ج5 - ف9

أَنَا هُوَ

ماريا فالتورتا

L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO

THE GOSPEL AS REVEALED TO ME

بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}

L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ

MARIA VALTORTA

الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.

 

الجزء الخامس/ القسم الأول

 

9- (الوصول والنـزول مِن الباخرة في كولوسّي)

 

06 / 11 / 1945

 

تحت غسق رائع ترتسم مدينة كولوسّي مثل كومة بيضاء على ضفّة مياه زرقاء لبحر ساكن وباسِم، فانتازيا مِن الأمواج الصغيرة تحت سماء يذوب بياضها الفضّيّ (كوبالت) بدون غيوم في أرجوان الغَسَق. والسفينة، بالأشرعة الكاملة، تتوجّه بسرعة صوب المدينة البعيدة، وتبدو وكأنّها تتأجّج بنيران فَرِحَة للاحتفال بالوصول الوشيك، وهي تكتسي روائع الشمس المائلة للمغيب.

 

على السطح، وسط البحّارة، الذين لم يعد يستبدّ بهم الخوف والاضطراب، يتواجد المسافرون الذين يَرَون الهدف يقترب. أمّا البحّار الجريح، فإنّه يَجلس إلى جانب يوحنّا الذي مِن عين دور الذي نَحل أكثر منه في ساعة الرحيل. ما يزال رأسه معصوباً بلفافة خفيفة، وشحوبه يجعله كالعاج، بسبب الدم الذي فَقَدَه. ولكنّه، مع كلّ هذا هو باسِم، ويتحدّث إلى مُنقِذيه ورفاقه الذين يهنّئونه على سلامته وعلى مشاهدتهم إيّاه على السطح مجدّداً.

 

ويراه الكريتيّ كذلك فيترك مهمّته للحظة، عاهداً بها إلى رئيس المجذّفين، ليأتي ويحيّي «صديقه الممتاز ديميتيه» العائد إلى السطح للمرّة الأولى مُذ جُرِحَ. «وشكراً لكم جميعاً» يقول للرُّسُل. «لم أكن أظنُّه يستطيع أن يعيش بعد أن جُرِحَ بالعارضة الثقيلة والحديد الذي زاد مِن ثقلها. في الحقيقة يا ديميتيه لقد أعادوا لكَ الحياة، إذ إنّكَ كنتَ قد متَّ في المرّة الأولى والمرّة الثانية. المرّة الأولى في سقوطكَ على البضائع الموجودة على السطح، حيث، بسبب الدم الذي فقدتَ والأمواج التي كانت سترميكَ إلى البحر، كنتَ تنفق هابطاً إلى مملكة نبتون وسط النيريدين والتريتونيّين. والمرّة الثانية بمعالجتكَ بذلك المرهم الرائع. دعني إذن أرى جرحكَ!»

 

يَحلّ الرجل الرّباط ويشفّ عن الندبة وقد خُتِمَت جيّداً، وهي ملساء، تُشبِه علامة حمراء مِن الصَّدغ إلى قفوة الرأس، إلى حدود الشعر الذي يبدو أنّ سِنْتيخي قد قصّته كي لا يَدخُل في الجرح. يلمس نيقوميدوس العلامة بلطف: «العَظم نفسه قد التحم! فينوس البحر تحبّكَ! لم تكن تريدكَ سِوى على سطح البحر على شواطئ اليونان. ولتتوافق إذن مع إيروس، الآن ونحن مزمعون على النـزول إلى البرّ، وليساعدكَ على نسيان ذكرى بؤس ورهبة ثاناتوس الذي كان يُضيّق عليكَ.»

 

وَجه بطرس بانوراما انفعالات عندما يَسمَع كلّ هذه التلميحات الأسطوريّة (الميتولوجيّة). يتّكئ على سارية، يداه خلف ظهره، لا يتكلّم، ولكنّ كلّ شيء فيه يتكلّم لينعَت نيقوميدوس الوثنيّ ووثنيّته نعوتاً لاذعة، وليشير إلى احتقاره لكلّ ما هو وثنيّ.

 

والآخرون أيضاً ليسوا أقلّ منه ازدراء... وجه يوضاس بن حلفى ممتقع في أسوأ أوقاته، أخوه يدير ظهره مبدياً اهتماماً كبيراً بالبحر. يعقوب بن زَبْدي وأندراوس جاهزان لترك الجميع والنزول لأخذ الأكياس والنَّول. متّى يلعب بحزامه، الغيور يحذو حذوه مهتمّاً بحذائه الواسع جدّاً كما لو كان شيئاً جديداً، ويوحنّا بن زَبْدي يركّز اهتمامه على النَّظَر إلى البحر.

