ج5 - ف1
أَنَا هُوَ
ماريا فالتورتا
L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO
THE GOSPEL AS REVEALED TO ME
بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}
L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ
MARIA VALTORTA
الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.
الجزء الخامس
{السنة الثالثة في الحياة العلنية}
الكتاب الأوّل / القسم الأوّل
1- (في الناصرة. مصالحة. استعدادات للرحيل)
بداية السنة الثالثة
29 / 10 / 1945
يوحنّا ويعقوب ومتّى وأندراوس هُم الآن في الناصرة، وفي انتظار وصول بطرس، هُم يتمشّون في حديقة الناصرة، يُمازِحون مارغزيام، أو يتبادلون الحديث. لا أرى أحداً سِواهم، كما لو أنّ يسوع قد خَرَجَ، ومريم مهتمّة بأعمال البيت. أظنُّها مهتمّة بصنع الخبز، بسبب التنّور الذي يُدخِّن.
الرُّسل الأربعة مسرورون لكونهم في بيت المعلّم، ويُظهِرون ذلك. مارغزيام يقول لهم، لا يقلّ عن ثلاث مرّات: «لا تضحكوا هكذا!» وفي المرّة الثالثة يُلاحِظ متّى طلبه ويَسأَل: «لماذا يا بنيّ؟ ألا يجوز لنا أن نكون مسرورين لكوننا هنا؟ وأنتَ، ألم تَسعَد في هذا المكان؟ والآن حان دورنا.» ويَنقفه بتحبُّب. فينظر إليه مارغزيام بجدّيّة، ولكنّه يَعرِف كيف يَصمُت.
يعود يسوع مع ابنيّ عمّه يوضاس ويعقوب اللذين يُلقِيان التحيّات الحارّة على الرفاق الذين ابتعدوا عنهم منذ أيّام.
تُخرِج مريم التي لحلفى رأسها مِن الـمَخبَز، حمراء يغطّيها الطحين، وتبتسم لولديها.
وفي النهاية يَصِل الغيور وهو يقول: «لقد أتممتُ العمل يا معلّم. وسمعان على وشك الوصول.»
«أيّ سمعان، أهو أخي أم سمعان بن يونا؟»
«أخوكَ يا يعقوب. إنّه آتٍ مع عائلته كلّها ليُسلّم عليكَ.»
بالفعل، بعد بضعة دقائق، يُقرَع الباب، وثرثرة تُعلِن وصول سمعان بن حلفى الذي يَدخُل أوّلاً ممسكاً بيده وَلَداً في حوالي الثامنة؛ وتَدخُل خلفه سالومة ومعها أولادها.
تَخرُج مريم التي لحلفى مِن الـمَخبَز وتُقبِّل أحفادها، سعيدة برؤيتهم هنا.
«أترحل إذن مِن جديد؟» يَسأَل سمعان، بينما يَعقد الأولاد صداقة مع مارغزيام الذي، يبدو لي أنّه لم يكن يَعرِف سوى حلفى الذي كان قد شُفيَ.
«نعم، لقد آن الأوان.»
«ما زالت الأيّام القادمة ممطرة.»
«لا يهمّ. فكلّ يوم يمضي يُقرِّبنا مِن الربيع.»
«هل أنتَ ذاهب إلى كفرناحوم؟»
«بالتأكيد سأذهب، إنّما ليس مباشرة. فالآن أنا ماض عَبْرَ الجليل وإلى ما بعده.»
«سوف أوافيكَ إلى كفرناحوم عندما أَعلَم أنّكَ هناك، وأقُلّكَ إلى أُمّكَ وأُمّي.»
«سوف أكون ممتنّاً لكَ. أمّا الآن فلا تُهمِلها. إنّها تبقى بمفردها. هات الصغار إليها. هنا لا يُفسَدون، كُن أكيداً...»
