ج7 - ف199

أَنَا هُوَ

ماريا فالتورتا

L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO

THE GOSPEL AS REVEALED TO ME

بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}

L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ

MARIA VALTORTA

الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.

 

الجزء السابع / القسم الأول

 

199- (امرأة الصدّوقيّ مستحضر الأرواح)

 

03 / 10 / 1944

 

وما يزال يسوع يجول بلا كلل عبر دروب فلسطين. النهر لا يزال على يمينه، وهو يتقدّم في ذات اتّجاه المياه الحلوة، الزرقاء والمتلألئة هناك حيث تتلقّى قبله الشمس، والخضراء الـمُزرورقة قرب الضفاف حيث تنعكس ظلال الأشجار بخضرتها الغامقة.

 

يسوع وسط تلاميذه. أسمع برتلماوس الّذي يَسأَله: «إذن، إنّنا حقّاً ذاهبون إلى أريحا؟ ألا تخشى مكيدة ما؟»

 

«لا أخشى، فقد وصلتُ إلى أورشليم لأجل الفصح عبر دروب أخرى، وهم، الخائبو الأمل، ما عادوا يعلمون أين يمسكون بي مِن دون جلب انتباه الجموع كثيراً، صدّقني، يا برتلماوس، أنّه بالنسبة لي الخطر هو أقل في مدينة مكتظة بالسكان منه في الدروب المنعزلة. فالشَّعب طيّب وصادق. لكنّه أيضاً مندفع. ويثور إذا ما قبضوا عليَّ وأنا في وسطه أكرز وأشفي. إنّ الأفاعي تعمل في العزلة والظلّ. ومِن ثمّ… ما تزال لديَّ أيّام عدّة لأعمل… ثمّ… ستأتي ساعة الشيطان وستفقدونني. كي تجدوني بعدئذ. آمِنوا بهذا. وأحسنوا الإيمان به عندما ستبدو لكم الأحداث مُكذِّبة لي أكثر مِن أيّ وقت.»

 

الرُّسُل يتنهّدون، حزينين، وينظرون إليه بمحبّة وألم، ويوحنّا يئنّ: «لا!»، وبطرس يطوّقه بذراعيه القصيرتين والقويّتين كما كي يحميه ويقول: «أيا ربّي ومعلّمي!» لا يقول أكثر. إنّما تلك الكلمات تحوي الكثير.

 

«الأمر هو هكذا، يا أصدقائي. لأجل هذا قد جئتُ. تحلّوا بالقوّة. انظروا كيف أمضي بثقة صوب هدفي، مثل شخص يتوجّه صوب الشمس ويبتسم للشمس الّتي تقبّله على جبهته. إنّ تضحيتي ستكون شمساً للعالم. نور النعمة سينزل في القلوب، والسلام مع الله سيجعلها خصيبة، واستحقاقات استشهادي ستجعل البشر قادرين على كسب السماء، وماذا أريد غير ذلك؟ أن أضع أيديكم بين يديّ الأزليّ، أبي وأبيكم، وأقول: "ها إنّني أعيد إليكَ هؤلاء الأبناء. أُنظر، يا أيّها الآب، إنّهم أنقياء. يمكنهم أن يعودوا إليكَ". أن أراكم مشدودين إلى صدره وأقول: "تحابّوا أخيراً، حيث كان توق إلى ذلك في الواحد والآخرين، وكنتم تعانون بشدّة لعدم تمكّنكم مِن أن تتحابّوا بعمق". هذا هو فرحي. وكلّ يوم يقرّبني مِن إتمام هذه العودة، هذه المغفرة، هذا الاتّحاد، يزيد مِن لهفتي لإتمام التضحية كي أمنحكم الله وملكوته.»

 

يسوع مهيب وتقريباً نشوان وهو يقول ذلك. إنّه يسير، منتصباً تماماً بثوبه الأزرق وردائه الأغمق، رأسه مكشوف في هذه الساعة مِن الصباح الّتي لا تزال منعشة، ويبدو مبتسماً لستُ أدري لأيّة رؤيا تراها عيناه فوق زُرقة سماء صافية. إنّ الشمس، الّتي تقبّل خدّه الأيسر، تنير أكثر بعد نظرته المشعّة، وتضع شرارات مِن ذهب في شعره الّذي ترفعه الريح الخفيفة ومشيته السريعة. وتُبرِز احمرار الشفتين المفتوحتين للابتسام، وتبدو أنّها تضيء كامل الوجه بفرح هو في الحقيقة يأتي مِن داخل قلبه البديع، المتّقد محبّة لأجلنا.

