ج5 - ف66

أَنَا هُوَ

ماريا فالتورتا

L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO

THE GOSPEL AS REVEALED TO ME

بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}

L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ

MARIA VALTORTA

الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.

 

الجزء الخامس/ القسم الثاني

 

66- (سبت الفطير)

 

04 / 02 / 1946

 

عدد كبير مِن التلاميذ، رجالاً ونساءً، أخذوا إجازة ليعودوا إلى منازلهم حيث يقطنون، أو ليعودوا مِن الدروب التي كانوا قد أتوا منها.

 

في هذا العصر الرائع مِن نهاية نيسان (أبريل)، يبقى في بيت لعازر التلاميذ الذين هم كذلك بكلّ معنى الكلمة، وخاصة الذين هُم الأكثر تكرّساً للبشارة. أي الرُّعاة، هَرْماس واستفانوس، الكاهن يوحنّا، تيمون، هرمست، يوسف الذي مِن عِمّاوس، سليمان، هابيل الذي مِن بيت لحم الجليل، صموئيل وهابيل مِن كورازين، أغابيوس وأَشِير وإسماعيل مِن الناصرة، إيليا مِن كورازين، فليبّس الذي مِن أربيلا، يوسف عبّار طبريّا، (العبّار هو صاحب زورق لعبور الناس مِن ضفّة إلى أخرى) يوحنّا الذي مِن أفسس، نيقولاوس الذي مِن أنطاكية. ما يزال هناك نساء، فبالإضافة إلى التلميذات المعروفات، أناليا، دوركا، أُمّ يهوذا، ميرتا، أنستاسيا، بنات فليبّس. لم أعد أرى ميريام ابنة يائيروس، ولا حتّى يائيروس نفسه. قد يكون عاد إلى حيث كان يقطن.

 

يتمشّون على مهل في الباحات أو على شُرفة البيت، بينما حول يسوع، الجالس قرب سرير لعازر، هناك النساء جميعهنّ تقريباً وجميع التلميذات القديمات. ينصتن إلى يسوع الذي يتحدّث إلى لعازر، واصفاً البلدات التي اجتازها خلال الأسابيع الماضية قبل الرحلة الفصحيّة.

 

«وَصَلتَ في الوقت المناسب تماماً لتُخلِّص الطفل.» يُعلِّق لعازر بعد رواية حصن قيصريّة فليبّس، مشيراً إلى الطفل الذي ينام سعيداً بين ذراعيّ والدته. ويضيف لعازر: «إنّه طفل جميل! يا امرأة، أريني إيّاه عن قرب!»

 

تَنهَض دوركا، وبصمت، إنّما ظافرة، تدفع بطفلها إلى المريض الـمُعجَب.

 

«طفل جميل! حقّاً هو جميل! فليَحمِه الربّ ويُنمِه بالقوّة والقداسة.»

 

«وأمين لـمُخلّصه. وإن لم يكن عليه أن يكون كذلك في المستقبل، لكنتُ أردتُه ميتاً، حتّى منذ الآن. أيّ شيء، ولكن بعد أن خُلِّص، لا يكن ناكراً للجميل تجاه الربّ!» تقول دوركا بصرامة وهي تعود إلى مكانها.

 

«الربّ يصل دائماً في الوقت المناسب ليُخلِّص.» تقول ميرتا، أُمّ هابيل الذي مِن بيت لحم. «فابني لم يكن أقلّ قُرباً مِن الموت مِن طفل دوركا، وأيّ موت! أمّا هو فقد وَصَلَ وخَلَّصَه. يا لها مِن ساعة رهيبة!...» وميرتا أيضاً تشحب لدى تذكّرها…

 

«إذن سوف تأتي في الوقت المناسب أيضاً مِن أجلي، أليس كذلك؟ لتمنحني السلام...» يقول لعازر وهو يُلامِس يد يسوع تحبّباً.

