ج8 - ف47
أَنَا هُوَ
ماريا فالتورتا
L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO
THE GOSPEL AS REVEALED TO ME
بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}
L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ
MARIA VALTORTA
الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.
الجزء الثامن
47- (يوم السبت السابق لدخول أورشليم، III- عشاء بيت عنيا.)
28 / 03 / 1947
إنّ العشاء قد أُعدّ في القاعة البيضاء بكلّيتها حيث تحدث يسوع إلى التلميذات. إنّ كلّ شيء هو بهاء أبيض وفضّي، حيث تضفي مسحة أقلّ ثلجيّة وبرودة حُزَم أغصان تفّاح أو إجاص أو أشجار مثمرة أخرى، هي نقيّة كالثلج، إنّما مع ذكرى ورديّة رهيفة تُذكّر بثلج تلمسه قبلة فجر بعيد. إنّها تنتصب مِن مزهريّات بطينة أو مِن قوارير فضيّة رفيعة موضوعة على الطاولات والصناديق والخزائن الّتي هي على طول جدران القاعة. الأزهار تنشر عبر القاعة العبق المميّز لأزهار الأشجار المثمرة، النضرة، اللاذعة قليلاً، للربيع النّقي…
لعازر يدخل إلى القاعة إلى جانب يسوع. وراءهما الرُّسُل، اثنين اثنين، أو مجموعات أكثر عدداً. وأخيراً، أختَيّ لعازر مع مكسيمين.
لا أرى التلميذات. ولا حتّى مريم أراها. ربّما فَضَّلن البقاء في المنزل حول الأُمّ المحزونة.
يقترب الغسق. إنّما بعض مِن أشعّة الشمس تبقى لتضرب سعفاً تحفّ لبعض نخلات متجمّعة على بُعد بضعة أمتار مِن القاعة، وقمّة شجرة غار عملاقة حيث تتعارك بعض العصافير قبل أن تخلد إلى النوم. وإلى ما وراء النخلات وشجرة الغار، وما وراء سياجات الورد والياسمين، ومساكب زنابق الوادي، وزهور أخرى ونباتات عطريّة، هناك البقعة البيضاء، الـمُعَشَّقة بالأخضر الرهيف للوريقات الأولى، لمجموعة أشجار تفّاح أو إجاص المتأخّرة في الإثمار. إنّها تبدو مثل سحابة لبثت متعلّقة بالأغصان.
فيما يسوع يمرّ قرب قارورة مزيّنة بالأغصان، يلاحظ: «قد كانت تحمل بالفعل بواكير الثمار. أُنظر! عند القمة توجد أزهار، بينما إلى الأسفل فقد سقطت الزهرة وانتفخ المبيض.»
«هي مريم الّتي أرادت قطفها. لقد جلبت منها حزماً لأُمّكَ أيضاً. لقد نَهَضَتْ عند الفجر، لخوفها مِن أن يُفسِد يوم آخر مِن الشمس هذه التويجات الهشّة. لقد علمتُ منذ قليل بهذه المذبحة. إلّا أنّني لم أشعر بالسخط كما شعر به خدّام البستنة. بل بالأحرى قد فكّرتُ بأنّه كان مِن الصواب أن نقدّم كلّ جمالات الخليقة، لكَ أنتَ، مَلِك كلّ الأشياء.»
يجلس يسوع مبتسماً في مكانه وينظر إلى مريم، الّتي تتهيّأ مع أختها للخدمة كما لو أنّها خادمة، مُقدّمةً الأكواب للتطهير والمناشف، ومِن ثمّ ساكبةً الخمر في الكؤوس، وواضعةً صواني الأطعمة على المائدة كلّما أتى بها الخدّام مِن المطبخ، أو الّتي يقدّمونها بعد أن يقسموها على الصناديق.
وإذا كانت الأختان تخدمان جميع الجالسِين بلطف، فمن الطبيعي أن يتركّز اهتمامهما بشكل خاصّ على الجالِسَين الأعزّ إليهما: يسوع ولعازر.
وفي لحظة معيّنة، فإنّ بطرس الّذي يأكل بشهيّة يلاحظ: «أُنظر! لقد لاحظتُ للتوّ! أنّ كلّ الأطباق هي كما تلك الّتي تُقدَّم في الجليل. يبدو لي… ولكن نعم! يبدو لي أنّني في وليمة عرس. إنّما هنا لا ينقص النبيذ كما نقص في قانا.»
مريم تبتسم وهي تسكب مجدّداً للرسول كأساً جديدة مِن نبيذ عنبريّ وشديد النقاء. لكنّها لا تتكلّم.
