معلّم! تعال! لقد غدت سوداء. خنقتها الانقباضات. ما عادت تتنفّس تقريباً. تعال!» الرجل، وقد فقد صوابه، ويفقده كلّياً عندما يسمع صياح واحدة مِن النسوة تنادي: «يانوح، أَسرِع! آدا تموت!» يدفع، يسحب يسوع، ليجعله يمضي بسرعة، بسرعة، بسرعة، صوب غرفة المحتضرة، غير سامع لكلام يسوع الّذي يقول: «اذهب وتحلَّ بالإيمان!»

 

الرجل المسكين يتحلّى بالإيمان، إنّما ما ينقصه هو القدرة على إدراك معنى هذا الكلام، المعنى السرّيّ الّذي يمنحه حتمية المعجزة. ويسوع، مدفوعاً ومسحوباً، يصعد الدرج كي يدخل الغرفة حيث توجد المرأة. لكنّ يسوع يتوقّف عند صَحن الدرج، على بُعد حوالي ثلاثة أمتار مِن الباب المفتوح، الّذي يسمح برؤية وجه باهت، بالأحرى شاحب، مشدود بقسمات الاحتضار. النسوة ما عدن يحاولن شيئاً. لقد قمن بتغطية المرأة حتّى الذقن وينظرن. إنّهن مترقّبات بانتظار الوفاة.

 

يسوع يبسط ذراعيه ويصيح: «أشاء!» ويستدير ليرحل.

 

الزوج، النسوة، الفضوليّون، الّذين تجمّعوا، يلبثون خائبين لأنّهم ربّما كانوا يأملون بأنّ يسوع سيعمل أمراً فائقاً، أن يُولَد الطفل فوراً. لكنّ يسوع، وهو يشقّ لنفسه طريقاً ويحدّق بهم فيما يمرّ مِن أمامهم، يقول: «لا تَشكّوا. قليل مِن الإيمان بعد. لحظة. على المرأة أن تدفع الضريبة المريرة للولادة. لكنّها في حال جيّدة.» وينزل الدرج تاركاً إيّاهم منذهلين. في لحظة خروجه إلى الشارع، قال للأطفال العشرة وهو يمرّ: «لا تخافوا! إنّ أُمّكم قد أُنقذت.» وبينما يقول ذلك يُلامس بيده الوجوه الصغيرة الخائفة. في هذه الأثناء صيحة مدوّية يتردّد صداها في أرجاء المنزل وتصل حتّى الشارع، حيث تصل في تلك اللحظة مريم الّتي ليعقوب الّتي تصرخ: «الرحمة!» ظنّاً منها أنّ تلك الصيحة تنبئ بالموت.

 

«لا تخافي يا مريم! وأسرعي! سوف ترين الصغير يولد. لقد عادت القوى مع الآلام. إنّما بعد قليل سيكون الفرح.»

 

يمضي مع يوحنّا. لا أحد يلحق به، لأنّ الجميع يريدون رؤية إن كانت المعجزة ستتمّ، لا وبل يهرع آخرون نحو المنزل، لأنّ خبر ذهاب الرابّي لتخليص آدا قد انتشر. وهكذا فإنّ يسوع، وقد سلك درباً ثانويّاً، يستطيع أن يذهب دونما إعاقات إلى أحد المنازل حيث يدخل منادياً: «يهوذا! يهوذا!» لا أحد يردّ.

 

«لقد ذهب إلى هناك فوق يا معلّم. بإمكاننا نحن أيضاً أن نذهب إلى المنزل. أضع هنا ثياب يهوذا، سمعان وأخيكَ يعقوب، ومِن ثمّ سوف أضع الأخرى الّتي لسمعان بطرس، أندراوس، توما وفيلبّس في منزل حنّة.»

 

هذا ما يفعلانه، وأُدرِك أنّه، لتوفير مكان للتلميذات، فإنّ الرُّسُل قد ذهبوا إلى منازل أخرى، إن لم يكن كلّهم، فعلى الأقلّ قسم منهم.

 

الآن وقد تحرّرا مِن الثياب، فإنّهما يمضيان وهما يتحدّثان فيما بينهما صوب منزل مريم الّتي ليعقوب، ويدخلانه عبر باب البستان الصغير، غير المقفل. المنزل صامت وفارغ. يوحنّا يرى جرّة مليئة بالماء موضوعة على الأرض، وربّما لاعتقاده بأن المرأة العجوز قد وضعتها هناك قبل أن يتمّ استدعاؤها كي تعين المرأة، فإنّه يحملها ويتوجّه صوب غرفة مقفلة. يسوع يتأخّر في الممرّ كي يخلع رداءه ويطويه بعنايته المعتادة قبل وضعه على صندوق الممرّ. يوحنّا يفتح الباب ويُطلِق «آه!» مرعوبة تقريباً. يترك الجرّة تسقط ويُغلِق عينيه بيديه، منحنياً كما كي يتضاءل ليختفي، كي لا يَرى. مِن الغرفة يصل صوت نقود تتبعثر على الأرض وهي ترنّ.

 

يسوع أصبح عند الباب. لقد استغرقني الوصف وقتاً أكثر مِن الوقت الّذي استغرقه هو كي يصل. إنّه يزيح يوحنّا، الّذي يئنّ: «ارحل! ابتعد!» يفتح الباب الـمُوارَب. يدخل. إنّها الغرفة حيث النسوة يتناولن الطعام مذ وصلن إلى هنا. فيها صندوقان عتيقان مدعّمان بالحديد، وأمام أحدهما، بالضبط أمام الباب، هناك يهوذا، شاحب الوجه، عيناه ممتلئتان غضباً وفزعاً في ذات الوقت، وكيس مال في يديه… إنّ الصندوق المدعّم مفتوح… وعلى الأرض تبعثرت نقود، وأخرى تسقط أرضاً وهي تنزلق على حافة الصندوق خارجة مِن كيس مال، مفتوح تماماً، نصف مائل. كلّ شيء، بطريقة لا يمكن أن تدع مجالاً للشكّ، يشهد بما يحدث. يهوذا قد دخل إلى المنزل، فتح الصندوق وسرق. لقد كان يسرق.

 

لا أحد يتكلّم. لا أحد يتحرّك. إنّما ذلك هو أسوأ ممّا لو كان الجميع كانوا يصيحون وينقضّون على بعضهم البعض. ثلاثة تماثيل: يهوذا الشيطان، يسوع الدّيان، يوحنّا الـمُروَّع مِن انكشاف وضاعة رفيقه.

 

إنّ يد يهوذا، الّتي تمسك كيس المال، ترتجف، وقطع النقود الموجودة داخلها تُسمِع صوتاً مخنوقاً.

 

يوحنّا يرتعش كلّياً، ورغم أنّه لبث ويداه تُطبِقان على فمه، فإنّ أسنانه تصطكّ، فيما عيناه الخائفتان تنظران إلى يسوع أكثر منه إلى يهوذا.

 

يسوع لا يرتعش. إنّه منتصب وبارد، بارد بحقّ من فرط ما هو صارم.

 

أخيراً يخطو خطوة، يقوم بحركة، ويتلفّظ بكلمة. خطوة نحو يهوذا. حركة، إشارة إلى يوحنّا بأن ينسحب، كلمة: «اذهب!»

 

لكنّ يوحنّا خائف يئنّ: «لا! لا! لا تصرفني. دعني هنا… لن أقول شيئاً… إنّما دعني هنا، معكَ.»

 

«اذهب! لا تخف! أغلق كلّ الأبواب… وإن أتى أحد… أيّاً كان… حتّى أُمّي… فلا تدعهم يأتون إلى هنا. هيّا. أَطِع!»

