ج3 - ف25
أَنَا هُوَ
ماريا فالتورتا
L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO
THE GOSPEL AS REVEALED TO ME
بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}
L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ
MARIA VALTORTA
الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.
الجزء الثالث / القسم الأول
25- (اختيار الإثني عشر رسولاً)
16 / 05 / 1945
إنّه فجر يَجعَل الجبال بيضاء، ويبدو كأنّه يخفِّف وطأة وحشة ذاك المنحدر، حيث لا يُسمع سوى صوت السيل الذي يُزبِد، ضجيج تُرَجِّع صداه الجبال التي تَغزُر فيها الكهوف، فتكون للضوضاء صِبغة خاصّة. هناك، في المكان الذي اتَّخَذَ فيه التلاميذ محطّة لهم، لا وجود لغير القليل مِن حفيف خَجول لأوراق ونباتات، طلائع عصافير تستيقظ، وأواخر حيوانات ليليّة تعود إلى جحورها. مجموعة مِن الأرانب البريّة التي ما تزال تقضم دغلاً منخفضاً مِن التوت، تفرُّ فَزِعَة مِن جرّاء سقوط حجر. ثمّ تعود مُتهيِّبة، رافعة آذانها لسماع أدنى صوت، وعندما ترى أنّ كلّ شيء هادئ تعود إلى دغلها. الندى يُرطِّب الأوراق كلّها، وكذلك الحجارة، فتفوح مِن الغابة رائحة الطحالب والنعناع والحبق.
يَهبُط أبو الحنّاء إلى مشارف مغارة، سقفها حجر ناتئ، وهو يهزّ رأسه منتصباً على قدميه الحريريّتين، وهو متأهِّب للفرار، يَنظُر إلى الداخل، يَنظُر إلى الأرض، يُتمتِم "سيب سيب"، زقزقاته المتسائلة و... الشَّرِهَة إلى فُتَات الخبز التي على الأرض، ولكنّه لم يقرّر النـزول إلّا حينما رأى شحروراً كبيراً يسبقه، وهو يتقدّم قافزاً بشكل مُوارِب، يلهو، ومظهره يشبه غلاماً شقيّاً، وشكله الجانبيّ يُشبه كاتب عدل عجوزاً، لا ينقصه في ذلك سوى النظارات. حينئذ يَهبط أبو الحنّاء كذلك، ويبقى خلف ذلك السيّد الشجاع الذي، مِن حين لآخر، يُدخِل منقاره الأصفر في الأرض الرطبة بُغية... عِلم آثار يخصّ الطعام، ثمّ يمضي بعد "سيوب"، أو صافرة مختَصَرة شقيّة تماماً. يُكثِر أبو الحناء مِن أكل الفتات، ويبقى مذهولاً لدى رؤية الشحرور الداخل إلى المغارة الصامتة يَخرُج منها وفي منقاره قطعة جبن يضربها على الحجر المرّة تلو المرّة ليفتّتها ويجعل منها وليمة وفيرة. ثمّ يعود إلى الداخل، يُلقي نظرة خفيّة، وعندما لا يعود يَجِد شيئاً، يُصفِّر صفرة تهكّمية جميلة، ويطير ليَختم أنشودته على قمّة شجرة بلّوط غَمَسَت رأسها في لازورد الصباح. ويطير أبو الحنّاء كذلك لدى سماعه صوتاً آتياً مِن داخل المغارة... ويبقى على غصن صغير يتدلّى في الفراغ.
