ج6 - ف127
أَنَا هُوَ
ماريا فالتورتا
L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO
THE GOSPEL AS REVEALED TO ME
بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}
L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ
MARIA VALTORTA
الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.
الجزء السادس/ القسم الثاني
127- (السّبت في سلام الناصرة)
13 / 05 / 1946
السبت هو يوم للرّاحة. إنّ ذلك معلوم بالأساس. إنّ البشر يرتاحون، وقد غطّوا الأدوات، أو كانت قد رُتّبت بعناية في مواضعها.
الآن والغروب الأحمر ليوم جمعة صيفيّ يوشك على الاكتمال، فإنّ مريم، التي كانت جالسة إلى نولها الأصغر في ظلّ شجرة تفّاح ضخمة، تقف، تغطّي النول، وتحمله إلى مكانه في البيت بمساعدة توما. ومريم، تطلب مِن أوريا -التي تجلس على مقعد عند قدميها، والتي تخيط بخبرتها القليلة الثياب التي أُعطيت لها مِن قِبَل السيّدات الرومانيّات، بعدما ضَبَطَتها لها مريم على قياسها- أن تطوي شغلها بشكل مرتّب، وأن تضعه على الرفّ في غرفتها الصغيرة. وفيما تقوم أوريا بذلك، فإنّ الأُمّ تدخل بصحبة توما إلى المشغل، حيث يسوع والغيور مشغولان بترتيب المناشير، الـمَساحِج، المفكّات، المطارق، عبوات الطلاء والغراء، وكنس النّشارة وبقايا الخشب المسحوج مِن على المناضد والأرض. ومِن كلّ العمل الذي تمّ إنجازه حتّى الآن يبقى فقط لوحا خشب صغيران، مثبّتان بملزمة، في الزاوية، كي يجفّ الغراء عند الوصلات (ربّما سيصبح دُرْجاً)، ومقعد، نصف مدهون، تنبعث منه رائحة قوية لطلاء حديث.
أوريا تدخل أيضاً وتنحني فوق نقش توما، الذي تُبدي إعجابها به وتَسأَل بشيء مِن الفضول والتدلّل الغريزيّ، لماذا يستخدم، وفيما إذا كان يليق بها.
«إنّها تليق بكِ تماماً، إنّما يليق بكِ أكثر أن تكوني صالحة. فهذه الحليّ تُجمِّل الجسد فقط، إنّما ليس لها أيّة فائدة للروح. لا وبل هي تؤذي الروح بتنمية التدلُّل.»
«لماذا تصنعها إذن؟» تَسأَل الفتاة المنطقيّة. «أتريد أن تؤذي روحاً؟»
توما، الذي هو دائماً طيّب القلب، يبتسم للملاحظة ويقول: «ما هو غير ضروريّ هو مؤذٍ للأرواح الضعيفة. أمّا بالنسبة للروح القويّة، فالحليّ هي لا شيء سوى: دبوس مزخرف لتثبيت الثوب في مكانه.»
«لِمَن تصنعها؟ لزوجتكَ؟»
«لا زوجة لي، ولن يكون لي زوجة أبداً.»
«إذن لأختكَ.»
«لديها أكثر ممّا يلزمها.»
«إذن لأُمّكَ.»
«تلك النّفْس العجوزة المسكينة! ما عساها أن تفعل بها؟»
«ولكنّها لامرأة...»
«نعم، لكنّها ليست أنتِ.»
«آه! ما كنتُ حتّى لأفكّر بها... وخاصّة بعد أن قلتَ بأنّ تلك الأشياء مؤذية للروح، ولن أرغب بامتلاكها. وسوف أنزع الأهداب عن ثيابي. فلا أريد أن أتسبّب بأيّة أذيّة لما يعود لمخلّصي!»
«فتاة حكيمة! أرأيتِ، بإرادتكِ الطيّبة قد قمتِ بعمل أكثر جودة مِن عملي.»
«آه! أنتَ تقول ذلك لأنّكَ طيّب!...»
«أقول ذلك لأنّه صحيح. انظري: لقد أخذتُ هذه القطعة مِن الفضّة، وقد جعلتُها صفائح (رقائق) رقيقة كما كنتُ أريدها، ثمّ وبأداة، أو بالأحرى بعدّة أدوات، فقد شكَّلتُها على هذا النّحو. إنّما لا يزال عليَّ أن أقوم بالعمل الأهمّ: جمع الأجزاء معاً بأسلوب طبيعيّ. حاليّاً، لقد أنجزتُ فقط هاتين الورقتين الرفيعتين المجموعتين مع وردتهما الصغيرة» ويرفع توما بأصابعه الغليظة جذعاً نحيلاً لزنبق الوادي مجموع مع ورقة هي تقليد مُتقَن لورقة حقيقيّة. إنّه لأمر مثير للإعجاب أن تُرى قطعة الحليّ الصغيرة تلك وهي تبرق بلمعان الفضّة الخالصة بين أصابع الصائغ السمراء والقويّة.