 

«يا معلّم، أيمكنني أن أقول لكَ كلمة؟» يَسأَل توما.

 

«أيّتها؟»

 

«لقد قلتَ أوّل أمس أنّ للفادي، أنتَ، سيكون هناك خائن. كيف سيمكن لإنسان أن يخونكَ أنتَ، ابن الله؟»

 

«إنّ إنساناً، بالفعل، لا يمكنه خيانة ابن الله، الله كما الآب، لكنّ الخائن لن يكون إنساناً. سيكون شيطاناً بجسد إنسان، الأكثر مسّاً، الأكثر استحواذاً بين البشر. لقد كان لمريم المجدليّة سبعة شياطين، وممسوس الأيّام الأخيرة كان مُسَيطَراً عليه مِن قبل بعلزبول، إنّما فيه سيكون بعلزبول وكلّ بلاطه الشيطانيّ… آه! كم هو حقيقيّ أنّ جهنّم ستكون في ذاك القلب كي تمنحه الجرأة ليبيع ابن الله لأعدائه، كما يُباع حَمَل للجزّار!»

 

«يا معلّم هل هذا الرجل، في الوقت الحاضر، مُستَحوَذ عليه مِن الشيطان؟»

 

«لا، يا يهوذا. لكنّه يميل إلى الشيطان، والميل إلى الشيطان يعني وضع الذات في ظروف السقوط فيه.» (يسوع يتحدّث إلى الاسخريوطيّ).

 

«ولماذا لا يأتي إليكَ كي يُشفى مِن مَيله؟ أيعلم أنّ هذا لديه أم يجهل ذلك؟»

 

«لو كان يجهله لما كان مذنباً كما هو عليه، ذلك أنّه يعلم بميله للشرّ، وأنّه لا يَثبت في العزم على تركه. لو كان مُزمعاً، لكان أتى إليَّ… لكنّه لا يأتي… إنّ السمّ يتغلغل وجِواري لا يطهّره، لأنّه وبدلاً مِن أن يريده، هو يهرب منه. خطأكم، أيّها البشر. تهربون منّي عندما تكونون بأكثر حاجة إليَّ.» (إجابة يسوع لأندراوس هي).

 

«إنّما هل سبق أن أتى إليكَ مرّة؟ أتعرفه؟ هل نعرفه نحن؟»

 

«يا متّى، إنّني أعرف البشر حتّى قبل أن يعرفوني. وأنتَ تعلم ذلك، وهم يَعلمونه. فأنا مَن دعوتكم لأنّني كنتُ أعرفكم.»

 

«إنّما هل نحن نعرفه؟» يصرّ متّى.

 

«أيمكنكم عدم معرفة الّذين يأتون إلى معلّمكم؟ إنّكم أصدقائي وتتقاسمون معي الزّاد، الراحة والتعب. حتّى منزلي فتحتُه لكم، منزل أُمّي القدّيسة. إنّني آخذكم إليه كي يجعلكم العبير الّذي يعبق فيه قادرين على فهم السماء بأصواتها ووصاياها. آخذكم إليه كطبيب يأخذ مرضاه، حالما يتعافون مِن سلسلة أمراض، إلى ينابيع شافية تقويّهم للتغلّب على بقايا الأمراض الّتي يمكن أن تعود ضارّة مجدّداً. وبالتالي فإنّكم لا تجهلون أحداً ممّن يأتون إليَّ.»

 

«في أيّة مدينة التقيتَه؟»

 

«بطرس، بطرس!»

 

«هذا صحيح، يا معلّم. إنّني أسوأ مِن امرأة ثرثارة. اغفر لي. إنّما هي المحبّة، تعلم...»

 

«أعلم، ولذلك أقول لكَ إنّ عيبكَ لا ينفّرني. إنّما عليكَ التخلّص منه.»

 

«نعم، يا ربّي.»