يتقدّم يسوع إلى العَتَبَة، ويُفتِّت قطعة خبز وهو يدعو بكلّ هدوء العصافير، بصافرة ذات نغمة تشبه تماماً أصوات عصافير صغيرة عديدة. ثمّ يبتَعِد ويمضي إلى الأعلى ليقف عند حافّة صخريّة، كي لا يخيف أصدقاءه الذين يَهبطون بنشاط: أوّلاً أبو الحنّاء ثمّ آخرون مِن أنواع مختلفة. أُحبّ التفكير، لأنّ في ذلك خبرة، أنّ الحيوانات، حتّى أكثرها احترازاً، تقترب مِن الذين، بالفِطرة، تحسّ أنّهم ليسوا أعداء بل حُماة. عدم حركة يسوع، أو نظرته تؤدّي إلى أن تصبح العصافير، بعد برهة، تقفز على بُعد سنتيمترات منه. أبو الحنّاء، وقد شَبِع الآن، يطير فوق الصخرة التي يستند إليها يسوع، يحطّ على طرف ياسمينة برّية، ويتأرجح فوق رأس يسوع، مع الرغبة بالهبوط على رأسه الأشقر أو على كتفه. تنتهي الوجبة. والشمس تُضفي لوناً ذهبياً على قمّة الجبال ثمّ الأغصان الأكثر ارتفاعاً في الخمائل، بينما الوادي ما يزال غارقاً بأكمله في نور الفجر الشاحب. تطير العصافير، مكتفية، شَبِعَة، نحو الشمس وهي تُنشِد مِلء حناجرها.
«والآن، هلمَّ بنا لنوقظ أبنائي الآخرين.» يقول يسوع ويَنـزل، لأنّ مغارته هي الأعلى. ومِن مغارة إلى أخرى ينادي الإثني عشر النيام، كُلّاً باسمه.
سمعان وبرتلماوس وفليبّس ويعقوب وأندراوس يُجيبون في الحال. متّى وبطرس وتوما كانوا أبطأ في الإجابة. بينما يمضي يوضاس تدّاوس لملاقاة يسوع حالما يراه على العَتَبَة، حيث إنّه كان مستيقظاً وجاهزاً، أمّا ابن عمّه الآخر فينام ملء الجفون، وكذلك الاسخريوطيّ ويوحنّا، حتّى إنّ يسوع قد اضطرّ لهزّهم على فراشهم الورقيّ لكي يوقظهم.
يوحنّا، وهو آخِر مَن نوديَ، ينام نوماً عميقاً جدّاً، حتّى إنّه لم يتنبه إلى مَن يناديه. فيتمتم وهو ما يزال في سُحُب النوم، نصف مستيقظ: «نعم يا أُمّي. ها أنا قادم في الحال...» ولكنّه يدور بعدها. فيبتسم يسوع ويجلس على سرير الورق الذي جُمِعَ مِن الغابة، وينحني ويُقبِّل خدّ يوحنّا الذي يفتح عينيه ويبقى بلا حراك مثل التمثال لرؤيته يسوع. ويجلس فجأة ويقول: «أأنتَ تحتاجني؟ ها أنا ذا.»
«لا، لقد أيقظتُكَ كالآخرين، ولكنّكَ اعتبرتَني أُمّكَ، لذلك قَبَّلتُكَ لأفعل كالأُمّهات.»
لا يرتدي يوحنّا سوى ملابسه الداخليّة، لأنّه جَعَلَ مِن ثوبه ومعطفه غطاء له. يتعلّق بعنق يسوع، محتمياً به، واضعاً رأسه بين كتفه وخدّه، وهو يقول: «آه! إنّكَ أكثر مِن أُمّ، أنتَ! لقد تركتُها مِن أجلكَ، أمّا أنتَ فلستُ أترككَ مِن أجلها! هي وَلَدَتني على الأرض، أمّا أنتَ فقد وَلَدْتَني في السماء. آه! أعرف ذلك!»
