ج3 - ف65
أَنَا هُوَ
ماريا فالتورتا
L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO
THE GOSPEL AS REVEALED TO ME
بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}
L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ
MARIA VALTORTA
الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.
الجزء الثالث / القسم الثاني
65- (يسوع والوثنيّون)
29 / 06 / 1945
في سلام السبت، يستريح يسوع قُرب حقل كتّان مُزهِر، وهو يعود للعازر. والأفضل مِن قولي قُرب الكتّان، يَجدُر بي القول غارقاً في الكتّان المرتفع جدّاً. وجالساً قرب أحد الأثلام، مُستَغرِقاً في أفكاره. ما مِن شيء قريب منه سوى بضع فراشات صامتة، أو عظاءة تَصِل مُحدِثة جَلَبَة، وتَنظُر إليه بعينيها السوداوين، رافعة رأسها المثلّث الشكل وعنقها فاتح اللّون والـمُختَلِج. وفي نهاية فترة بعد الظهر تلك، لا نسمة هواء وسط السوق المرتفعة.
مِن بعيد، وقد يكون مِن حديقة لعازر، يَصِل نشيد امرأة، ومعه أصوات هتافات مَرِحَة لطفل يلعب مع أحدهم. بعد ذلك، صوت، صوتان، ثلاثة أصوات تنادي: «يا معلّم!» «يا يسوع!»
يَنتَفِض يسوع ويَنهَض، وبقدر ارتفاع الكتّان في اكتمال نموّه، يَطفو يسوع براحة على ذلك البحر الأخضر والأزرق.
«ها هو ذا هناك يا يوحنّا!» يَهتف الغيور.
ويَهتف يوحنّا بدوره: «أُمّاه! يسوع هنا في الكتّان.»
وبينما يَقتَرِب يسوع مِن الدَّرب المؤدّي إلى البيوت، تَصِل مريم.
«ماذا تريدين يا أُمّي؟»
«يا بنيّ لقد وَصَلَ بعض الوثنيّين ومعهم نساء. يقولون إنّهم عَلِموا مِن يُوَنّا أنّكَ هنا. ويقولون كذلك إنّهم انتظروكَ كلّ هذه الأيّام قرب قلعة أنطونيا...»
«آه! فَهِمتُ! أَصِل حالاً. أين هم؟»
«في بيت لعازر، في حديقته. الرومانيّون يحبّونه كثيراً، وهو ليس لديه تجاههم النُّفور الذي لدينا، نحن. لقد أَدخَلَهم مع عرباتهم إلى الحديقة الكبيرة لكيلا يُسَبِّب العِثار لأحد.»
«حسناً يا أُمّي. إنّهم جنود وسيّدات رومانيّون. أَعلَم.»
«ما الذي يبغونه منكَ؟»
«ما لا يريده كثيرون في إسرائيل. النور.»
«ولكن كيف؟ ماذا يظنّونكَ؟ إلهاً مثلاً؟»
«بِلُغتهم نعم. فبالنسبة إليهم، سهل عليهم تَقَبُّل فكرة تَجَسُّد إله بجسد قابل للموت، أكثر منّا.»
«إذن، لقد تَوَصَّلوا إلى الإيمان بكَ...»
«ليس بعد، يا أُمّي. ينبغي لي أوّلاً تقويض إيمانهم في الوقت الحاضر، أنا في نَظَرهم حكيم، فيلسوف، كما يقولون، ولكن إن يكن بالرغبة في معرفة المذاهب الفلسفيّة، أم بميلهم إلى الاعتقاد بإمكانيّة تَجَسُّد إله، فهذا يساعدني كثيراً في اقتيادهم إلى الإيمان الحقّ. ثِقي بذلك، فإنّهم أبسط كثيراً في تفكيرهم مِن كثيرين في إسرائيل.»
«ولكن هل هم صادقون؟ يُقال إنّ المعمدان...»
«لا. لو كان الأمر متعلّقاً بهم، لكان يوحنّا حُرّاً وفي أمان. فكلّ مَن ليس بمتمرّد يتركونه بسلام. وأكثر مِن ذلك، أقول لكِ، فمجرّد أن يكونوا أنبياء -وهُم يقولون عن أولئك فلاسفة، لأنّ ارتقاء الحكمة فائقة الطبيعة وسموّها، بالنسبة إليهم، يظلّ مِن قبيل الفلسفة- ضمانة للاحترام مِن قِبَلهم. فلا تقلقي يا أُمّي. فلن يأتي الأذى مِن هذا الصَّوب...»