 

«ولكن ألستَ أحسن قليلاً، يا أخي؟» تَسأَل مرثا. «منذ الأمس تبدو لي أكثر سكوناً...»

 

«نعم، أنا مندهش مِن ذلك. قد يكون يسوع...»

 

«لا، يا صديقي. ذلك أنّني سكبتُ فيكَ سلامي. وقد أُشبِعَت نفسكَ منه، وهذا يخفّف مِن ألم الأعضاء. أن تتألّم، قرار مِن الله هو.»

 

«وأن أموت. قُلها كذلك. وإذن... فلتكن مشيئته، كما تُعلِّم. وأنا الآن لم أعد أطلب الشفاء، ولا تخفيف الألم. لقد حصلتُ مِن الله على الكثير (ويَنظُر باللاشعور إلى أخته مريم) ومِن العدل أن أُبادِله بخضوعي على خير كهذا...»

 

«افعل أكثر يا صديقي. هو كثير التسليم وتحمّل الألم. إنّما، امنحه أنتَ قيمة أعظم.»

 

«أيّة قيمة، يا ربّي؟»

 

«قَدِّمه مِن أجل افتداء الناس.»

 

«أنا رجل مسكين، كذلك، يا معلّم. لا يمكنني أن أطمح في أن أكون فادياً.»

 

«أنتَ تقول ذلك، ولكنّكَ على خطأ. فالله صار بشراً ليساعد البشر. إنّما يمكن للبشر أن يساعدوا الله. أفعال الأبرار سوف تتّحد بالتي لي في ساعة الفداء. الأبرار الذين ماتوا منذ قرون، والذين يحيون الآن، والذين سوف يحيون في المستقبل. وأنتَ، ضُمّ أفعالكَ منذ الآن. إنّه جميل للغاية الاتّحاد بالصلاح الإلهيّ، أن نضيف إليه ما يمكن أن نمنح مِن صلاحنا المحدود، والقول: "أنا أيضاً، أيّها الآب، أشارك في خير إخوتي". فلا حبّ للربّ والقريب أعظم مِن معرفة التألّم والموت مِن أجل تمجيد الربّ والخلاص الأبديّ لإخوتنا. أن يُخلِّص المرء نفسه؟ هو قليل. إنّه الحدّ الأدنى مِن القداسة. جميل أن يخلّص المرء الآخرين، أن يقدّم ذاته ليُخلِّص، أن يندفع بالحبّ إلى حدّ أن يُصبِح أتون تضحية ليُخلِّص. حينذاك يصبح الحبّ كاملاً. و عظيمة تُصبِح قداسة الكريم.»

 

«كم هو جميل، كلّ هذا، أليس كذلك يا أختيَّ؟» يقول لعازر بابتسامة حالمة على وجهه النحيل.

 

مرثا، متأثّرة، توافق بإشارة مِن رأسها.

 

مريم، الجالسة على وِسادة عند قدميّ يسوع، في وضعها الاعتيادي كمتواضعة وعابدة مضطرمة، تقول: «أأكون أنا مَن جَعَلَ أخي يدفع الثمن هذه الآلام؟ قل لي، يا إلهي، كي يكتمل ضِيقي!...»

 

يصيح لعازر: «لا، يا مريم، لا. أنا... لكان عليَّ أن أموت مِن ذلك. لا تطعني قلبكِ.»

 

ولكنّ يسوع، صريحاً إلى أبعد الحدود، يقول: «بالتأكيد نعم! فأنا قد سمعتُ أخوكِ الطيّب في صلواته وفي اختلاجاته. إنّما يجب ألاّ يُسبِّب ذلك لكِ الضيق الذي يُثقِلكِ، بل على العكس، الرغبة في أن تصبحي كاملة بسبب الثمن الذي دُفِعَ مِن أجلكِ. افرحي! افرحي، إذ، مِن أجل الحصول عليكِ، فقد انتزعكِ لعازر مِن الشيطان...»