«آه! رائع! كان هناك الكثير منها في الجزيرة، وكان مسموح لنا أن نقطفها قبل طلوع الشمس. لأنّه لم يكن مسموحاً لنا نحن الفتيات الشقراوات أن نتعرّض للشمس، بحيث تكون قيمتنا أكبر. وعلى العكس فقد كانوا يُجبرون السمراوات على البقاء في الشمس، حتّى يُصَبن بالإعياء، كي يصبحن أكثر اسمراراً. هُم... ماذا تقولون عن أحدهم عندما يبيع شيئاً واصفاً إيّاه بأوصاف ما، في حين أنّه شيء آخر؟...»
«مَن يدري... غشّاش... مُخادِع... لا أعرف.»
«أترى، كانوا يخدعونهم قائلين بأنّهنّ كنّ عربيّات، أو بأنّ أصلهنَّ مِن النيل الأعلى. لقد باعوا إحدى الفتيات قائلين بأنّها سليلة مَلِكة سبأ.»
«يا للحِنكة! هم لم يخدعوا الفتيات، بل خدعوا المشترين. إذن عليكِ أن تقولي: لقد احتالوا. يا لهذا الجنس مِن البشر! مفاجأة رائعة للمشتري عندما رأى... لون الحبشية المزيّف وهو يغدو فاتحاً! أتسمع هذا يا معلّم؟ كم مِن الأمور التي نجهلها!...»
«نعم، لقد سمعتُ. إنّما الشيء المحزن ليس الاحتيال على المشتري... إنّه مصير الفتيات...»
«هذا صحيح. نفوس مُنتَهَكة للأبد... هالكة...»
«لا. فالله يستطيع دوماً التدخّل...»
«لقد فَعَلَ ذلك معي. فقد خلّصتَني!...» تقول أوريا ملتفتة بعينيها الصافيتيين الرائقتين نحو الربّ. وتختم: «وأنا سعيدة جدّاً!» وحيث أنّها لا تستطيع الذّهاب لمعانقة يسوع، فهي تُعانق مريم بيد واحدة، واضعة رأسها ذا الشعر الأشقر على كتف العذراء في إشارة إلى حُبّ واثق.
الرأسان أشقرا الشعر يَبرُزان بتدرّجاتهما المختلفة قبالة الجدار القاتم. المجموعة الأكثر لطافة. لكن على مريم أن تهتمّ بالعشاء. تنفصلان وتمضيان.
«أيمكنني أن أدخل؟» يقول بطرس بصوته الأجشّ مِن عند باب المشغل الذي يُفضي إلى الطريق.
«سمعان! افتحوا الباب!»
«سمعان! لم يستطع البقاء بعيداً!» يصيح توما ضاحكاً بينما يَهرَع ليفتح.
«سمعان! كان ينبغي توقُّع ذلك...» يقول الغيور باسماً.
إنّما ليس فقط وجه بطرس الذي يَظهَر عند الباب. فكلّ الرُّسُل الآتين مِن البحيرة هم هناك، باستثناء برتلماوس والإسخريوطيّ. ويوضاس ويعقوب بن حلفى كانا قد انضمّا إليهم.
«السلام لكم! إنّما لماذا جئتم في هذا الحرّ؟»
«لأنّنا... لأنّنا لم نقدر على البقاء بعيدين أكثر. إنّهما أسبوعان ونصف، أتعلَم؟ أتُدرِك؟ نحن لم نركَ لأسبوعين ونصف!» ويبدو بطرس كما ليقول: «مائتي سنة! كثير جدّاً!»
«لكنّني قلتُ لكم أن تنتظروا يهوذا في كلّ سبت.»
«نعم، ولكنّه لم يأتِ في آخر سبتين... وقد أتينا إلى هنا في السبت الثالث. لقد بقي نثنائيل هناك لأنّه ليس على ما يرام. وهو سوف يستقبل يهوذا فيما إذا ذهب إلى هناك... ولكنّه لن يذهب... فعندما مرّ بنيامين ودانيال مِن طبريّا بينما كانا متّجهين إلينا قبل ذهابهما إلى حرمون الكبير، قالا لنا إنّهما شاهداه في طبريّا... وكما في العادة. سوف أخبركَ لاحقاً...» يقول بطرس الذي توقَّف عن الكلام لأنّ أخاه كان قد شدّه مِن ثوبه.