«ولكن الفرّيسيّين... لو عَلِموا بذلك، فماذا سيقولون عن لعازر؟ فأنتَ هو أنتَ، وينبغي لكَ حَمل الكَلِمَة إلى العالم. ولكنّ لعازر!... لقد أساؤوا إليه كثيراً...»
«إنّما لا يمكن مسّه. فهُم يَعلَمون أنّ روما تحميه.»
«حسناً، أترككَ يا بنيّ. هو ذا مكسيميان الذي سيأخذكَ إلى الوثنيّين» ومريم التي تُماشي يسوع طوال ذلك الوقت، تَنسَحِب بسرعة لتمضي صوب بيت الغيور، بينما يَدخُل يسوع عبر بوّابة حديديّة مفتوحة في سور الحديقة، إلى جزء بعيد، حيث تتحوّل الحديقة إلى مَبقَلة، قريبة مِن المكان الذي سيُصبِح فيما بعد قبر لعازر.
هنالك لعازر بمفرده: «يا معلّم، لقد سَمَحتُ لنفسي باستقبالهم...»
«حسناً فَعَلتَ. أين هم؟»
«هناك في ظلّ الغار والشمشاد. كما ترى، فإنّهم يبعدون، على الأقلّ، خمسمائة خطوة عن البيت.»
«حسناً، حسناً... وليأتكم النور جميعاً.»
«سلاماً يا معلّم!» يقول كينتليانوس وهو بالزيّ المدني.
وتَنهَض النساء للتحيّة. هناك بلوتينا وفاليريا وليديا بالإضافة إلى امرأة أخرى مسنّة، لستُ أعرف مَن تكون ولا ما تكون. وإذا كانت مِن الطبقة ذاتها أو أدنى. فجميعهنّ بزيّ بسيط للغاية، بلا أيّة علامة تميّزهنّ.
«لقد ابتغينا الاستماع إليكَ. لم تأتِ. كنتُ أُراقب قدومكَ مِن... ولكنّني لم أركَ.»
«ولا أنا كذلك، لَم أرَ جنديّاً، عند باب السمك، كان صديقاً لي. كان اسمه الكسندر.»
«الكسندر؟ لستُ أَعلَم إذا ما كان هو تحديداً، ولكنّني أَعلَم أنّنا اضطررنا، منذ مدّة، تَهدِئَة لليهود، إلى إبعاد جنديّ أَذنَبَ... بتحدّثه إليكَ. الآن هو في أنطاكية، ولكنّه قد يعود. أُفّ! كم هُم مُزعِجون، هؤلاء الناس... الذين يريدون القيادة، حتّى وهُم ما يزالون عناصر! ويجب المناورة لتحاشي التوصّل إلى أمور هامّة... إنّهم يُصعّبون علينا حياتنا، ثِق بذلك... أمّا أنتَ، فإنّكَ صالح وحكيم. هل ستتحدّث إلينا؟ قد أغادر فلسطين قريباً، وأودُّ الحصول على شيء منكَ بمثابة التذكار.»
«سوف أتحدّث إليكم، نعم. فأنا لا أُخيِّب أملاً أبداً. ما الذي تبتغون معرفته؟»
يَنظُر كينتليانوس إلى النساء نظرة تساؤليّة…
«الذي تريده أنتَ يا معلّم.» تقول فاليريا.