«ماذا تعرف أكثر مِن الآخرين؟»
«ما قاله لي الربّ في هذه المغارة. تَرى، لم آتِ أبداً للقائكَ، وأظنُّ أنّ الرفاق قالوا إنّ ذلك كان لا مبالاة وكبرياء. إنّما لا يهمني ما يُفكّرون به، لأنّني أَعلَم أنّكَ تعرف الحقيقة. لم آتِ إلى يسوع المسيح، ابن الله المتجسّد، ولكن إلى ما أنتَ كائنه في قلب النار التي هي الحبّ الأزليّ للثالوث الأقدس، طبيعته، جوهره، جوهره الحقيقيّ -آه! لا أعرف أن أقول ما أدركتُهُ في هذه المغارة المظلمة التي أَصبَحَت، بالنسبة إليَّ، مُفعَمة أنواراً، في هذا الكهف البارد حيث اكتويتُ بنار لا شكل لها، ولكنّها استقرَّت في أعماق كياني وأشعَلَته باستشهاد عذب، في هذا الكهف الأبكم إنّما الذي رَتَّلَ لي حقائق سماويّة- ولكن ما أنتَ كائنه، الأقنوم الثاني للسرّ الذي يُعجَز وصفه، والذي هو الله، وإنّني أَلِج داخله لأنّه سَحَبَني إليه وهو معي على الدوام، وكلّ رغباتي، كلّ دموعي، كلّ طلباتي قد أفرغتُها في قلبكَ الإلهيّ، كلمة الله. وبين كلّ الكلام الذي سَمعتُه منكَ، على كثرته، لم أجد كلمة منه أوسع وأرحب مِن التي قُلتَها لي هنا، أنتَ، الله الابن؛ أنتَ، الإله كالآب؛ أنتَ الإله كالروح القدس؛ أنتَ الذي هو محور الثالوث... آه! قد أكون أَكفُر! إنّما هكذا يبدو لي، لأنّه، لو لم تكن موجوداً أنتَ، الحبّ الآتي مِن الآب، والحبّ العائد إلى الآب، فتراه ينقص الحبّ، الحبّ الإلهيّ، ولا تعود الألوهة ثالوثاً، وتَنقَصها صِلة الوَصل التي تُناسِب الله! حُبّه! آه! لديَّ منه الكثير هنا. ولكنّه كالماء الذي يغلي في القِدر ولا يمكنه الخروج... يبدو لي أنّني أموت مِن شدّة عنف وسموّ الجَيَشان الذي هَبَطَ إلى قلبي منذ اللحظة التي أَدركتُكَ فيها. ولكنّني لا أريد التحرّر منه لأيّ شيء في العالم... فاجعلني أموت مِن هذا الحبّ. يا إلهي العذب!» يبتسم يوحنّا ويبكي وهو يَنهَج مُلتَهِباً بحبّه، تاركاً نفسه على صدر يسوع، كما لو كانت الشُّعلة ترهقه، ويداعبه يسوع وهو يَلتَهِب حُبّاً بدوره.
يعود يوحنّا ليتمالك نفسه تحت سيل مِن التواضع الذي يجعله يتوسَّل: «لا تَقُل للآخرين ما قُلتُه لكَ. فَهُم كذلك، بكلّ تأكيد، قد عَرفوا أن يعيشوا بالله كما عشتُ أنا خلال هذه الأيّام. ولكن اختم على سِرّي حَجَر الكِتمان.»
«كُن مطمئنّاً يا يوحنّا. لن يَعلَم أحد بارتباطكَ بالحبّ. البس ثيابكَ. تعال. ينبغي لنا أن نرحل.»
يَخرُج يسوع إلى الـمَسلَك حيث يتواجد الآخرون. مَظهَر تواجدهم الآن أكثر إجلالاً وأكثر خشوعاً. فالأكبر سنّاً يَبدون كالأحبار. أمّا الشباب فيبدو عليهم بعض النضوج والـمَهابة، كان الشباب يُخفيهما مِن قَبل. يَنظُر الاسخريوطيّ إلى يسوع بابتسامة خجولة تغشى وجهه المتَّشِح بالدموع. يلاطفه يسوع أثناء مروره. أمّا بطرس... فلا يتكلّم. وهذا الأمر غريب بالنسبة إليه، مما يثير الدهشة أكثر مِن أيّ تغيير آخر. يَنظر إلى يسوع بانتباه، ولكن بإجلال جديد، يبدو أنّه جَعَلَ جبهته تبدو أكبر عند الصدغين العاريين قليلاً، ونظرة عينه أكثر صرامة، حيث حتّى تلك الساعة كان ما يزال فيها بَريق مَكر. يناديه يسوع إلى جانبه ويَجعله قريباً منه، في انتظار يوحنّا الذي يَخرُج أخيراً. لستُ أجيد القول، ولكنّ وجهه كان أكثر شحوباً أو أكثر احمراراً، إنّما تَلمَع فيه شُعلة لا تُبدِّل لونه، ولكنّها مع ذلك واضحة. وينظر إليه الجميع.
