ج7 - ف161
أَنَا هُوَ
ماريا فالتورتا
L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO
THE GOSPEL AS REVEALED TO ME
بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}
L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ
MARIA VALTORTA
الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.
الجزء السابع / القسم الأول
161- ("لا راحة لي أفضل مِن القول: خَلَّصتُ أحداً كان يَهلك")
23 / 09 / 1944
يقول يسوع:
«في غضون ذلك أقول لكِ أنّه فيما إذا كنتِ مُزمِعة على القيام بعمل منتَظَم، فإنّ حَدَث الأربعاء 20/09/1944 (الفقرة 95 مِن الجزء السادس) يجب أن يُوضَع قبل عام مِن موتي، لأنّ حَدَث الأربعاء ذاك كان قد حَصَلَ في زمن الحصاد حيث كنتُ في الـثانية والثلاثين مِن العمر.
إنّ ضرورات تعزيتكِ وتعليمكِ، يا محبوبتي، وتعزية وتعليم الآخرين، قد حَتَّمَت عليَّ اتّباع ترتيب خاصّ في معرض إعطاء الرؤى والإملاءات المتعلّقة بها. إنّما، وفي الوقت المناسب، سوف أبيّن لكِ كيفيّة توزيع أحداث الأعوام الثلاثة مِن الحياة العلنية. إنّ ترتيب الأناجيل جيّد، إنّما ليس ذاك الترتيب الـمُطلَق وفقاً للترتيب الزمني. ومُراقِب نبيه يمكنه أن يتبيّن ذلك.
ومَن كان بمقدوره وضع الأحداث بترتيب زمنّي مضبوط، حيث كان قد رافَقَني مِن بداية التبشير وحتّى صعودي، لم يفعل ذلك. بالفعل يوحنّا، ابن النور الحقّ، كان قد كَرَّسَ نفسه وانشَغَلَ بجعل النور يسطع بتألُّق مِن خلال لبسه للجسد في عيون الهراطقة الذين كانوا يطعنون بحقيقة حبس الألوهة بجسد بشريّ. إنّ إنجيل يوحنّا الـمُبدِع قد حقَّقَ غايته فائقة الطبيعة، إنّما لم يكن قد راعى الترتيب الزمنيّ لحياتي العلنيّة.
الإنجيليّون الثلاثة الآخرون يُظهِرون تشابُهاً فيما بينهم فيما يخصّ ترتيب الأحداث، إنّما ليس بالنسبة لترتيب التسلسل الزمني، لأنّ واحداً فقط مِن الثلاثة كان حاضراً تقريباً في كلّ حياتي العلنيّة: إنّه متّى، ولم يكتبها إلّا بعد خمسة عشر عاماً، فيما الآخران كانا قد كَتَباها حتّى بعد ذلك، بعد سماعهما الرواية مِن أُمّي، مِن بطرس، مِن الرُّسُل والتلاميذ الآخرين.
سوف أرشدكِ كي تجمعي أحداث الأعوام الثلاثة معاً، عاماً بعد عام.
والآن شاهِدي واكتبي. الحَدَث اللّاحق لحَدَث الأربعاء (20/09/1944).»
أرى يسوع يتمشّى على مهل جيئة وذهاباً على درب ريفيّة تحت ضوء قمر ساطع. إنّ القمر بدر وهو يتألّق بوجهه الباسم في سماء صافية تماماً. وبناءاً على موقعه في السماء حيث يتهيّأ للغروب، فإنّني أستنتج بأنّ الوقت هو بعد منتصف الليل.
يسوع يسير وهو يفكّر ويصلّي بالتأكيد، رغم أنّني لا أسمع أيّ كلام. إنّما لا يغيب عن بصره كلّ ما يحيط به. يتوقّف مرّة ويبتسم فيما يُنصِت لتغريد طويل لعندليب عاشق: إنّ الطائر يغرّد بألحان تتابعيّة وزغردات ونغمات منفردة، إنّها نغمات مُتقَنَة، قويّة ومديدة بحيث يبدو أنّه مِن المستحيل أنّها تَصدُر عن هذا الكائن الصغير الذي لا يعدو كونه حفنة ريش صغيرة. وفي سبيل ألّا يُزعِجه بصوت احتكاك نعليه على حجارة الدرب، ولا بصوت حفيف ردائه على العشب، فيسوع يتوقّف فيما ذراعاه مشبوكتان، ويبتسم رافعاً رأسه. إنّه حتّى يغمض عينيه نصف إغماضة كي يُركّز أكثر فيما يُصغي إليه، وعندما يُنهي العندليب بنغمة حادّة تتصاعد وتتصاعد بمقاطع ثلاثية (إذا ما كنتُ أذكر جيّداً) ويختم بتغريدة حادّة جدّاً تدوم بقدر ما يسمح به نَفَسه، فإنّ يسوع يُعبّر عن استحسانه ويُصفّق دون أن ينبس بكلمة، مومئاً برأسه مرّتين أو ثلاث بابتسامة رضى.