يَحمرّ سمعان بسبب تلميح يسوع إلى طريقته السابقة في رؤية الأمور، ونَظرَة زوجته الـمُعبِّرة جدّاً التي بَدَت وكأنّها تقول له: «هل تسمع؟ هذا لكَ.»
ولكنّ سمعان يُحوِّل الحديث بقوله: «أين أُمّكَ؟»
«إنّها تخبز، ولكنّها على وشك المجيء...»
في هذه الأثناء، أبناء سمعان، وقد عُيِّل صبرهم، يمضون خلف جدّتهم إلى المخبز. وما هي إلّا لحظات حتّى تَخرُج طفلة، أكبر قليلاً مِن حلفى الذي شُفيَ، وهي تقول: «مريم تبكي. لماذا؟ لماذا يا يسوع؟ لماذا تبكي أُمّكَ؟»
«تبكي؟ آه! يا حبّيبتي! ها أنا ماضية إليها.» تقول سالومة مُندَفِعة.
ويَشرَح يسوع: «إنّها تبكي لأنّني راحل... ولكنّكِ ستأتين إليها وتمكثين برفقتها، أليس كذلك؟ وهي سوف تُعلِّمكِ التطريز، وأنتِ تُسعِدينها. هل تَعِدِينني بذلك؟»
«وأنا أيضاً سوف آتي، طالما أَصبَحَ أبي يسمح لي بالمجيء.» يقول حلفى، وهو يلتَهِم فطيرة ساخنة أُعطيت له.
ولكن مهما تكن حرارة الفطيرة التي بالكاد يُمكِن الإمساك بها بين الأصابع، فإنّها تبقى باردة إذا ما قورِنَت بحرارة خجل سمعان لدى سماعه كلمات الطفل. ورغم أنّها صبيحة شتاء بارد، وريح الشمال تطرد غيوم السماء وتلسع الجسم، فإنّ سمعان يتصبّب عرقاً وكأنّه في عِزّ الصيف…
ولكنّ يسوع يتظاهر بعدم الانتباه، ويبدي الرُّسُل اهتمامهم لما يقوله أطفال سمعان، وهكذا ينتهي الحَدَث، ويتمالك سمعان نفسه ليَسأَل يسوع لماذا التلاميذ ليسوا هنا كلّهم.
«سمعان بن يونا على وشك الوصول. الآخرون يُلاقُونني في الوقت المناسب. ونحن متّفقون على ذلك.»
«جميعاً؟»
«جميعاً»
«حتّى يهوذا الاسخريوطيّ؟»
«حتّى هو...»
«يسوع، تعال معي للحظة.» يَطلب سمعان، ابن العمّ، بإلحاح. وبعد أن يبتعدا إلى عمق الحديقة، يَسأَل سمعان: «ولكن هل تَعلَم تماماً مَن يكون يهوذا بن سمعان؟»
«إنّه أحد رجال إسرائيل، لا أكثر ولا أقلّ.»
«آه! لا تبغي القول لي إنّه...» ويَكاد يَحتَدِم ويَرفَع صوته.