«تعال هنا يا يوحنّا، بالقرب منّي، وأنتَ كذلك يا أندراوس، وأنتَ يا يعقوب بن زَبْدي، ثمّ أنتَ يا سمعان، ثمّ أنتَ برتلماوس، ففليبّس وأنتما أخويَّ ومتّى. وأنتَ يا يهوذا بن سمعان، هنا، في مواجهتي، توما تعال هنا. اجلسوا. ينبغي لي أن أُحدّثكم.»
يَجلسون بهدوء كالأطفال. والجميع مُستغرقون في عالمهم الداخليّ، ومع ذلك فهم مُتنبِّهون ليسوع كما لم يكونوا كذلك مِن قبل أبداً.
«هل تَعلَمون ماذا فعلتُ لكم؟ جميعكم يَعلَم. فنفسكم أَخبَرَت عقلكم بذلك. ولكنّ النَّفْس، التي كانت خلال هذه الأيام مَلِكَة، قد عَلَّمَت العقل فضيلتين عظيمتين: التواضع والصمت، ابنا التواضع والحَذَر، واللذان هما ابنا المحبّة.
منذ ثمانية أيّام فقط كنتم ستأتون لِتُعلِنوا، كأولاد شجعان يبغون الإدهاش وتجاوز الـمُنَافِس، مآثركم وعلومكم الجديدة. والآن أنتم تصمتون. لقد تحوّلتم مِن أولاد إلى مراهقين. والآن تَعلَمون أنّ بذلك الإعلان كان يمكن أن تُذِلّوا الرفيق الذي قد يكون تلقّى مِن الله أقلّ منكم، وتصمتون. وغير ذلك فأنتم مِثل صبايا بدأن سن البلوغ. فلقد وُلِدَت فيكم حشمة مقدَّسة على التبدّلات التي أَحدَثَها فيكم سرّ اقتران النُّفوس بالله. هذه الكهوف، بَدَت لكم في اليوم الأوّل باردة، غير مُحبَّبَة ومُقفِرة... والآن تنظرون إليها على أنّها غُرَف عرائسيّة مُعطَّرة ومضيئة. ففيها تعرّفتم على الله. كنتم في السابق تعرفون عنه شيئاً قليلاً، ولم تكونوا تعرفونه في الصميميّة التي تجعل مِن الاثنين واحداً. بينكم مَن هُم متزوّجون منذ زمن، وآخرون كانت لهم علاقات مُضلّلة مع النساء، والبعض منكم، لأسباب مختلفة، هُم عفيفون. ولكنّ العفيفين الآن أَصبَحوا يعرفون ماهيّة الحبّ الكامل كما يعرفه المتزوّجون. بل حتّى إنّني أستطيع القول: لا أحد يعرف ما هو الحبّ الكامل مثل الذين يجهلون شهوة الجسد. إذ إنّ الله يتجلّى للذين في حال البتوليّة بكلّ كماله، وذلك نتيجة الفرح الذي يختبره في عطاء ذاته للطَّاهِر، وذلك بأن يجد فيه بعضاً مِن ذاته، طاهراً جدّاً، في الخليقة الطاهرة مِن الفجور، وليكافئها عمّا تمتنع عنه حبّاً به.
