ج5 - ف33

أَنَا هُوَ

ماريا فالتورتا

L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO

THE GOSPEL AS REVEALED TO ME

بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}

L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ

MARIA VALTORTA

الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.

 

الجزء الخامس/ القسم الأول

 

33- (في القصر في قيصريّة بانياد)

 

29 / 11 / 1945

 

وانتهى تناول الطعام في البيت المضيف. يَخرُج يسوع مع الاثني عشر والتلاميذ والعجوز صاحب البيت. يعودون إلى «الينبوع الكبير»، ولكنّهم لا يتوقّفون. يتابعون طريقهم صوب الشمال.

 

الطريق التي سَلَكوها، رغم كونها صاعدة، هي طريق عمليّة، ذلك أنّه يمكن للعربات والجياد سلوكها. في الأعلى، على قمّة جبل، يوجد قصر ضخم أو قلعة، مُدهِش بسبب شكله الفريد. تحسبه بِنائَين شُيِّدا بفارق بضعة أمتار في مستوى الواحد عن الآخر، حتّى إنّ البناء الخلفيّ مُحصّن أكثر مِن الآخر، وأعلى منه ويهيمن عليه ويحميه. جدار عال وعريض، تُشرِف عليه أبراج ضخمة مربّعة الشكل، يَصِل البِنائين اللذين يشكّلان مع ذلك مجمّعاً واحداً، إذ إنّهما محاطان بسور وحيد مِن حجارة ذات نتوء، شاقوليّة أو مائلة قليلاً عند القاعدة لتقدّم مرتكزاً أفضل لثقل سور الحصن. لستُ أرى الجهة الغربيّة، ولكنّ الجهتين الشماليّة والجنوبيّة يَقَعان على مستوى واحد مع الجبل المنعزل شديد الانحدار مِن جهتيه، وأظنُّ الأمر كذلك مِن جهته الغربيّة.

 

بنيامين العجوز، بسبب افتخار كلّ إنسان بمدينته، يُبرِز أهميّة قصر الربع، الذي هو في الوقت ذاته مركز دفاع عن المدينة، ويُعدِّد جمال، وقدرة وصلابة وملاءمة الصهاريج والأحواض، والمساحات الفارغة، وحقل الرؤية الرحب، وموقعها، ألخ، ألخ... «حتّى الرومان يُقرِّون بجماله. وهُم خبراء في ذلك!...» يختم العجوز. ويضيف: «أعرف القَيّم عليه. كذلك بإمكاني إدخالكم إليه. سوف أجعلكم تَرَون أرحب وأجمل مشهد لفلسطين.»

 

يُنصِت يسوع بانتباه. يبتسم الآخرون قليلاً، هُم الذين رأوا مشاهد كثيرة... ولكنّ العجوز طيّب لدرجة أنّهم لا يجرؤون على قهره ويؤيّدون رغبته في أن يُري يسوع أشياء جميلة.

 

يَبلغون القمّة. المنظر جميل حقّاً، حتّى مِن الساحة الصغيرة قرب بوّابة الدخول الحديديّة. ولكنّ العجوز يقول: «تعالوا، تعالوا!... في الداخل أجمل. سوف نصعد إلى أعلى مكان مِن الحصن. سوف تَرَون...» يَلِجون المدخل المظلم المحفور في السور العريض بضعة أمتار، ليصلوا إلى باحة ينتظرهم فيها القيّم وعائلته. يتصافح الصديقان ويَشرَح العجوز سبب زيارته.

 

«رابّي إسرائيل؟! خسارة أن يكون فليبّس غائباً. كان يرغب في رؤيته، إذ قد بَلَغَه صيته. إنّه يحبّ الرابّيين الحقيقيّين، ذلك أنّهم وحدهم الذين دافعوا عن حقوقه، وكذلك لِيَسخر مِن أنتيباس الذي لا يحبّهم. تعالوا، تعالوا!...» حَدَّقَ الرجل أوّلاً بيسوع، ثمّ فَكَّرَ أنّه يحسن به أن يبجّله بالانحناء أمامه انحناءة تليق بِمَلِك.

 

يَجتازون مَدخَلاً ثانياً، وها هي دار أخرى وبوّابة حديديّة أخرى تُفضي إلى دار تليها حُفرة عميقة ثمّ السور الذي تزيّنه أبراج الحصن. وتَظهَر مِن كلّ صوب وجوه الجنود والضبّاط الفضوليّة. يَلِجون الحصن، ثمّ، وعَبْر سُلّم، يَصعَدون إلى المعقل ومنه إلى برج. إلى البرج يدخل يسوع فقط مع القيّم وبنيامين والاثنا عشر. لا يمكن لأكثر مِن ذلك، لأنّهم أصبحوا في حشر كسمك البَلَم. يظلّ الآخرون في المعقل.