تَنهَض بلوتينا مِن جديد وتقول: «لقد فَكَّرتُ كثيراً... هنالك الكثير لأتعلّمه... كلّ شيء لأَحكُم. إنّما لو يُسمَح لي بالسؤال، فأودُّ أن أعرف كيف يُبنى الإيمان، بكَ على سبيل المثال، على أرض قُلتَ عنها محرومة مِن الإيمان الحقّ. فلقد قُلتَ إن معتقداتنا باطلة. إذن فنحن نظلّ بلا شيء. فكيف نتوصّل إلى الحصول على شيء؟»
«سوف أعتَمِد على شيء تمتلكونه، كَمِثال: المعابد. أبنيتكم المقدّسة والجميلة بحقّ، بحيث إنّ الشيء الوحيد الذي يجعلها ناقصة هو أنّها مُكَرَّسة للعدم. ويمكنها هي أن تُعَلِّمكم كيف يمكن التوصّل إلى الحصول على الإيمان، وأين مَوضع الإيمان. لاحِظوا. أين هي مبنيّة؟ المكان المخصَّص هو عادة رَحب ومكشوف ومُرتَفِع. وإذا لم يكن فسيحاً ومكشوفاً، يتمّ جعله كذلك بهدم كلّ ما يعيق أو يحدّ الأرض. وإذا لم يكن مُرتَفِعاً، يُرفَع على ركيزة أعلى مِن الركيزة ذات الثلاث درجات، وهي التي تُستَخدَم في المعابد الواقعة في مكان مرتفع بشكلّ طبيعي. والمعابد مغلقة ضمن سُور مقدَّس، في الأغلب، ويتشكّل مِن صفوف مِن الأعمدة والأروقة، وفي داخله أشجار مُكَرَّسة للآلهة، وينابيع ومذابح وتماثيل ونُصُب، وهي عادة مسبوقة برواق فخم، وفي نهايته المذبح، حيث تُجرَى الصلوات للآلهة. في المقابل هناك مكان الذبيحة، حيث إنّ الذبيحة تسبق الصلاة. وغالباً، خاصّة بالنسبة إلى الأكثر عَظَمَة، يحيط بها رُواق بأعمدة تَصِلها عارضة مرمر ثمين. وفي الداخل ردهة أماميّة، وخارج أو داخل رُواق الأعمدة غرفة الآلهة والردهة الخلفيّة. والمرمر والتماثيل والموجّهات وقواعد التماثيل ولوحات الجبهة، جميعها مصقولة وثمينة ومزيّنة، تجعل المعبد فخماً جدّاً، حتّى بالنسبة إلى نَظَر الأكثر فظاظة. أليس كذلك؟»
«هو كذلك يا معلّم. فإنكَ قد رأيتَها ودَرَستَها بشكل جيّد جدّاً.» تؤكِّد بلوتينا مادِحة إيّاه.
«ولكنّه مُستَقِرّ في فلسطين ولم يغادرها مطلقاً!؟» يقول كينتليانوس.
«لَم أُغادِر قطّ لأمضي إلى روما أو أثينا، ولكنّني لا أجهل فنّ العمارة في اليونان وروما. ففي عبقريّة الإنسان الذي زَيَّن بارثينون، كنتُ حاضراً، ذلك أنّني موجود حيثما توجد حياة أو كشف عن حياة. فحيثُما كان حكيم يُفكِّر أو نحّات يَنحَت أو شاعر يَنظم أو أُمّ تُنشِد فوق مهد أو رجل يَكدَح فوق الأثلام أو طبيب يُناضِل ضدّ الأمراض أو حيّ يتنفّس أو حيوان يعيش أو شجرة تنمو أكون أنا مع مَن انبَثَقتُ منه. في هدير الزلزال أو دويّ الصاعقة، في نور النجوم وحركة البحار، في طيران النسر أو زنين البعوضة أكون موجوداً مع الخالق العليّ.»
«بشكل... أنّكَ... تعرف كلّ شيء؟ الأفكار كما الأفعال البشريّة؟» يَسأَل أيضاً كينتليانوس.
«أَعلَم.»
يَنظُر الرومانيّون بعضهم إلى بعض مذهولين. صمت طويل، ثمّ، وبِخَجَل، تَسأَل فاليريا بإلحاح: «تَوَسَّع في فكرتكَ يا معلّم، لكي نَعلَم ماذا نفعل.»
«نعم، فإنّ الإيمان يُبنى كما تُبنى الهياكل التي تَفخَرون بها للغاية. يتمّ اختيار الموقع للهيكل، يُحَرَّر المحيط، ويرتَفِع البنيان.»
«ولكن أين هو الهيكل لكي يُوضَع فيه الإيمان، ذلك الإله الأسطوريّ؟» تَسأَل بلوتينا.
«يا بلوتينا، الإيمان ليس إلهاً أسطوريّاً. بل هو فضيلة. فلا آلهة أسطوريّة في الإيمان الحقّ، إنّما هناك إله واحد، إله حقّ.»
