ج2 - ف94

أَنَا هُوَ

ماريا فالتورتا

L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO

THE GOSPEL AS REVEALED TO ME

بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}

L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ

MARIA VALTORTA

الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.

 

الجزء الثاني / القسم الثاني

 

94- (يسوع في منطقة المياه الحلوة. تلاميذ المعمدان الثلاثة)

 

11 / 03 / 1945

 

يوم شتويّ ولكنّه صافٍ تماماً. شمس وهواء في سماء صافية دونما أثر للغيوم. ولقد بَزَغَ النهار لتوّه، وما تزال هناك طبقة رقيقة مِن الجليد، أو بالحريّ مِن النَّدى الـمُتجلِّد، الذي يُوحِي بأنّه مَسحوق مِن الماس على الأرض والعشب.

 

يُقبِل صوب البيت ثلاثة رجال يسيرون بِخُطى واثِقة، عارِفِين أين ينبغي لهم التوجّه. أخيراً يَلمَحون يوحنّا يجتاز الدار حاملاً أواني ماء سَحَبَها مِن البئر، ويُنادونه.

 

يَلتَفِت يوحنّا، يَضَع الأواني ويقول: «أنتم هنا؟ أهلاً بكم! سوف يُسَرّ المعلّم بلقائكم. تعالوا، تعالوا قبل أن تَصِل الجموع. لقد أَصبَحَ الكثير مِن الناس يَؤُمّون المكان!...»

 

أولئك هُم الرُّعاة الثلاثة، تلاميذ يوحنّا المعمدان. شمعون ويوحنّا ومتّياس. إنّهم يَتبَعون الرُّسُل بكلّ سرور.

 

«يا معلّم، ها هم أصدقاء لنا ثلاثة. انظر.» يقول يوحنّا وهو يَدخُل إلى المطبخ، حيث تتراقص، بفرح، نار حطب تفوح منها رائحة زكيّة لخشب وغار يحترق.

 

«آه! السلام لكم يا أصدقائي. كيف حَصَلَ هذا أن جئتم لرؤيتي؟ هل حَدَثَ مَكروه للمعمدان؟»

 

«لا يا معلّم. لقد أتينا بإذن منه. وهو يحيّيكَ ويقول لكَ أن تُوصِي الله باللّيث الذي يُلاحِقه رُماة النِّبال. لا أوهام لديه حول مصيره، ولكنّه في الوقت الحاضر هو حُرّ، وهو سعيد لعِلمه بأنّه قد أَصبَحَ لديكَ مؤمنون كثيرون مُخلِصون حتّى ممّن كانوا سابقاً أتباعاً له. يا معلّم... نحن كذلك نتحرّق لنكون منهم، ولكنّنا لا نودّ تركه الآن وهو مُلاحَق. هل تُدرِك قصدنا؟» يقول شمعون.

 

«بالطبع، وأُبارككم لما تَفعَلونه، فالمعمدان يستحقّ كلّ احترام وكلّ حبّ.»

 

«نعم. حسناً تقول. إنّ المعمدان لَعَظيم، ويزداد عَظَمَة باستمرار. وهو يُذَكّر بالأغاف Agave الذي، قبيل موته، أَخرَجَ شمعداناً كبيراً مع زهرته ذات البتلات السبع التي تشتعل ويفوح منها العطر. إنّه يُماثله. ويقول دائماً: "أودُّ لو أراه مرّة أخرى". إنّه يودُّ رؤيتكَ. ولقد تَلَقَّينا هذا النداء مِن روحه، ودون أن نُحَدِّثه عنه، نقلناه لكَ. وهو "الـمُعتَرِف" و "المتعَفِّف"، ما يزال يضحّي برغبته المقدّسة برؤيتكَ وسماعكَ. أنا طوبيّا، والآن متّياس، ولكنّني أظنُّ أنّ رئيس الملائكة، الذي ظَهَرَ لطوبيّا آنذاك، لا يمكنه أن يكون مختلفاً عنه. فكلّ ما فيه حكمة.»