ولكنّ يسوع يجعله يهدأ بمقاطعته وهو يضع يده على كتفه، ويقول له: «إنّه بحسب الأفكار السائدة والأشخاص القريبين منه. لذلك، على سبيل المثال، لو كان وَجَدَ هنا (ويشدّد على الكلمة) كلّ النفوس مستقيمة والأرواح منفتحة على الحقيقة، لما كانت لديه رغبة في ارتكاب خطيئة. ولكنّه لم يَجِدها. على العكس، وَجَدَ وَسَطاً بشريّاً صرفاً، تكيَّفَت معه بشكل مُطلَق أناه البشريّة جدّاً التي تحلم وترى وتعمل لأجلي وبي كَمَلِك لإسرائيل، بالمعنى البشريّ للكلمة، كما حَلِمتَ بي وشئتَ أن تراني، وكما رغبتَ أن تعمل، أنتَ، ومعكَ يوسف أخوكَ، ومعكما لاوي رئيس المعبد في الناصرة، وكذلك متاتياس وسمعان ومتّيا وبنيامين ويعقوب، وجميع أهل الناصرة ما عدا ثلاثة أو أربعة. وليس فقط أهل الناصرة... وهو يَجِد صعوبة في التَّكوُّن، لأنّكم، جميعكم، تُساهِمون في تشويه تكوينه، وباستمرار. إنّه الأضعف بين رُسُلي. ولكنّه، حاليّاً، لا يعدو كونه ضعيفاً. لديه تصرّفات حَسَنَة، وفي أمور كثيرة إرادته مستقيمة، وهو يحبّني. يحبّني حسب تكوينه، ولكنّه حبّ هو تجاهي دائماً. وأنتم لا تساعدونه في فصل ميوله الحسنة عن تلك التي هي غير ذلك، والتي تُشكِّل الأنا لديه، والتي تجعلونها تتنامى لديه باستمرار، بجعلكم شكوكم ومحدوديّتكم البشريّة تَلِج إلى داخله. إنّما هيّا بنا إلى البيت، فلقد سَبَقَنا إليه الآخرون...»
يَتبَعه سمعان متأثّراً قليلاً. وقبل أن تطأ أقدامهما العَتَبَة يُمسِك بيسوع ويقول له: «هل أنتَ غاضب منّي يا أخي؟»
«لا. ولكنّني أحاول تثقيفكَ أنتَ كذلك كما أثقّف التلاميذ الآخرين. ألم تقل لي إنّكَ كنتَ تودّ أن تكون كذلك؟»
«نعم يا يسوع. ولكنّكَ لم تكن في السابق تتكلّم هكذا، حتّى أثناء توجيه الملامة. فقد كنتَ أكثر لطفاً...»
«وبماذا أفاد ذلك؟ كنتُ في السابق هكذا. وهذا كان منذ سنتين... واستَكَنتُم إلى صبري وطيبتي، أو إنّكم شحذتم أنيابكم وأظافركم. استغلّيتم الحبّ لِتُلحِقوا بي الأذى. أليس كذلك؟...»
«نعم، هذا صحيح. ولكن ألا تستمرّ في طيبتكَ؟»
«سوف أكون عادلاً ومستقيماً. وحتّى وأنا كذلك، سأكون، على الدوام، الذي لا تستحقّونه يا أبناء إسرائيل الذين لا تريدون أن تَروا فيَّ المسيح المنتظَر.»
يَدخُلون إلى الغرفة الصغيرة التي اكتظّت لدرجة أنّ البعض قد انتَقَلوا إلى المطبخ أو إلى مشغل يوسف، وقد انضمّت الآن إلى الرُّسُل، عدا ابنيّ حلفى اللذين مَكَثا إلى جانب أُمّهما وزوجة أخيهما، مريم التي دَخَلَت ممسكة بيدها حلفى الصغير. وتبدو واضحة على وجه مريم آثار الدموع التي ذَرَفَتها.
كانت على وشك الردّ على سمعان الذي يؤكّد لها أنّه سوف يأتي إليها كلّ يوم، عندما سُمِع صوت جَلجَلة عربة تتقدّم على الطريق الساكنة، لَفَتَت انتباه أبناء حلفى بضوضائها، ويُفتَح الباب في ذات الوقت الذي كان فيه يُقرَع مِن الخارج. وها هو وجه سمعان بطرس المبتَهِج يَظهَر، وهو ما يزال جالساً على العربة، ويَضرب بقبضة السُّوط... وإلى جانبه جَلَسَت بورفيرا على كوم مِن الصناديق كالعرش خَجِلة، إنّما مبتسمة.
يَهرَع مارغزيام خارجاً لِيُسلِّم على أُمّه بالتبنّي. ويَخرُج الآخرون أيضاً ومعهم يسوع.