وهو لعازر الّذي يتابع الشرح: «في الواقع كانت هذه نيّة الأختين، وخصوصاً مريم: خدمة وجبة طعام تجعل لدى المعلّم الانطباع بأنّه في جليله، بالتأكيد أفضل، أفضل كثيراً، رغم كونها مع ذلك ليست تماماً كالّتي يتمّ عمله في ذلك المكان...»
«إنّما لجعله يفكّر، كان يجب أن تكون مريم إلى هذه الطاولة. في قانا كانت موجودة. وبفضلها اجتُرِحَت المعجزة.» يبدي يعقوب بن حلفى ملاحظته.
«لا بدّ أنّه كان نبيذاً فاخراً!»
«النبيذ هو رمز بهجة، وكان ينبغي أن يكون رمزاً للخصب كذلك، كونه عصير الكرمة الخصبة. إنّما لا يبدو لي أنّه قد أخصب كثيراً. فسُوسَنّة لم تحظَ بطفل.» يقول الاسخريوطيّ.
«آه! أيّ نبيذ كان! لقد أخصب أرواحنا!...» يقول يوحنّا حالماً قليلاً، كما هو دوماً حين يتأمّل في داخله المعجزات الّتي اجترحها الله. ويختم: «عبر عذراء قد جرى ذلك… وتأثير طُهر حلّ في مَن تذوّقه.»
«إنّما أتظنّ بأنّ سُوسَنّة عذراء؟» يَسأَل الاسخريوطيّ ضاحكاً.
«لم أقل هذا. عذراء هي أُمّ الربّ. فالعذريّة تنضح مِن كلّ ما تمّ عبرها. لا أكفّ عن التفكير كم هو عذريّ كلّ ما يُعمَل عبر مريم…» ويحلم مجدّداً، مبتسماً لستُ أدري لأيّ رؤيا.
«طوبى لهذا الفتى! أظنُّه لم يعد يتذكّر حتّى العالم في هذه اللحظة. لاحظوه.» يقول بطرس مشيراً إلى يوحنّا، المتّكئ على أريكته، يحرّك شارداً قطع خبز صغيرة ناسياً أن يأكل.
يسوع أيضاً ينحني قليلاً كي ينظر إلى يوحنّا، الكائن في زاوية عند جانب المائدة الموضوعة بشكل U، وبالتالي إلى الوراء قليلاً مِن الربّ، الّذي هو وسط الجانب المركزي، وقريبه يعقوب إلى يساره ولعازر إلى يمينه، وبعد لعازر هناك الغيور ومكسيمين، كما بعد يعقوب ويعقوب الآخر هناك بطرس. أمّا يوحنّا فعلى العكس هو بين أندراوس وبرتلماوس، ثمّ توما، وقبالته يهوذا، مع فيلبّس ومتّى وتدّاوس، الّذي هو بالضبط عند الزاوية حيث تبدأ الطاولة، الطويلة، المركزيّة.
مريم أخت لعازر تخرج مِن القاعة، فيما مرثا تضع على الطاولة أواني مليئة بزهور تين غضّة، سوق شمّر خضراء، ولوز طازج مقشّر، فراولة أو توت علّيق، لستُ أدري، فهي تبدو أكثر حُمرةً وسط الشمّر شاحب الخُضرة، والزهور، وإلى جانب اللوز، شمّامات صغيرة أو فاكهة أخرى مِن النوع ذاته… الّتي تذكّرني بشمّامات جنوب إيطاليا الخضراء، وبرتقالاً ذهبيّاً.
«هذه الثمار الآن؟ لم أرَ منها ناضجةً في أيّ مكان.» يقول بطرس جاحظاً عينيه، مشيراً إلى الفراولة والشمّامات.