 

«لم يُكتَب أن لا أراه... ولكن هل مِن أجل هذا فقط أتيتم؟ المسير مُضنٍ في هذا الفصل. اليوم الطقس جميل، إنّما في الأيّام الثلاثة الماضية، كم كان المطر غزيراً على الطرقات!»

 

«ليس مِن أجل هذا فقط. فمنذ بضعة أيّام أتاه دوراس الفرّيسيّ ليتطهّر. ولكنّ المعمدان رَفَضَ تعميده قائلاً له: "الماء لا يَلِج مع وجود مثل هذه القشرة مِن الخطايا. واحد فقط يمكنه أن يَغفر لكَ: مَسيّا". فقال حينئذ: "سأذهب إليه. أريد الشفاء. وأظنُّ أنّ هذا الشرّ مُتأتٍّ مِن سحره". حينذاك طَرَدَه المعمدان كما يَطرُد الشيطان. أمّا ذاك، فبينما كان ماضياً، التقى بيوحنّا الذي كان يعرفه مُذ كان يذهب إلى يونا قريبه، وقال له: "إنّني ذاهب إليه، فكلّ الناس يذهبون، حتّى منّان وحتّى... (أقول الزَّواني أمّا هو فقد قال كَلِمة أكثر قَذارة) يذهبن. ومنطقة المياه الحلوة تعجّ بالناس الـمَخدوعين. والآن إذا ما شَفاني وأزال عنّي لعنة الأراضي المحفورة، كما بآلات حرب، مِن قِبَل جيش مِن الخُلد والدود والحراثات والحالوش التي تُفَرِّغ الحَبّ وتَقضم جذور الشجر الـمُثمِر والكُروم، ولا مجال للسيطرة عليها، أُصبِح بذلك صديقاً له، وإلّا... فالويل له!" وأَجَبناه: "أبهذه المشاعر تذهب إليه؟" فأجاب: "ومَن ذا الذي يؤمن بذاك الذي تسكنه الشياطين؟ عدا ذلك، فكما يَستَقبِل الزَّواني يمكنه عقد معاهدة معي أيضاً". وقد أردنا المجيء لنحذّركَ، فتأخذ حذركَ مِن دوراس.»

 

«لقد قُضِي الأمر.»

 

«هل حَدَثَ ذلك؟ آه! بالطّبع. فهو لديه عربات وجياد ونحن لا نملك سوى سيقاننا. متى أتى؟»

 

«أمس.»

 

«وماذا جرى؟»

 

«إذا كانت لديكم النيّة بالاهتمام بدوراس، فيمكنكم الذهاب إلى بيته في أورشليم لتُشارِكوا في الحِداد. إنّهم الآن في صدد تهيئة القبر.»

 

«مات؟!!!»

 

«لقد مات هنا. ولكن لا نتكلمنّ عنه.»

 

«نعم يا معلّم... قُل لنا فقط، هل صحيح ما قاله عن منّان؟»

 

«نعم، هل يسوءكم هذا؟»

 

«آه! بل يُسعِدنا! لقد كَلَّمناه عنكَ كثيراً في مكرونة! وماذا يريد رسول سوى أن يكون معلّمه محبوباً؟ هذا ما كان يبغيه يوحنّا، ونحن معه.»

 

«إنّكَ تجيد التحدّث يا متّياس. تملك الحكمة.»

 

«أنا... لا أظنّ ذلك. ولكنّنا قد التقينا تلك الـ... لقد كانت عندنا قبل عيد المظالّ تبحث عنكَ، وقد قُلنا لها: "إنّ الذي تبحثين عنه ليس هو ها هنا، ولكنّه سوف يكون قريباً في أورشليم، في عيد المظالّ". لقد كَلَّمناها هكذا لأنّ المعمدان قال لنا: "انظروا إلى تلك الخاطئة: إنّ لها قِشرة قَذارة، إنّما في داخلها شُعلة مُتّقِدة، تَضطَّرِم باستمرار، وسوف تصبح تَوبَة لدرجة تتكسّر معها تلك القِشرة ويحترق كلّ شيء، وتَسقُط القَذارة، ولن يبقى سوى الشُّعلة". هكذا قال. ولكن هل صحيح أنّها تنام هنا، كما جاء يقول اثنان مِن الكَتَبَة ذَوي النُّفوذ؟»

 

«لا، بل إنّها في أحد إسطبلات الوكيل، على مسافة مِن هنا.»