 

«يا ربّ!...» يبدو يوحنّا هو المذنب مِن فرط ما هو مُتوسِّل ومُنسَحِق.

 

«اذهب، أقول لكَ. لن يحدث شيء. اذهب.» ويُلطّف يسوع أمره بوضع يده على رأس المفضّل بحركة مداعبة. وأرى أنّ هذه اليد ترتجف الآن. ويوحنّا يشعر بها ترتجف، ويمسك بها ويُقبّلها بنحيب يُفصح عن أمور كثيرة. يخرج. يسوع يغلق الباب بمزلاج. يعاود الالتفات لينظر إلى يهوذا، الّذي يُفتَرَض أن يكون منسحقاً جدّاً، بما أنّه، هو الشديد الوقاحة، لا يجرؤ على قول كلمة أو الإتيان بحركة.

 

يسوع يمضي إلى أمامه مباشرةً، دائراً حول الطاولة الّتي تتوسّط الغرفة. لا أُحسِن القول فيما إذا كان يمضي سريعاً أو على مهل. إنّ وجهه يخيفني بحيث أعجز عن تقدير الوقت. أرى عينيه وأخاف مثل يوحنّا. يهوذا نفسه خائف، يقف بين الصندوق ونافذة مفتوحة على مصراعيها، حيث يسقط منها نور الغروب الأحمر على يسوع.

 

أيّ عينين ليسوع! هو لا يقول كلمة. إنّما عندما يرى أن نوعاً مِن خطّاف [كلّاب] يبرز مِن حزام ثوب يهوذا، فتبدر منه ردّة فعل مخيفة. يرفع ذراعه وقبضته مطبقة كما ليضرب السارق، وفمه يهمّ بلفظ كلمة: «ملعون!» لكنّه يتمالك نفسه. يُوقِف ذارعه الّتي أوشكت أن تهوي ويقطع الكلمة عند الحروف الثلاثة الأولى. وكي يتمالك نفسه، يبذل مجهوداً يجعله يرتجف بكلّيته، وينتهي به الأمر إلى فرد قبضته المطبقة، وخفض ذراعه المرفوعة إلى مستوى كيس المال الّذي في يد يهوذا، وانتزاعه ليرميه على الأرض، قائلاً بصوت مخنوق وهو يدوس كيس المال وقطع النقود ويبعثرها بحنق مكبوت إنّما رهيب: «بعيداً! أيا قذارة الشيطان! أيّها الذهب الملعون! يا بصقة الجحيم! يا سمّ الحيّة! بعيداً!»

 

يهوذا، الّذي أطلق صرخة مخنوقة عندما رأى يسوع على وشك لعنه، لا يعود يُبدي أيّة ردّة فعل. إنّما صيحة أخرى تتردّد مِن وراء الباب المقفل حين يرمي يسوع كيس المال على الأرض. وصيحة يوحنّا هذه تغيظ السارق وتعيد إليه جسارته الشيطانيّة. إنّها تجعله حانقاً. إنّه تقريباً ينقضّ على يسوع صارخاً: «لقد عملتَ على أن تتجسّس عليَّ كي تهينني. أن تتجسّس عليَّ عبر صبيّ أحمق لا يُحسِن حتّى الصمت، الّذي سيفضحني أمام الجميع! إنّما هذا ما كنتَ تريده. وفوق ذلك… نعم! هذا ما أريده أنا أيضاً. أريد هذا! حمْلك على طردي! على لعني! على لعني! على لعني! لقد حاولتُ كلّ شيء كي أُطرَد.» إنّه أجشَّ بفعل الغضب وقبيح مثل شيطان. إنّه يلهث كما لو أنّ به شيئاً ما يخنقه.

 

يسوع يردّد له، بصوت خافت إنّما رهيب: «سارق! سارق! سارق!» ويُنهي قائلاً: «اليوم سارق. غداً قاتل. مثل باراباس. أسوأ منه.» ينفخ بهذه الكلمات في وجهه، لأنّهما الآن، عند كلّ جملة، يدنوان مِن بعضهما أكثر.

 

يهوذا، يستردّ أنفاسه، ويجيب: «نعم. سارق. وبسببكَ. إنّ كلّ الشرّ الّذي أرتكبه هو بسببكَ، وأنتَ لا تتعب أبداً مِن تدميري. إنّكَ تخلّص الجميع. تمنح محبّةً وتقديراً للجميع. تقبل الخطأة، والبغايا لا ينفّرنّكَ، تعامل اللصوص والمرابين وقوّادي زكّا معاملة أصدقاء، تستقبل جاسوس الهيكل كما لو أنّه المَسيّا، يا لكَ مِن أحمق! وتجعل جاهلاً رئيساً علينا، وعشّاراً خازناً، وأحمقاً مؤتمناً على أسراركَ. ولي تحسب أدنى قطعة نقد، لا تترك لي مالاً، تبقيني قربكَ مثل محكوم عليه في مكانه على مقعد المجذِّف، إنّكَ حتّى لا تريدنا، أقول لا تريدنا إنّما أنا، أنا وحدي الّذي يتوجّب عليَّ ألّا أقبل صدقة المسافرين. وذلك كي لا ألمس أنا المال الّذي أمرتَ بعدم أخذه مِن أيّ أحد. لأنّكَ تكرهني. والحال: فأنا أيضاً أكرهكَ! إنّكَ لم تُحسِن ضربي ولعني منذ قليل. لكانت لعنتكَ تحيلني رماداً. لماذا لم تقلها؟ لكنتُ فضّلتُها على أن أراكَ عاجزاً هكذا، ضعيفاً هكذا، إنساناً منتهياً، إنساناً مهزوماً...»

 

«أُصمت!»

 

«لا! هل تخشى أن يسمع يوحنّا؟ هل تخشى أنّ يفهم أخيراً مَن أنتَ ويترككَ؟ آه! إنّ بكَ هذا الخوف، أنتَ الّذي تظهر بمظهر البطل! نعم، أنتَ خائف! وتخافني. تخاف! لهذا لم تُحسِن لعني. لهذا تتصنّع المحبّة بينما أنتَ تكرهني! كي تتملّقني! كي تبقيني هادئاً. أنتَ تعلم بأنّني قوّة! تعلم بأنّني القوّة. القوّة الّتي تكرهكَ والّتي ستغلبكَ! لقد وعدتُكَ بأنّني سأتبعكَ حتّى الموت مانحاً لكَ كلّ شيء، وقد منحتُكَ كلّ شيء، وسأبقى قربكَ حتّى تحين ساعتكَ وتحين ساعتي. الـمَلِك العظيم الّذي لا يُحسِن اللعن والطرد! مَلِك الغيوم! الـمَلِك الصَنَم! الـمَلِك الأبله! الكاذب! الخائن لمصيركَ ذاته. لطالما احتقرتَني، منذ لقائنا الأوّل. إنّكَ لم تُحسِن استيعابي. كنتُ أظنّكَ حكيماً. إنّكَ معتوه. كنتُ أُعلّمكَ الدرب الجيدة. إنّما أنتَ… آه! أنتَ الطاهر! أنتَ الخليقة الّتي هي إنسان إنّما هي الله، وتزدري نصائح الذكيّ. لقد أخطأتَ منذ اللحظة الأولى وتخطئ. أنتَ… أنتَ… آه!»