«لقد أتت في قسم منها مِن الشاطئ ما بعد غزّة، حيث لي بستان مِن هذه المنتجات، وقسم مِن الدفيئات الّتي لديّ فوق منزلي، المشاتل للنباتات الأضعف الّتي يجب حمايتها مِن الصقيع. لقد علّمني صديق روماني كيفيّة زراعتها… إنّه الأمر الصالح الوحيد الّذي عَلَّمني إياه…» لعازر يتجهّم. مرثا تتنهّد… لكنّ لعازر يعود فوراً المضيف المثالي الّذي لا يسبّب حزناً لضيوفه: «إنّه معتاد، في فيلاّت بايّي وسيراكوزا وعلى طول خليج سيباريس، زرع هذه الأطايب بهذه الطريقة للحصول عليها بشكل مبكّر. كُلوا: آخر ثمار البرتقال الليبي، بواكير شمّام مصر، الّتي نمت في الدفيئات، وهذه الثمار اللاتينيّة، ولوز وطننا الأبيض، الفول الطريّ، السوق الـمُهَضِّمة الّتي بمذاق اليانسون… يا مرثا، هل فكّرتِ بالطفل؟»
«لقد فكّرتُ بكلّ شيء. إنّ مريم قد تأثّرت بتذكّرها مصر…»
«قد كانت لنا بعض نباتات منها في حديقة خضراواتنا الفقيرة. في الحرّ الشديد كان عيداً تغطيس الشمّام في بئر جارنا، الّتي كانت عميقة وباردة، والأكل منه في المساء… أتذكّر… وكان عندي معزاة شَرِهة كان ينبغي حراستها، لأنّها كانت مولعة بالنباتات حديثة النموّ والثمار الطريّة…» يسوع، الّذي كان يتكلّم ورأسه محنّي بعض الشيء، يرفع رأسه وينظر إلى أشجار النخيل الّتي تحفّ في ريح المساء الّذي يحلّ: «عندما أرى أشجار النخيل هذه… دوماً حينما أراها، أرى مصر مجدّداً، ترابها الأصفر والرمليّ الّذي كانت الريح تثيره بسهولة كبيرة، وإلى البعيد ترتجف الأهرامات في الهواء المتخلخل… وجذوع النخيل العالية… والمنزل حيث… إنّما غير مجدٍ الحديث عنه. فلكلّ زمن متاعبه، ومع متاعبه أفراحه… يا لعازر، أتعطيني بعضاً مِن هذه الثمار؟ أودُّ حملها لمريم ومتياس. لا أظنّ بأنّ يُوَنّا لديها منها.»
«ليس لديها منها. قد كانت تتحدّث عنها البارحة، مزمعةً أن تزرع منها في بِتّير، مُشَيّدةً دفيئات. إنّما لن أعطيكَ منها الآن. فقد قطفتُ كلّ ما كان عندي، ولعدّة أيّام لن يكون لدينا ثمار ناضجة. سوف أرسلها لكَ، أو بالأحرى أَرسِل مَن يأخذها بحلول الخميس. سنقوم بتجهيز سلّة جميلة منها للطفلين. أليس كذلك يا مرثا؟»
«نعم يا أخي. وسوف نضع فيها زنابق الوادي الصغيرة الّتي تحبّها يُوَنّا كثيراً.»
مريم المجدليّة تعاود الدخول. بين يديها قارورة دقيقة العنق، تنتهي بمنقار جميل مثل منقار طير. المرمر باللون الأصفر الورديّ النفيس، مثل بشرة بعض الشقراوات. الرُّسُل ينظرون إليها، معتقدين ربّما أنّها تجلب أطايب نادرة. لكنّ مريم لا تمضي إلى الوسط، داخل U الطاولات حيث أختها. إنّها تمرّ مِن خلف الأرائك، تمضي لتأخذ لها مكاناً بين أريكة يسوع، وتلك الّتي للعازر، وتلك حيث اليعقوبان.
تنزع سدادة قارورة المرمر وتضع يدها تحت المنقار، ساكبةً بعض قطرات مِن سائل دَبِق (غَرَويّ) يسيل ببطء مِن القارورة المفتوحة. رائحة نفّاذة لمسك رومي ومستخلصات أخرى، عطر قويّ وجميل جدّاً يفوح عبر القاعة. لكنّ مريم ليست مسرورة بهذا القليل الّذي ينسكب. إنّها تنحني وتكسر بضربة واثقة عنق القارورة بزاوية أريكة يسوع. العنق الدقيق يسقط أرضاً ناثراً على رخام الأرضية قطرات معطّرة. الآن للقارورة فتحة واسعة، ووفرة الدهن تتدفّق منها بسماكة.
مريم تتمركز خلف يسوع وتصبّ الزيت الكثيف على رأس يسوعها، تدهن جميع الخصلات، تفردها ومِن ثمّ تعيد جمعها بمشط تنزعه مِن شعرها، وتعيد ترتيبها على الرأس المعبود. الرأس الأشقر-الأحمر ليسوع يسطع كما ذهب داكن، لامع جدّاً بعد هذا الدَّهن. إنّ ضوء المصباح الّذي أضاءه الخدّام، ينعكس على رأس المسيح الأشقر كما على خوذة برونزيّة نحاسية فائقة الجمال. إنّ العطر مُسكِر. إنّه يخترق الخياشيم، يصعد إلى الرأس، إنّه نَفَّاذ جدّاً مثل مسحوق العطاس مِن فرط ما هو نَفَّاذ، وقد سُكِب هكذا بلا قياس.
لعازر، يلفت رأسه إلى الوراء، يبتسم وهو يرى بأيّة عناية تدهن مريم خصلات شعر يسوع وتمشّطها كي يظهر رأسه مرتّباً بعد التدليك العَطِر. في حين أنّها لا تكترث بأنّ جدائلها لم تعد مدعومة بالمشط الكبير الّذي يساعد الدبابيس في ترتيبها، فتنسدل على العنق أكثر فأكثر، موشكةً على الانسدال كلّياً على الكتفين. كذلك مرثا تنظر وتبتسم. الآخرون يتحدّثون فيما بينهم بصوت منخفض وبتعابير مختلفة على الوجوه.