«فإذاً... أهو هناك في الأعلى، وهو وحيد في سمائه؟ ماذا يَفعَل إذا كان وحيداً؟»
«إنّه يكتفي بذاته ويهتمّ بكلّ ما في الخليقة. لقد قُلتُ لكِ ذلك في السابق: الله موجود حتّى في زنين البعوضة. وهو لا يَملّ ولا يَضجَر، لا يكن لديكِ شكّ في ذلك. فهو ليس إنساناً مسكيناً، سيّد امبراطوريّة واسعة يشعر أنّه ممقوت فيها، حيث يعيش في الخوف. إنّه الحبّ، وحياته بالحبّ، بل حياته حبّ متواصل. يكتفي بذاته لأنه لانهائيّ وكلّيّ القُدرة. إنّه الكمال. ولكنّ الأشياء المخلوقة التي تعيش بمشيئته المستمرّة كثيرة، لدرجة أنّ لا وقت لديه للضجر والسأم. الضجر والسأم ثمرة للبطالة والرذيلة. وفي سماء الإله الحقّ لا بطالة ولا رذيلة. وقريباً سيكون لديه، علاوة على الملائكة الذين يخدمونه الآن، شَعب مِن الأبرار الذين يَغتَبِطون به. وهذا الشعب ينمو باطّراد أكثر مِن الذين سيُؤمِنون مستقبلاً بالإله الحقّ.»
«هل الملائكة هُم الجَّان؟» تسأل ليديا.
«لا، بل هُم كائنات روحانيّة كما هو الله الذي خَلَقَهم.»
«والجَّان إذن، ماذا تكون؟»
«كما تتخيّلونها، فهي مجرّد كذبة. كما تصوّرونها، لا وجود لها. ولكنّها تُقابِل حاجة غريزيّة لدى الإنسان في البحث عن الحقيقة. وهذا يتأتّى مِن مِنخَس للنَّفس الحيّة والحاضرة حتّى لدى الوثنيّين. إنها تتألّم فيهم كذلك، لأنّ أَمَلها قد خاب في رغبتها. ذلك أنّها، في حنينها، هي جائعة إلى الله الذي تحتفظ بذكراه، في هذا الجسد الذي تسكنه، والمحكوم بروح وثنيّ. حتّى أنتم، فقد أدركتم أنّ الإنسان ليس جسداً وحسب، وأنّ شيئاً ما خالداً لا يموت قد اندَمَجَ بجسده الفاني. بهذا المعنى تَتَّخذ المدن والأمم لها جنيّاً. هو ذا إذن، لماذا تعتقدون ولماذا تختبرون الحاجة إلى الاعتقاد "بالجَّان". وتتَّخذون لأنفسكم الجنّي مِن الشخصيّة، شخصيّة العائلة، أو المدينة، أو الدولة. فلديكم "جنّي روما" و "جنّي الامبراطور" وتعبدونهما كآلهة ثانوية. فادخُلوا في الإيمان الحقّ، فتكون لكم معرفة وصداقة ملاككم الذي يتوجّب عليكم إجلاله، وليس عبادته. فالله وحده الذي يجب أن يُعبَد.»
يَسأَل بوبليوس كينتليانوس: «قُلتَ: "مِنخَس النَّفْس الحيّة والحاضرة لدى الوثنيّين والتي تتألّم فيهم لأنّ أملها قد خاب". ولكن مِن أين تأتي النَّفْس؟»
«مِن الله. فهو خَالِقها.»
«ولكن أَلَسنا نُولَد مِن امرأة بعد اقترانها برجل؟ حتّى آلهتنا أَنجَبَت هكذا.»
«آلهتكم لا وجود لها. إنّها ثمرة تخيّلكم الذي يحتاج إلى الإيمان، إذ إنّ هذه الحاجة ماسّة أكثر مِن الحاجة إلى التنفّس. حتّى إنّ مَن يؤكّد عدم إيمانه، لديه إيمان ما. فهو يؤمن بشيء ما. ومجرّد القول: "أنا لا أؤمن بالله" يَفتَرِض مُسبقاً إيماناً آخر. قد يكون بذاته أو بروحه الخاصّ المتكبّر. أمّا بخصوص الإيمان، فإنّنا نؤمن على الدوام. إنّه كالتفكير. إذا قُلتُم "لا أريد أن أُفكِّر" أو "لا أؤمن بالله"، فتكفي هاتان الجملتان اللتان تقولونهما لتُبيِّنوا أنّكم تُفكِّرون، وأنّكم لا تريدون أن تؤمنوا بِمَن تَعلَمون أنّه موجود، ولا تريدون أن تُفكِّروا به. أمّا بخصوص الإنسان، فلكي نكون أكثر دقّة في التعبير عن الفِكرة، ينبغي لكم القول: "لقد أَنجَبَ الإنسان، مثل سائر الحيوانات، باقتران ذكر وأنثى. ولكنّ النَّفْس، تلك التي تميّز الحيوان-الإنسان عن الحيوان البرّي، فإنّها تأتي مِن الله. فهو يَخلقها كلّما أنجَبَ إنسان، أو بالحريّ كلّما حُبِل به في أحشاء، ويَزرَعها في ذلك الجسد الذي لولاها لبقي حيواناً وحسب".»