الآن، مِن جهة أخرى، هو ينحني فوق باقة مِن زهور العسل التي ينبعث عطر نفّاذ مِن تويجاتها البيضاء الكثيرة جدّاً، والتي تُشبه أفواه حيّات تتثاءب، حيث تهتزّ ألسنة المدقّات المصفرّة، وتلتمع علامة ذهبية على البتلة السفليّة. الزهور تبدو أكثر بياضاً، تقريباً فضّية، تحت أشعّة القمر. يسوع يُعجَب بها ويشمّ عطرها ويُداعبها بيده.
يعود على أعقابه. لا بدّ أنّ المكان مرتفع بعض الشيء، لأنّه ومِن جهة الجنوب يمكن رؤية شيء ما يَلمَع كما قِطع زجاج مبلّلة تتلألأ تحت ضوء القمر، إنّه بالتأكيد قسم مِن البحيرة، فهو ليس نهراً ولا هو البحر، حيث أنّه مُحاط بِتِلال مِن الجانب المقابل للجانب الذي يقف فيه يسوع.
يَنظُر يسوع إلى مرآة المياه الساكنة تلك في سكون ليلة صيفيّة. ثمّ يَدور حول نفسه، مِن الجنوب إلى الغرب، ويَنظُر إلى بلدة، تَظهَر بيضاء، وهي تَبعد حوالي الكيلومترين، وربّما أقلّ مِن ذلك. إنّها بلدة جميلة. وهو مِن ثمّ يتوقّف كي يَنظُر إليها ويهزّ رأسه فيما هو مُستَغرِق بفكرة تُحزِنه كثيراً.
بعدها يستأنف السير ببطء ويصلّي. وأخيراً يجلس على حجر ضخم أسفل شجرة باسقة جداً، ويتّخذ وضعيّته المعتادة، مرفقاه مستندان إلى ركبتيه، ذراعاه ممدودتان للأمام، ويداه متشابكتان للصلاة.
يَلبث هكذا لبعض الوقت، وقد كان ليبقى لفترة أطول لولا أنّ رجلاً، كما الخيال، قد تقدّم نحوه خارجاً مِن دغل منادياً إيّاه: «يا معلّم؟»
يسوع يلتفت إلى الوراء، لأنّ الشخص كان آتياً مِن خلفه، ويقول له: «يهوذا؟ ما الذي تريده؟»
«أين أنتَ يا معلّم؟»
«عند أسفل شجرة الجوز. تعال.» ويَنهَض يسوع ويتوجّه إلى الدرب، تحت ضوء القمر، كي يتمكّن يهوذا مِن رؤيته.
«أأتيتَ يا يهوذا كي تُرافِق معلّمكَ لبعض الوقت؟» إنّهما الآن قريبان مِن بعضهما البعض، ويسوع يضع ذراعه بمودّة على كتف رسوله. «أَمْ أنّهم يحتاجونني في كورازين؟»
«لا يا معلّم. لا شيء. أنا رغبتُ في أن آتي لملاقاتكَ.»
«تعال إذن. هناك متّسع لكلينا على هذه الصخرة.»
يَجلسان قرب بعضهما ويَلبثان صامتيَن. يهوذا لا يتكلّم، إنّه يَنظُر إلى يسوع. إنّه يصارع.