«ها أنا ذا يا معلّم. وقد جَلبتُ زوجتي معي، وبهذا الشكل، لأنّها امرأة لا يمكنها قطع المسافات. ليكن الربّ معكِ يا مريم. ومعكِ يا مريم التي لحلفى.» ويَنظُر إلى الجميع بينما هو يَهبِط مِن عربتهِ ويُساعِد زوجته على الهبوط، ويُحيّي الجميع.
حاوَلوا مساعدته في تفريغ العربة، ولكنّه يُعارِض بشدّة قائلاً: «فيما بعد، فيما بعد»، ويمضي بلا كِلفَة صوب باب مشغل يوسف العريض ويَفتَحهُ على مِصراعيه مُحاوِلاً إدخال العربة بِحِملها. ولكنّه لا يستطيع المرور، طبعاً. ومع ذلك فالمحاولة أدَّت إلى تسلية الضيوف وجعلهم يُدرِكون أنّ عددهم كثير... وبالفعل يَمضي سمعان بن حلفى مع عائلته بأكملها…
«آه! الآن وقد أصبحنا وَحدَنا فلنفكّر بأنفسنا...» يقول سمعان بن يونا وهو يَجعَل الحِمار الذي يَرجُع يُحدث ضجّة تعادل التي لعشرة، لكثرة الأجراس المعلَّقة، لدرجة أنّ يعقوب بن زَبْدي لم يتمالك نفسه مِن السؤال وهو يبتسم: «ولكن أين وجدته هكذا كالبهلوان؟»
إلّا أنّ بطرس كان منشغلاً بأخذ الصناديق التي كانت على العربة وتمريرها إلى يوحنّا وأندراوس اللذين كانا يتوقّعانها ثقيلة، ولكنّهما لم يتمالكا نفسيهما مِن التعبير عالياً عن دهشتهما لخفتها…
امضيا إلى الحديقة ولا تكونا كعصافير الدوري المذعورة.» يَأمُر بطرس وهو يُنـزِل بدوره صندوقاً ثقيلاً بحقّ، ويضعه في إحدى زوايا الغرفة.
«والآن جاء دور الحمار والعربة. الحمار والعربة؟ الحمار والعربة!... هذا صعب!... ومع ذلك يجب أن يكون الكلّ داخل البيت...»
«في الحديقة يا سمعان» تقول مريم بصوت خافت. «هناك ملاذ في السياج، في العمق. وهو يَحجب الرؤية لأنّه مغطّى بالأغصان... إنّما هو موجود. اتبع الدرب المحاذي للبيت، بين هذا البيت والحديقة المجاورة، وأنا آتية لأدلّكَ على المدخل... ومَن يأتي لإبعاد أغصان العلّيق التي تغطّيه؟»
«أنا. أنا.» يَهرَع الجميع إلى عمق الحديقة، بينما يمضي بطرس مع مطيّته المجلجلة، وتغلق مريم التي لحلفى الباب... وبضربات مِنجَل، يتحرّر الحاجز الريفي ويُفتح الملاذ حيث يتمّ إدخال الحمار والعربة.
«حسناً! والآن فلننـزع كلّ هذا الذي يصمّ لي الأذنين!» ويَشرَع بطرس يقطع كل ما يربط الأجراس المعلّقة بالسرج.
«ولكن لماذا تركتَ كلّ هذا؟» يَسأَل أندراوس.
«كي تَسمَع الناصرة كلّها وتَعلَم بوصولي. ولقد نجحتُ... والآن أنزَعها كي لا تَسمع الناصرة ساعة رحيلنا. لأجل هذا وضعتُ الصناديق الفارغة... وسوف نمضي بالصناديق المليئة، ولن يندَهِش أحد إذا ما رأى امرأة تجلس إلى جانبي على الصناديق. وصديقنا، ذاك الذي هو الآن بعيد جداً عنّا، والذي طالما تبجّح بأنّه يتمتّع بالحسّ الجيّد والحسّ العمليّ. ولكن عندما أريد أنا، أتمتّع به كذلك...»