 

«لا لستُ أنا! بل أنتَ، يا معلّم!»

 

«...ولانتزاعه لكِ مِن الشيطان، استحقّ مِن الله مكافأة مستقبليّة بفضلها سوف تتحدّث عنه الأمم والملائكة. وكما عن لعازر، سوف يتحدّثون عن رجال آخرين، وعن نساء أخريات، الذين ببطولتهم انتَزَعوا مِن الشيطان فريسته...»

 

«مَن هي؟ مَن هي؟» تَسأَل النساء الفضوليّات وقد تكنّ جميعهنّ يتمنّين أن تكنّ هنّ المعنيّات، كلّ منهنّ لذاتها.

 

مريم أُمّ يهوذا لا تتكلّم، ولكنّها تَنظُر، تَنظُر إلى المعلّم... يسوع أيضاً يَنظُر إليها. كان بإمكانه أن يبقيها في الوهم. لم يفعل. لم يؤلمها ولكنّه لم يوهمها. يجيب الجميع: «ستعرفن ذلك في السماء.»

 

أُمّ يهوذا، التي تحيا في ضيق مستمرّ، تَسأَل: «وإذا لم تنجح إحداهنّ رغم رغبتها؟ ما يكون مصيرها؟»

 

«ما تستحقّه نفسها بصلاحها.»

 

«السماء؟ ولكن يا ربّ، هل يمكن لامرأة، أُخت أو أُمّ... لم تنجح في خلاص الذين تحبّهم، والذين تراهُم مُدانين، الحصول على الجنّة رغم كونها في الجنّة؟ ألا تعتقد بأنّها لن تحصل على الفرح لأنّ... لحم لحمها، ودم دمها سيكونان قد استحقّا الدينونة الأبديّة؟ فأنا، أعتقد أنّها لا يمكن أن تفرح وهي ترى الذي تُحِبّ ضحيّة لعقوبة مريعة...»

 

«أنتِ على خطأ، يا مريم. فرؤية الله وامتلاكه هُما يُنبوعا غبطة لا نهائيّة، بحيث لا ينال الألم مِن المغبوطين. فاعلين ومهتمّين بمساعدة الذين ما يزالون قادرين على أن يخلصوا، فلا يعودون يتألّمون مِن أجل الذين قد انفصلوا عن الله، وانفصلوا بالتالي عن أنفسهم، التي هي في الله. اتّحاد القدّيسين الذي هو مِن أجل القدّيسين.»

 

«ولكن إن ساعدوا الذين ما زال يمكنهم أن يخلصوا، فهذه إشارة إلى أنّ هؤلاء لم يصبحوا بعد قدّيسين.» يعترض بطرس.

 

«إنّما لديهم الإرادة، أقلّه السلبيّة، في أن يكونوا كذلك. إنّ القدّيسون في الله، يُساعِدون حتّى في العوز المادّيّ في جعل الذين لديهم الإرادة السلبيّة يتحوّلون إلى الإرادة الإيجابيّة. هل تفهمني؟»

 

«نعم ولا. هاك مِثال. إذا كنتُ أنا في السماء، ولنفترض أنّني رأيتُ حركة طيّبة عابرة لدى... الفرّيسيّ إيلي، فَرَضَاً، ماذا أفعل؟»

 

«تَستَخدِم كلّ الوسائل لإنماء حركاته الطيّبة.»

 

«وإذا لم ينفع ذلك في شيء؟ ماذا بعد؟»

 

«بعد ذلك، إذا ما أُدين، فلا تعود تهتمّ.»

