ج10 - ف34
أَنَا هُوَ
ماريا فالتورتا
L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO
THE GOSPEL AS REVEALED TO ME
بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}
L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ
MARIA VALTORTA
الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.
الجزء العاشر
34- (حِوار بين بطرس ويوحنّا)
04 / 11 / 1951
على شرفة منزل سمعان، المضاءة تماماً بالقمر المكتمل في قبّة السماء، يتواجد بطرس ويوحنّا. يتكلّمان بصوت خافت، مشيرَين إلى منزل لعازر، الـمُقفَل والساكن. يتكلّمان مطوّلا وهما يسيران جيئة وذهاباً على الشرفة. ثمّ، ومَن يعلم لأيّ سبب، يصبح النقاش أكثر حدّة، وصوتاهما اللذان كانا خافِتَين في البداية، يصبحان أعلى نبرة وأكثر وضوحاً.
بطرس، يضرب الحافّة بقبضته ويصيح: «ولكن ألا تفهم بأنّه ينبغي التصرّف هكذا؟ إنّني أكلّمكَ باسم الله، وأنتَ أَنصِت إليَّ ولا تتعنّت. مِن المناسب التصرّف كما أنا أقول. ليس جبناً وخوفاً، بل للحؤول دون الإبادة الشاملة الّتي تضرّ بكنيسة المسيح. إنّهم الآن يتابعون كلّ تحرّكاتنا. لقد لاحظتُ ذلك، ونيقوديموس أكّد لي بأنّ ملاحظتي صائبة. لماذا لم نستطع البقاء في بيت عنيا؟ لهذا السبب. لماذا لم يعد مِن الحِكمة البقاء في هذا المنزل، أو في منزل نيقوديموس، أو منزل نيقي أو أنستاسيا؟ دوماً لهذا السبب. للحؤول دون موت الكنيسة بموت قادتها.»
«المعلّم أكّد لنا مرّات عدّة بأنّ حتّى الجحيم لن تقوى أبداً على إبادتها والتغلّب عليها.» يجيبه يوحنّا.
«هذا صحيح. والجحيم لن تتغلّب عليها، مثلما أنّها لم تتغلّب على المسيح. إنّما البشر فنعم. كما تغلّبوا على الإنسان-الله، الذي انتصر على الشيطان، لكنّه لم يتمكّن مِن تحقيق فوز على البشر.»
«هذا لأنّه لم يشأ الفوز. كان عليه أن يفتدي وبالتالي أن يموت. وبهذه المـيتة. إنّما لو كان يشاء الفوز عليهم! كم مرّة لم يهرب مِن شراكهم الّتي مِن كلّ الأنواع!»
«سوف تُنصَب الشِّراك للكنيسة أيضاً، لكنّها لن تفنى كلّياً، إنّما فقط إذا ما توخّينا ما يكفي مِن الحذر على الدوام بحيث نحول دون إبادة القادة الحاليّين، قبل أن ننشئ نحن، كَهَنَتَه الأوّلين، الكثير مِن الكَهَنَة له، ومِن كلّ الرُّتَب، ونُعِدّهم لخدمتهم. لا تكن متوهّماً يا يوحنّا! إنّ الفرّيسيين، الكَتَبَة، الكَهَنَة وأعضاء السنهدرين يبذلون كلّ ما في وسعهم لقتل الرُّعاة كي يتشتّت القطيع. هذا القطيع الّذي لا يزال ضعيفاً وخائفاً. خصوصاً قطيع فلسطين هذا. لا ينبغي لنا أن نتركه بلا رعاة، طالما لم تصبح حِملان كثيرة رعاة بدورها. لقد رأيتَ كم سقط منهم. فَكِّر كم هي بقاع العالم الّتي تنتظرنا! الأمر كانت واضحاً: "اذهبوا وبشّروا كلّ الأمم، مُعمِّدين إيّاهم باسم الآب، الابن والروح القدس، مُعلِّمينهم التقيّد بما أمرتُكم به." وأمرني أنا، عند ضفّة البحيرة، ثلاث مرّات، بأن أرعى نعاجه وحملانه، وتنبّأ بأنّني فقط عندما سأصبح عجوزاً، سوف أُقَيَّد وأُساق لأشهد للمسيح بدمي وحياتي. وبعيداً جدّاً مِن هنا! وإذا ما فهمتُ جيّداً أحد أحاديثه، قبل موت لعازر، فإنّ عليّ الذهاب إلى روما وتأسيس الكنيسة الخالدة هناك. أليس هو بذاته قد ارتأى أنّ الانسحاب إلى أفرايم كان أمراً صائباً، لأنّ تبشيره لم يكن قد اكتمل بعد؟ وفقط في التوقيت الصحيح عاد إلى اليهوديّة ليُقبَض عليه ويُصلَب. لنقتدِ به. فبالتأكيد لا أحد يمكنه القول بأنّ لعازر، مريم ومرثا، كانوا خائفين. ومع ذلك فإنّكَ ترى، وعلى الرغم مِن الألم الشديد، فإنّهم قد ابتعدوا عن هنا كي يحملوا إلى مكان آخر الكلمة الإلهيّة الّتي خنقها اليهود. أنا، الّذي اختارني هو كحَبْر، قد قرّرتُ. ومعي الآخرون، رُسُلاً وتلاميذ، قد قرّروا الشيء ذاته. سوف نتوزّع. البعض سيذهبون إلى السامرة، والبعض نحو البحر العظيم، وآخرون نحو فينيقيا، ماضين قُدُماً أكثر فأكثر، إلى سوريا، إلى الجُزُر، إلى اليونان، في الإمبراطوريّة الرومانيّة. وإذا كان الزؤان والسّم اليهوديّ يجعلان حقول الربّ وكرومه جدباء هنا، فلنبذر بذوراً أخرى في مواضع أخرى، في حقول أخرى وكروم أخرى، بحيث لا يكون حصاد فقط، بل يكون وافراً، وإذا كانت كراهية اليهود تُسمِّم المياه وتفسدها في تلك المواضع، بحيث أنا صيّاد النفوس، وإخوتي، لا نستطيع صيد نفوس للربّ، فسوف نمضي إلى مياه أخرى. يجب أن نكون حذرين وحكماء في الوقت نفسه. ثق بذلك يا يوحنّا.»
«معكَ حقّ. إنّما أنا كنتُ أصرّ بسبب مريم. أنا لا أستطيع، يجب ألاّ أتركها. سوف نعاني كلانا مِن ذلك كثيراً. ويكون ذلك تصرّفاً سيّئاً مِن قِبَلي...» يجيبه يوحنّا.
«أنتَ ابقَ، وهي أيضاً تبقى، لأنّ انتزاعها مِن هنا سيكون أمراً فظيعاً...»
«وهو أمر لن توافق عليه مريم أبداً. سأنضمّ إليكم لاحقاً. عندما لا تعود هي على الأرض.»
«ستأتي. أنتَ شاب... ما يزال لديكَ الكثير مِن الوقت لتحيا.»
«ومريم لديها القليل جدّاً.»
«لماذا؟ أمريضة هي، متألّمة، ربّما تكون قد وهنت؟»
«آه! لا! لم يكن للزمن والآلام سلطان عليها. إنّها شابّة على الدوام، في المظهر وفي الروح. إنّها رائقة، حتّى إنّي أقول مغتبطة.»
«فإذاً لماذا تقول...»
«لأنّني أدرك أنّ هكذا إشراق في الجمال والفرح هو العلامة على أنّها تشعر باقتراب اتّحادها مجدّداً مع ابنها. أقصد الاتّحاد الكامل. ذلك أنّ الاتّحاد الروحي لم ينقطع أبداً بينهما. إنّني لا أرفع الحُجُب عن أسرار الله، لكنّني واثق مِن أنّها ترى ابنها كلّ يوم في ثوبه الممجّد. وأنّ غبطتها هي هذه. أعتقد بأنّها وفيما تتأمّله، فإنّ روحها يستنير وتتوصّل لمعرفة كلّ المستقبل، كما يعرفه الله. حتّى مستقبلها. هي لا تزال على الأرض، بجسدها، إنّما يمكنني القول، دون الخوف مِن الخطأ، إنّ روحها يكاد يكون على الدوام في السماوات. عظيم هو اتّحادها بالله إلى درجة أنّني لا أعتقد بأنّني أقول كلاماً تدنيسيّاً إذا قلتُ إنّ الله فيها، كما حين حملته في أحشائها. بل وأكثر بعد. كما حين اتّحد الكلمة بها ليصبح يسوع المسيح، كذلك الآن هي متّحدة بالمسيح لدرجة أنّها مسيح ثان، كونها لبست إنسانيّة جديدة، إنسانيّة يسوع نفسه. وإذا ما كنتُ أتفوّه بهرطقة، فأرجو مِن الله أن يُعرّفني بخطأي ويغفره لي. إنّها تحيا في الحبّ. ونار الحبّ هذا تؤجّجها، تغذّيها، تنيرها، وأيضاً نار الحبّ هذه سوف تَختطفها منّا، في اللحظة المحدّدة، دون ألم لها، دون فساد لجسدها... نحن مَن سيتألّم... أنا على وجه الخصوص... سنفقد معلّمتنا، مرشدتنا، معزّيتنا... وأنا، سأكون حقّاً وحيداً...»