 

الـمَسلَك يضيق، وقد حُصِرَ بين صفّ أشجار وقناة، والمجموعة تتوزّع. يسوع يتحدّث بالضبط إلى الاسخريوطيّ، الّذي يعطيه أوامر بشأن الصرف والصدقات. إلى الخلف، الآخرون اثنان اثنان. في المؤخّرة هناك بطرس، وحده. يفكّر. يسير محنيّ الرأس، مستغرقاً بأفكاره بحيث أنّه حتّى لا يلاحظ بقاءه بعيداً عن الآخرين.

 

«هيه! أنتَ، أيّها الرجل!» يناديه فارس يمرّ. «أأنتَ مع الناصريّ؟»

 

«نعم. لماذا؟»

 

«أتذهبون إلى أريحا؟»

 

«أأنتَ مهتمّ بمعرفة ذلك؟ أنا لا أعرف شيئاً. إنّني أتبع المعلّم ولا أسأل شيئاً. أينما يذهب، فهذا حسن. إنّ الدرب هي درب أريحا، إنّما يمكننا أيضاً أن نعود إلى المدن العشر. مَن يدري! إن أردتَ أن تعلم أكثر، فالمعلّم هو هناك.» الرجل يهمز حصانه، وبطرس يكشّر مِن ورائه تكشيرة غريبة ويتمتم: «إنّني لا أثق، يا سيّدي الجميل. كلّكم مجموعة كلاب! لا أريد أن أكون أنا الخائن. أُقسِم لنفسي: هذا الفم سيكون مختوماً. هوذا» ويقوم بحركة على شفتيه كما ليقفلهما.

 

يصل الفارس إلى يسوع. يناديه. وذلك يمنح بطرس إمكانيّة اللّحاق بالآخرين. وعندما يعاود الرجل الانطلاق، يحيّي الاسخريوطيّ بيده. لا أحد يلاحظ ذلك، باستثناء بطرس، الّذي يصل في الآخر، ويبدو غير مُستَحسِن لهذه التحيّة. يمسك يهوذا مِن كُمّه ويَسأَله: «مَن هو؟ أتعرفه؟ كيف؟»

 

«حسب منظره، إنّه ثريّ مِن أورشليم.»

 

«لديكَ صداقات رفيعة الشأن، أنتَ! جيّد… المهمّ أن يكون ذلك حسناً. قُل لي: هل وجه الثعلب هذا هو مَن يقول لكَ الكثير مِن الأمور؟...»

 

«أيّة أمور؟»

 

«لكن! هي تلك الّتي تقول إنّكَ تعرفها بشأن المعلّم!»

 

«أنا؟»

 

«نعم. أنتَ. ألا تذكر أمسية الماء والوحل تلك(1)؟ وقت الفيضان؟»

 

«آه! لا! لا! أما زلتَ تفكّر بكلام قيل في لحظة مزاج سيّئ؟»

 

«إنّني أفكّر بكلّ ما يمكن أن يؤذي يسوع: أمور، أشخاص، أصدقاء، أعداء… وإنّني مستعدّ دوماً للوفاء بما أَعِد به لِمَن يريد إيذاء يسوع. وداعاً.»

 

يهوذا ينظر إليه بفضول وهو يمضي. هناك دهشة، ألم، إمتعاض، وأقول أكثر مِن ذلك: كراهية.

 

بطرس يلحق بيسوع ويناديه.

 

«آه! بطرس! تعال!» ويضع ذراعه على كتفه.

 

«مَن كان ذلك اليهودي الأشعث؟»

 

«أشعث، يا بطرس؟ لقد كان متبرّجاً ومعطّراً كلّياً!»

 

«هو ضميره الّذي كان أشعثاً. احترس، يا يسوع»

 

«لقد قلتُ لكَ أنّ الوقت لم يحن بالنسبة لي بعد. ومتى حان، لن ينجّيني أيّ احتراس… إذا ما كنتُ أريد أن أنجو بنفسي. حتّى الحجارة ذاتها كانت لتصرخ وتكبّلني إذا ما كنتُ أريد أن أنجو بنفسي.»

 

«هذا ممكن… إنّما احترس... يا معلّم؟»

 

«بطرس؟ ما بكَ؟»

 

«يا معلّم… لديَّ أمر أقوله لكَ وثقل على قلبي.»

 

«أمر؟ ثقل؟»

 

«نعم. الثقل هو خطيئة. الأمر هو نصيحة.»