 

نهر الكلمات يتوقّف فجأةً، وبعد ذلك يخيّم صمت مُحزن بعد كثير مِن الصياح، وجمود جنائزيّ بعد حركات كثيرة. فبينما كنتُ أكتبُ دون التمكّن مِن قول ما كان يحدث، كان يهوذا، المنحني، الّذي يشبه، نعم، الّذي يشبه كلباً شرساً يترصّد فريسته ويقترب منها، مستعدّاً للانقضاض عليها، يقترب أكثر فأكثر مِن يسوع، بوجه لا يمكن احتمال النظر إليه، يداه متشنّجتان، مرفقاه مشدودان إلى جسده، تماماً كما لو كان يهمّ بمهاجمة يسوع، الّذي لا يُظهِر أدنى خوف، وحتّى يدير ظهره للآخر -الّذي قد ينقضّ عليه ويقفز على عنقه، إنّما لا يفعل ذلك- كي يفتح الباب، وينظر إلى الممرّ ليرى إن كان يوحنّا قد غادر بالفعل. الممرّ خاوٍ وشبه مظلم، ذلك أنّ يوحنّا قد أغلق الباب المؤدّي إلى البستان بعد خروجه مِن هناك. حينئذ يعاود يسوع إغلاق الباب وإقفاله بالمزلاج، ويستند عليه، منتظراً، مِن دون حركة أو كلمة، تلاشي هيجان يهوذا.

 

أنا لستُ خبيرة. إنّما أظنُّ أنّني لا أخطئ بالقول أنّ الشيطان بذاته قد تكلّم بفم يهوذا، أنّ هذه هي لحظة مسّ شيطانيّ جليّ للرسول الضالّ، الّذي أضحى على عتبة الجريمة، هالكاً بالفعل بإرادته الخاصّة. الطريقة ذاتها الّتي انقطع بها نهر الكلمات، تاركةً الرسول كالمذهول، تذكّرني بمشاهد استحواذ أخرى قد رأيتُها خلال الأعوام الثلاثة مِن حياة يسوع العامّة.

 

يسوع، وقد أسند ظهره إلى الباب، الأبيض بكلّيته على خلفيّة الخشب القاتم، لا يأتي بأدنى حركة. وحدهما عيناه تلقيان على الرسول نظرة نافذة ألماً وحماساً. وإن كان يمكن القول إنّ العينين تصلّيان، فإنّني أقول إنّ عينيّ يسوع تصلّيان فيما هو ينظر إلى البائس، بالفعل ليست الهيمنة هي فقط ما يخرج مِن هاتين العينين الحزينتين، إنّما أيضاً اتّقاد صلاة. ثمّ، عند انتهاء مشاحنة يهوذا، يسوع يفتح ذراعيه اللتين كان قد أبقاهما مشدودتين إلى جسده، لكنّه لا يفتحهما كي يلمس يهوذا، ولا كي يقوم بحركة نحوه أو لفتحهما نحو السماء. إنّه يفتحهما أفقياً، متّخذاً وضعية المصلوب، هناك، عند الخشب القاتم والجدار المائل إلى الحُمرة. حينذاك تتباطأ الكلمات الأخيرة في فم يهوذا، وتخرج تلك الـ «آه!» الّتي تقطع حديثه.

 

يبقى يسوع كما هو، ذراعاه مفتوحان، وينظر دوماً إلى الرسول بتلك النظرة المتألّمة والـمُصلّية. ويهوذا، مثل شخص يخرج مِن هذيان، يمرّر يده على جبهته، على وجهه المتعرّق… يفكّر، وإذ يتذكّر كلّ شيء، فإنّه ينهار أرضاً، ولا أدري إن كان يبكي أم لا. بالتأكيد هو يتهاوى أرضاً كما لو أنّ قواه قد خارت.

 