«هل نمتلكها؟ نحن الوثنيّين؟ لا يبدو ذلك لدى سماع مواطنيكَ...» يقول كنتليانوس ساخراً.
«كُلّ كائن يُولَد مِن امرأة، يمتلكها.»
«ومع ذلك قُلتَ إنّ الخطيئة تَقتُلها. فكيف هي حيّة إذاً فينا نحن الخطأة؟» تَسأَل بلوتينا.
«إنّكم لا تُخطِئون في مادّة الإيمان، لأنّكم تعتقدون أنّكم في الحقّ. عندما سَتَعلَمون الحقيقة وتصرّون على الاستمرار في الغلط، عندئذ تُخطِئون. وكذلك هناك أمور كثيرة هي خطيئة بالنسبة إلى الإسرائيليّين، بينما هي ليست كذلك بالنسبة إليكم، لأنّ لا شريعة إلهيّة تُحَرِّمها عليكم. فالخطيئة هي عندما يتمرّد المرء عن قصد ضدّ أمر صادر عن الله ويقول: "أَعلَم أنّ ما أَفعَله شرّ، ولكنّني مع ذلك أريد فِعله". إنّ الله عادل. ولا يمكن أن يُعاقِب أحداً يفعل الشرّ وهو يعتقد أنّه يفعل الخير. بل هو يُعاقِب مَن، رغم إمكانيّة معرفته الخير والشرّ، يختار هذا الأخير ويُصِرّ.»
«إذن، فالنَّفْس فينا، حيّة هي وحاضِرة؟»
«نعم.»
«وتتألّم؟ هل تظنّ حقّاً أنّها تتذكّر الله؟ فنحن لا نتذكّر الأحشاء التي حَمَلَتنا. لا يمكننا القول كيف هي في الداخل. والنَّفْس، إذا ما فَهِمتُ جيّداً، قد أُنجِبت روحيّاً مِن الله. فكيف يمكنها تَذكّره إذا كان الجسد لا يتذكّر إقامته الطويلة في الأحشاء؟»
«النَّفْس ليست بهيمة يا بلوتينا. أَمّا المضغة فَبَلى. حقيقيّ جدّاً أنّ النَّفْس لا تُمنَح إلّا حينما يَكتَمِل تشكّل الجنين. النَّفْس التي تُشابه الله أبديّة هي وروحانيّة. أبديّة منذ اللحظة التي خُلِقَت فيها. وبما أنّ الله هو الأزليّ الكامل للغاية، ولذلك لا بداية له في الزمن، كما لن تكون له نهاية. فالنَّفْس نَيِّرة وذكيّة وروحانيّة، وهي تتذكّر عَمَل الله، وتتألّم لأنّها ترغب بالله، الله الحقّ الذي أتت منه، وهي جائعة لله، لذلك فهي تَنخَس الجسد المتراخي، لمحاولة التقرّب مِن الله.»