 

«ابدأ بالخطيئة.»

 

«يا معلّم… أنا… أنا أكره… بي نفور، تجاه واحد منّا، هوذا، إن كنتُ لا أكره، لأنّكَ لا تريد الكراهية. يبدو لي أنّني قرب وكر تنبعث منه نتانة حيّات متهيّجة… ولا أريدها أن تخرج منه كي تؤذيكَ. ذاك الرجل هو وكر حيّات وهو ذاته في حالة هياج مع الشيطان.»

 

«كيف تستنتج ذلك؟»

 

«أوه!... لا أعلم. أنا فظّ وجاهل، إنّما لستُ غبيّاً. إنّني معتاد على قراءة الرياح والغيوم… ويحدث معي كذلك أنّني أفكّ رموز القلوب. يا يسوع… إنّني خائف.»

 

«لا تدن، يا بطرس. ولا تشكّ. فإنّ الشكّ يخلق الوهم. تُرى الأمور الّتي لا وجود لها.»

 

«فليشأ الله الأزلي ألّا يكون هناك شيء. إنّما أنا لستُ واثقاً مِن ذلك.»

 

«مَن هو، يا بطرس؟»

 

«يهوذا الاسخريوطيّ. إنّه يتباهى بأنّ لديه صداقات رفيعة الشأن، وحتّى منذ قليل، ذاك قبيح الوجه، قد حيّاه تحيّة شخص معروف جيّداً. قبلاً لم تكن لديه.»

 

«يهوذا هو مَن يستلم ويوزّع. لديه الفرصة لمعاشرة الأغنياء. هو يجيد التصرّف.»

 

«نعم! هو يجيد التصرّف… يا معلّم، قل لي الحقيقة. أليس لديكَ شكوك؟»

 

«بطرس، أنتَ عزيز جدّاً عليَّ بسبب قلبكَ. لكنّني أريدكَ كاملاً. ليس كاملاً مَن لا يطيع. قد قلتُ لكَ: لا تدن ولا تشكّ.»

 

«إنّما في غضون ذلك، أنتَ لا تقول لي...»

 

«أوشكنا أن نكون بالقرب مِن أريحا وسنتوقّف هناك لانتظار امرأة لا تستطيع استقبالنا في منزلها...»

 

«لماذا؟ أهي خاطئة؟»

 

«لا. إنّها بائسة. ذاك الفارس الذي سبّب لكَ الكثير مِن القلق قد أتى كي يقول لي أن أنتظرها. وسوف أنتظرها، رغم علمي بأنني لا أستطيع فِعل شيء مِن أجلها. وهل تعلم مَن وَضَعَها هي والفارس في إثري؟ يهوذا. أنتَ ترى أنّ معرفته بذاك اليهودي هي لدافع شريف.»

 

بطرس يحني رأسه ويصمت، مرتبكاً. ربّما غير مقتنع، وما زال يعتريه الفضول، لكنّه يصمت.

 

يسوع يتوقّف خارج أسوار المدينة، ويجلس، متعباً، في ظلّ غيضة، تُظلّل ينبوعاً تستقي منه ذوات أربع. الرُّسُل، كذلك، يجلسون في الانتظار. لا بدّ أنّها محلّة ثانويّة جدّاً مِن المدينة. لأنّه، باستثناء الجياد والحمير، الّتي هي بالتأكيد لتجّار مسافرين، هناك عدد قليل مِن الناس.

 

إمرأة تتقدّم، مغطّاة كلّياً برداء غامق ووجه يكاد يكون مغطّىً. إنّ الوِشاح السميك والداكن يتدلّى إلى منتصف الوجه. بصحبتها الفارس آنف الذّكر، وهو الآن مترجّل، وثلاثة رجال آخرين يرتدون ملابس باذخة.

 

«نحيّيكَ، يا معلّم.»

 

«السلام لكم.»

 

«هذه هي المرأة. اسمعها واستجب لرغبتها.»

 

«إن استطعتُ.»

 

«إنّكَ قادر على كلّ شيء.»

 

«أتؤمن بذلك، أنتَ، الصدّوقيّ؟» الصدّوقيّ هو الّذي كان على الحصان.

 

«إنّني أؤمن بما أراه.»