 

«أَلسِنة جَهَنّمية. هل سَمِعتَ؟ وهُم!...»

 

«دعهم يقولون. فالصَّالِحون لا يُصدِّقون أقوالهم بل أعمالي.»

 

«هذا ما يقوله يوحنّا أيضاً. منذ بضعة أيّام قال له بعض التلاميذ بحضورنا: "يا معلّم، إنّ الذي كان معكَ في الأردن وشَهِدتَ له، يُعَمِّد الآن. والجميع يذهبون إليه. لن يبقى لكَ مؤمنون".

 

وقد أجاب يوحنا: "طوبى لأُذني التي تَسمَع هذا الخَبَر! لا تَعلَمون مِقدار الفرح الذي وَهَبتُموني إيّاه. اعلَموا أنّ الإنسان لا يستطيع أن يَأخُذ ما لم يُعطَ له مِن السماء. يمكنكم أن تَشهَدوا أنّني قُلتُ لكم: إنّني لستُ المسيح، بل إنّما أنا السابق لأُعِدّ له الطريق. فالإنسان البارّ لا يَدَّعي لنفسه اسماً ليس له، حتّى ولو أراد أحد مَدحه بقوله: ”أنتَ هو“. أي القدّوس. فيقول: ”لا. بالحقيقة لا. فأنا خادِمه“. وبالمقابل يَشعُر بفرح عظيم إذ يقول: إنّني أُشبِههُ قليلاً، لذا يَظنّ البعض أنّي هو. وماذا يبتغي الذي يحبّ غير أن يُشبِه الذي يحبّه؟ وحدها العروسة تَسعَد بعروسها. والذي كان الوسيط لهذا الزواج فلا يمكنه ذلك، لأنّ الأمر يصبح فِسقاً واختلاساً. ولكنّ صديق الزوج الذي يَمكُث في جِواره ويسمع صوته الـمُفعَم ببهجة العُرس، إنّما يَختَبِر فرحاً عظيماً يُشبِه إلى حدّ ما فرح العذراء التي تَزَوَّجَها صديقه، ويَتَذوَّق عَسَل كلام العُرس. هذا هو فرحي، وهو كامل. ماذا يَفعَل أيضاً صديق الزوج، بعد خدمته له شهوراً، أثناء وبعد أن يُواكِب العروس حتّى البيت؟ إنّه يَنسَحِب ويختفي. هكذا هي الحال بالنسبة لي! والذي يبقى واحد فقط: الزوج مع الزوجة: الإنسان مع الإنسانيّة. آه! يا لتلك العِبارة العميقة! يجب أن يَتعاظَم هو وأتضاءل أنا. الذي يأتي مِن السماء هو فوق الجميع. والأحبار والأنبياء يتلاشون لدى وصوله. إذ إنّه يُشبه الشمس التي تُنير كلّ شيء بنور عظيم لدرجة أنّ النجوم والكواكب التي انطَفَأَ نورها تعود لتلبس نور تلك الشمس، والذين ليسوا سوى ظُلُمات بطبيعتهم، فيَتَلاشون في بهائه الفائق. وهذا هو الواقع، إذ إنّه قد أتى مِن السماء، بينما المفروض أن يذهب الأحبار والأنبياء إلى السماء، عِلماً أنّهم لا يأتون منها. والذي يأتي مِن السماء هو فوق الجميع، ويُبَشِّر بما رأى وسَمِع. ولا يستطيع أحد قبول شهادته إذا لم يتوجّه إلى السماء، وإلّا فهو يَكفر بالله. والذي يتقبَّل شهادة الذي نَزَل مِن السماء، يَختم بعقيدته إيمانه بالله الحقّ، وليس بِحِكاية لا أساس لها مِن الصحّة. يَشعُر بالحقّ لأنّ له نَفْساً تبحث عنه. ذلك أنّ الـمُرسَل مِن قِبَل الله حسب تعبير كلام الله، لأنّ الله مَلَأَه بالروح، والروح يقول: "ها أنا ذا، خُذني، أريد أن أكون معكَ، أنتَ يا بهجة حبّنا". إذ إنّ الآب يحبّ الابن بغير قياس، وقد سَلَّمَه كلّ شيء. إذن فَمَن يؤمن بالابن يَنَل الحياة الأبديّة. لكنّ الذي يَرفض الإيمان بالابن فلن يرى الحياة، وسيبقى غضب الله فيه وعليه".