 

«وإذا كان أهلاً للإدانة، كما هو الحال الآن، ولكنّني أحبّه -الأمر الذي لن يكون أبداً- فما الذي عليَّ فِعله؟»

 

«قبل كلّ شيء عليكَ أن تَعلَم أنّكَ تتسبّب بالإدانة لنفسكَ بقولكَ إنّكَ لا تحبّه ولن تحبّه مطلقاً. ثمّ اعلَم أنّكَ إن كنتَ في السماء، فكلّ شيء واحد مع المحبّة، فتصلّي مِن أجله، مِن أجل خلاصه، حتّى لحظة دينونته. سوف تكون هناك نفوس مخلّصة في اللحظة الأخيرة بعد حياة صلاة مِن أجلها.»

 

يَدخُل أحد الخُدّام ويقول: «مَنَاين أتى. يريد رؤية المعلّم.»

 

«فليأتِ. بالتأكيد هو يريد التحدّث في أمور جادّة.»

 

تنسحب النساء بتحفّظ، يتبعهنّ التلاميذ. ولكنّ يسوع ينادي إسحاق والكاهن يوحنّا واستفانوس وهَرْماس ومتّيّاس ويوسف ورُعاة تلاميذ. «حسن أن تكونوا، أنتم التلاميذ، على بيّنة.» يَشرَح.

 

يَدخُل مَنَاين وينحني.

 

«السلام لكَ.» يقول يسوع ليحيّيه.

 

«السلام لكَ يا معلّم. الشمس تغيب. وخطواتي الأولى، بعد السبت، إليكَ يا ربّي.»

 

«هل أمضيتَ فصحاً جيّداً؟»

 

«جيّداً!! لا يمكن أن يكون شيء جيّداً حيث يكون هيرودس وهيروديّا! آمُل أن تكون هذه هي المرّة الأخيرة التي آكل فيها الحَمَل معهم. حتّى لو كان عليَّ أن أموت، فلن أمكث طويلاً معهم!»

 

«أظنّكَ على خطأ. يمكنكَ خدمة المعلّم ببقائكَ...» يعترض الاسخريوطيّ.

 

«حقّاً، وهذا ما أبقاني حتّى الآن. ولكن يا له مِن قَرَف! يمكن لخُوزي أن يحلّ محلّي...»

 

يُبدي برتلماوس ملاحظته: «خُوزي ليس مَنَاين. خُوزي هو... نعم هو يعرف قياد مركبه. هو لا ينتَقِد أبداً معلّمه. أمّا أنتَ فأكثر صراحة.»

 

«هذا صحيح وما تقوله صحيح. فخُوزي مِن الحاشية. إنّه مفتون بالـمَلَكيّة... الـمَلَكيّة! ماذا أقول؟ بالحمأة الـمَلَكيّة! ولكن يبدو له أنّه الـمَلِك، لأنّه مع الـمَلِك... ويخشى فقدان الحظوة الـمَلَكيّة. في ذاك المساء كان كالكلب المضروب. بدا وكأنّه يزحف أمام هيرودس الذي دعاه بعد سماعه مناحات سالومة التي طَرَدتَها أنتَ. لقد أمضى خُوزي ربع ساعة سيّئة. كانت تُقرأ على وجهه الرغبة في النجاة، بأيّ ثمن، حتّى في اتّهامكَ، في إلقاء الخطأ عليكَ. ولكنّ هيرودس!... كان يريد فقط السخرية مِن الفتاة التي أَصبَحَ يشمئزّ منها، كما يشمئزّ مِن أُمّها. كان يضحك كمجنون لدى سماع خُوزي يُردِّد كلامكَ. كان يُردِّد: "ما زال ذلك لطيفاً جدّاً، جدّاً بالنسبة لهذه الصبيّة... (وكان يقول كلمة نابية جدّاً لن أُردِّدها أمامكَ). كان يودّ أن يطأ أحشاءها النَّهِمة... ولكنّه كان سيتلوّث!" وكان يضحك. بعد ذلك، إذ أَصبَحَ جادّاً، يقول: "مع ذلك... فالإهانة، التي استحقّتها المرأة، غير مسموح بها مِن أجل التاج. أنا شهم (إنّها فكرته الثابتة عن ذاته، وبما أنّ أحداً لا يقولها له، يقولها هو عن نفسه) وأَصفَح عن الرابّي لأنّه قال الحقيقة لسالومة. ولكن على الرغم مِن ذلك أريده أن يأتي إلى القصر للصفح عنه كلّيّاً. أريد أن أراه وأسمعه وأجعله يجترح المعجزات. فليأتِ، وأنا أحميه". هكذا كان يتكلّم ذاك المساء، ولم يكن خُوزي يعرف ما يقول. لم يكن يريد أن يقول لا للعاهل. لم يكن بمقدوره أن يقول نعم. ذلك أنّكَ لا يمكن بالتأكيد أن تُذعِن لإرادة هيرودس. واليوم قال لي: "سوف تلقاه بالتأكيد... قُل له ما أريد". وأقولها، إنّما... بُتُّ أعرف الإجابة. مع ذلك قُلها لي، كي أستطيع إبلاغها.»