«ولكن لماذا كلّ ذلك يا أخي؟» يَسأل أندراوس الذي يُقدِّم الماء للحمار ليشرَب، وهو يقوده إلى المحطبة القُرويّة قرب التنّور.
«لماذا؟ ولكن ألا تَعلَم؟... ولكن يا معلّم، ألا يزالون يَجهَلون كلّ شيء؟»
«لا يا سمعان، بل كنتُ أنتظركَ كي أتحدّث. هيّا بنا جميعاً إلى المشغل. ولتبق النساء في مكانهنّ، ولقد أَحسَنتَ صُنعاً بتصرّفكَ هكذا، يا سمعان بن يونا.»
يَمضون إلى المشغل، بينما بورفيرا ومعها الصبيّ ومريم ومريم يبقون في البيت.
«أردتُ مجيئكم إلى هنا لأنّ عليكم أن تساعدوني في جعل يوحنّا وسِنْتيخي يَمضيان إلى البعيد البعيد. ولقد اتّخذتُ هذا القرار منذ عيد المظالّ. لاحظتم جيّداً أنّه كان مِن المستحيل الاحتفاظ بهما هنا، فذلك يعرّض سلامهما للخطر. ومثل كلّ مرة، لعازر بيت عنيا يساعدني في هذا العمل. ولقد أَصبَحَا على عِلم بذلك. سمعان بطرس على عِلم بالأمر منذ بضعة أيّام. وأنتم أصبحتم الآن تعلمون. سوف نغادر الناصرة هذه الليلة، حتّى ولو هَطَلَ المطر وهبَّت الريح بدل هلّة القمر. كان مِن المفروض أن نكون قد مضينا الآن، ولكنّني أتوقّع أن يكون سمعان قد وَجَدَ بعض الصعوبة في تدبير وسيلة النقل...»
«وبأيّ شكل! كنتُ على وشك اليأس مِن إيجاده. إنّما بفضل يونانيّ سَمِج مِن طبريّا، تمكّنتُ أخيراً مِن الحصول عليه... وسوف يوفي بالغرض...»
«نعم. هذا سيوفي بالغرض، خاصّة بالنسبة إلى يوحنّا الذي مِن عين دور.»
«أين هو؟ لستُ أراه.» يَسأَل بطرس.
«في غرفته مع سِنْتيخي.»
«و... كيف تقبَّلَ الأمر.» يَسأَل أيضاً بطرس.
«بكثير من الألم، والمرأة كذلك...»
«وأنتَ كذلك يا معلّم. لقد ظَهَرَت تجاعيد على جبهتكَ لم تكن في السابق، وفي عينكَ نَظرة جادّة وحزينة.» يُعلّق يوحنّا.
«هذا صحيح. إنَّ ألمي كبير... إنّما فلنتحدّث عمّا ينبغي لنا القيام به. اسمعوني جيّداً، إذ علينا فيما بعد أن نفترق. سنمضي هذا المساء، في منتصف الهجعة الأولى مِن الليل. سنمضي وكأنّنا أناس يَفُرّون... لأنّهم مذنبون. إنّما فنحن على العكس لن نرتكب أيّ خطأ، ونحن لا نهرب بسبب سوء تصرّف منّا. إنّنا نمضي لنمنع إساءة تصرّف آخرين تجاه مَن لا يَقوى على تحمّله. سوف نمضي إذن... سنسلك طريق سيفوريس... وستكون لنا محطّة استراحة في منتصف الطريق، في أحد البيوت، لننطلق مع الفجر. بيت فيه الكثير مِن الأروقة مِن أجل الحيوانات. هناك يوجد رُعاة أصدقاء لإسحاق. أعرفهم، سوف يأوونَني بدون أيّ مقابل. ثمّ علينا بلوغ جيفتائيل، حتماً قبل المساء، حيث سنأخذ قسطاً مِن الراحة. هل تظن أنّ الحيوان يمكنه ذلك؟»
«بالتأكيد! لقد جَعَلَني ذلك اليونانيّ القَذِر أدفع ثمن ذلك، ولكنّه حيوان جيّد وصلب.»