يسوع يخفض نظره وذراعيه، وبصوت خافت إنّما واضح يقول له: «إذن؟ هل أكرهكَ؟ يمكنني أن أضربكَ بقدمي، أن أسحقكَ معتبراً إياكَ "دودة"، يمكنني أن ألعنكَ، كما نجّيتكَ مِن القوّة الّتي تجعلكَ تهذي. لقد ظننتَ استحالة لعني لكَ ضعفاً. آه! إنّها ليست ضعفاً! الأمر هو أنّني المخلّص. والمخلّص لا يستطيع أن يلعن. يستطيع أن يخلّص. يريد أن يخلّص… لقد قلتَ: "أنا القوّة. القوّة الّتي تكرهكَ والّتي ستغلبكَ". أنا أيضاً القوّة، لا بل أنا القوّة الوحيدة. لكنّ قوّتي ليست كراهية. إنّها محبّة. والمحبّة لا تكره ولا تلعن، مطلقاً. يمكن للقوّة أيضاً أن تكسب المبارزات كما هذه الّتي بيني وبينكَ، بيني وبين الشيطان الّذي هو فيكَ، وأن تنزع منكَ سيّدكَ، إلى الأبد، كما فعلتُ الآن حيث غدوتُ العلامة الّتي تخلّص، التاو الّذي لا يستطيع لوسيفر أن يراه. يمكنها أن تكسب تلك المعارك الفرديّة، كما ستكسب تلك المقبلة ضدّ إسرائيل الجاحد والقاتل، ضدّ العالم وضدّ الشيطان المغلوب بالفداء. يمكنها أيضاً أن تكسب هذه المعارك الفرديّة كما ستكسب تلك الأخيرة، البعيدة بالنسبة لمن يحصي العصور، القريبة لمن يقيس الزمن مقارنة بالأبديّة. إنّما بماذا يفيد خرق شرائع أبي الكاملة؟ أيكون ذلك عدلاً؟ أيكون استحقاقاً؟ لا. لن يكون عدلاً ولا استحقاقاً. ليس عدلاً حيال البشر المذنبين الآخرين، الّذين لن تُنتَزَع منهم حرّية أن يكونوا كذلك، الّذين في اليوم الأخير قد يسألونني ويلومونني عن مبرّر إدانتهم وتحيّزي حيالكَ وحدكَ. سيكونون عشرات ومئات الآلاف، سبعين مرّة عشرات ومئات الآلاف، أولئك الّذين سيرتكبون خطاياكَ ذاتها ويستسلمون للشيطان بإرادتهم الخاصّة، والّذين سيسيئون إلى الله، سيكونون مُعذِّبين آباءهم وأُمّهاتهم، قتلة، لصوص، كذبة، زناة، فاجرين، مُدنِّسين للقدسيّات، وأخيراً قتلة الله، بقتلهم المسيح جسديّاً في يوم قريب، بقتله روحيّاً في قلوبهم في الأزمنة المستقبليّة. وكلّهم يمكنهم أن يقولوا لي، حين سآتي لفصل الحملان عن الكِباش، لأبارك الفئة الأولى وألعن، إذ ذاك نعم، لألعن الثانية، لألعن حيث آنذاك لن يعود هناك فداء، إنّما مجد أو إدانة، لألعنها مجدّداً بعدما كنتُ قد لعنتُها عند موتها أوّلاً، وعند دينونتها الفرديّة. فالإنسان، وأنتَ تعلم ذلك لأنّكَ سَمِعتَني أقوله مئات وآلاف المرّات، الإنسان بإمكانه تخليص نفسه طالما تدوم حياته، حتّى نَفَسه الأخير. تكفي لحظة، جزء مِن ألف مِن دقيقة، كي يكون كلّ شيء قد قيل بين النَّفْس والله، لتطلب المغفرة وتنال الغفران... كلّهم، كنتُ أقول، يمكنهم أن يقولوا لي، كلّ أولئك الهالكين: "لماذا لم تقيّدنا إلى الخير كما فعلتَ مع يهوذا؟" ويكونون على حقّ. فكلّ إنسان يولد بذات الأمور الطبيعيّة والفائقة الطبيعة: جسد، نَفْس. وفيما الجسد، كونه مولوداً مِن بشر، يمكن أن يكون متيناً وسليماً بشكل متفاوت عند الولادة، فإنّ النَّفْس، وقد خلقها الله، وهي متماثلة لدى الجميع، فهي ممنوحة ذات الخصائص، وذات الهبات مِن الله. فبين نَفْس يوحنّا، أقصد المعمدان، ونَفْسكَ، لم يكن هناك اختلاف حينما بُثّتا في الجسد. ومع ذلك أقول لكَ، إنّه حتّى ولو لم تكن النعمة قدّ قدّسته مسبقاً، كيما يكون بشير المسيح بلا دَنَس، كما يجدر بكلّ مَن يبشّرون بي أن يكونوا، أقلّه فيما يخص الخطايا الراهنة، فإنّ نَفْسه كانت لتكون، كانت لتغدو مختلفةً جدّاً عن نفسكَ. أو بالأحرى كانت نفسكَ لتغدو مختلفة عن نفسه. فهو كان ليحفظ نَفْسه في نضارة البراءة، لا بل كان ليزيّنها أكثر فأكثر بالبرّ، مؤازراً مشيئة الله الّتي تبتغيكم أبراراً، بتنمية المواهب المجّانيّة المتلقّاة بكمال أكثر بطولة على الدوام. أنتَ… على العكس... فقد قوّضتَ نَفْسكَ وبدّدتَ المواهب الّتي منحها الله لها. ماذا فعلتَ بحرّية اختياركَ؟ بذكائكَ؟ هل حفظتَ لروحكَ الحرّية الّتي كان ينعم بها؟ هل استخدمتَ ذكاء روحكَ بفطنة؟ لا. أنتَ، أنتَ لا تريد أن تطيعني أنا، لا أقصد أنا-الإنسان، إنّما حتّى أنا-الله، لقد أطعتَ الشيطان. لقد استخدمتَ ذكاء فكركَ وحرّية روحكَ كي تُدرِك الظلمات. طواعيةً. لقد وُضِعت أمام الخير والشرّ، وقد اخترتَ الشرّ. لا بل لم توضع سوى أمام الخير: أنا، الأزليّ خالقكَ، الّذي واكب تطوّر نَفْسك، لا بل الّذي كان يعرف هذا التطور، لأنّ الفِكر الأزليّ لا يجهل شيئاً ممّا يُفعل مذ وُجِد الزمن، لقد وضعكَ أمام الخير، فقط الخير، لأنّه يعلم أنّكَ أضعف مِن طحلب حفرة. لقد صحتَ بوجهي أنّني أكرهكَ. وكَوني واحداً مع الآب ومع المحبّة، واحداً هنا كما في السماء، -فحيث أنّ فيَّ الطبيعتين، والمسيح، بطبيعته البشريّة، وطالما لم يحرّره الانتصار مِن المحدوديّة البشريّة، فهو في أفرايم ولا يمكنه أن يكون في مكان آخر في هذه اللحظة؛ وكما الله: كلمة الله، فأنا في السماء كما على الأرض، كَون ألوهتي كلّيّة الوجود على الدوام، وكلّية القدرة- والحال أنّني واحد مع الآب والروح القدوس، فإنّ الاتّهام الّذي وجّهتَه إليَّ، لله الواحد والثالوث قد وجّهتَه. ضدّ الله-الآب هذا: الّذي خلقكَ بدافع محبّة، ضدّ الله-الابن هذا: الّذي تجسّد كي يخلّصكَ بدافع محبّة، ضدّ الله-الروح الّذي كلّمكَ مرّات كثيرة كي يمنحكَ رغبات صالحة، بمحبّة. ضدّ هذا الله الواحد والثالوث، الّذي أحبّكَ كثيراً، الّذي قادكَ على دربي، بجعلكَ أعمىً عن العالم كي يمنحكَ الوقت لرؤيتي، أصمّاً عن العالم كي يمنحكَ إمكانيّة سماعي. وأنتَ!... وأنتَ!... بعدما رأيتَني وسمعتَني، بعدما أتيتَ بحرّية إلى الخير، مُدرِكاً بذكائكَ أنّ هذا كان الدرب الوحيد للمجد الحقّ، رفضتَ الخير ووهبتَ نفسكَ بحرّية للشرّ. إنّما إن أنتَ، بإرادتكَ الحرّة، قد أردتَ هذا، إن أنتَ رفضتَ دوماً بوقاحة أكثر فأكثر يدي الّتي كانت تمتدّ لكَ كي تسحبكَ خارج الدوّامة، إن أنتَ ابتعدتَ دوماً أكثر عن المرفأ كي تغوص في البحر الهائج للشهوات، للشرّ، أيمكنكَ أن تقول لي أنا، لمن أنبثق منه، لمن جعلني إنساناً في محاولة لتخليصكَ، أيمكنك أن تقول أنّنا كرهناك؟ لقد وَجَّهتَ لي اللوم بأنّني أريد بكَ شرّاً… كذلك الطفل المريض يلوم الطبيب وأُمّه على الأدوية الـمُرّة الّتي يجعلانه يشربها وعلى الأشياء المرغوبة الّتي يمنعانه عنها لخيره. إنّ الشيطان قد جعلكَ بغاية العمى والجنون، إلى درجة أنّكَ لم تعد تفهم الطبيعة الحقيقيّة للاحتياطات الّتي اتّخذتُها لمصلحتكَ، وبحيث أمكنك التوصّل لأن تسمّي: سوء نيّة، رغبة في إهلاكك، ما هو رعاية حريصة مِن معلّمكَ، مِن مخلّصكَ، مِن صديقكَ لشفائكَ؟ لقد أبقيتُكَ إلى جانبي… انتزعتُ المال مِن يديكَ. منعتُكَ مِن لمس هذا المعدن الملعون الّذي يجعلكَ مجنوناً… إنّما ألا تعلم، ألا تدرك بأنّه مثل أحد تلك المشروبات السحريّة، الّتي تثير عطشاً لا يُطفأ، الّتي تسبّب حُمّى في الدم، هيجاناً يقود إلى الموت؟ أنتَ، أقرأ فكركَ، تلومني: "فلماذا إذن تركتني لفترة طويلة أكون المسؤول عن المال؟ لماذا؟ لأنّني لو منعتُكَ مِن لمس المال قبلاً، لكنتَ بعتَ نفسكَ بشكل أبكر وسرقتَ بشكل أبكر. إنّما قد بعتَ نفسكَ على أيّ حال، لأنّكَ كنتَ تستطيع أن تسرق أشياء قليلة… إنّما أنا كان عليَّ أن أحاول منع ذلك مِن دون إكراه حرّيتكَ. الذهب هو هلاككَ. بسبب الذهب غدوتَ فاجراً وخائناً...»

 

«هو ذا! لقد صدّقتَ كلام صموئيل! أنا لستُ...»

 

يسوع، الّذي أصبح كلامه أكثر حيويّة باطّراد، إنّما مِن دون أن يتّخذ نبرة عنيفة أو مُنذِرة بالعقاب، يُطلق صيحة هيمنة غير متوقّعة، أقول محتدمة. يرشق بنظره الوجه الّذي رفعه يهوذا كي يقول ذاك الكلام ويفرض عليه «أُصمت.» تبدو كدويّ صاعقة.

 

يهوذا يخرّ ثانيةً على عقبيه ولا يعود يفتح فمه.

 

يسود صمت يعاود فيه يسوع، بجهد ظاهر، استعادة السيطرة على بشريّته برباطة جأش، بسيطرة قادرة لدرجة أنّها تشهد بذاتها على الألوهيّة الّتي فيه. يعاود الكلام بصوته المعتاد، الدافئ، العذب حتّى عندما يكون صارماً، مقنعاً، آسراً… وحدها الشياطين يمكنها مقاومة هذا الصوت.