 

ولكن يا له مِن مَنظَر عندما يَخرُج يسوع ومَن يُرافِقه إلى الشرفة الصغيرة التي تتوِّج البرج، ويحني الجميع وجوههم مِن أعلى الحاجز الحجريّ! وبالانحناء مِن فوق الجدار الموجود في تلك الجهة الغربيّة، تُرى القيصريّة بأكملها تمتدّ في أسفل هذا الجبل، وتُرى جيّداً لأنّها هي كذلك ليست في سهل، إنّما على منحدرات لطيفة. وبعد القيصريّة، يمتدّ كلّ السهل الخصيب الذي يسبق بحيرة ميرون. تحسبه بحراً مِن الاخضرار الناعم، مع بُقَع مِن المياه الفيروزيّة الصافية التي تلمع على المدى الأخضر كقطع مِن السماء الصافية. ثمّ تلال ممتعة كقلادة مِن الزمرّد الأخضر الداكن، مخطَّطَة بِلُجين شجر الزيتون المنتشر هنا وهناك على حوافّ السهل، ثمّ هي خوذات الأشجار ذوات الزهر الجويّة، أو كتل الأشجار الـمُزهِرة... إنّما لدى النَّظَر صوب الشمال والشرق يظهر لبنان بسلطانه، حرمون الذي يتلألأ تحت الشمس مُكلَّلاً بثلوجه وجبال إيطورية؛ ثمّ وادي الأردن المحشور في المهد المشكَّل بين روابي بحر طبريّا وجبال الجولان، يَظهَر في مُختَصر جسور، يضيع في حلم بعيد.

 

«جميل! جميل! جميل جدّاً!» يَهتف يسوع بإعجاب، ويبدو وكأنّه يُبارِك أو يُعانِق تلك الأمكنة الرائعة بذراعيه اللتين يفتحهما ووجهه المبتسم. ويُجيب الرُّسُل الذين يطرحون عليه هذا وذاك من الاستفسارات، وهو يشير إلى المواقع التي كانوا فيها، أو المناطق والاتّجاهات التي تقع فيها.

 

«ولكنّني لا أرى الأردن.» يقول برتلماوس.

 

«أنتَ لا تراه، ولكنّه في هذا المدى الرحب بين سلسلتي جبال. مباشرة خلف تلك الغربيّة يوجد النهر. سوف ننحدر مِن هذه الناحية لأنّ البيريه والمدن العشر ما تزال تنتظر الـمُبشِّر.»

 

ولكنّه يلتفت في هذه اللحظة، وكأنّه يَسأَل الهواء عن نواح طويل ومخنوق يَطرق الآذان، وليس للمرّة الأولى. ويَنظُر إلى القيّم كما ليَسأَله عمّا يحصل.

 

«إنّها واحدة مِن نساء القصر، زوجة. هي على وشك الولادة. وهو الأوّل والأخير، ذلك أنّ زوجها توفّي في مطلع شهر كاسلو (نوفمبر-ديسمبر). ولستُ أدري إذا ما كان سيعيش الوَلَد، ذلك لأنّ المرأة، منذ أن أَصبَحَت أرملة، وهي لا تكفّ عن البكاء والنحيب، حتّى أَصبَحَت كالخيال. هل تسمع؟ لم تعد لها حتّى القدرة على الصراخ... بالتأكيد... أرملة في السابعة عشرة... وقد كانا متحابّين كثيراً. زوجتي وحماتها تقولان لها: "سوف تَرَين طوبيّا في الوَلَد". ولكنّها تَبقى كلاماً في كلام...»

 

يَهبطون مِن البرج ويدورون حول المعاقل، مُعبِّرين باستمرار عن إعجابهم بالموقع والمشهد. ثمّ يريد القيّم حتماً تقديم المشروبات والفواكه للضيوف، ويَدخُلون غرفة رَحبة في مقدّمة الحصن، حيث أَحضَرَ الخُدّام ما أُمِروا بإحضاره.

 

النحيب أَصبَحَ أكثر تفتيتاً للقلب وأقرب، ويعتَذِر القيّم كذلك لأنّ هذا ممّا يَحجز امرأته بعيداً عن المعلّم. ولكنّ صَرخَة أكثر إيلاماً مِن النحيب السابق تجعل الأيادي التي تحمل الفاكهة تثبت في الهواء، والتي تحمل الكؤوس تثبت على الأفواه.