يسوع يريد مساعدته. إنّه يَنظُر إليه بوداعة، إنّما بنفاذ. «يا لها مِن ليلة جميلة يا يهوذا! انظر كيف أنّ كلّ شيء نقيّ! لا أظنّ أنّ أوّل ليلة قد ابتسمت على الأرض وعلى نَوم آدم في الجنّة الأرضيّة كانت أكثر نقاءً. شُمَّ عطر هذه الزهور. تَنَفَّس، إنّما لا تقطفها. إنّها بغاية الجمال والنقاء! أنا أيضاً قد امتنعتُ عن ذلك لأنّ قطفها هو بمثابة تدنيس لها. العنف هو شرّ على الدوام، تجاه النباتات كما هو تجاه الحيوانات، تجاه الحيوانات كما هو تجاه الإنسان. لماذا حرمانها مِن الحياة؟ إنّ الحياة جميلة جدّاً عندما نُحسِن استخدامها!... وهذه الزهور قد أَحسَنَت استخدامها بنشرها العطر، إنّها تُبهِج بمظهرها الجميل وعطرها، إنّها تمنح العسل للنحل والفراشات، كما تنقل لتلك الأخيرة ذهب مدقّاتها كي تُرصِّع بنثرات مِن ياقوت أصفر درّة أجنحتها، وتُستَخدَم كأسِرّة للأعشاش... لو أنّكَ كنتَ هنا منذ قليل، لكنتَ سمعتَ عندليباً يغرّد بعذوبة ابتهاجاً بالحياة وتسبيحاً للربّ. يا للعصافير العزيزة! يا لها مِن مِثال للبشر! إنّها تَقنَع بالقليل، وفقط بما هو مسموح ومقدّس. ببذرة ودودة صغيرة يمنحها لها الآب الخالق. وإذا لم يكن هناك شيء، فهي لا تغضب أو تتذمّر، وإنّما تتغلّب على جوع أجسادها بامتلاء قلوبها، الذي يجعلها تُنشِد تسابيح للربّ وبهجة الرجاء. إنّها تَسعَد بتعبها بعد التحليق مِن الفجر حتّى المساء كي تبني لنفسها عُشّاً دافئاً، ناعماً، آمناً، لا بدافع مِن أنانيّة، بل بدافع المحبّة لصغارها. وهي تغنّي فرح محبّتها الصادقة لبعضها البعض: مِن العندليب لرفيقته، ومِن كليهما لِفراخهما. إنّ الحيوانات هي دوماً سعيدة، إذ لا شعور بالندم في قلوبها ولا تبكيت ضمير. نحن مَن يجعلها شقيّة، لأنّ الإنسان شرّير، عديم الاحترام، متسلّط، وَحشيّ. ولا يكفيه أن يكون كذلك فقط مع أقرانه. بل يمتدّ شرّه ليطال المخلوقات الأدنى منه. وكلّما شَعَرَ بالندم أكثر ووَخَزَه ضميره أكثر، كلّما أَكثَرَ الأذى تجاه الآخرين. إنّني واثق مِن أنّ الفارس الذي يهمز حتّى يُدمي حصانه المتصبّب عرقاً والـمُنهَك، ويضربه بالسوط إلى حدّ ترك علامات تورّم حيث شعر رقبته وعند جنبيه، وحتّى على منخريه، وعند جفنيه الداكنين، اللّذين ينغلقان بألم على عينيه المستسلمتين جدّاً والوادعتين جدّاً، إنّني واثق مِن أن روح هذا الفارس ليست في سلام. فهو إمّا كان ذاهباً لارتكاب جريمة ضدّ الاستقامة، أو أنّه كان عائداً بعد ارتكابه لها.» يسوع يصمت ويستغرق بالتفكير.
يصمت يهوذا. ويفكّر هو كذلك. ومِن ثمّ يتكلّم: «كم هو رائع يا معلّم، سماعكَ تتكلّم هكذا! فكلّ شيء يغدو واضحاً للعينين، للعقل، للقلب... وكلّ شيء يصبح سهلاً، حتّى القول: "أريد أن أصبح صالحاً!" حتّى القول لكَ: "يا معلّم، إنّ نفسي مضطربة أنا أيضاً! لا تَنفُر منّي يا معلّم، أنتَ يا مَن تحبّ الأنقياء!"»
«آه يا يهوذا! أنا أَنفُر؟ أيا صديقي، أيا ابني، ما الذي يجعلكَ تضطرب؟»
«أَبقِني معكَ يا معلّم. أَمسِك بي بإحكام... لقد أقسمتُ بأن أكون صالحاً منذ أن كلَّمتَني بكلّ طِيبة. لقد أقسمتُ أن أعود يهوذا الأيّام الأولى، لقد تبعتكَ وأحببتكَ كما يحبّ العروس عروسه، لم أكن أحلم إلاّ بكَ، واجداً فيكَ كلّ رضىً. هكذا كنتُ أحبّكَ يا يسوع...»