 

«لستُ بحاجة لأن يتكلّم صموئيل أو أيّاً كان كي أعرف أفعالكَ. إنّما، يا أيّها البائس! أتعلم أمام مَن أنتَ؟ حقاً! أنتَ تقول بأنّكَ لم تعد تفهم الأمثال الّتي أقولها. لم تعد تفهم كلامي. أيّها البائس المسكين! إنّكَ لم تعد تفهم حتّى نفسكَ. لم تعد تفهم ولا حتّى الخير والشرّ. إنّ الشيطان الّذي منحتَ نفسكَ له بأشكال متعدّدة، الشيطان الّذي تبعتَه في كلّ التجارب الّتي كان يعرضها عليكَ، قد جعلكَ غبيّاً. ومع ذلك كنتَ تفهمني فيما مضى! كنتَ تعتقد بأنّني أنا هو مَن أكون! وهذه الذكرى لم تنطفئ فيكَ. وهل يمكنكَ أن تعتقد أنّ ابن الله، أنّ الله بحاجة إلى كلام إنسان كي يعلم فِكر وأفعال إنسان آخر؟ لستَ فاسداً بعد إلى درجة عدم الاعتقاد بأنّني الله، وفي هذا تكمن خطيئتكَ الأعظم. فاعتقادكَ بأنّني كذلك يؤكّده الخوف الّذي انتابكَ مِن غضبي. أنتَ تشعر بأنّكَ لا تصارع إنساناً، إنّما الله ذاته، وترتعد. ترتعد لأنّكَ، أيا قايين، لا تستطيع رؤية الله إلّا باعتباره منتقماً لنفسه وللأبرياء. إنّكَ تخاف مِن أن يحصل لكَ كما حصل لقُورَحُ وَدَاثَانَ وَأَبِيرَامَ ولأتباعهم [العدد 16: 19-33]. ومع ذلك، ورغم علمكَ مَن أكون، فإنّكَ تصارع ضدّي. كان عليَّ أن أقول: "ملعون!" إنّما ما كنتُ لأصبح المخلّص… تودّ أن أطردكَ أنا. تقول إنّكَ تفعل كلّ شيء كي تصل إلى ذلك. إنّ هذا السبب لا يبرّر أفعالكَ. فلا حاجة بكَ للخطيئة للانفصال عنّي. أقول لكَ إنّكَ تستطيع أن تفعل ذلك. إنّني أقول لكَ ذلك منذ أيّام نوبة، حين عدتَ إليَّ في صبيحة نقيّة، يلطّخكَ الكذب والفجور، كما لو أنّكَ خرجتَ مِن الجحيم لتسقط في حمأة خنازير أو على مهاد نسانيس شبقة، وأنا كان عليَّ أن أبذل جهداً كي لا أرميكَ بعيداً بطرف نعلي كما خرقة منفّرة، وكي أوقف الغثيان الّذي كان يضني، لا روحي فقط، بل كذلك أحشائي. لطالما قلتُ لكَ ذلك. حتّى قبل أن أقبلكَ. حتّى قبل المجيء إلى هنا. حينذاك، تحديداً لأجلكَ، لكَ وحدكَ، ألقيتُ تلك الموعظة. لكنّكَ دوماً أردتَ البقاء. لهلاككَ. أنتَ! ألمي الأعظم! لكنّكَ تفكّر وتقول، أيا أيّها المهرطق الرئيس لكُثُر سيأتون، أنّني فوق الألم. لا. إنّني فقط فوق الخطيئة. فقط فوق الجهل: فوق الخطيئة لأنّني الله. فوق الجهل لأنّه مِن غير الممكن وجود الجهل في نَفْس لم تجرحها الخطيئة الأصليّة. لكنّني أكلّمكَ بصفتي إنساناً، بصفتي الإنسان، بصفتي آدم الفادي الآتي لأصلح خطيئة آدم الخاطئ، ولأبيّن ما كان ليكون عليه الإنسان لو أنّه بقي في الحال الّتي خُلِق عليها: بريئاً. وهل يا ترى لم يكن مِن بين عطايا الله لآدم ذاك "ذكاءً بلا عيوب وعلماً جليلاً"، بما أنّ الاتّحاد مع الله كان يسكب أنوار الآب القدير في ابنه المبارك؟ وأنا، آدم الجديد، فوق الخطيئة بإرادتي الذاتيّة… ذات يوم، منذ زمن بعيد، كنتَ قد دهشتَ لأنّني قد جُرّبتُ، وسألتَني إن لم أكن قد استسلمتُ أبداً. أتذكر؟ وأنا أجبتُكَ. نعم. بقدر ما أمكنني أن أجيبكَ… لأنّكَ، منذ ذلك الحين، كنتَ هكذا… إنساناً ساقطاً لدرجة، كان مِن غير المجدي معها وضع أثمن لآلئ فضائل المسيح تحت ناظريكَ. فما كنتَ لتفهم قيمتها و… لكنتَ اعتبرتَها… حصى، مِن فرط ما كان مقياسها استثنائيّاً. كذلك في الصحراء أجبتُكَ مُكرِّراً الكلام، معنى الكلام الّذي كنتُ قد قلتُه لكَ في تلك الأمسية أثناء ذهابنا إلى جَثْسَيْماني. لو كان يوحنّا أو كذلك سمعان الغيور مَن يعيد عليَّ هذا السؤال، لكنتُ أجبتُ بطريقة أخرى، لأنّ يوحنّا نقيّ وما كان ليفعل ذلك بالخبث الّذي كنتَ تفعله به، كونكَ كنتَ مُشبَعاً خبثاً… ولأنّ سمعان حكيم عتيق، ورغم أنّه لا يجهل الحياة كما يجهلها يوحنا، إلّا أنّه بلغ تلك الحكمة الّتي تُحسِن التأمّل في كلّ حدث مِن دون أن يسبّب له اضطراباً في أناه. لكنّهما لم يسألاني إذا ما استسلمتُ أبداً للتجارب، للتجربة الأكثر شيوعاً، لتلك التجربة. لأنّ في النقاء المفرط للأوّل لا وجود لذكريات شَبَق، وفي العقلية التأمّلية للثاني نور عظيم ليرى النقاء الّذي يتألّق فيَّ. أنتَ سألتَ… وأنا أجبتُكَ. بقدر ما أمكنني. بذاك الاحتراس الّذي لا يجب أن ينفصل أبداً عن الصدق، المقدّسَين كليهما في عينيّ الله. ذاك الاحتراس الّذي هو كما الحجاب الثلاثيّ الممتدّ بين القدّوس والشعب، الممدود لإخفاء سرّ الـمَلِك. ذاك الاحتراس الّذي يضبط الكلام بحسب الّذي يسمعه، بحسب قدرته الفكريّة على الاستيعاب، بحسب نقائه الروحيّ وبرّه. لأنّ بعض الحقائق الّتي تقال لنَجِسين تغدو بالنسبة لهم مادّة للسخرية، لا للتبجيل… لا أدري إن كنتَ تذكر كلّ تلك الأقوال. أنا أذكرها. وأعيدها عليكَ هنا، في هذه الساعة حيث أنا وأنتَ كلانا على حافّة الهاوية. لأنّ… إنّما ما مِن حاجة لقول هذا. لقد قلتُه في الصحراء ردّاً على الـ "لماذا" الّتي لم يُشبِعها لكَ تفسيري الأوّل: "إنّ المعلّم لم يشعر أبداً أنّه أسمى مِن الإنسان كي يكون 'المَسيّا'، بل على العكس، لقد أراد، وهو عالِـم بأنّه الإنسان، أن يَكونه في كلّ شيء ما عدا الخطيئة. ليكون المرء معلّماً، يتطلّب أن يكون قبلها تلميذاً. أنا كنتُ أعلم كلّ شيء باعتباري الله. إنّ ذكائي الإلهيّ كان يمكنه أن يجعلني أُدرِك صراعات الإنسان بقدرة إدراكيّة وعقليّاً. إنّما كان يمكن لأحد أحبّائي المساكين أن يقول لي ذات يوم: "إنّكَ لا تعلم ماذا يعني أن يكون المرء إنساناً وأن تكون لكَ أحاسيس وشهوات"، ويكون اللوم صائباً. لقد أتيتُ إلى هنا كي أعدّ نفسي لا للرسالة فقط، بل أيضاً للتجربة. التجربة الشيطانيّة. لأنّه لم يكن للإنسان سلطان عليَّ. إنّ الشيطان قد أتى عند نهاية اتّحادي الانفراديّ بالله، وقد شعرتُ بأنّني الإنسان بجسد حقيقيّ خاضع لضعف الجسد: الجوع، التعب، العطش، البرد. لقد شعرتُ بالمادّيّ مع احتياجاته، بالمعنويّ مع انفعالاته. وإذ كَبَحتُ بإرادتي كلّ الانفعالات غير الصالحة في مهدها، فقد تركتُ العواطف المقدّسة تنمو. هل تذكر هذه الأقوال؟ وقلتُ أيضاً، في المرّة الأولى، لكَ، لكَ وحدكَ: "إنّ الحياة عطيّة مقدّسة، ويجب إذن أن تكون محبوبة بقداسة. الحياة وسيلة تخدم الغاية، الّتي هي الأبديّة". قلتُ: "لنمنحْ إذن الحياة ما تحتاجه كي تدوم وتخدم الروح في انتصاره: زهد الجسد في شهواته، زهد العقل في رغباته، زهد القلب في كلّ ما هو أهواء بشريّة، واندفاع لا محدود نحو العواطف السماويّة: محبّة لله والقريب، إرادة خدمة الله والقريب، إطاعة صوت الله، بطولة في الخير وفي الفضيلة". وأنتَ قلتَ لي، آنذاك، بأنّني أنا كنتُ قادراً على ذلك لأنّني كنتُ قدّوساً، إنّما أنتَ لم تكن تستطيع ذلك لأنّكَ كنتَ شابّاً، مفعماً حيويّة. كما لو أنّ الشباب والحيويّة كانا ذريعة للرذيلة، كما لو لم يكن سوى المسنّين أو المرضى، بسبب التقدّم بالعمر أو الضعف، العاجزين عمّا كنتَ تفكّر به، أنتَ الّذي تحترق بالفجور، هم وحدهم الّذين كانوا بمعزل عن تجارب الحواسّ! كان بمقدوري أن أردّ عليكَ بأشياء كثيرة آنذاك. ولكنّكَ لم تكن في ظرف يتيح لكَ فهمها. ولا الآن أنتَ كذلك، إنّما على الأقلّ أنتَ الآن لا تستطيع أن تبتسم ابتسامتكَ الجاحدة إن قلتُ لكَ أنّ الإنسان السليم يمكن أن يكون عفيفاً، إن لم يتقبّل مِن تلقائه إغراءات الشيطان والحواسّ. فالعفّة عاطفة روحيّة. إنّها حركة ترتدّ على الجسد وتجتاحه بأسره، ترفعه، تُعطّره، تحفظه. مَن كان مُشبَعاً بالعفّة لا مكان عنده للحركات الأخرى غير الصالحة. الفساد لا يلج إلى داخله. لا مكان له. ومِن ثمّ! الفساد لا يدخل مِن الخارج. فهو ليس حركة ولوج مِن الخارج إلى الداخل، بل هو حركة تخرج مِن الداخل، مِن القلب، مِن الفكر، كي تخترق وتجتاح الغلاف: الجسد. لهذا قد قلتُ أنّ مِن القلب يخرج الفساد بكلّ أشكاله. إنّ كلّ زنىً، كلّ فجور، كلّ خطيئة حسيّة، ليست مِن أصل خارجيّ، إنّما تتأتّى مِن نشاط الفِكر، الّذي وقد أُفسِد، يُلبِس كلّ ما يراه مَظهَراً مثيراً. لكلّ البشر عيون ليروا. وكيف يحدث إذن أن امرأة تُبقي عشرة رجال غير مبالين، بحيث ينظرون إليها باعتبارها مخلوقاً شبيهاً بهم، بل حتّى الّذين يرونها كما صنيعة جميلة للخليقة، إنّما مِن دون أن يشعروا بانجذابات وتخيّلات فاحشة تثور فيهم، وتثير الرجل الحادي عشر وتقوده إلى شهوات معيبة؟ لأنّ ذاك الحادي عشر قد أفسد قلبه وفِكره، في حين أنّ العشرة يرونها الأخت، وهو يراها الأنثى. ومع ذلك، دون أن أقول لكَ هذا آنذاك، فقد قلتُ لكَ بأنّني أتيت بالضبط لأجل البشر، وليس لأجل الملائكة. لقد أتيتُ كي أعيد للبشر أصلهم الـمَلَكيّ كأبناء الله، معلّماً إيّاهم العيش كآلهة. إنّ الله منزّه عن الفجور أيا يهوذا. لكنّني أردتُ أن أُثبِت لكم أنّ الإنسان أيضاً يمكن أن يكون غير خاضع للفجور. أردتُ أن أُظهِر لكم أنّه يمكن العيش كما أُعلّم. ولأبيّن لكم ذلك كان عليّ أن أتّخذ جسداً حقيقيّاً، كي أتمكّن مِن معاناة تجارب الإنسان، وأن أقول للإنسان بعد تثقيفه: "إفعل مثلي". وسألتَني إن كنتُ خطئتُ كوني قد جُرّبتُ. أتذكر ذلك؟ لقد أجبتُكَ، بما أنّكَ لم تكن تستطيع أن تفهم بأنّني قد جُرّبتُ دون أن أسقط، وكان يبدو لكَ أنّ التجربة بالنسبة 'للكلمة' هي أمر مستهجن، وأنّه مِن المستحيل على الإنسان ألّا يخطئ، وقد أجبتُكَ بأنّ الجميع يمكن أن يُجرَّبوا، لكنّ الخطأة هم فقط الّذين يريدون أن يكونوا كذلك. وقد كانت دهشتكَ عظيمة، ولم تكن لتصدّق، لدرجة أنّكَ أصرّيتَ: "ألم تخطئ أبداً؟" وقتها كان يمكنكَ أن تكون متشكّكاً. فقد كنّا نعرف بعضنا منذ أمد قصير. إنّ فلسطين مُترَعة برابّيين تتناقض العقيدة الّتي يُعلّمونها والحياة الّتي يعيشونها. لكنّكَ الآن تعلم بأنّني ما خطئتُ، بأنّني لا أخطئ. إنّكَ تعلم بأنّ التجربة، حتّى الأكثر عنفاً، الّتي تستهدف الإنسان السليم، الرجوليّ، الّذي يحيا وسط البشر، المحاط بهم وبالشيطان، لا تؤثّر بي إلى درجة ارتكاب الخطيئة. بل على العكس، فإنّ كلّ تجربة، رغم أنّ صَدّها يزيد مِن ضراوتها، حيث الشيطان كان يجعلها دوماً أكثر حدّة كي يغلبني، كانت انتصاراً أعظم. وهذا ليس فقط بالنسبة للفجور، الإعصار الّذي عصف حولي دون أن يتمكّن مِن زعزعة إرادتي ولا خدشها. إنّ لا خطيئة حيث لا قبول للتجربة، يا يهوذا. تكون خطيئة عندما، حتّى مِن دون إتمام الفعل، يتمّ تقبّل التجربة والوقوف عندها. ستكون خطيئة عرضيّة، إنّما هي تُوجّه إلى الخطيئة المميتة الّتي تُعدّها فيكم. لأنّ تقبّل التجربة، والإسهاب في التفكير بها، والمتابعة الذهنيّة لمراحل خطيئة، هي إضعاف لأنفسكم بأنفسكم. الشيطان يعلم هذا، لذلك يجرّب رشقات لاهبة متكرّرة، آملاً دوماً بأن تَلِج إحداها وتَعمل في الداخل… بعد ذلك… سيكون سهلاً على الـمُجَرَّب أن يستحيل آثماً. أنتَ آنذاك لم تفهم. لم يكن بمقدوركَ أن تفهم. الآن يمكنكَ ذلك. إنّ استحقاقكَ الآن للإدراك أقلّ مِن آنذاك، ومع ذلك أكرّر عليكَ تلك الأقوال الّتي قلتُها لكَ، لكَ أنتَ، فأنتَ، لا أنا، الّذي مَن لا تهدأ بالنسبة له التجربة المنبوذة… لا تهدأ لأنّكَ لا تصدّها بشكل نهائي. إنّكَ لا ترتكب الفِعل، لكنّكَ تحتضن فكرته. الآن هكذا، وغداً… غداً تقع في الخطيئة الحقيقيّة. لهذا علّمتُكَ، حينذاك، أن تطلب معونة الآب ضدّ التجربة، علّمتُكَ أن تطلب مِن الآب ألّا تدخل في التجربة. أنا، ابن الله، أنا، المنتصر أبداً على الشيطان، قد طلبتُ عون الآب لأنّني متواضع. أنتَ لا. أنتَ لم تطلب مِن الله الخلاص، الوقاية. إنّكَ متكبّر. ولهذا السبب تغرق... هل تذكر كلّ ذلك؟ وهل يمكنكَ أن تفهم الآن ما هو بالنسبة لي، أنا الإنسان الحقّ، مع كلّ ردود فِعل الإنسان، والإله الحقّ، مع كلّ ردود فِعل الله، ما يعني لي أن أراكَ هكذا: فاجراً، كاذباً، لصّاً، خائناً، قاتلاً؟ هل تعلم أيّ جهد تجعلني أبذله كي أحتملكَ قربي؟ هل تعلم أيّ عناء أكابده كي أسيطر على نفسي، كما الآن، كي أُتِمّ حتّى النهاية رسالتي فيكَ؟ إنّ أيّ إنسان آخر كان ليمسككَ مِن عنقكَ، وقد رآك سارقاً، منشغلاً بالخلع وأخذ المال، عالماً بأنّكَ خائن، وأكثر مِن خائن… أنا كَلّمتُك. بإشفاق بعد. أُنظر. لم يحلّ الصيف ومِن النافذة يدخل نسيم المساء البارد، ومع ذلك أتصبّب عرقاً كما لو أنّني أجهدتُ نفسي في أقسى عمل. إنّما ألا تدرك مقدار ما تكلّفني؟ ما أنتَ عليه؟ أتريد أن أطردكَ؟ لا. أبداً. عندما يغرق شخص، فَمَن يتركه يكون قاتلاً. إنّكَ بين قوّتين تجذبانكَ. أنا والشيطان. إنّما إن أنا تركتُكَ، فلن يكون لكَ إلّا هو فقط. وكيف ستخلّص نفسكَ؟ ومع ذلك ستفارقني… إنّكَ بالفعل قد فارقتَني بروحكَ… ومع ذلك سوف أُبقي قربي على حدّ سواء شرنقة يهوذا، جسدكَ المجرّد مِن إرادة محبّتي، جسدكَ الخامد حيال الخير. سوف أُبقيه طالما لا تطالب كذلك بهذا اللاشيء، الّذي هو جثمانكَ، كي تضمّه إلى روحكَ لتخطئ بكلّيتكَ… يهوذا!... ألا تكلّمني أيا يهوذا؟ أليس لديكَ كلمة لمعلّمكَ؟ أليس لديكَ رجاء توجّهه لي؟ إنّني لا أطالب بأن تقول لي: "المغفرة!" فقد غفرتُ لكَ مرّات كثيرة دونما جدوى. أعلم أنّ هذه الكلمة هي مجرّد صوت على شفتيكَ. إنّها ليست تحرّكاً مِن الروح النادم. إنّني أريد حركة صادرة عن قلبكَ. هل مُتَّ لدرجة عدم امتلاك رغبة؟ تكلّم! أتخشاني؟ آه! لو كنتَ تخشاني! هذا على الأقل! لكنّكَ لا تخشاني. لو كنتَ تخشاني، لقلتُ لكَ الكلام الّذي قلتُه لكَ في ذاك اليوم البعيد حيث كنّا نتحدّث عن التجارب والخطايا: "أنا أقول لكَ أنّه حتّى بعد جريمة الجرائم، إن هرع مرتكبها إلى قدميّ الله بندامة حقيقيّة، وتوسّل إليه باكياً أن يغفرها له، مُقدِّماً ذاته للتكفير بثقة، دونما يأس، فسوف يغفرها الله له، وبالتكفير سيُخلّص الخاطئ روحه أيضاً". يهوذا! إنّما إن كنتَ لا تخشاني، فأنا ما أزال أحبّكَ. أليس لديكَ ما تطلبه مِن محبّتي اللامتناهية في هذه الساعة؟»