«حسناً. سوف تخبرني... لكنّكم كنتم كلّكم متلهّفين كي تحظوا باستراحة، والآن وبدلاً مِن استغلال الفرصة السانحة لذلك، فإنّكم تقطعون كلّ هذه المسافات! متى غادرتم؟»
«مساء أمس. البحيرة كانت كالمرآة. لقد رسونا في تراقية كي نتحاشى طبريّا... لئلّا نُقابِل يهوذا...»
«لماذا؟»
«لأنّنا، يا معلم، أردنا أن نستمتع بصحبتكَ في سلام.»
«إنّكم أنانيّون!»
«لا. إنّه يستمتع... إنّما! لا أعرف مَن يعطيه كلّ هذا القدر مِن المال كي يستمتع به مع... نعم، لقد فهمتُ يا أندراوس. إنّما كُفّ عن شدّ ثوبي بهذا العنف. أنتَ تعلم بأنّه الثوب الوحيد الذي أملك. أتريدني أن أعود بأسمال؟»
أندراوس يحمرّ. الآخرون يضحكون. يسوع يبتسم.
«حسناً. لقد رسونا في تراقية كذلك بسبب، حسناً، لا تلمني... قد يكون بسبب الحرّ، وقد يكون بسبب أنّني أصبح شرّيراً عندما أكون بعيداً جدّاً عنكَ، وقد يكون بسبب التفكير بأنّه قد ترككَ كي ينضمّ إلى... إنّما باختصار، توقّف عن تمزيق كُمّي! إنّكَ ترى أنّني أستطيع التوقّف في الوقت المناسب!... إذن، يا معلّم، قد يكون ذلك لعدّة أسباب... لم أكن أريد أن أرتكب خطيئة، وإذا ما كنتُ رأيتُه لكنتُ ارتكبتُها. لذلك فقد ذهبتُ مباشرة إلى تراقية. وعند الفجر انطلقنا.»
«هل مررتم في قانا؟»
«لا. لم نكن نريد إطالة المسافة... ولكنّ المسافة كانت طويلة على حدّ سواء. والسمك كان على وشك أن يفسد... وقد أعطيناه لسكّان أحد المنازل، كي يمنحونا ملجأ لبضع ساعات...ساعات الحرّ. وغادرنا بعد الساعة التاسعة، تقريباً عند منتصف الساعة التالية... لقد كان الحرّ كما في فُرن!...»
«لقد كان بإمكانكم تجنيب أنفسكم المتاعب. فقد كنتُ سآتي قريباً...»
«متى؟»
«عندما تخرج الشمس مِن مدار الأسد.»
«وهل كنتَ تظنّ أنّه كان بإمكاننا البقاء لكلّ هذا الوقت مِن دونكَ؟ لكنّا تحدّينا ألف ضعف مِن حَرّ هذه الأيّام، وكنّا سنأتي كي نراكَ. يا معلّمنا! معلّمنا المعبود!» وبطرس يحتضن كنزه المستعاد.
«ومع ذلك، فعندما كنّا معاً لم تكونوا تفعلون شيئاً سوى التشكّي مِن الطقس، مِن طول الرحلات...»
«لأنّنا أغبياء، لأنّنا، وعندما نكون معكَ، فنحن لا نُدرك جيّداً ما تكون أنتَ بالنسبة لنا... إنّما ها نحن هنا. وقد تدبّرنا أمر إقامتنا. البعض عند مريم التي لحلفى، البعض عند سمعان بن حلفى، البعض عند إسماعيل، البعض عند أَشِير، والبعض قريبين مِن هنا، عند حلفى. سوف نرتاح الآن، وغداً مساءاً سوف نرحل، وسوف نكون أكثر سروراً.»
«السّبت الماضي كنّا قد حظينا بميرتا ونُعْمي هنا، فقد كانتا قد أتتا لرؤية الفتاة مرّة ثانية» يقول توما.
«يمكنكَ أن ترى أنّ كلّ مَن يستطيع أن يتمكن مِن القيام بذلك، فإنّه يأتي إلى هنا!»