 

«لا!» لا تبدو كضربة صاعقة.

 

«ألا تجعل بذلك عدوّاً لكَ ذا سلطان؟» يَسأَل توما.

 

«حتّى وإن كان جَلاّداً. لا يمكنني الإجابة إلاّ بـ: "لا".»

 

«سوف يضطهدنا...»

 

«آه! خلال أيّام ثلاثة لا يعود يتذكّر شيئاً.» يقول مَنَاين وهو يرفع كتفيه. ثمّ يضيف: «هو موعود بـ... راقصات إيمائيات... سيصلن غداً... سوف ينسى كلّ شيء!...»

 

يعود الخادم: «يا معلّم، نيقوديموس ويوسف وفرّيسيّون آخرون ورؤساء السنهدرين هنا. يريدون إلقاء التحيّة عليكَ.»

 

يَنظُر لعازر إلى يسوع بتساؤل. يُدرِك يسوع: «فليأتوا! سأسلّم عليهم بكلّ سرور.»

 

بعد قليل يدخل نيقوديموس ويوسف وأليعازر (بارّ وليمة إسماعيل) ويوحنّا (الذي كان في وليمة الرّامة منذ زمن) وآخر أسمعهم ينادونه يوشع وفليبّس ويهوذا وفي الآخِر يواكيم. ولا تعود التحيّات تنتهي. لحسن الحظّ أنّ الغرفة واسعة، وإلاّ فكيف كان العمل لعرض هذا الكمّ مِن الانحناءات والعِناقات والمعاطف الفاخرة؟ ولكنّها مهما تكن كبيرة فقد امتلأت سريعاً، والتلاميذ ينسَلّون. ولا يبقى مع يسوع سوى لعازر. وربّما كذلك لم يَبدُ لهم مِن المستحسن التواجد تحت نار الكثير مِن عيون السنهدرينيّين!»

 

«نحن نَعلَم أنّكَ في أورشليم، يا لعازر. وأتينا!» يقول المدعوّ يواكيم.

 

«لقد دهشتُ مِن ذلك وسررتُ. أحياناً لم أكن أتذكّر وجهكَ...» يقول لعازر ساخراً قليلاً.

 

«ولكن... تَعلَم... كنا نودّ المجيء على الدوام. ولكن... كنتَ قد اختفيتَ...»

 

«لم يكن يبدو حقاً أنّي كنتُ كذلك! في الواقع هو صعب جداً المجيء إلى بيت بائس!»

 

«لا! لا تقل هذا! فنحن... كنّا نحترم رغبتكَ. أمّا الآن وقد... الآن وقد... أليس كذلك يا نيقوديموس؟»

 

«نعم، يا لعازر. الأصدقاء القدامى يعودون، وكلّهم رغبة في معرفة أخباركَ وإجلال الرابّي.»