 

«ورأيتَ بأنّني قادر؟»

 

«لقد رأيتُ.»

 

«وسبب مقدرتي، أتعلمه؟» يسود صَمْت. «أيمكنني، أنا، أن أعرف كيف تحكم بأنّني قادر؟» صَمْت.

 

يسوع لا يعود يكترث به ولا بالآخرين. يتكلّم مع المرأة: «ماذا تريدين؟»

 

«يا معلّم… يا معلّم...»

 

«ولكن تكلّمي، دون خوف.»

 

المرأة تُلقي نظرة جانبيّة على مرافقيها، الّذين يفسّرونها على طريقتهم.

 

«للمرأة زوج مريض وتسألكَ شفاءه. إنّها شخصيّة ذات نفوذ، مِن حاشية هيرودس. مِن مصلحتكَ أن تستجيب لها.»

 

«ليس لأنّها ذات نفوذ، بل لأنّها بائسة، سوف أستجيب لها إن استطعتُ. سبق أن قلتُ ذلك. ما به زوجكِ؟ لماذا لم يأتِ؟ ولماذا لا تريدين أن أذهب إليه؟»

 

صَمْت آخر، ونظرة جانبيّة أخرى.

 

«أتريدين أن تكلّميني دون شهود؟ تعالي» يبتعدان بضع خطوات. «تكلّمي.»

 

«يا معلّم… أنا أؤمن بكَ. أؤمن بكَ لدرجة أنّني متأكّدة مِن أنّك تعرف كلّ شيء عنه، عنّي، عن حياتنا البائسة… إنّما هو لا يؤمن… إنّما هو يكرهكَ… إنّما هو...»

 

«إنّما هو لا يمكنه أن يُشفى لأنّه لا يملك الإيمان. ليس فقط لا يملك الإيمان بي. بل حتّى بالله الحقّ.»

 

«آه! تعلم؟» المرأة تبكي بيأس. «إنّه جهنّم، منزلي! جهنّم! أنتَ تحرّر الممسوسين. وتعلم إذن ماهيّة الشيطان. إنّما هذا الشيطان داهية، ذكيّ، مُراوغ ومثقّف، أتعرفه؟ أتعلم إلى أيّة انحرافات يقود؟ أتعلم إلى أيّة خطايا؟ أتعلم أيّ خراب يسبّب حوله؟ منزلي؟ أهو منزل؟ لا. إنّه عتبة الجحيم. زوجي؟ هل هو زوجي؟ هو الآن مريض ولا يهتمّ لأمري. إنّما، كذلك حين كان ما يزال قوياً وراغباً بالحبّ، أكان إنساناً ذاك الّذي كان يعانقني، يمسك بي، يحصل عليَّ؟ لا! كنتُ بين قبضتي شيطان، كنتُ أحسّ بنَفَس ودَبَق شيطان. لقد أحببتُه كثيراً، وأحبّه. إنّني امرأته، وقد أخذ عذريّتي عندما كنتُ أكبر قليلاً مِن طفلة: كنتُ بالكاد أبلغ أربعة عشر عاماً. إنّما حتّى عندما كنتُ أتذكّر ذاك الزمن الأوّل، ومعه تعود لي المشاعر السويّة لأوّل عناق جعلني امرأة، فأنا، بالجزء الأكثر سموّاً منّي أولاً، ثمّ باللحم والدم، كنتُ أتراجع رعباً عندما أتذكّر بأنّه نَجِس لاستحضاره الأرواح. كان يبدو لي أنّ ليس زوجي، بل الأموات الّذين كان يستحضرهم، هم الّذين كانوا عليَّ ليَشبعوا منّي… وحتّى الآن، الآن، حتّى بمجرّد النظر إليه، ينازع، ورغم ذلك لا يزال غارقاً بذلك السحر، أشمئزّ منه. فليس هو مَن أراه… إنّه الشيطان. يا لألمي! حتّى في الممات لن أكون معه، لأنّ الشريعة تحرّم ذلك. خلّصه، يا معلّم. أسألكَ أن تشفيه كي تمنحه الوقت ليتعافى.» المرأة تبكي بقلق.

 

«أيّتها المرأة المسكينة! أنا لا أستطيع شفاءه.»

 

«لماذا، يا ربّ؟»

 

«لأنّه هو لا يريد ذلك.»