 

«أنا ماض لأرى ما الذي يَحدُث» يقول القيّم. ويَخرُج بينما الصرخات المتنافرة والعويل تَدخُل بشكل أقوى عَبْر الباب شبه المفتوح.

 

يعود القيّم: «لقد مات وليدها حالاً بعد الولادة... يا له مِن عذاب! تُحاوِل إحياءه بما تبقى لها مِن قوّة... ولكنّه لم يعد يتنفّس. لقد امتَقَعَ لونه بالسواد!...» ويهزّ رأسه مضيفاً: «يا لها مِن مسكينة، دوركا!»

 

«هات الوليد إليَّ.»

 

«ولكنّه ميت يا سيّدي.»

 

«هات الوَلَد، أقول لكَ، كما هو. وقُل للأُمّ أن تتحلّى بالإيمان.»

 

يَبتَعِد القيّم. ثمّ يعود: «هي لا تريد. تقول إنّها لن تعطيه لأحد. تبدو كالمجنونة. تقول إنّنا نفعل هذا لنأخذه منها.»

 

«قُدني إلى عَتَبَة غُرفَتها كي تراني.»

 

«ولكن...»

 

«دع عنكَ! سوف أتطهّر فيما بعد، أللهمّ إذا...»

 

يَذهَبون بسرعة، عَبْر ممرّ مُظلِم، إلى باب مُغلَق. يَفتَحه يسوع بنفسه ويَبقى عند العتبة، في مواجهة السرير حيث تجلس امرأة رقيقة تضمّ إلى صدرها طفلاً صغيراً لا يُبدي أيّة إشارة لحياة.

 

«السلام لكِ يا دوركا. انظري إليَّ. لا تبكي. أنا الـمُخلّص. أعطيني صغيركَ...»

 

لستُ أدري على أيّ سرّ ينطوي صوت يسوع. ما أعرفه هو أنّ المرأة اليائسة، التي ضمّت وليدها بشدّة إلى صدرها لمجرّد رؤيته، قد فُتِحَت عينها ونظرتها المضطربة والمجنونة على نور مؤلم، ولكنّه مُفعَم رجاء. فتعطي الكائن الصغير الملفوف بالقمط الناعمة إلى زوجة القيّم... وتَبقَى في مكانها، يداها ممدودتان، والحياة والإيمان في عينيها المتّسعتين، لا تَسمَع توسُّلات حماتها التي أرادت جعلها تسترخي.

 

يأخذ يسوع صرّة اللحم نصف الباردة والقُمَط، يمسك به مستقيماً مِن إبطه، ويضع فمه على الشفتين شبه المفتوحتين وهو مُنحَنٍ، ذلك أنّ الرأس الصغير يتدلّى إلى الخلف. يَنفُخ بقوة في الحنجرة الخامدة... ويُبقي للحظة الشفتان على الفم الصغير، ثمّ يبتعد... وترتجف زقزقة في الجوّ الساكن... نفخة ثانية أقوى... وثالثة... أخيراً صُراخ وليد حقيقيّ مع محاولة تحريك الرأس الصغير، هازّاً يديه ورجليه، بينما، مِن جرّاء بكاء انتصار طويل لوليد، يتلوّن رأسه الخالي مِن الشعر، وجهه الصغير... ويُجيبه صراخ أُمّه: «وَلَدي! حُبّي! ذريّة طوبيا! على صدري! على صدر أُمّكَ... ولِأمُتْ سعيدة...» تقول ذلك في تمتمة تَخمُد في قبلة وحركة تخلٍّ يمكن إدراكها.

 

«لقد ماتت!» تَصرُخ النساء.

 

«لا. إنّها تدخل في راحة تَستَحقّها. عندما تستيقظ قُلن لها أن تسمّي الصبي: يسى-طوبيا. سوف أراها ثانية في الهيكل يوم تطهيرها. وداعاً. السلام معكم.» يُغلِق الباب ثانية بهدوء ويدور للعودة إلى حيث كان، عند تلاميذه. ولكنّهم جميعاً هنا، مجموعة متأثّرة رأت وتَنظُر إليه بإعجاب.

 

يَعودون معاً إلى الدار. يُحيّون القيّم المذهول ولا يكف مِن تَرديد: «كم سيأسف حاكم الربع لعدم كونه هنا!» ويُعاوِدون الهبوط للعودة إلى المدينة.

 

يضع يسوع يده على كتف بنيامين العجوز وهو يقول له: «أشكركَ على ما أَريتَنا، وعلى كونكَ السبب في اجتراح معجزة.»...