 

«ما الأخبار التي تحملونها لي؟»

 

«هوم!... هاك... الأمور العاديّة... العالم... نعم...» يَنظُرون إلى جهة يسوع المستقيم على كرسيّه، والـمُستَغرِق قليلاً.

 

«كيف حصل أنّكم اجتمعتم كلّكم اليوم، بينما السبت بالكاد انقضى؟»

 

«كان هناك اجتماع غير عاديّ.»

 

«اليوم؟ لأيّ سبب مستعجل إلى هذا الحدّ؟»

 

الحاضِرون ينظرون إلى يسوع نظرة مُعبِّرة. أمّا هو فمُستَغرِق... «لأسباب عديدة...» يُجيبون أخيراً.

 

«هل منها ما يخصّ الرابّي؟»

 

«بلى، يا لعازر. هو كذلك. إنما حَدَث خطير صَدَرَ فيه حُكم أيضاً، بينما جمعتنا الأعياد كلّنا في المدينة...» يشرح يوسف الذي مِن الرّامة.

 

«حَدَث خطير؟ ما هو؟»

 

«إحدى... إحدى أخطاء... الشباب... هوم! نعم! نقاش عنيف لأنّ... يا رابّي، أَنصِت إلينا. أنتَ وسط أناس شرفاء. حتّى ولو لم نكن مِن التلاميذ، ولكنّنا لسنا أعداء. في بيت إسماعيل قلتَ لي إنّني لستُ بعيداً عن البِـرّ.» يقول أليعازر.

 

«صحيح. وأؤكّده.»

 

«وأنا دافعتُ عنكَ، في وليمة يوسف، ضدّ فيلكس.» يقول يوحنّا.

 

«وهذا كذلك صحيح.»

 

«وهُم يُفكِّرون مثلنا. لقد استُدعينا اليوم لنقرّر... ولسنا مسرورين ممّا قد قُرّر. إذ إنّ الغالبيّة قد فازت ضدّنا. وأنتَ، الأكثر حكمة مِن سليمان، اسمع واحكم.»

 

يخترقهم يسوع بنظرته العميقة، ثمّ يقول: «تكلّموا.»

 

«هل نحن أكيدون مِن أنّ أحداً لن يسمعنا؟ ذلك أنّه... لأمر مريع...» يقول المدعوّ يهوذا.

 

«أَغلِق الباب والستارة، وسوف نكون في قبر.» يُجيبه لعازر.

 

«يا معلّم، أمس صباحاً، قلتَ لأليعازر بن حنّان ألاّ يتنجّس لأيّ سبب. لماذا قلتَ له ذلك؟» يَسأَل فليبّس.

 

«لأنّه كان يجب أن يُقال. هو يتنجّس، وليس أنا. الكُتُب المقدّسة تقول ذلك.»

 

«صحيح. ولكن كيف تعرف أنّه يتنجّس؟ هل يعقل أن تكون الصبيّة قد تحدَّثَت إليكَ قبل أن تموت؟» يَسأَل أليعازر.

 

«أيّة صبيّة؟»

 

«تلك التي ماتت بعد اغتصابها، ومعها أُمّها. لا ندري إذا ما كان الألم هو الذي قتلهما، أو إذا كانتا قد انتحرتا، أو كان أحد قد سمّمهما ليمنعهما مِن الكلام.»

 

«أنا لا أعرف شيئاً مِن كلّ هذا. كنتُ أرى النَّفْس الفاسدة في ابن حنّان.كنتُ أشمّ النتانة. تكلّمتُ. لم أكن أعرف ولا أرى أيّ شيء آخر.»

 

«ولكن ما الذي حصل؟» يَسأَل لعازر باهتمام. 