«أعلم... ولذلك أحببتُكَ... إنّما أنا ما أزال أحبّكَ، يا صديقي الجريح...»
«كيف تَعلَم بأنّني جريح؟ وهل تَعلَم ما الذي يجرحني؟...»
يسود صمت. يسوع يَنظُر إلى يهوذا بوداعة... هناك دمعة تجعل عينه أكثر فأكثر وادعة، مُلطِّفة بريقها: عين طفل بريء مُسالِم قد مَنَحَ ذاته كليّاً للمحبّة.
يهوذا يخرّ على قدميه، وجهه على ركبتيّ يسوع، ذراعاه مشدودان إلى جنبيه، ويئنّ: «أَبقِني معكَ يا معلّم... أَبقِني... إنّ جسدي يصرخ مثل شيطان... وإذا ما رضختُ، فعندها يلبسني الشرّ كلّه... أَعلَم بأنّكَ تعرف ذلك، ولكنّكَ تنتظرني كي أُفصِح عنه... إنّما يا معلّم، مِن الصعب القول: "لقد خطئتُ."»
«أعرف ذلك يا صديقي. لهذا ينبغي على المرء أن يُحسِن التصرف. بحيث لا يضطرّ لاحقاً لأن يذلّ نفسه قائلاً: "لقد خطئتُ." ولكن مع ذلك يا يهوذا، في ذلك أيضاً دواء ناجع جدّاً. فإنّ وجوب اجتهاد المرء في الاعتراف بالخطيئة يجعله يُحجِم عن ارتكابها، وفيما إذا ارتُكِبَت فإنّ ألم تأنيبه لنفسه هو بحدّ ذاته توبة تكفير. وإذا ما عانى بعد ذلك، ليس بسبب الكبرياء ولا خوفاً مِن العقاب، وإنّما بسبب إدراكه أنّه بخطيئته قد سَبَّبَ ألماً، فعندها أقول بأنّ الخطيئة تُمحى. إنّ المحبّة هي ما يخلّص.»
«أنا أحبّكَ يا معلّم. لكنّني ضعيف جدّاً... آه! لا تستطيع أن تحبّني! أنتَ نقيّ وتحبّ الأنقياء... لا تستطيع أن تحبّني لأنّني... لأنّني... آه... يا يسوع، انزع منّي جُوع الحواس! أَتَعلَم أيّ شيطان هو؟»
«أعرف. إنّني لا أستجب له، ولكنّني أعرف أيّة أصوات له.»
«أترى؟ أترى؟ إنّكَ تشمئزّ منه كثيراً بحيث أنّ مجرّد الإتيان على ذكره قد جَعَلَ وجهكَ يضطرب... آه! لا يمكنكَ أن تغفر لي!»
«يا يهوذا. ألا تَذكر مريم؟ أو متّى؟ أو العشّار الذي أَصبَحَ أبرصاً؟ أو تلك المرأة، بائعة الهوى الرومانيّة، التي تنبّأتُ لها بمكان في السماء، حيث بعد غفراني لها ستكون لها القُدرة على العيش بقداسة؟»
«يا معلّم... يا معلّم... يا معلّم... آه! أيّ ألم في قلبي!... هذا المساء هربتُ... مِن كورازين... لأنّني لو كنتُ قد بقيتُ... لكنتُ هلكتُ. تَعلَم... إنّ الأمر كَمَن يشرب ويغدو مريضاً... والطبيب يمنعه مِن شرب النبيذ أو أيّ شراب مُسكِر، فيتعافى ويبقى سليماً طالما لا يتذوّق هذا الطَّعم... إنّما إن رَضَخَ، مرّة واحدة، وقام بتذوّقها مجدّداً فيعاوده العطش... العطش إلى ذاك الشراب... بحيث لا يعود يُقاوِم... ويشرب ويشرب ويمرض مجدّداً... للأبد... يجنّ... يمسّه شيطان... شيطانه... آه! يا يسوع، يا يسوع، يا يسوع!... لا تخبر الآخرين... لا تخبرهم... إنّني أَحمرّ خجلاً أمام الجميع...»
«إنّما ليس أمامي.»
يهوذا يسيء الفهم. «هذا صحيح! سامحني! عليَّ أن أخجل في حضرتكَ أكثر ممّا أمام أيّ أحد آخر، لأنّكَ كامل...»