إنّما مريم غير راضية بعد، فلا يزال هناك الكثير مِن الدُّهن في الإناء المكسور، وشعر يسوع، بقدر ما هو كثيف، فهو بالفعل مُشبَع به. حينذاك تكرّر مريم بادرة محبّة أمسية بعيدة. إنّها تركع عند أسفل الأريكة، تحلّ سيور نعليّ يسوع وتعرّي قدميه، وغامسةً الأصابع الطويلة لليد الجميلة في الإناء، تسحب منه قدر ما تستطيع مِن الدُّهن، تبسطه على القدمين العاريتين، إصبعاً إصبعاً، ثمّ الباطن والكعب، وإلى أعلى عند الكاحل، الّذي تكشفه رادّة الثوب الكتّاني إلى الوراء، وأخيراً على ظاهر القدم، لابثةً عند المشط حيث ستدخل المسامير الرهيبة، وتثابر إلى أن لا تعود تجد بلسماً في قعر الإناء، حينئذ تهشّمه على الأرض، وحيث قد تحرّرت يداها، تنزع دبابيسها الضخمة، وبسرعة تحلّ جدائلها الثقيلة، وبهذه الحزمة الذهبيّة، الحيّة، الناعمة، المتدفّقة، تمسح فائض الدُّهن مِن قدميّ يسوع اللتين تقطران بلسماً.
يهوذا كان صامتاً حتّى الآن، مراقباً بنظرة شَبَق دَنِسة وغَيْرة، المرأة الجميلة جدّاً والمعلّم الّذي كانت تدهن رأسه وقدميه. يرفع الصوت، الصوت الوحيد للوم مُعلَن. الآخرون، ليس كلّهم بل بعضهم، كانوا قد تمتموا بعض الشيء أو قاموا بحركة استغراب مندهشة، إنّما بسكون. أمّا يهوذا، الّذي حتّى قد وقف كي يرى على نحو أفضل دَهن قدميّ المسيح، فيقول بنبرة سيّئة: «يا له مِن تبذير عَبَثيّ ووثنّي! لماذا فِعله؟ ومِن ثمّ يُراد ألّا يتحدّث رؤساء السنهدرين عن خطيئة! إنّها تصرّفات غانية شهوانيّة، ولا تتناسب مع الحياة الجديدة الّتي تتبعينها يا امرأة. إنّها تُذكّر كثيراً بماضيكِ!»
الإهانة هي بحيث أنّ الجميع يلبثون مشدوهين. وهي بحيث أنّ الجميع يهيجون، منهم مَن يجلس على أريكته، ومنهم مَن يهبّ واقفاً. الجميع ينظرون إلى يهوذا كما لو أنّه قد أصيب بالجنون فجأة.
مرثا تحمرّ. لعازر ينهض بعنف ضارباً المائدة بقبضته ويقول: «في منزلي…» إنّما بعدها ينظر إلى يسوع ويتوقّف.
«نعم. أتنظرون إليَّ؟ كلّكم قد تمتمتم في قلوبكم. إنّما الآن، لأنّني جعلتُ نفسي صداكم، وقلتُ جهراً ما كنتم تفكّرون به، فها أنتم على استعداد لإلقاء اللوم عليَّ. أكرّر ما قلتُه. لا أريد القول إنّ مريم هي عشيقة يسوع. بل أقول إنّ تصرّفات معيّنة لا تليق به ولا بها. إنّه فِعل متهوّر. وظالم كذلك. نعم. لماذا هذا الإسراف؟ فإن هي كانت تريد تدمير ذكريات ماضيها، فقد كانت تستطيع إعطائي ذاك الإناء وتلك المراهم. أقلّه كان هناك ليبرة مِن الناردين النقي! وهو ذو قيمة كبيرة. لكنتُ بعتُه بثلاثمائة دينار على الأقل، لأنّ نارديناً بهذه القيمة يساوي هذا السعر. وكان بإمكاني بيع الإناء الّذي كان جميلاً وثميناً. ولكنتُ أعطيتُ هذه الدنانير للفقراء الّذين يحاصروننا. أبداً لا يوجد ما يكفي. وغداً، في أورشليم، سيكونون كُثراً الّذين سيطلبون صدقة.»
«هذا صحيح!» يقرّ الآخرون.