 

«ما حَصَلَ هو أن أليعازر بن حنّان رأى صبيّة، الابنة الوحيدة لأرملة، و... استمالها ليطلب منها عملاً، لأنّها، كي تكسب أَوَد العيش، كانت تعمل في الثياب، و... أَفرَطَ في استغلالها. فماتت الصبيّة... بعد ثلاثة أيّام، ماتت أُمّها معها. إنّما قبل أن تموتا، ورغم التهديدات، فقد قالتا كلّ شيء لقريبهما الوحيد... وهو ذَهَبَ إلى حنّان يحمل الشكوى، وإذ لم يُسرّ مِن ذلك، قالها ليوسف ولي ولآخرين... وحنّان رتَّبَ أمر القبض عليه وإلقائه في السجن. ومِن هناك إمّا أن ينتهي به الأمر بالموت أو بالسجن مدى الحياة. واليوم شاء حنّان معرفة رأينا في ذلك.» يقول نيقوديموس.

 

«لم يكن ليفعلها لو لم يكن يَعلَم أنّنا أصبحنا على عِلم بذلك.» يُتمتِم يوسف بين أسنانه.

 

«نعم... بعد تصويت شكليّ، شِبه حُكم، تقرَّرَ شرف وحياة ثلاثة بؤساء والعقاب للمذنب.» يُنهي نيقوديموس قوله.

 

«وماذا بعد؟»

 

«حسناً! طبيعيّ! نحن الذين صوّتنا إلى جانب حرّيّة الرجل ومعاقبة أليعازر، هُدّدنا وطُرِدنا كظالمين. وأنتَ ما قولكَ في هذا؟»

 

«كم توحي إليَّ أورشليم بالاشمئزاز، والـخَرّاج الأكثر نتانة فيها، الذي هو الهيكل.» يقول يسوع على مهل وبصوت رهيب. ويُنهي بالقول: «أنقلوا الأمر إلى القائمين على الهيكل.»

 

«وغَمَالائيل، ماذا فَعَلَ؟» يَسأَل لعازر.

 

«ما إن عَلِمَ حتّى غطّى وجهه وخرج قائلاً: "فليأتِ شمشون الجديد بسرعة ليهلك الفلسطينيّين الفاسدين".»

 

«حسناً تَكلَّمَ! ولكنّه سيأتي قريباً.»

 

فترة صمت.

 

«وعنه، ألم يتكلّم أحد؟» يَسأَل لعازر مشيراً إلى يسوع.

 

«آه! بلى! قبل كلّ شيء آخر. نَقَلوا عنكَ أنّكَ أعلنتَ "وضيعة" هي مملكة إسرائيل، وبالتالي أُعلِنتَ مُجدِّفاً. بل حتّى مُدنِّساً للقدسيّات، إذ إنّ مملكة إسرائيل تخصّ الله.»

 

«أحقاً؟! وكيف سمّى الحَبر ذاك الذي اغتصب إحدى العذارى؟ ذاك الذي دنَّسَ كهنوته؟ أجيبوا!» يَسأَل يسوع.

 

«هو، ابن الكاهن الأعظم، ذلك أنّ حنّان يبقى الـمَلِك الحقيقيّ هناك في الداخل.» يقول يواكيم، وقد هاله يسوع بعظمته، وهو في مواجهته، واقفاً، مادّاً ذراعه…

 

«نعم، مَلِك الفساد. وتريدونني ألاّ أدعو وضيعاً بلداً لنا فيه حاكم ربع دَنِس وقاتل، عظيم كَهَنَة شريك ذاك الذي اغتَصَبَ وقَتَلَ؟...»

 

«قد تكون الفتاة انتحرت أو ماتت مِن الألم.» يُتمتِم أليعازر.