«لا يا بنيّ. ليس هذا ما كنتُ أقصده. حَذار مِن أن يتسبّب ألمكَ، قلقكَ، حزنكَ، بإخفاء الحقيقة. قلتُ بأنّ لكَ أن تحمرَّ خجلاً أمام الجميع، إنّما ليس أمامي. فليس على الابن أن يخاف أو يخجل أمام أب صالح، ولا المريض مِن طبيب قَدير. ويعترف أمام هذا وذاك دونما أيّ خوف، حيث إنّ الأوّل يحبّ ويغفر، والآخر يتفهّم ويشفي. أنا أحبّكَ وأتفهّمكَ. كذلك أغفر لكَ وأشفيكَ. إنّما قُل لي يا يهوذا. ما الذي يُسَلّمكَ إلى شيطانكَ؟ أهو أنا؟ أهم إخوتكَ؟ أهنّ نساء خاطئات؟ لا. إنّها إرادتكَ. إنّني الآن أغفر لكَ وأشفيكَ... أيّة بهجة مَنَحتَني يا عزيزي يهوذا! قد كنتُ أبتهج كثيراً بهذه الليلة الصافية والمعطّرة، والتي جَعَلَتها التغاريد العذبة مُبهِجة، وقد كنتُ أسبّح الربّ على ذلك. إنّما الغبطة التي تمنحني إيّاها الآن تتخطّى نور القمر المتألّق هذا، هذه العطور، هذا السلام، هذه التغاريد. أتسمع؟ يبدو أنّ العندليب قد انضمَّ إليَّ كي يقول لكَ معي أنّه سعيد بإرادتكَ الحسنة، حيث أنّ هذا الطائر المغرّد الصغير المفعم إرادة حسنة هو على أتمّ الاستعداد كي يفعل ما قد خُلق لأجله. وكذلك، نسيم الصباح الباكر هذا، الذي يمرّ على الزهور موقِظاً إيّاها، فاسحاً المجال لقطرات الندى الماسيّة كي تُصَبّ في تجاويف كؤوسها، بحيث تجدها عاجلاً فراشة وأشعة الشمس، الأولى كي تنتعش، والأخيرة كي تعكس سطوعها العظيم على مراياها الصغيرة. انظر: ها إنّ القمر يغيب. وها هو ديك يُعلِن عن الفجر بصياحه البعيد. وها هي عتمة وظلال الليل تختفي. انظر كيف مرّ الوقت بعذوبة وسرعة، في حين، لو أنّكَ لم تأت إليَّ، لكان قد انقضى في الاشمئزاز والندم؟ عليكَ أن تأتي إليَّ في كلّ مرّة تخاف فيها مِن نفسكَ. إنّ الأنا الشخصية!!! هي صديق عظيم، ومُجرِّب عظيم، وعدوّ عظيم، وقاضٍ عظيم يا يهوذا! أترى؟ ففيما هي صديق صدوق ووفيّ إذا ما كنتَ صالحاً، إلّا أنّها يمكن أن تكون صديقاً غير مُخلِص إن لم تكن صالحاً، وبعد كونها معيناً لكَ، تثور لتصبح دار قضاء بلا رحمة وتعذّبكَ بتأنيباتها... إنّها قاسية بالتأنيب... وليس أنا! هكذا هو الأمر، هيا بنا. فها هو الليل قد انقضى...»
«يا معلّم، أنا لم أدعكَ ترتاح... واليوم عليكَ أن تتكلّم كثيراً...»
«لقد ارتحتُ في الفرح الذي مَنَحتَني إيّاه. فلا راحة لي أفضل مِن القول: "اليوم قد خلّصتُ أحداً كان يهلك." تعال، تعال... لننزل إلى كورازين! آه! فقط لو تعرف هذه المدينة أن تقتدي بكَ يا يهوذا!»
«يا معلّم... ما الذي ستقوله لرفاقي؟»
«لا شيء، إن لم يَسأَلوا... وإذا ما سَأَلوا، فسأقول بأنّنا تحدّثنا عن رحمات الله... فهذا موضوع حقيقيّ، وهو لا حدود له بحيث أنّ أطول حياة لا تكفي للتوسّع فيه. هيّا بنا...»
وينزلان، بقامتيهما الممشوقتين، مختلفين في الوسامة إنّما متماثلين في الشباب، الواحد بجانب الآخر، ويختفيان خلف دغل مِن الأشجار...