«كان بإمكانكِ استخدام القليل منه للمعلّم، والباقي…»
مريم المجدليّة كما لو أنّها صمّاء. تستمرّ في تنشيف قدميّ المسيح بشعرها المحلول، الّذي هو الآن، خاصّة عند أسفله، ثقيل أيضاً بفعل الدُّهن، وأغمق ممّا هو في أعلى الرأس. إنّ قدميّ يسوع ملساوين وناعمتين بلون العاج العتيق، كما لو أنّهما مكسوّتان بجلد جديد. ومريم تعيد وضع نعليّ المسيح، وتُقبّل كلّ قدم قبل وبعد أن تضع النعل، صمّاء عن كلّ ما هو ليس محبّتها ليسوع.
يسوع يدافع عنها واضعاً يده على رأس مريم المنحني في القبلة الأخيرة، قائلاً: «دعوها تفعل. لماذا تُحزِنونها وتُزعجونها؟ إنّكم لا تعلمون ما الّذي قد فَعَلَتْه. إنّ مريم قد أتمّت نحوي عملاً صائباً وصالحاً. إنّ الفقراء معكم على الدوام. وأنا على وشك الرحيل. هم سوف تحظون بهم دوماً، إنّما أنا فقريباً لن تعودوا تحظون بي. سوف تستطيعون دوماً إعطاء صدقة للفقراء. ولي، لابن الإنسان بين البشر، لن يكون بعد ممكناً منح أيّ تكريم، بإرادة البشر ولأنّ الساعة قد حانت. المحبّة هي نور بالنسبة لها. إنّها تشعر بأنّني على وشك الموت وأرادت أن تمنح جسدي مقدّماً التطييب لدفنه. الحقّ أقول لكم أنّه حيث يُكرَز بالبشرى السارّة سوف يُذكَر فِعل محبّتها النبويّ هذا. في كلّ العالم. في كلّ العصور. عسى أن يجعل الله مِن كلّ مخلوق مريم أخرى، الّتي لا تحسب القيمة، لا تغذّي تعلّقاً، الّتي لا تحتفظ حتى بأدنى ذكرى مِن الماضي، إنّما تحطّم وتسحق كلّ ما هو مِن الجسد والعالم، وتكسر وتسكب، كما فَعَلَتْ بالناردين وبالمرمر، على ربّها ومحبّةً به. لا تبكي يا مريم. إنّني أكرّر لكِ، في هذه الساعة، الكلام الّذي قلتُه لسمعان الفرّيسيّ ولمرثا أختكِ: "قد غُفِر لكِ كلّ شيء لأنّكِ أحسنتِ المحبّة بشكل كامل". "لقد اخترتِ الجزء الأفضل، ولن يُنتَزَع منكِ". اذهبي بسلام يا نعجتي الوديعة المستعادة. اذهبي بسلام. إنّ مراعي المحبّة ستكون غذاءكِ إلى الأبد. انهضي. قَبّلي أيضاً يديّ اللتين غفرتا لكِ وباركتاكِ… كم غفرتا، باركتا، شفتا، أنعمتا يداي! ومع ذلك أقول لكم أنّ الشعب الّذي أنعمتُ عليه يهيّئ العذاب لهاتين اليدين…»
يحلّ صمت ثقيل، في الجوّ الثقيل للعطر النَّفَّاذ. مريم، وشعرها محلول على كتفيها ليقوم لها مقام رداء، وعلى وجهها ليقوم لها مقام حجاب، تُقبّل اليد اليمنى الّتي يقدّمها لها يسوع، ولا تُحسِن فصل شفتيها عنها…
مرثا، متأثّرة، تقترب منها وتجمع لها شعرها المحلول، تُجدّله مُلاطِفةً إيّاها بعدئذ، مُـمَسّدةً دموعها التي على خدّيها في سعي لتجفيفها…
لا أحد يرغب بالأكل بعد… كلمات المسيح تجعلهم متأمّلين.
الأوّل الّذي ينهض هو يوضاس بن حلفى. إنّه يطلب الإذن بالانسحاب. أخوه يعقوب يقتدي به وكذلك أندراوس ويوحنّا. الآخرون يبقون، إنّما باتوا واقفين، منهمكين بتطهير يديهم في الأوعية الفضّية الّتي يقدّمها الخدّام لهم. ومريم ومرثا تفعلان ذلك مع يسوع ولعازر.
يدخل خادم وينحني ليكلّم مكسيمين. «يا معلّم.» يقول ذاك بعد أن أنصت إليه: «هناك أشخاص يودّون رؤيتكَ. يقولون أنّهم يأتون مِن بعيد. ماذا نفعل؟»
يسوع ينادي فيلبّس، يعقوب بن زَبْدي وتوما، ويأمر: «اذهبوا، بَشّروا، أُشفوا، افعلوا هذا باسمي. أَعلِنوا أنّني غداً سأصعد إلى الهيكل.»
«هل سيكون حسناً أن نقول ذلك يا ربّ؟» يقول سمعان الغيور.