الحقّ أقول لكم، بسبب الحبّ الذي أُحِبُّكم، والحكمة التي أَمتَلِك، ولو لم يكن لزاماً عليَّ إتمام عمل الآب، لرغبتُ في الاحتفاظ بكم هنا، والبقاء معكم مُنعَزِلين، وأنا متأكّد أنّني هكذا أصنع منكم، وفي وقت قصير، قِدّيسين عِظاماً، دون كثير ضعف وارتدادات وَزَلّات وتباطؤ وتراجُعات. ولكنّني لا أستطيع. ينبغي لي الذهاب وعليكم أنتم الذهاب. فالعالم ينتظرنا، العالم الدَّنِس والمدنِّس والمحتاج إلى معلِّمين ومُخلِّصين. أردتُ جعلكم تعرفون الله لتحبّوه أكثر كثيراً مِن العالم الذي، رغم كلّ عواطفه، لا يساوي ابتسامة واحدة فقط مِن الله. أردتُ جَعلَكم تتأمّلون في ما هو الله وما هو العالم لأجعلكم ترغبون الأفضل. في هذه اللحظة أنتم لا تتوقون إلّا إلى الله. آه! لو كنتُ أستطيع تثبيتكم في هذه الساعة في هذا التَّوق! ولكنّ العالم ينتظرنا، ونحن ماضون إلى العالم الذي ينتظرنا، باسم المحبّة المقدَّسة: وكما أَرسَلَتني هي إلى العالم، كذلك أرسلكم أنا بأمر منّي إلى العالم. ولكنّني أناشدكم في ذلك: كما تُحفَظ الجوهرة في علبة الحليّ، احفَظوا أنتم في قلوبكم كنـز هذه الأيّام حيث رأيتم واعتنيتم ونشأتم واتّحدتم بالله. وكحجارة الشهادة التي أقامها الأحبار في ذكرى العهود مع الله، حافِظوا واحفَظوا هذه الذكريات الثمينة في قلوبكم.
اعتباراً مِن اليوم، لم تعودوا تلاميذي المفضَّلين، ولكنّكم الرُّسُل رؤساء كنيستي. منكم ستأتي عَبْر العصور كلّ التسلسلات، وسوف يدعونكم مُعلِّمين، مُتَّخِذين لكم مُعلِّماً هو الله في قدرته الثالوثيّة وحكمته ومحبّته. لم أختركم لأنّكم كنتم الأكثر استحقاقاً، وإنّما لأسباب كثيرة معقّدة مُجتَمِعة، وما مِن ضرورة لتعرفوها الآن. لقد اخترتُكم عِوَضاً عن الرُّعاة الذين هُم تلاميذي منذ عهد طفولتي الأولى، يوم وُلِدتُ. لماذا فعلتُ ذلك؟ لأنّه كان حسناً أن أفعل. بينكم مَن هُم جليليّون ويهود، عُلماء وجَهَلة، أغنياء وفقراء. كلّ ذلك مِن وجهة نَظَر العالم. كي لا يُقال إنّني فَضَّلتُ طبقة واحدة. ولكنّكم غير كافين لكلّ ما ينبغي فعله. لا الآن ولا فيما بعد.
لا يتذكّر جميعكم المقطع مِن الكتاب، في سِفر أخبار الأيّام الثاني الفصل التاسع والعشرين، أُذكّركم به، فهو يروي كيف أنّ حزقيّا مَلِك اليهوديّة طَهَّر الهيكل، وبعد التَّطهير جَعَل الذبائح عن الخطايا تُقَدَّم مِن أجل الـمَلِكَة، مِن أجل بيت الربّ، مِن أجل اليهوديّة، وبعدها بدأت التقدمة الشخصيّة. ولكن بما أنّ الكَهَنَة كان عددهم قليلاً مِن أجل الذبائح، استدعى، لتقديم العَون، لاويّين مُكَرَّسين بطقوس أقصر مِن طقوس الكَهَنَة.