 

هكذا قال، وقد حُفِرَتْ كلماته في نفسي لأرويها لكَ.» يقول متّياس.

 

«وأنا أُثني عليكَ وأشكركَ. إنّ آخر أنبياء إسرائيل ليس الذي نَزَلَ مِن السماء، ولكنّه الأقرب إلى السماء، بِنَيله فوائد المواهب الإلهيّة مُذ كان في أحشاء والدته -أنتم لا تعرفون ذلكَ، إنّما أنا أقوله لكم-.»

 

«ماذا؟ ماذا؟ آه! تابِع الرواية! فهو يقول عن نفسه "أنا الخاطئ".» الرُّعاة الثلاثة مُتَلهِّفون للاطِّلاع، وكذلك التلاميذ لديهم الرغبة ذاتها.

 

«عندما كانت أُمّي تحملني في أحشائها، عندما كانت حَبلى بي أنا-الله، ولأنّها المتواضعة والـمُحِبّة، ذَهَبَت لتَخدم والدة يوحنّا التي كانت نسيبتها مِن جهة والدتها، وقد حَبِلَت به في شيخوختها. وقد كان للمعمدان روح آنذاك، حيث كان في شَهره السابع، وبِذرة الإنسان الـمُحتواة في أحشائها الأموميّة، اهتزت فَرَحاً لدى سماع صوت عروس الله. فكان هو السابق كذلك بفعل أنّه سَبَقَ الـمُفتَدين، حيث انتَقَلَت النّعمة مِن أحشاء إلى أخرى، ووَلَجَت فيها، وبذلك امَّحَت الخطيئة الأصليّة مِن نَفْس الطفل. أقول إذن، إنّ ثلاثة على الأرض يَمتَلِكون الحكمة، كما أنّ ثلاثة في السماء هُم الحكمة: الكلمة والأُمّ والسّابِق على الأرض؛ والآب والابن والروح القدس في السماء.»

 

«الدهشة تملأ نَفْسنا... تقريباً كما عندما قِيل لنا: "لقد وُلِد مَسيّا..." فأنتَ الرحمة التي لا يُسبَر غَورها، ويوحنّا، الذي لنا، هو التَّواضُع الذي لا حدود له.»

 

«وأُمّي هي الطَّهارة التي لا حدود لها، والنّعمة التي لا حَصر لها، والمحبّة التي لا نهاية لها، والطاعة التي لا قياس لها، والتَّواضُع الذي لا قرار له، وهي بَحر الفضائل كلّها التي نَبْعها الله، وهو الذي يَسكُبها في قدّيسيه.»

 

«يا معلّم» يقول يعقوب بن زَبْدي «لقد وَصَلَ الكثير مِن الناس.»

 

«هيّا تعالوا أنتم أيضاً.»

 

الناس كثير عددهم.

 

«السلام معكم.» يقول يسوع مبتسماً كما في القليل مِن الأحيان. الناس يُثَرثِرون ويُشيرون إليه بالأصابع. هناك الكثير مِن الفُضوليّين.