«إذن، فَلَنا نَفْس كنفوس شعبكَ الذين تدعوهم "أبراراً"؟ حقّاً هي ذاتها؟»
«لا يا بلوتينا، فإنّ هذا يتعلّق بما تَوَدّين قوله. إذا كنتِ تَوَدّين التحدّث عن الأصل والطبيعة، فنفسكم هي في كلّ شيء مُعادِلة ومُساوِية لنفوس قدّيسينا. أمّا إذا شئتِ الحديث عن التشكُّل، فأقول إنّها الآن مختلفة. أمّا إذا شئتِ التحدّث عن الكمال الذي تبلغه قبل الموت، حينذاك يمكن للاختلاف أن يكون تامّاً. ولكنّ ذلك ليس فقط بالنسبة إليكم كوثنيّين، فحتّى أيّ ابن مِن أبناء هذا الشعب يمكنه أن يكون على اختلاف تامّ مع قدّيس في الحياة المستقبليّة. فإنّ النَّفْس تمرّ بأطوار ثلاثة. الأوّل هو الخَلق، الثاني هو خَلق جديد، أمّا الثالث فهو الكمال. الطَّور الأوّل مُشتَرَك لدى كلّ الناس. الطَّور الثاني خاصّ بالأبرار الذين بإرادتهم يَحملون النَّفْس إلى خَلق أكثر اكتمالاً، وذلك بتوحيد أفعالهم الخَيِّرة مع صلاح عَمَل الله، ويَجعَلون لهم، بالنتيجة، نَفْساً أَضحَت أكثر اكتمالاً روحيّاً مِن الأولى، إنّه صِلة وَصل بين الطَّورين الأوّل والثالث. أمّا الطَّور الثالث، فهو خاصّ بالـمَغبوطِين والقدّيسين، إذا راقت لكم تسميتهم هكذا، فالذين جَعَلوا النَّفْس تنمو فترتقي ألف وألف درجة عمّا كانت عليه النَّفْس البشريّة في البداية، بكلّ بساطة، ويَجعَلون منها نَفْساً مؤهَّلة لأنّ تستقرّ في الله.»
«كيف يمكننا أن نعطي النَّفْس فسحة وحرّيّة وسموّاً؟»
«بتقويض الأمور التي لا فائدة منها، الموجودة في الأنا لديكم. وتحريرها مِن الأفكار الخاطئة، ومع بقايا حطام هذا التقويض، أن ترفعوها لإنشاء الهيكل الأسمى. يجب أن ترتقي النَّفْس على الدوام فَتَسمو فوق الأطوار الثلاثة.
آه! أنتم الرومانيّين، تُحِبّون الرموز. فتأمَّلوا الأطوار الثلاثة في ضوء الرمز. ويمكنها أن تبوح لكم بأسمائها: توبة، صبر، مثابرة. أو بالحريّ: تواضُع، طهارة وعدالة. أو أيضاً: حكمة، سماحة ورحمة. أو في النهاية، الثلاثيّ الـمُشرِق الـمُنير: إيمان ورجاء ومحبّة. تأمّلوا أيضاً برمز السُّور الذي، بِزينته وصَلابته، يحيط بفناء الهيكل. فيجب معرفة إحاطة النَّفْس، مَلِكة جسد هو هيكل للروح الأزليّ، بحاجز يحميها، دون حَجب النور عنها، ولا إرهاقها بَمنظَر البشاعات. سُور أمين ومحرَّر مِن كلّ ما هو دون: اللّحم والدم، للارتقاء إلى ما هو سام: الروح. تحريرها بقوّة الإرادة، إزالة النتوءات والأثلام والبُقَع وعروق عَيب مرمر الأنا التي لدينا، لِمَنح النَّفْس محيطاً كاملاً. وفي الوقت فلينشأ مِن السُّور، الذي أُقيم لحماية الهيكل، ملجأ رحيم للأكثر بؤساً، الذين لا يعرفون ما هي المحبّة. أمّا الأروِقَة: فإنّها رمز دفق الحبّ والرحمة والرغبة في أن يأتي الآخرون إلى الله، وهي شبيهة بأذرع مُحِبَّة تمتدّ لتُشكِّل ستاراً فوق مهد يتيم. فيما وراء السُّور، النباتات الفائقة الجمال والأكثر عطراً، إجلالاً للخالق، وقد نُثرَت في أرض كانت في البدء عارية، ثمّ زُرِعَت، وهي ترمز إلى الفضائل بكلّ أسمائها: السُّور الثاني الحيّ والـمُزهِر حول الـمِحراب، وسط النباتات، وسط الفضائل. هنالك الينابيع، حبّ آخر، تطهير آخر. قبل الاقتراب مِن مَدخَل المعبد القريب، وقبل الصعود إلى المذبح، ينبغي لنا التضحية بالتعلّق بالجسد، الإقلاع عن الفجور. ومِن ثمّ المضيّ إلى الأَبعَد، إلى المذبح، لتقدمة الذبائح هناك، وثمّ أيضاً الدنوّ مِن الحُجرة التي يقيم فيها الله، بعد تجاوز الردهة. والحُجرة هذه ماذا تكون؟ إنّها كنـز مِن الثراء الروحيّ، ذلك أنّ لا شيء كثير على الإحاطة بالله.