«حسناً. في صبيحة اليوم التالي نمضي إلى بتولمايس [عَكّا] ونفترق. أنتم، بقيادة بطرس الذي سيكون رئيسكم الذي تطيعونه طاعة عمياء، وتمضون بحراً إلى صور. وهناك تجدون سفينة على وشك الإقلاع إلى أنطاكية. تَصعَدون إليها وتُسلِّمون هذه الرسالة إلى الربّان ليقرأها. إنّها مِن لعازر بن ثيوفيلوس. سوف تُعتَبَرون بمثابة خُدّام له مُرسَلين إلى أملاكه في أنطاكية، أو بالحريّ إلى حدائقه في أنتيجونيا. هذا ما أنتم عليه بالنسبة إلى الجميع. اعرفوا أن تكونوا متنبّهين، جادّين، حَذِرين ومحافِظين على الصمت. وحال وصولكم إلى أنطاكية، امضوا مباشرة إلى فليبّس، القَيِّم على أملاك لعازر، وسَلِّموه هذه الرسالة...»
«إنّه يعرفني يا معلّم.» يقول الغيور.
«جيّد جدّاً.»
«ولكن كيف سيصدّق أنّني خادم؟»
«بالنسبة إلى فليبّس، لا حاجة إلى ذلك. يَعلَم أنّ عليه استقبال صديقين للعازر، وتقديم كلّ مساعدة لهما. هذا ما كُتِب. أمّا بالنسبة إليكم، فأنتم مُرافِقون لهما. ليس أكثر. ويُسمّيكم: "أصدقاءه الفلسطينييّن الأعزّاء". وهذا هو حالكم، جميعكم متّحدون بالإيمان وفي المهمّة التي تُنجِزون. وتستريحون ريثما تُتِمّ السفينة عمليّات التفريغ والتحميل وتعود إلى صور. مِن صور، تأتون إلى بتولمايس [عَكّا] بالـمَركَب، ومِن هناك توافونني إلى أَكزِيب...»
«لماذا لا تأتي معنا يا ربّ؟» يقولها يوحنّا متنهّداً.
«لأنّني أبقى لأصلّي لأجلكم، وخاصّة مِن أجل البائِسَين. أبقى كي أصلّي. وهكذا تبدأ السنة الثالثة مِن حياتي العلنيّة.
إنّها تبدأ بداية حزينة جدّاً، كالأولى والثانية. تبدأ بصلاة عظيمة وكفّارة هائلة كالأولى... ذلك أنّ لهذه صعوبات السنة الأولى المؤلمة، وأكثر. حينذاك كنتُ أتهيّأ لهداية العالم، والآن أتهيّأ لمهمّة أوسع وأكثر قُدرة. إنّما أَنصِتوا إليَّ جيّداً: فلتَعلَموا أنّني وإن كنتُ في السنة الأولى الإنسان-المعلّم، الحكيم الذي يدعو إلى الحكمة بإنسانيةّ كاملة وكمال العقل، وفي السنة الثانية كنتُ المخلّص والصديق والرحوم الذي يمرّ ليتلقّى ويَغفر ويَشفق ويتحمّل، ففي السنة الثالثة سوف أكون الإله الفادي والـمَلِك، سوف أكون العادل. فلا تَندَهِشوا إذن إذا ما رأيتموني بمظاهِر جديدة، إذا ما رأيتم القويّ يَسطَع في الحَمَل. بماذا أجابت إسرائيل على دعوتي إلى الحبّ، على ذراعيّ المفتوحتين اللتين كانتا تقولان: "تعال، فأنا أُحِبّ وأغفُر؟" بالصدّ وقسوة قلب تتنامى باستمرار، بالكذب والفِخاخ. حسناً فليكن.