 

«بلى. فهو يخاف مِن الموت. بلى، هو يريد ذلك.»

 

«لا يريد. هو ليس مجنوناً، هو ليس ممسوساً لا يعرف حالته ولا يطلب أن يتحرّر لأنّه يفتقر إلى التفكير بحرّيّة. هو ليس شخصاً مسلوب الإرادة. هو شخص يريد أن يكون هكذا. يعلم أنّ ما يفعله محرّم. يعلم أنّه ملعون مِن قِبَل إله إسرائيل. لكنّه يستمرّ. حتّى ولو أنا شفيتُه، بدءاً مِن نَفْسه، فسوف يعود إلى استمتاعه الشيطانيّ. لقد فسدت إرادته. إنّه متمرّد. لا أستطيع.»

 

المرأة تبكي بأكثر حدّة. يقترب أولئك الّذين رافقوها. «ألا ترضيها، يا معلّم؟»

 

«لا أستطيع.»

 

«أنا قد قلتُ لكم ذلك. والأسباب؟»

 

«أأنتَ، الصدّوقيّ، تَسأَل عنها؟ أعيدكَ إلى سِفر الملوك. اقرأ ما كان يقوله صموئيل لشاول وما كان يقوله إيليا لأحزيا. إنّ روح النبيّ يُقرّع الـمَلِك لإزعاجه إيّاه باستحضاره مِن مملكة الأموات. فليس مسموحاً فِعل ذلك. إقرأ سِفر اللاويّين، إن ما عدتَ تذكر بعد كلمة الله. خالق وربّ كلّ كائن، حارس الحياة وأولئك الّذين ماتوا. إنّ الأموات والأحياء هم بين يديّ الله وغير مسموح لكم انتزاعهم منهما. لا بفضول عبثيّ، ولا بعنف تدنيسيّ، ولا بكفر ملعون، ما الذي تريدون معرفته؟ إن كان هناك مستقبل أبديّ؟ وتقولون إنّكم تؤمنون بالله. إن كان الله موجوداً، فهو كذلك سيكون لديه بلاط، وأيّ بلاط سيكون إن لم يكن أزليّاً مثله، مؤلّف مِن أرواح أبديّة؟ إن كنتم تقولون بأنّكم تؤمنون بالله، فلماذا لا تؤمنون بكلمته؟ ألا تقول كلمته: "لا تمارسوا العرافة، ولا تتقيّدوا بالأحلام"؟ ألا تقول: "إن قَصَدَ أحدهم السَّحَرة والعرّافين وفَسَق معهم، فسوف أشيح وجهي عنه وأستأصله مِن وسط شعبه"؟ ألا يقول: "لا تجعلوا لأنفسكم آلهة على مقاسكم"؟ وماذا تكونون أنتم؟ أَسَامريّين وضائعين، أم أبناء إسرائيل؟ وما تكونون أنتم؟ أأغبياء أم قادرين على التفكير؟ وإن كنتم تفكّرون بدافع إنكار خلود النَّفْس، فلماذا تستحضرون الأموات؟ وإن لم تكن خالدة تلك الأجزاء التي لا جسد لها وتحرّك الإنسان، فماذا يبقى مِن إنسان بعد الموت؟ نتانة وعظام، عظام مكلّسة خرجت مِن الدود. وإن كنتم لا تؤمنون بالله، إلى درجة لجوئكم إلى أصنام وتعاويذ كي تنالوا الشفاء، المال، إجابات، كما يفعل ذاك الّذين تطلبون له الصحّة، فلماذا تصنعون لكم آلهة حسب مزاجكم، وتؤمنون أنّها قادرة على أن تقول لكم كلاماً أَصَحّ، أَقْدَس، أكثر إلهيّة مِن تلك الّتي يقولها الله لكم؟ الآن أنا أقول لكم إجابة إيليا ذاتها لأحزيا: "لماذا أَرسَلتَ رُسُلاً لاستشارة بعلزبول، إله عَقْرُون، كما لو لم يكن في إسرائيل إله يمكن استشارته؟ لذلك، لن تنزل عن السرير الّذي صَعَدتَ عليه، وحتماً بخطيئتكَ تموت".»

 

«هو أنتَ الّذي يهيننا دوماً ويهاجمنا. إنّني ألفت انتباهكَ لذلك. سوف نأتي في إثركَ كي...»