 

«لا. أو على الأقلّ، أمر واحد فقط. أن تفرض على يوحنّا ألّا يتكلم. فكيف تريدني أن أكون قادراً على إصلاح الأمر إن كنتُ سأكون العار بينكم؟» يقول ذلك بتعالٍ.

 

ويسوع يجيبه: «وتقولها هكذا؟ يوحنّا لن يتكلّم. إنّما أنتَ على الأقلّ، وهذا أنا أطلبه منكَ، تصرف بحيث لا يرشح شيء مِن فسادكَ. التقط هذه القطع النقديّة وأَعِدها إلى كيس مال يُوَنّا… سوف أتدبّر أمر إغلاق الصندوق… بالحديد الّذي استخدمتَه أنتَ لفتحه...»

 

وفيما يلتقط يهوذا على مضض القطع النقديّة الّتي تدحرجت في كلّ اتّجاه، فإنّ يسوع يتّكئ على الصندوق المفتوح كما لو أنّه متعب. النور يخفت في الغرفة، إنّما ليس لدرجة عدم السماح برؤية أنّ يسوع يبكي بصمت، وهو ينظر إلى الرسول المنحني لالتقاط النقود المبعثرة.

 

يهوذا إذ قد انتهى. يذهب إلى الصندوق. يمسك كيس مال يُوَنّا الضخم والثقيل ويضع فيه النقود، يغلقه، يقول: «هو ذا!» يبتعد.

 

يسوع يمدّ يده ليأخذ الخطّاف البدائي الّذي صنعه يهوذا، وبيد مرتجفة يَعمل على تفعيل الـمِفصال ويُغلق الصندوق الحديديّ. ثم يضع قطعة الحديد على ركبته ويثنيها على شكل V، ويُنهي تشويهها بقدمه، جاعلاً استعمالها متعذّراً، ويلتقطها ليخبّئها في صدره. وفيما يفعل ذلك، تسقط دموع على ثوبه الكتّاني.