وهذا ما أفعله أنا. فأنتم الكَهَنَة المعَدِّين بعناية طويلة الأمد منّي، أنا الحَبر الأزلي. ولكنّكم غير كافين للعمل المتعاظم باطِّراد للذبائح الشخصيّة للربّ إلههم. فَأَجعَل التلاميذ الذين يَظَلّون كتلاميذ يشاركونكم، أولئك الذين ينتظروننا في أسفل الجبل، أولئك الذين أَصبَحوا أكثر سموّاً، أولئكَ الذين انتَشَروا على أرض إسرائيل والذين سوف ينتَشِرون في كلّ أرجاء الأرض. ستُعطَى لهم مهمات لها الأهميّة ذاتها، لأنّ الرسالة واحدة، ولكنّ ترتيبهم يكون مختلفاً في عينيّ العالم، وليس في عينيّ الله حيث يسود العدل. وهكذا فإنّ التلميذ المغمور الذي يجهله الرُّسُل وزملاؤه، والذي يحيا بقداسة وهو يقود النُّفوس إلى الله، سيكون أعظم مِن الرسول الـمُعلَن وليس لديه مِن الرسول إلا اسمه، والذي يُقلِّل قَدْره ووقاره كرسول بجريه وراء غايات بشريّة.
واجبات الرُّسُل والتلاميذ ستكون على الدوام تلك التي لِكَهَنَة ولاوييّ حزقيّا: ممارسة الشعائر، محاربة عبادة الأصنام، تطهير القلوب والأماكن، التبشير بالربّ وكلمته. وليس على الأرض مهمّة أقدس منها، ولا مِن جلال أسمى مِن الذي لكم. ولكن مِن أجل ذلك قُلتُ لكم: "أَنصِتوا إلى ذواتكم، افحصوا ضمائركم". فالويل للرسول الذي يَسقُط أو يَزلّ! لأنّه يَجرّ معه تلاميذ كثيرين، وهم يَجرّون عدداً أكبر مِن المؤمنين. إنّه الخراب الذي يتعاظم على الدوام مثل كُرة الثلج أو الدائرة المتوسّعة على مياه البحيرة نتيجة رمي الحجارة في النقطة ذاتها.
هل ستكونون جميعكم كاملين؟ لا. هل سيدوم الروح الذي ينشّطكم؟ لا. فالعالم سيرمي مجسّاته لينحر نفسكم. وسيكون انتصار العالم، ابن الشيطان بالنسبة إلى خمسة أعشار، خُدَّام الشيطان لثلاثة أعشار أيضاً، واللامبالين بالله للعُشْرَين الباقِيَين؛ انتصار يُطفئ النور في قلوب القدّيسين. فدافِعوا عن أنفسكم بأنفسكم ضدّ أنفسكم وضدّ العالم والجسد والشيطان. ولكن على الأخصّ، دافِعوا عن أنفسكم ضدّ أنفسكم. كونوا في ذلك يَقِظين يا أبنائي حيال الكبرياء والشهوانيّة والرِّياء والفُتور وسُبات الروح والجَّشَع! عندما تَرفَع الأنا الدنيا صوتها وتتباكى بحجّة القَسوة على حسابها، فَأَسكِتوها بقولكم: "مُقابل لحظة التقشّف التي أَفرضها عليكِ، أُوفِّر لكِ، وللأبد، الوليمة الإنتشائية التي حَصَلتِ عليها في الكهف في نهاية قمر سيبات (يناير-فبراير).
هيّا بنا. هيّا بنا لملاقاة الآخَرين الذين يَنتَظرون مجيئي بأعداد كبيرة. بعد ذلك سأذهب إلى طبريّا لبضعة ساعات، وأنتم، بحديثكم عنّي إلى العامّة، سوف تنتظرونني عند أسفل الجبل على الطريق المباشرة مِن طبريّا إلى البحر. سآتي إلى هناك وأصعد للتبشير. خذوا الحقائب والمعاطف. لقد انتهت الإقامة، والاختيار قد تمّ.»