 

«قيل: ”لا تُجرّب الربّ إلهكَ“.

 

غالباً ما تُنسى هذه الوصيّة. إنّنا نُجرِّب الله عندما نريد فرض إرادتنا الخاصّة عليه. نُجرِّب الله عندما نتصرّف بِتَهَوّر ضدّ أوامر الشريعة المقدّسة والكاملة، وما فيها مِن روحانيّ وأساسيّ، ونهتمّ، بل يَشغَل بالنا الجسد الذي خَلَقَه الله. نُجرِّب الله عندما نعود إلى الخطيئة بعد تَلَقّي غفرانه. نُجرِّب الله عندما، بعد تَقَبُّلنا نِعَمه، نُسيء إليها باستعمالها بأنانيّة، ودون التفكير بِمَن مَنَحَها. لا مجال للمزاح مع نِعَم الله، فلا نَسخرنّ منه. إذ إنّ هذا هو ما يحصل غالباً.

 

أمس رأيتم العِقاب الذي يَنـزِل بِمَن يَسخَر مِن الله. فالله الأزليّ، الـمُفعَم رحمة لِمَن يتوب، وهو على العكس في مُنتَهى الصَّرامة تجاه مَن لا يتوب ولا يَقبَل أن يتغيّر. تأتون إليَّ لسماع كلمة الله. تأتون إليَّ لتَحصَلوا على المعجزة. تأتون إليَّ لتنالوا المغفرة، والله يمنحكم الكلمة والمعجزة والمغفرة. وأنا لستُ أتحسَّر على السماء، وذلك لأنّني أستطيع أن أمنحكم المعجزة والمغفرة، وأنّني أستطيع أن أجعلكم تَعرفون الله.

 

لقد سَقَطَ الرَّجل ميتاً على الفور مثل ناداب وأبيّا مِن جراء نار الغَضَب الإلهيّ. أمّا أنتم فإيّاكم أن تُدينوه. ليكن فقط ما جرى مُجرّد معجزة جديدة تجعلكم تُفكّرون بالطريقة التي تتصرّفون بها لتَتَّخِذوا الله صديقاً لكم. فهو كان يريد ماء التوبة ولكن بدون الروح الفائق الطبيعة. كان يريده بِمَنطق بشريّ، كممارسة سحريّة تُشفيه مِن مرضه وتُخلّصه مِن البؤس. جسده ومَحصوله، لم يكن لديه هدف آخر، لا شيء مِن أجل نَفْسه المسكينة، ولم يكن لها أيّة قيمة لديه، بل جُلّ ما كان يَهمّه هو المال والحياة.

 

أقول لكم: حيث يكون كنـزكم هناك يكون قلبكم، وحيث يكون قلبكم فهناك يكون كنـزكم. ففي القلب إذن يُوجَد الكنـز. وهو لم يكن في قلبه سوى التعطُّش إلى الحياة وامتلاك الكثير مِن المال. كيف يتمّ تأمينه؟ بأيّة وسيلة حتّى ولو كانت الجريمة. وإذن، أَفَلم يكن طَلَبَه للمعموديّة سُخرية مِن الله وتجربة له؟ وقد كانت تكفيه تَوبة بسيطة صادقة عن حياة الخطيئة الطويلة، لتُوَفِّر له مِيتة مقدَّسة، وحتّى ما كان يمكنه الحصول عليه بِعَدل على الأرض. إلّا أنّه كان رافضاً للتوبة، كونه لم يكن يحبّ أحداً خارج ذاته، حتّى وَصَلَ إلى الدَّرَجة التي لم يَعُد معها يحبّ نفسه، ذلك أنّ الحقد يَقتُل حتّى الحبّ الحيوانيّ والأنانيّ، حبّ الذات. كان ينبغي أن تكون دموع التّوبة الصادقة هي ماء التطهير بالنسبة إليه. وكذلك بالنسبة إليكم جميعاً، يا مَن تَسمعوني. لأنّه لا أحد مُنـزّه عن الخطيئة، وبالتالي فجميعكم بحاجة إلى هذا الماء، وهو يَسيل مَعصوراً مِن القلب، فيَغسِل ويعيد العذريّة لِمَن كانت قدسيّته قد انتُهِكَت، ويُنهِض مَن سَقَط، ويُعيد الحيويّة لِمَن كانت الخطيئة قد استَنـزَفَت دمه.