«لا جدوى مِن كتمانه، لأنّ الأعداء قد قالوه أكثر مِن الأصدقاء في المدينة المقدّسة. هيّا!»
«همم! أن يعلمه الأصدقاء… فليكن معلوماً. فهم لا يخونون. لا أدري كيف يمكن للآخرين أن يعلموه.»
«وسط الأصدقاء الكثيرين هناك دوماً عدوّ ما يا سمعان بن يونى. كُثُر هم مِن الآن فصاعداً… الأصدقاء، وبسهولة كبيرة يُستقبَلون بهذه الصفة. وعند التفكير كم كان عليَّ أن أصلّي وأنتظر… لكنّها كانت الأوقات الأولى وكنّا محترسين. ثمّ أبهرتنا الانتصارات ولم نعد بعد حذرين. وكان ذلك سيّئاً. إنّما ذلك يحدث لكل المنتصرين. إنّ الانتصارات تغشّي صفاء الرؤية وتُضعف الاحتراس في التصرّف. بالطبع أتحدّث عنّا نحن التلاميذ. لا عن المعلّم. إنّه كامل. فلو بقينا اثنيّ عشر، لما كان ينبغي أن نرتجف خوفاً مِن خيانة!» يقول يهوذا الاسخريوطيّ كاذباً بوقاحة.
إنّها مستحيلة الوصف النظرة الّتي يُسلّطها المسيح على الرسول الخائن. نظرة استدعاء وألم لا متناهيين. لكنّ يهوذا لا يعيرها اهتماماً. ومارّاً مِن أمام المائدة، يتوجّه للخروج… يسوع يتبعه بنظره، وعندما يراه يخرج حقّاً، يَسأَله: «أين تذهب؟»
«إلى الخارج…» يجيب يهوذا بمراوغة.
«إلى خارج هذه الغرفة، أم إلى خارج هذا المنزل؟»
«إلى الخارج… هكذا… كي أتمشّى قليلاً.»
«لا تذهب يا يهوذا. ابقَ معي، معنا…»
«أخواكَ قد خرجا، ويوحنّا مع أندراوس. لماذا ينبغي ألّا أخرج أنا؟»
«أنتَ لا تخرج لترتاح مثلهم…»
يهوذا لا يجيب، إنّما يخرج مُعانِداً. ساد الصمت في القاعة. إنّ المضيفين والرُّسُل الأربعة الّذين بقوا -بطرس، سمعان، متّى وبرتلماوس- ينظرون إلى بعضهم البعض.
يسوع ينظر خارجاً. لقد نهض متّجها إلى إحدى النوافذ كي يتتبّع حركات يهوذا، وعندما يراه يخرج مِن المنزل لابساً الرداء ويتّجه صوب البوابة الّتي لا تُرى مِن هنا، يناديه بصوت عالٍ: «يهوذا! انتظرني. يجب أن أقول لكَ شيئاً.» ويدفع بلطف لعازر الّذي، وقد استشعر ألماً في معلّمه، فقد طوّق خصره بذراعه، ويخرج مِن القاعة، للّحاق بيهوذا الّذي واصل السير، وإن بوتيرة أبطأ. يُدركه عند حوالي ثلث المسافة بين المنزل وسور الحديقة، قرب أجمة شجيرات سميكة الأوراق. هذه الأوراق تبدو كما لو أنّها مِن خزف أخضر غامق، مرصّعة بأكملها بزهور صغيرة عنقوديّة، وكلّ زهرة هي صليب صغير ببتلات ثقيلة كما لو أنّها مصنوعة مِن شمع بالكاد مُصفَرّ، عطرها نفّاذ. لا أعرف اسمها.
إنّه يجذبه إلى ما وراء تلك الأجمة، ومبقياً يده مشدودة دوماً إلى ساعده، يعاود سؤاله: «إلى أين تذهب يا يهوذا؟ أرجوكَ، ابقَ هنا!»
«أنتَ الّذي تعلم كلّ شيء، لماذا تسألني عن ذلك؟ ما حاجتُكَ إلى السؤال، أنتَ الّذي تقرأ في قلوب البشر؟ إنّكَ تعلم بأنّني ذاهب إلى أصدقائي. أنتَ لا تسمح لي بالذهاب إليهم. وهم يدعونني. وأذهب.»