 

إذا كان الظاهر هو احتقار الثمانية وتَبرُّمهم ـ وليس أقلّ منه صمت التلميذين الجالسين إلى جانب الجريح ـ فقد لَفَت انتباه الكريتيّ وجَعَلَه يعتذر: «إنّها ديانتنا، هل تعلمون؟ كما تؤمنون بدينكم، نحن جميعنا وأنا نؤمن بديننا...»

 

لا أحد يُجيب، ويُدرِك الكريتيّ أنّه يجدر به أن يترك آلهته وشأنها ويَنزِل مِن الأولمب إلى الأرض، أو بالأحرى إلى البحر، إلى سفينته، داعياً الرُّسُل إلى المجيء إلى مقدّمة السفينة ليشاهدوا المدينة التي تقترب. «ها هي، أترون؟ ألم تأتوا أبداً إلى هنا؟»

 

«أنا بلى، مرّة واحدة، لكن عن طريق البرّ» يقول الغيور بلهجة جادّة وقاطعة.

 

«آه! حسناً! إذن فأنت تعرف أنّ المرفأ الحقيقيّ لأنطاكية هي كولوسّي، على البحر، عند مصبّ الأورونت، التي تُلائِم استقبال السفن، وفي الأوقات التي تكون فيها المياه عميقة تُبحِر فيها القوارب الخفيفة إلى أنطاكية. المدينة الأكبر التي تَرَون، هي كولوسّي. الأُخرى في الوسط ليست مدينة، بل أنقاض موضع تمّ اجتياحه. إنّها تَغشّ، ولكنّها بلدة ميتة. تلك السلسلة هي بييريوس التي تجعل اسم بييريا يُطلَق على كولوسّي. أنف الجبل هذا الذي يميل إلى الداخل، فيما وراء السهل، هو جبل كاسيو الذي يُهيمِن على سهل أنطاكية مثل عملاق؛ السلسلة الأخرى في الشمال، هي سلسلة أمان. آه! سوف تَرَون في كولوسّي وفي أنطاكية أيّة أعمال أَنجَزَها الرومان! لم يكن بالإمكان صُنع ما هو أعظم. مرفأ هو واحد مِن أفضل المرافئ بأحواض ثلاثة وأقنية وأرصفة وعرمات (سدود تبنى في وجه الموج). ليس لها مثيل في فلسطين. ولكنّ سوريا مِن أفضل الولايات في الإمبراطوريّة...»

 

يُقابِل كلماته صَمت جليديّ. حتّى سِنْتيخي اليونانيّة، وهي أقلّ تأثّراً مِن الآخرين، تزمّ شفتيها، ووجهها، أكثر مِن أيّ وقت آخر يأخذ معالم وجه ميدالية أو منحوتة: وجه آلهة، مُستخِفّة بالعلاقات الأرضيّة.

 

يلاحظ الكريتيّ ذلك ويعتذر: «ما العمل! أساساً كَسب معيشتي مُرتَبِط بالرومان!...»

 

إجابة سِنْتيخي قاطعة كحدّ السيف: «والذهب يفلّ (يُثلِم) حدّ سيف مجد الوطن والحريّة»، وتقولها بلهجة ولغة لاتينيّة صافية جَعَلَت ذاك الآخر يَقِف في مكانه كالصخر…

 

ثمّ يتجاسر ويَسأَل: «ولكن ألستِ يونانيّة؟»

 

«أنا يونانيّة. أمّا أنتَ فتحبّ الرومان. أُكلِّمكَ بلغة معلّميكَ، وليس بلغتي، لغة الوطن الشهيد.»

 

يَرتَبِك الكريتيّ، أمّا الرُّسُل فيختبرون حماساً صامتاً نتيجة الدرس الذي لقَّنَته لِمَدَّاح روما. وذاكَ يحاول تغيير مجرى الحديث بسؤاله عن الوسيلة التي سينتقلون بها مِن كولوسّي إلى أنطاكية.

 

«على أقدامنا، أيّها الرجل» يُجيب بطرس.

 

«إنّه المساء، وسيصبح ليلاً عندما تنزلون مِن السفينة...»

 

«لا بدّ أن يوجد مكان نبيت فيه.»

 

«آه! طبعاً. إنّما بإمكانكم النوم هنا كذلك حتّى الغد.»

 

يوضاس تدّاوس الذي رأى كلّ مستلزمات الأضاحي للآلهة تُحضَّر، والتي قد تُقَدَّم حال الوصول إلى المرفأ، يقول: «لا حاجة إلى ذلك. نشكركَ لطيبتكَ، ولكنّنا نُفضِّل النُّزول. أليس كذلك يا سمعان؟»

 

«نعم، نعم. نحن أيضاً علينا تلاوة صلواتنا، فـ... إمّا أنتَ وآلهتكَ، وإمّا نحن وإلهنا.»