 

«كي تقودوني إلى فخّ. إنّما أنا أقرأ قلوبكم. أَسقِطوا الأقنعة، أيّها الهيروديّون المباعون لعدوّ إسرائيل! أَسقِطوا الأقنعة، أيّها الفرّيسيّون الكَذَبَة والقُساة! أَسقِطوا الأقنعة، أيّها الصدّوقيون، السامريّون الحقيقيّون! أَسقِطوا الأقنعة، أيّها الكَتَبَة الّذين كلامهم مخالف للواقع! أَسقِطوا الأقنعة، أنتم كلّكم، يا منتهكي شريعة الله، أعداء الحقّ، خُلّان الشرّ! أَسقِطوها، يا مُدنِّسي بيت الله! أَسقِطوها، أيا مُزعزِعي الضمائر الضعيفة! أَسقِطوها، أيا أبناء آوى الّذين تشتمّون الضحية في الهواء الّذي لامَسَها، وتتبعون هذا الأثر وتترصّدون، متحيّنين الوقت المناسب للقتل، وتلعقون شفاهكم التي تستطعمون فيها مسبقاً مذاق الدم وتحلمون بتلك الساعة… أيّها السقطيّون (تجّار المستعمل) والزّناة، الّذين تبيعون حقّ بكوريّتكم بين الشعوب بأقل مِن حفنة عدس، والّذين لم تعودوا تنالون البركات، لأنّ شعوباً أخرى سوف تلبس جزّة حَمَل الله! وسوف يبدون مسحاء حقيقيّين في عينيّ العليَ. وعندما يشمّ أريج مسيحه ينبعث منهم سيقول: "هوذا أريج ابني! الشبيه برائحة حقل مُزهِر بارَكَه الله. عليكم ندى السماء: النعمة. فيكم خصب الأرض: ثمار دمي. فيكم وفرة حنطةٍ وخمرٍ: جسدي ودمي، اللذين سأعطيهما للبشر كي تكون لهم الحياة، ولذِكري. فلتخدمكم الشعوب، لينحنِ أمامكم الناس، لأنّه أينما ستكون علامة حَمَلي فهناك ستكون السماء. والأرض للسماء تخضع. كونوا معلّمي إخوتكم، لأنّ أتباع مسيحي سيكونون ملوك الروّح بامتلاكهم النور، وإلى هذا النور سيتطلّع الآخرون آملين بعونه. لينحنِ أمامهم أبناء أُمّكم: الأرض. نعم. كلّ أبناء الأرض سوف ينحنون يوماً أمام علامتي. وليكن ملعوناً مَن يلعنكم ومباركاً مَن يبارككم، لأنّ البركات واللعنات الموجّهة إليكم تأتي إليَّ أنا، أبيكم وإلهكم". هذا ما سيقوله. هذا، أيا أيّها الزناة الّذين، رغم قدرتكم على الفوز بالإيمان الحقيقيّ كعروس محبوبة لنفوسكم، تزنون مع الشيطان وعقائده الكاذبة. هذا ما سيقوله لكم، أيّها القتلة. قتلة الضمائر وقتلة الأجساد. هنا هي ضحاياكم. إنّما إن كان هناك قلبان مقتولان، فجسد لن يكون لكم إلّا لزمن يونان. ومِن ثمّ هو، وقد اتّحد بجوهره الخالد، سوف يدينكم.»

 

يسوع رهيب في هذا السرد الاتّهاميّ. رهيب! أعتقد أنّ الأمر سيكون هكذا في اليوم الأخير.

 

«وأين هم هؤلاء المقتولون؟ إنّكَ تهذي! إنّكَ خليل لبعلزبول. أنتَ تفسق معه وباسمه تجترح المعجزات. وليس لديكَ أيّ قدرة في حالتنا، لأنّنا نحن مَن لدينا صداقة الله.»

 

«الشيطان لا يطرد نفسه. أنا أطرد الشياطين. باسم مَن، إذن؟»

 

صَمْت.

 

«أجيبوا!»

 

«إنّما الأمر لا يستحقّ العناء للانشغال بهذا المهووس! لقد قلتُ لكم ذلك، ولم تصدّقوه. إسمعوه منه. أجِب أيّها الناصريّ المجنون. أتعرف مخطّط السيطرة(2) (Sciemanflorasc).