«أصدقاؤكَ! عليك أن تقول هلاككَ! إنّكَ تذهب صوب ذلك. تذهب إلى قتلتكَ الحقيقيّين. لا تذهب يا يهوذا! لا تذهب! إنّكَ ذاهب كي ترتكب جريمة… أنتَ…»
«آه! أتخاف؟! أأخيراً تخاف؟! أتشعر أخيراً بأنّكَ إنسان! إنّكَ إنسان! لا شيء أكثر مِن إنسان! فوحده الإنسان يخاف مِن الموت. الله يعلم بأنّه لا يمكن أن يموت. لو كنتَ تشعر بأنّكَ الله، لكنتَ علمتَ أنّكَ لا يمكن أن تموت، ولما خفتَ. بالفعل، أنتَ، الآن، الآن وقد شعرتَ باقتراب الموت، يتملّككَ هذا الخوف المشترك بين كلّ البشر، وتسعى، بكلّ الوسائل، كي تبعده، وترى في كلّ مكان وفي كلّ شيء خطراً. أين هي جسارتكَ العظيمة؟ أين هي تأكيداتكَ الواثقة بأنّكَ مسرور، بأنّكَ متعطّش لإتمام التضحية؟ إنّكَ لم تعد تملك ولا حتّى صدىً لها في قلبكَ! لقد كنتَ تعتقد بأنّ هذه الساعة لن تأتي أبداً، فكنتَ تتظاهر إذن بأنّكَ القويّ، الكريم، تتفوّه بالعبارات الرنّانة. اذهب! أنتَ لستَ بأفضل ممّن تُعَيّرهم بأنّهم منافقون! لقد تملّقتَنا وخنتَنا! ونحن الّذين كنّا قد تركنا كلّ شيء لأجلكَ! نحن المكروهين بسببكَ! أنتَ سبب هلاكنا…»
«كفى. اذهب! اذهب! لم تمضِ ساعات كثيرة مذ أن قلتَ لي: "ساعدني على البقاء. احمني!". لقد فعلتُ ذلك. وبماذا أفاد ذلك؟ قل لي أمراً بعد، وفكّر قبل أن تقوله. هل هي إرادتكَ الصرفة؟ إرادة الذهاب إلى أصدقائكَ، أن تفضّلهم عليَّ؟»
«نعم. إنّها كذلك. لستُ بحاجة للتفكير، فمنذ مدّة ليس لديَّ سوى هذه الإرادة.»
«فإذن اذهب. إنّ الله لا يغتصب حرّية الإنسان.» ويسوع يدير له ظهره ليعود على مهل صوب المنزل. وعندما يصبح قريباً منه، يرفع رأسه وقد جذبه نظر لعازر الّذي يبقيه مركّزاً عليه، وهو ما يزال واقفاً في المكان نفسه. إنّه وجه شاحب جدّاً ذاك الّذي يجهد للابتسام للصديق الوفيّ.
يعاود الدخول إلى القاعة حيث الرُّسُل الأربعة يتكلّمون مع مكسيمين، فيما مرثا ومريم تديران عمل الخدّام، الّذين يعيدون ترتيب القاعة، حيث يرفعون أدوات المائدة والبياضات الّتي استُخدِمت خلال المأدبة.
لعازر ذهب إلى العتبة وطوّق مجدّداً يسوع عند خصره، وبمروره مِن قرب خادم يقول له: «أَحضِر لي إلى هنا اللفافة الّتي على طاولة غرفة عملي.»
يقود يسوع إلى واحد مِن تلك المقاعد العريضة الموجودة ضمن تجاويف النوافذ، كي يجلس. لكنّ يسوع يبقى واقفاً، جاهداً لإعارة انتباهه لما يقوله له لعازر… إنّما مِن الواضح أنّ فِكره هو في مكان آخر وأنّ قلبه حزين جدّاً، ولو أنّه يبتسم حينما يلاحظ أنّ الرُّسُل يراقبونه، كي يبدّد الشك الموجود في قلب الّذين اقتربوا منه وأحاطوا به، ويتهامسون فيما بينهم ويتغامزون مشيرين إلى المعلّم.
الخادم يعود باللفافة. وبطرس، إذ رأى أنّ تلك الرقوق تتضمّن أموراً تفوق ما يمكن لرأسه أن يدركه، فإنّه ينسحب قائلاً: «الأسماك لا تبتلع بعض الطعوم. مِن الأفضل التحدّث إلى مكسيمين عن النباتات والمحاصيل.»