لقد دعوتُها، بكلّ طبقاتها، حانياً جبهتي حتّى التراب. وهي بَصَقَت على القداسة التي تواضَعَت.
لقد دعوتُها لتتقدّس. وأجابتني بالاستسلام للشيطان.
لقد أدَّيتُ واجبي في كلّ شيء. وسَمَّت هي واجبي "خطيئة".
صَمَتُّ. واعتَبَرَت صمتي برهاناً على ارتكاب الإثم.
تكلّمتُ. ودَعَت كلامي كُفراً.
الآن، كفى.
لم تترك لي لحظة راحة. لم تمنحني فرصة للفرح. والفرح بالنسبة إليَّ، كان أن أرى مَن وُلِدوا في النعمة ينمون في حياة الروح. فحاكوا لهم المكائد، وأجبروني على انتزاعهم مِن قلبي، مسبّبين لهم ولي معاً ألم انتزاع الأب مِن الأبناء أو الأبناء مِن الآباء، كي أحميهم من إسرائيل فاسدة.
هُم، الـمُتنفِّذون في إسرائيل، الذين يَدَّعون أنّهم "الـمُبرِّرون"، ويتباهون أنّهم كذلك، يمنعونني، ويريدون منعي مِن أن أُخلِّص أو أن أبتهج بمن خَلَّصتُهم.
معي الآن، منذ عدّة أشهر، عشّار كان يدعى لاوي، وهو صديق لي وفي خدمتي، ويرى العالم إذا ما كان متّى مثار شكّ أو منافسة، ولكنّ التهمة لا تسقط. ولن تسقط بالنسبة إلى مريم أخت لعازر، وبالنسبة لكثيرين كثيرين آخرين سوف أخلّصهم.
الآن، هذا يكفي!
أنا ماضٍ في طريقي الشاقّة باطّراد والسابحة بالدموع... أمضي... ولكنّ أيّاً مِن دموعي لن تسقط بدون جدوى. فهي تهتف لأبي... ثمّ تهتف كدراً بشكل أعنف. أنا، أمضي. مَن يحبّني يتبعني ويُصبِح رجلاً ، ذلك أنّ ساعة الجدّ قد حانت. أنا لا أتوقّف. لا شيء يوقفني.
هُم أيضاً لن يتوقّفوا... ولكن الويل لهم! الويل لهم! الويل لِمَن يتحوّل الحبّ بالنسبة إليهم إلى عدل!... إشارة العهد الجديد ستكون عدلاً صارماً بالنسبة إلى كلّ الذين يُصرّون على خطيئتهم ضدّ كلام الربّ وضدّ عمل كلمة الربّ!...»
يبدو يسوع وكأنّه رئيس ملائكة يَدين. أحسبه، لشدّة تلألؤ عينيه، يتوهّج مقابل جدار سَوَّدَه الدخان... يبدو وكأنّ حتّى صوته يتألّق، الصوت الذي يُشبه البرونز والفضّة عندما يَضرُبا بعنف.
الرُّسُل الثمانية يَشحبّون وكأنّهم مُنقَبِضون مِن الخوف. يَنظُر إليهم يسوع برأفة وحبّ. يقول: «أنا لا أقول هذا لكم أنتم، يا أصدقائي. هذه التهديدات ليست لكم. أنتم رُسُلي، وأنا مَن اخترتُكم.» وأَصبَحَ صوته لطيفاً وعميقاً. ويُنهي قوله: «هيّا بنا إلى الغرفة الأخرى. ولنجعل هذين المضطَهَدَين يَشعُران أنّنا نحبّهما أكثر مِن أنفسنا -أذكّركم بأنّهما يعرفان بأنّهما ذاهبان لِيُهيّئا لي السُّبل في أنطاكية- هيّا بنا...»