 

«لستُ بحاجة إليه!»

 

«أتسمعون؟ سؤال آخر بعد. ألم تكن في مصر؟»

 

«بلى»

 

«أترون؟ مَن هو مُستَحضِر الأرواح، الشيطان؟ يا للفظاعة! تعالي، يا امرأة. إنّ زوجكِ قدّيس هو مقارنةً بهذا. تعالي!... ينبغي لكِ أن تتطهّري. لقد لمستِ الشيطان!...» ويمضون، جارّين المرأة وهي تبكي، بإيماءات نفور حادّة.

 

يسوع، شابك الذراعين، يتبعهم بوميض نظراته.

 

«يا معلّم… يا معلّم...» الرُّسُل مذعورون، مِن عنف يسوع، وفي الوقت ذاته مِن كلام اليهود.

 

بطرس يَسأَل، إنّه منحنٍ تماماً وهو يقول ذلك: «ماذا كانوا يقصدون بهذين السؤالين الأخيرين؟ ما هو ذاك الشيء؟»

 

«ماذا؟ مخطّط السيطرة (Sciemanflorasc)؟»

 

«نعم. ما هو؟»

 

«لا تفكّر به. إنّهم يخلطون الحقّ مع الكذب، الله مع الشيطان، وفي كبريائهم الشيطانيّ يظنّون أنّ الله، كي يَذعن لرغبات البشر، يجب أن يُستدعى باسمه(3). إنّ الابن يتحدّث إلى الآب بلغة حقّيقية، ووفقاً لذلك، بفعل محبّة متبادلة بين الآب والابن، تتمّ المعجرات»

 

«إنّما لماذا سألكَ إذا ما كنتَ في مصر؟»

 

«لأنّ الشرّ يَستخدم الأمور الأقلّ مدعاة للأذيّة ليجعل منها مبرّر اتّهام ضدّ مَن يريد استهدافه. إنّ إقامتي لفترة الطفولة في أرض مصر ستكون إحدى أهمّ الاتّهامات في ساعة انتقامهم. اعلَموا أنتم وخلفاؤكم أنّه مع الشيطان فائق الدهاء وخدّامه المخلصين يتعيّن امتلاك فطنة مضاعفة. لذلك قلتُ لكم: "كونوا دُهاةً كالحيّات، وليس فقط بسطاء كالحمام" هذا كي لا تضعوا الحدّ الأدنى مِن الأسلحة بين أيدي الشياطين. وهذا لن يفيد على حدّ سواء. هيا بنا»

 

«إلى أين، يا معلّم؟ أإلى أريحا؟»

 

«لا. سنأخذ قارباً ونعبر مجدّداً في المدن العشر. سوف نعاود صعود نهر الأردن وصولاً إلى عين نون ومِن ثمّ ننزل. وبعدها عند ضفاف بحيرة جنّسارت نأخذ قارباً آخر ونعبر إلى بحيرة طبريّا، ومِن هناك إلى قانا والناصرة. إنّني بحاجة إلى أُمّي. وأنتم كذلك بحاجة إليها. إنّ ما لا يفعله المسيح بكلمته تفعله مريم بصمتها. وما لا تفعله قدرتي يفعله نقاؤها. آه! يا أُمّاه!»

 

«أتبكي، يا معلّم؟ تبكي؟ آه! لا! نحن سوف نحميكَ! إنّنا نحبّكَ!»

 

«لا أبكي ولا أخاف ممّن يريدون لي الشرّ. أبكي لأنّ القلوب هي أكثر صلابة مِن حجر اليشب، ولا أستطيع شيئاً حيال الكثير منها. تعالوا، يا أصدقائي»

 

ينزلون إلى الضفّة، وعلى متن قارب يصعدون النهر. كلّ شيء ينتهي هكذا.

----------

1- راجع الفقرة (51) مِن الجزء الخامس.

2- sciemanflorasc ممارسة (تعويذة) سحرية قديمة كانت تستخدم في مصر: (تتمثل هذه الممارسة السحرية في استدعاء اسم الله السري، وكان مُستَحضِرو الأرواح يعتقدون أنّهم قادرون بذلك على إخضاع إرادة الله لرغباتهم).

3- يهوه (יהוה).