هل أدركتُم القصد؟ لقد سألتموني كيف نُنشِئ الإيمان فينا، وقُلتُ لكم: "باتّبِاع الطريقة المستخدمة في إنشاء المعابد". وتَرَون أنّ ذلك حقّ. هل لديكم شيء آخر تودّون قوله لي؟»
«لا يا معلّم. أظنُّ أنّ فلافيا قد دَوَّنَت الأشياء التي قُلتَها، ذلك أنّ كلوديا تريد أن تَستَعلِم عنها. هل كَتَبتِها؟»
«بالضبط.» تقول المرأة وهي تُمرِّر الألواح المطليّة بالشمع.
«سيبقى هذا لإعادة قراءته.» تقول بلوتينا.
«هذا شمع وقد يُمحى. اكتبوه في قلوبكم ولن يُمحى هذا الكلام أبداً.»
«يا معلّم، إنّ قلوبنا مُثقَلَة بمعابد وهميّة. وسوف نَرميها بحسب كلامكَ، لِنَطرحها أرضاً. ولكنّه عمل طويل.» تقول بلوتينا وهي تَتَنهَّد، وتُنهي بقولها: «اذكرنا في سمائكَ.»
«امضوا وأنتم على يقين بأنّني سأفعل. أترككم ولكن اعلَموا أنّ مجيئكم عزيز على قلبي جدّاً. وداعاً يا بوبليوس كنتليانوس. تَذَكَّر يسوع الناصريّ.
تُحيّي النساء، ويَمضين أوّلاً. ثمّ يمضي كنتليانوس مشغول الذهن، يَنظُر إليهم يسوع يَمضون بصحبة مكسيميان الذي يعود ليأخذهم إلى عرباتهم.
«بماذا تُفكِّر يا معلّم؟» يَسأَل لعازر.
«أنّ في العالم الكثير مِن البائسين.»
«وأنا واحد منهم.»
«ولماذا يا صديقي؟»
«لأنّ الجميع يأتون إليكَ، إنّما مريم، فلا. أفَهَلاكها أكثر هَولاً يكون؟»
يَنظُر إليه يسوع ويبتسم.
«أتبتسم؟ ولكن ألا تتألّم لأنّ مريم غير قابلة للهداية؟ ألا تتألّم لرؤيتكَ إيّاي أتألّم؟ فإنّ مرثا لم تكفّ عن البكاء منذ سهرة الإثنين. مَن كانت تلك المرأة؟ ألا تَعلَم أنّنا، على مدى يوم كامل، رَجَونا أن تكون هي؟»
«أَبتَسِم لأنّكَ صبيّ عديم الصبر... أَبتَسِم لأنّني أُفكِّر أنّكَ تُبدّد طاقتكَ ودموعكَ. فلو كانت هي لكنتُ هَرَعتُ أُخبِركَ.»
«إذن حقاً لم تكن هي؟»
«آه! لعازر!»
«إنّكَ على حقّ. الصبر! أيضاً الصبر!... هاك يا معلّم، الحِليّ التي أَعطَيتَني لأبيعها. فلقد تَحَوَّلَت إلى نقود للفقراء. لقد كانت جميلة للغاية، حِليّ المرأة.»
«لقد كانت حِليّ "تلك" المرأة.»
«فَكَّرتُ بذلك . آه! لو أنّها كانت حِليّ مريم!... إنّما هي، هي!... إنّني أفقد الأمل يا ربّ!...»
يُعانِقه يسوع ويبقى برهة دون كلام. ثمّ يقول: «أرجوكَ ألّا تتحدّث عن تلك الحِليّ لأيّ كان. ينبغي لها أن تُفلِت مِن نظرات الإعجاب ومِن الرغبات، مثل غيمة صغيرة يدفعها الهواء إلى مكان آخر دون إبقاء أيّ أثر لها في الأفق.»
«كُن مطمئنّاً يا معلّم... وبالمقابل اجلب لي مريم، مريمنا البائسة...»
«ليكن السلام معكَ يا لعازر. ما وَعَدتُ به سوف أُنَفِّذه.»