 

أخيراً تبدر مِن يهوذا حركة ندامة. إنّه يغطّي وجهه بيديه وينفجر بالبكاء قائلاً: «ملعون أنا! أنا عار الأرض!»

 

«أنتَ البائس الأبديّ! وفَكّر بأنّكَ، إن أردتَ، تستطيع بعد أن تكون سعيداً!»

 

«أَقسِم لي. أَقسِم لي بألّا يعرف أحد شيئاً… وأنا أُقسِم لكَ بأنّني سأفتدي نفسي.» يصيح يهوذا.

 

«لا تقل: "وأنا سأفتدي نفسي". فأنتَ لا تستطيع. أنا وحدي أستطيع افتداءكَ. إنّ الّذي كان يتكلّم قبلاً على شفتيكَ، لا يمكن أن يُغلَب إلّا على يدي. قُل لي كلمة التواضع: "يا ربّ خلّصني!"، وأنا سأحرّركَ ممّن يسيطر عليكَ. ألا تُدرِك بأنّني أنتظر هذه الكلمة أكثر مِن قُبلة أُمّي؟»

 

يهوذا يبكي، يبكي، لكنّه لا يقول هذه الكلمة.

 

«إذهب. أُخرج مِن هنا. إصعد إلى الشرفة. إذهب حيث تريد، إنّما لا تتصنّع مشاهد صارخة. إذهب. إذهب. لن يكتشفكَ أحد لأنّني سأحرص على ذلك. اعتباراً مِن الغد سوف تحتفظ بالمال، فكلّ شيء هو عديم الفائدة مِن الآن فصاعداً.»

 

يهوذا يخرج مِن دون أن يردّ.

 

يسوع، الّذي بقي وحده، يرتمي على مقعد قرب الطاولة، رأسه مستند إلى ذراعيه المتشابكين فوق الطاولة، ويذرف دموعاً قلقة.

 

بعد بضع دقائق يدخل يوحنّا بهدوء ويلبث لبعض الوقت عند العتبة. إنّه شاحب كما ميت. ثمّ يهرع إلى يسوع ويعانقه متوسّلاً: «لا تبكِ يا معلّم! لا تبكِ! إننّي أحبكَ كذلك عن هذا البائس...» يُنهِضه، يُقبّله، يرتشف دموع إلهه ويبكي بدوره. يسوع يعانقه، والرأسان الأشقران، المتقاربان، يتبادلان الدموع والقبلات.

 

لكنّ يسوع يسيطر على نفسه سريعاً ويقول: «يوحنّا، محبّةً بي إنسَ كلّ هذا. أشاء ذلك.»

 

«نعم يا ربّي. سأحاول فِعل ذلك. إنّما أنتَ كُفّ عن التألّم… آه! يا له من ألم! وقد جعلني أخطئ يا ربّي. لقد كذبتُ. لقد اضطررتُ للكذب لأنّ التلميذات عدن. لا. أهل المرأة أوّلاً. كانوا يطلبونكَ كي يباركوكَ. لقد وُلِد صبيّ دونما تعقيدات. لقد قلتُ بأنّكَ عدتَ إلى الجبل… ثمّ جاءت النسوة وعاودتُ الكذب قائلاً أنّكَ غادرتَ وربّما كنتَ حيث وُلِد الصبيّ… لم أجد شيئاً آخر أقوله. كنتُ بغاية الذهول! أُمّكَ رأت أنّني كنتُ أبكي، وسألتني: "ما بكَ يا يوحنّا؟" كانت مضطربة… بدت كما لو أنّها تعلم. كذبتُ للمرّة الثالثة قائلاً: "لقد تأثّرتُ لتلك المرأة...". إلامَ يؤدّي جوار خاطئ؟ إلى الكذب… حُلّني أيا يسوعي.»

 

«كُن في سلام. أُمح كلّ ذكرى لهذه الساعة. لا شيء. لا شيء حدث… حُلم...»

 

«إنّما ألمكَ! آه! كم تغيّرتَ يا معلّم! قل لي هذا، هذا فقط: هل تاب يهوذا على الأقل؟»

 

«ومَن يمكنه أن يفهم يهوذا يا بنيّ؟»

 

«لا أحد منّا. أمّا أنتَ فبلى.»

 

يسوع لا يجيب إلّا بدموع جديدة صامتة على وجهه المتعب.

 

«آه! لم يتب...» يوحنّا مُروَّع.

 

«أين هو الآن؟ هل رأيتَه؟»

 

«نعم. لقد أطلّ مِن الشرفة، لقد نظر إن كان هناك أحد، وإذ لم يرَ سواي، أنا الّذي كنتُ جالساً بقلق تحت شجرة الّتين، فقد نزل مسرعاً وخرج مِن باب البستان. وعندها أتيتُ...»

 

«لقد أحسنتَ عملاً. لنُعِد هنا المقاعد المبعثرة إلى مكانها، وخذ الجرّة كي لا تكون هناك آثار...»

 

«هل تعارك معكَ؟»

 

«لا يا يوحنّا. لا.»

 

«إنّكَ مضطرب جدّاً، يا معلّم، كي تبقى هنا. أُمّكَ سوف تفهم… وستغتمّ لذلك.»

 

«هذا صحيح. لنخرج… ستعطي المفتاح للجارة. سوف أتقدّمكَ على ضفاف السيل، باتّجاه الجبل...»

 

يسوع يخرج، ويبقى يوحنّا ليرتّب كلّ شيء. ثمّ يخرج بدوره. يعطي المفتاح لامرأة منزلها قريب، ويَنسَلّ راكضاً بين أحراج الضفّة كي لا يُرى.

 

على بُعد حوالي مئة متر مِن المنزل، يسوع جالس على صخرة. يلتفت على وقع خطوات الرسول. وجهه يميل إلى البياض في نور المساء. يوحنّا يجلس على الأرض بجانبه، ويضع رأسه على ركبتيه، رافعاً وجهه كي ينظر إليه. يرى أنّ الدموع لا تزال على خدّيّ يسوع.

 

«آه! كُفّ عن التألّم! كُفّ عن التألّم يا معلّم! لا أستطيع أن أراكَ تتألّم!»

 

«وهل يسعني ألّا أتألّم لهذا؟ إنّه ألمي الأعظم! تذكّر ذلك يا يوحنّا: هذا سيكون ألمي الأعظم إلى الأبد! أنتَ لا يمكنكَ أن تفهم كلّ شيء بعد… ألمي الأعظم...» يسوع منهَك. يوحنّا يضمّه، معانقاً إيّاه عند الخصر، قلقاً مِن عدم تمكّنه مِن تعزيته.»

 

يسوع يرفع رأسه، يفتح عينيه اللتين كان يبقيهما مغمضتين كي يحبس الدموع، ويقول: «تذكّر أنّنا ثلاثة نعلم بالأمر: المذنب، أنا وأنتَ. وأنّ ما مِن أحد آخر ينبغي أن يعلم.»

 

«لا أحد سيعلم ذلك مِن فمي. إنّما كيف أمكنه؟ وطالما كان يأخذ مالاً مِن كيس المال المشترك… إنّما مِن هذا… لقد ظننتُ بأنّني مجنون حين رأيتُه… يا للفظاعة!»

 

«قلتُ لكَ أن تنسى...»

 

«إنّني أجهد يا معلم. إنّما ذلك بغاية الفظاعة...»

 

«إنّه فظيع. نعم. آه! يوحنّا! يوحنّا!» ويسوع، وهو يعانق الـمُفضَّل، يحني رأسه على كتفه ويبكي كلّ ألمه. الظلال، الّتي تهبط سريعاً في تلك الأجمة، تُخفي في ظلماتها الاثنين المتعانِقَين.