مرثا تتابع عملها. مريم، وهي صامتة، تشارك في حديث لعازر، الّذي يشير للمعلّم إلى بعض المقاطع المكتوبة على الرقّ، قائلاً: «أليس لدى هذا الوثنيّ بصيرة فريدة؟ أكثر ممّا لدى كثيرين منّا؟ ربّما… لو كان هنا، فيما أنتَ معلّمنا، لكان مِن بين تلاميذكَ، وواحداً مِن أفضلهم. ولكان فهمكَ كما كُثُر منّا ليسوا أهلاً لذلك. وأيّ قصيدة كان قد أَلـهَم عبقريّته تقديره لكَ! فكلامكَ قد جُـمِعَ وحُفِظَ مِن قِبَل روح نَيّر ولو أنّه روح وثنيّ! إنّ حياتكَ مكتوبة مِن قِبَل هذا العقل المنفتح والصافي! نحن لم يعد لدينا كُتّاب ولا شعراء. لقد وُلِدتَ متأخّراً. حينما أخمدت فينا أنانية الحياة والفساد الدينيّ-الاجتماعيّ الشعر والعبقريّة. إنّ ما كتبه عنكَ حكماؤنا وأنبياؤنا دون أن يعرفوكَ، لم ينعكس صداه في الصوت الحيّ لواحد ممّن يتبعونكَ. إنّ مُفضّليكَ، الأوفياء لكَ، هم، في معظمهم، أناس غير متعلّمين. والآخرون… لا. لم يعد لدينا مزامير كمزامير داود تنقل إلى الجموع كلام حكمتكَ وصورتكَ. لم يعد لدينا، لأنّنا نفتقد الروح والإرادة أكثر مِن فقداننا القدرة على فِعل ذلك. إنّ القسم الأكثر اختياراً بشريّاً في إسرائيل هو أَصَمّ كما بوق خَرِب، ولم يعد يُحسِن ترنيم أمجاد الله وعظائمه. أخشى أن يضيع كلّ شيء أو أن يصيبه التحريف، جزئيّاً عن عجز، وجزئيّاً عن سوء نيّة…»
«لن يحدث ذلك. فروح الربّ، عندما يكون قد ثبت ضمن القلوب، سوف يردّد كلامي ويشرح معناه. هو روح الله مَن يتكلّم على شفتيّ المسيح. ثمّ… ثمّ سيُكلّم الأرواح مباشرة ويُذكّر بكلامي.»
«آه! ليكن ذلك قريباً! قريباً، فإنّ كلامكَ يُسمَع قليلاً جدّاً، ويُفهَم أقلّ. أعتقد أنّ هدير الروح القدس سيكون عنيفاً مثل نار تزأر، كي يحفر في الأرواح، بالعنف، ما لم ترد تقبّله لأنّه كان مفعماً لطفاً. أعتقد أنّ الروح اللاهب سوف يحرق بألسنة لهيبه الضمائر الفاترة أو المخدَّرة، ليكتب عليها كلامكَ. ينبغي أن يحبّكَ العالم. فالعليّ يشاء ذلك! إنّما متى سيكون ذلك؟»
«حين أكون قد استُنفِذتُ في تضحية المحبّة. حينذاك ستأتي المحبّة. سيكون ذلك كما الشعلة الجميلة الّتي ترتفع مِن الضحيّة الذبيحة. وهذه الشعلة لن تنطفئ، لأنّ التضحية لن تتوقّف. وبتوطّدها، سوف تدوم خلال كلّ زمن الأرض.»
«فإذن… ينبغي أن يُضحّى بكَ بحقّ كي يحدث ذلك؟»
«هو كذلك.» ليسوع حركة إذعانه المعتادة لمصيره الخاص. يبسط ذراعيه ويداه موّجهتان للخارج، ويحني رأسه، ثمّ يرفعه كي يبتسم للعازر المحزون، ويقول: «ومع ذلك لن يكون الصوت الأثيريّ لروح المحبّة عنيفاً كالزئير، إنّما سيكون عذباً كالمحبّة، اللطيفة مثل هواء نيسان [أبريل]، ومع ذلك قويّاً كالموت. كهنوت المحبّة الفائق الوصف! تكملة كهنوتي. كمال كهنوتي كمعلّم… أنا لا أخشى، كما أنتِ تخشين أيا مريم، أن يُفقَد شيء ممّا أعطيتُه. لا بل، الحقّ أقول لكِ إنّ أشعّة نور سوف تُلقى على كلامي وسترون الروح فيها. أنا أمضي بصفاء، لأنّني أعهد بعقيدتي للروح القدس، وبروحي لأبي.»
يخفض رأسه مفكّراً، ومِن ثمّ، واضعاً اللفافة الّتي كانت باعث الحديث، على نوع مِن خزانة أو صندوق مِن أبنوس أو خشب آخر قاتم اللون، مُرصّع بكلّيته بعاج مائل للّون الأصفر، الّذي جلبه أربعة خدّام مِن الغرفة المجاورة، والّتي ترتّب فيها مرثا أدوات المائدة الثمينة بالأكثر، يقول: «لعازر، تعال خارجاً. إنّني بحاجة لأن أكلّمكَ!»
«على الفور يا ربّ.» ولعازر ينهض عن المقعد الّذي كان جالساً عليه، ويتبع يسوع إلى الحديقة حيث يخفت النور، ذلك أنّ آخر ضوء النهار في طريقه لأن يخبو في السماء، وضوء القمر الأوّل يبدأ بالظهور بضعف.
--- نهاية الجزء الثامن---