 

«يبقى الذي اغتَصَبَها هو الذي قَتَلَها... والآن أليست جريمة ثالثة تُرتكب بالاحتفاظ بالقريب سجيناً كي لا يتكلّم؟ ألا تُنتَهك حرمة الهيكل بأن يتقرّب إليه المرء ملوّثاً بجرائم عِدّة؟ وألا تُخنَق العدالة بفرض الصمت على أبرار السنهدرين، القليلين جدّاً؟ نعم، فليأتِ شمشون الجديد سريعاً وليَهدِم هذا المكان الـمُدَنَّس، فليُبِد كي يُشفي!... أنا، بسبب الإقياء الذي يسبّبه لي الغثيان، لا أدعو فقط وضيعاً هذا البلد البائس، ولكنّني ابتعد عن قلبه النَّتِن، المفعم بالجرائم التي لا اسم لها، مَسكَن الشيطان... أنا أمضي. ليس خوفاً مِن الموت. سوف أُظهِر لكم أنّني لستُ خائفاً. إنّما أنا أمضي لأنّ ساعتي لم تأتِ بعد، ولكي لا أرمي الجواهر لخنازير إسرائيل، إنّما سأحملها إلى المتواضعين الـمُشَتَّتين في البيوت الخَرِبة، في الجبال وفي وديان البلدات الفقيرة. هناك حيث ما يزالون يعرفون أن يؤمنوا ويحبّوا، إذا ما وُجِدَ أحد أعلّمه. هناك حيث الأرواح تحت ثياب صفيقة، بينما هنا الجلابيب والمعاطف الـمُكَرَّسة، وأكثر من ذلك الإيفود والراسيونال (ملابس الكَهَنة)، تساهم جميعاً في تغطية جِيَف قَذِرَة وتَستُر أسلحة فتّاكة. قولوا لهم إنّني باسم الله الحقيقيّ أَعِدهم بالدينونة، وإنّني، كميخائيل الجديد، أطردهم مِن الجنّة. وإلى الأبد. هُم الذين يريدون أن يكونوا آلهة وهُم أبالسة. لا حاجة لأن يموتوا كي يُدانوا. هم الآن كذلك. ودون مغفرة.»

 

يبدو حجم أعضاء السنهدرين والفرّيسيّين المهيبين قد تضاءل وهم ينحصرون في الزاوية أمام غضب المسيح الرهيب، الذي يبدو، على العكس، أنّه أَصبَحَ عملاقاً لشدّة ما كانت نظراته برّاقة وحركاته عنيفة.

 

لعازر يئنّ: «يسوع! يسوع! يسوع!»…

 

يسمعه يسوع، وبتغييره للّهجة والمظهر، يقول: «ما بكَ يا صديقي؟»

 

«آه! لا تكن رهيباً بهذا القدر! لم تعد أنتَ! كيف يمكن الرجاء بالرحمة، إذا كنتَ، أنتَ، تَظهَر رهيباً إلى هذا الحدّ؟»

 

«ومع ذلك فالأمر هكذا، وسوف أكون أكثر مِن هذا، عندما أُدين أسباط إسرائيل الاثنيّ عشر. ولكن، كُن على ثِقة يا لعازر. مَن يؤمن بالمسيح قد وَقَعَ حُكمه...» ويعود للجلوس.

 

فترة صمت.

 

أخيراً يَسأَل يوحنّا: «ونحن، لتفضيلنا تحمّل الاتّهامات على الكذب ضدّ العدل، كيف سنُدان؟»

 

«بعدل. ثابروا وستتوصّلون إلى حيث هو لعازر الآن: في صداقة مع الله.»

 

ينهضون.

 

«يا معلّم، نحن ذاهبون. السلام لكَ. ولكَ يا لعازر.»

 

«السلام لكم.»

 

«ما قُلناه لا يَخرُج مِن هنا.» يرجو البعض.

 

«لا تخافوا! اذهبوا وليَقُدكم الله في كلّ سلوككم.»

 

يَخرُجون.

 

ويبقى فقط يسوع ولعازر. بعد برهة، يقول: «يا للفظاعة!»

 

«نعم. يا للفظاعة!... يا لعازر، أنا سوف أُحضِّر لرحيلي مِن أورشليم. سأكون ضيفكَ في بيت عنيا حتّى نهاية الفطير.» ويَخرُج.