 

لم يكن يشغل بال ذاك الرجل سوى وَيلات الأرض. بينما المفروض ألّا يكون هناك سِوى وَيل واحد يجعل الإنسان يُفكّر: البؤس الأزليّ بفقدان الله. لم يكن ذاك الرجل ينسى التّقادِم الطّقسيّة، إلّا أنّه لم يكن يعرف أن يُقَدِّم لله تضحية روحيّة واحدة، أعني الابتعاد عن الخطيئة، التّوبة، طَلَب الغفران بالأفعال. فالتّقادِم الـمُنطَوية على رِياء، والتي يتمّ تقديمها مِن ثروات جُمِعَت مِن خيرات مُقتَناة بشكل سيّئ، تُشبه دعوة الله إلى المشاركة بأفعال الإنسان السيّئة. فهل يمكن أن يَحدث هذا أبداً؟ أوليست هذه الجرأة سُخرية مِن الله؟ والله يُقصي عنه ذاك الذي يقول: "هي ذي تضحيتي"، بينما هو يَتَحَرَّق لمتابعة حياة الخطيئة. هل صَادَفَ أن نَفَعَ صيام الجسد بشيء، عندما لا تكون النَّفْس عازمة على الصيام عن الخطيئة؟

 

فليجعلكم موت الرجل الذي حَدَثَ هنا تُفكّرون بالشروط الضروريّة لتكونوا حقيقة مَحبوبين مِن الله. والآن، وفي قَصره البَاذِخ، أهله والباكون عليه يُقيمون الحِداد على جثمانه الذي سيأخذونه، عمّا قليل إلى القبر.

 

آه! إنّه حِداد حقيقيّ، وجثّة حقيقيّة! لم يَعُد سِوى جثّة! ولا شيء آخر سِوى حِداد بلا رجاء. إذ إنّ النَّفْس، وقد أَصبَحَت ميتة، ستكون على الدوام مُنفَصِلة عن الذين أَحَبَّهم بفعل القَرابة أو تآلُف الأفكار. وحتّى ولو جَمَعَتهم إقامة متماثلة على الدوام، فالحقد الذي يهيمن سوف يُفرّقهم. حينئذ يكون الموت فِراقاً حقيقيّاً. وقد كان مِن الأَجدَر، بَدَل بكاء الآخرين، أن يكون الرجل هو الذي يبكي على ذاته، لأنّه قَتَلَ نفسه، وبدموع الإنسان التائب والـمُتواضِع، يُعيد الحياة لنفسه مع غفران الله.

 

اذهَبوا دونما حِقد أو انتقاد، دون أيّ شيء آخر غير التَّواضُع. مثلي أنا، وقد تَحدَّثتُ عنه بلا حِقد، بل بِتَقييم مُنصِف عادِل. فالحياة والموت يُعَلِّمان أن يحيا الإنسان خَيِّراً ويموت خَيِّراً، وذلك بنيله الحياة التي لا يعتريها الموت. السلام معكم.»

 

لا مرضى ولا معجزات، وبطرس يقول لتلاميذ المعمدان الثلاثة: «إنّني مستاء مِن أجلكم.»

 

«آه! يجب ألّا يكون هذا. فإنّنا نؤمن دون أن نرى. لقد حَصَلنا على معجزة وِلادته، فَجَعَلَتنا مؤمنين. والآن حَصَلنا على كلمته لِتُثبّت إيماننا وتَدعَمه. ونحن لا مَطلَب لنا سوى أن نكون مؤمنين أوفياء حتّى بلوغ السماء مثل يونا أخينا.»

 

وينتهي كلّ شيء.