 

«تصرّفوا بحسب إيمانكم. يسرّني أن أفعل شيئاً يُسِرّ ابن ثيوفيلوس.»

 

«ونحن أيضاً ما يُسِرّ ابن الله، مع إقناعكَ بأنّه لا يوجد سِوى إله واحد. ولكنّكَ صخر لا يلين. كما ترى نحن متشابهون. ولكن مَن يدري، قد نلتقي يوماً ثانية، وقد نجدكَ آنذاك أقلّ تصلّباً...» يقول الغيور.

 

يقوم نيقوميدوس بحركة كما ليقول: «مَن يدري متى؟» حركة لامبالاة ساخرة أمام الدعوة إلى معرفة الإله الحقّ وهَجر المزيَّف. ثمّ يُعاوِد عمله كربّان، إذ أَصبَحَ المرفأ قريباً جدّاً.

 

«فلنَنزِل لأخذ الصناديق. ولنتدبّر الأمر وحدنا. فأنا في عجلة مِن أمري لترك هذا الوثنيّ العَفِن» يقول بطرس. ويَنزلون جميعاً عدا سِنْتيخي ويوحنّا.

 

هما، الـمُبعَدان، الواحد قُرب الآخر ويَنظُرون إلى العرمات وهي تقترب باطّراد.

 

«سِنْتيخي، هذه خطوة أخرى نحو المجهول، انتزاع آخر مِن الماضي العذب، نِزاع آخر يا سِنْتيخي... لم يَعُد بمقدوري...»

 

تُمسِك سِنْتيخي بيده. إنّها شاحبّة جدّاً، وحزينة. ولكنّها تبقى على الدوام المرأة القويّة التي تَعرِف كيف تَمنَح القوّة: «نعم يا يوحنّا، انتزاع آخر، نِزاع آخر. ولكن لا تَقُل: خُطوة أُخرى نحو المجهول... هذا ليس صحيحاً. نحن نعرف رسالتنا هنا. لقد قالها لنا يسوع. فنحن لسنا ماضيان إلى المجهول، بل على العكس، نندمج أكثر فأكثر بما نَعرِف، بإرادة الله. فليس صحيحاً كذلك القول: "انتزاع آخر". فنحن نتّحد بإرادته. فليس هناك إذن انتزاع. نحن ننفصل فقط عن كلّ الرغبات الحسّيّة لحبّنا له، معلّمنا، مع الاحتفاظ بالمتع الفائقة الطبيعة، بتوجيه الحبّ والواجب إلى مستوى فوق أرضيّ. هل اقتنعتَ بأنّ الأمر كذلك؟ نعم؟ وإذن، عليكَ ألّا تقول كذلك: "نِزاع آخر". فالنِّـزاع يُنبِئ بموت وشيك، بينما نحن، بإدراكنا المخطّط الروحيّ لِنَجعَل منه مقامنا وجوّنا وغذاءنا، فلن نموت، بل "نحيا" لأنّ كلّ ما هو روحيّ هو أزليّ. بالنتيجة فنحن نَصعَد نحو حياة أكثر فاعليّة تَسبُق حياة السماوات العظيمة. إذن، هيّا بنا! انس أنّكَ يوحنّا الإنسان، وتذكّر أنّكَ المختار للسماء. تَعقَّل، فَكِّر، تصرّف وليكن لديكَ الرجاء فقط بأنّكَ مُواطِن في هذا الوطن الذي لا يَفنَى...»

 

يعود الآخرون مع أغراضهم، تماماً وقت دخول السفينة المهيب إلى مرفأ كولوسّي.

 

«والآن فلنمضِ بأسرع وقت على أوّل نَزْل نراه. بالتأكيد يوجد أحدها قريباً، وغداً... سنمضي إلى وجهتنا بالقارب أو بالعربة.»

 

وسط أصوات صافرات القيادة الحادّة، ترسو السفينة ويُنزِلون جسر العبور.

 

يَدنو نيقوميدوس مِن الرَّاحِلِين.

 

«الوداع، يا رجل، وشكراً» يقول بطرس باسم الجميع.

 

«وداعاً، أيّها اليهوديّ. وشكراً أيضاً مِن قِبَلي. باتّباع تلك الطريق، سَتَجِدون مأوى في الحال. وداعاً.»

 

يَنزِل الرُّسُل مِن السفينة، وهو يبتعد صوب هيكله، وبينما بطرس والآخرون، وهم كالحَمّالين، يمضون للاستراحة، يبدأ الوثنيّ طقسه غير الـمُجدي.