«نعم يا بطرس. وما الذي فعلتموه أنتم خلال هذه الأيّام؟»
«لقد اصطدنا... طلينا القوارب... رتقنا الشِّباك... مارغزيام يذهب غالباً للصيد مع الـمُستَخدَمين، ممّا يُقلّل مِن إهانات حماتي ضدّ "الكسول الذي يترك زوجته تموت جوعاً بعدما جَلَبَ لها ابناً غير شرعيّ." مع أنّ بورفيرا لم تكن بحال جيّدة كما هي عليه الآن وقد حظيت بمارغزيام كتعزية لقلبها... وبالنسبة للأمور الباقية. فالنّعاج، ومِن ثلاثة، فقد أصبحت خمسة، وقريباً سوف يكون هناك أكثر... إنّها تُشكِّل عوناً عظيماً لعائلة صغيرة كعائلتنا! ومارغزيام يُعوّض بالصيد عمّا لم أعد أفعله أنا إلّا نادراً جدّاً. إنّ لدى تلك المرأة لسان أفعى، في حين أنّ لدى ابنتها لسان حمامة... إنّما أرى أنّكَ عملتَ أنتَ أيضاً...»
«نعم يا سمعان. لقد عملنا. كلّنا. أخواي في منزلهما، وهذان الرّسولان وأنا في منزلي. لِنُسعِد أُمّهما وأُمّي ولنجعلهما ترتاحان.»
«حسناً، ونحن قد عملنا أيضاً» يقول ابنا زَبْدي.
«أنا وزوجتي اهتممنا بخلايا النحل والكُروم» يقول فيلبّس.
«وماذا عنكَ يا متّى؟»
«أنا ليس لديَّ أحد لأُسعِده... لذا فقد أسعدتُ نفسي بكتابة الأمور التي أُحبّذ أن أتذكّرها...»
«آه! إذاً فسوف نروي لكَ مَثَل "الخشب الـمُلمّع" أنا، الدَّهان العديم الخبرة، كنتُ الباعث على روايته...» يقول الغيور.
«لكنّكَ سرعان ما تعلّمتَ المهنة. انظروا كم أَحسَنَ العمل على هذا المقعد!» يقول تدّاوس.
إنّهم في انسجام تام. يسوع يشعّ فرحاً، ويبدو عليه الارتياح أكثر ممّا كان عليه طوال الفترة التي قضاها في المنزل بفعل وجود رُسُله الأعزّاء معه.
أوريا تأتي وتلبث مندهشة عند العتبة.
«آه! ها هي! انظروا كم هي في حال جيّدة! إنّها تبدو كإسرائيليّة صغيرة حقيقيّة بهكذا ثوب!»
أوريا تحمّر ولا تعرف ما تقول. لكنّ الملامح الطيّبة والأبويّة التي تبدو على بطرس عندما قال ذلك تجعلها تتشجّع وتقول: «أنا أجهد كي أغدو كذلك... وبمساعدة معلّمتي فإنّني آمل أن أكون كذلك بأسرع وقت... يا معلّم، أنا ذاهبة كي أُعلِم أُمّكَ بوصولهم...» وتمضي بسرعة.
«إنّها فتاة طيّبة» يُعلن الغيور.
«نعم. أودُّ لو تبقى معنا في إسرائيل. إنّ برتلماوس قد خسر فرصة جيّدة والكثير مِن الفرح برفضها...» يقول توما.
«إنّ برتلماوس متحفّظ جدّاً حيال الـ... قواعد» يقول فيلبّس كي يعذره.
«إنّه عيبه الوحيد» يلاحظ يسوع.
مريم تدخل…
«السلام لكِ يا مريم» يقول أولئك الذين أتوا مِن كفرناحوم.
«السلام لكم... لم أكن أعلم أنّكم هنا. سوف أُحَضِّر شيئاً ما حالاً... وأنتم ادخلوا في انتظار ذلك...»
«سوف تأتي أُمّنا مِن منزلنا حاملة معها بعض الزّاد، وسالومة آتية أيضاً. لا تقلقي يا مريم» يقول يعقوب بن حلفى.
«لنذهب إلى البستان... إنّه وقت نسيم المساء، والمكان منعش هناك...» يقول يسوع.
ويَدخُلون إلى البستان ويجلسون هنا وهناك، يتبادلون الأحاديث الودّية، فيما طيور الحَمام تهدل متنافسة فيما بينها على آخر وجبة، والتي تنثرها أوريا على الأرض... ثمّ يحين وقت سقاية أحواض الزهور والخضار الرائعة والمفيدة جدّاً للإنسان. والرُّسُل يريدون القيام بذلك بابتهاج، فيما مريم التي لحلفى، التي كانت قد وصلت لتوّها، وأوريا والعذراء يُحضّرن الطعام للضيوف. وتختلط رائحة الأطعمة التي يجري تحضيرها برائحة الأرض المرويّة، في حين أنّ صيحات الطيور التي تتنازع بحدّة كي تحصل على مكان لها بين الأوراق السميكة فوق أشجار البستان، تمتزج بالأصوات الحادة أو المنخفضة للرُّسُل...