ويوحنّا، الّذي كان صوته يرتجف بالفعل لكبته البكاء، ينفجر في نحيب مُفجِع، لم يختبره قبلاً، ولا حتّى عند أقدام الصليب ولا في القبر. بطرس كذلك، يبدأ بالبكاء، إنّما بهدوء أكثر، وبدموعه يُناشِد يوحنّا كي يُعلِمه، فيما إذا استطاع ذلك، ليكون حاضراً عند رحيل مريم، أو على الأقلّ عند دفنها.
«سوف أفعل ذلك، إذا ما أُتيح لي فِعله. لكنّني أشكّ في ذلك كثيراً. شيء ما في داخلي يقول لي بأنّه سيحصل لها كما حصل لإِيليا، الذي اختُطِف بزوبعة سماويّة على عربة مِن نار. لن يُتاح لي التنبّه إلى عبورها القريب، حتّى تكون قد أصبحت بالفعل في السماء بنفسها.»
«لكن على الأقلّ جسدها سيبقى. لقد بقي جسد المعلّم. وكان الله!»
«كان ضروريّاً بالنسبة له أن يحدث كذلك. إنّما بالنسبة لها فلا. هو كان عليه، بقيامته، أن يدحض افتراءات اليهود، وبظهوراته أن يقنع العالم الّذي أصبح متردّداً، بل وحتّى مُنكِراً، بسبب موته على الصليب. وهي لا حاجة لها لذلك. ولكن إن استطعتُ سأُعلِمكَ. وداعاً يا بطرس، أيّها الحَبْر وأخي في المسيح. أعود إليها لأنّها بالتأكيد تنتظرني. ليكن الله معكَ.»
«ومعكَ. وقل لمريم أن تصلّي مِن أجلي، وأن تغفر لي ثانيةً جُبني في ليلة المحاكمة. إنّها ذكرى لا أستطيع محوها مِن قلبي، وهي لا تدعني في سلام...» وتنحدر دموعٌ مِن على خدّيّ بطرس، الّذي يختم قائلاً: «لتكن أُمّاً لي، أُمّاً مُحِبَّة لابنها الضالّ والشقيّ...»
«لا حاجَةَ إلى أن أقول لها ذلك. إنّها تحبّكَ أكثر مِن أُمّ بالدمّ. هي تحبّكَ كأُمّ الله، وبرأفة أُمّ الله. وإن كانت مستعدّة لتغفر ليهوذا، الّذي كانت خطيئته بلا قياس، فتصوّر إن هي لم تغفر لكَ! السلام لكَ يا أخي. أنا أمضي.»
«وأنا سوف أتبعكَ، إذا سمحتَ لي بذلك. أريد أن أراها ثانيةً.»
«تعال. أعرف الدرب الواجب سلوكه للذهاب إلى جَثْسَيْماني مِن دون أن نُرى.»
يشرعان بالسير، ويمضيان بسرعة وصمت صوب أورشليم، سالِكَين مع ذلك الطريق العليا الّتي تؤّدي إلى بستان الزيتون مِن الجهة الأبعد عن المدينة.
يَصِلان إليه حين يشرع الفجر بالبزوغ. يلجان جَثْسَيْماني وينزلان نحو المنزل الصغير. مريم، المتواجدة على الشرفة، تراهما آتيين، ومُطلِقةً صيحة فرح، تنزل للقائهما.
بطرس يسقط بحقّ عند قدميها، وجهه إلى الأرض، وهو يقول لها: «أُمّاه، المغفرة!»
«على ماذا؟ هل ارتكبت خطيئة ما يا تُرى؟ إنّ الّذي يكشف لي كلّ حقّ قد كشف لي فقط بأنّكَ خليفته المستحقّ في الإيمان. لقد وجدتُكَ دوماً إنساناً عادلاً، رغم أنّكَ مندفع أحياناً. ماذا عليّ أن أغفر لكَ إذن؟»
بطرس يبكي بصمت.
يوحنّا يشرح: «بطرس لا يستطيع أن يمنح نفسه السلام بسبب إنكاره ليسوع في ساحة الهيكل.»
«هذا مِن الماضي. وقد مُحِي يا بطرس. هل عاتبكَ يسوع؟»
«آه! لا!»
«أكان أقلّ مودّة معكَ مِن السابق؟»
«لا. في الحقيقة لا. على العكس!...»
«ألم يخبركَ كيف أنّه هو، وأنا معه، قد فهمناكَ وغفرنا لكَ؟»
«هذا صحيح. إنّما أنا لا أزال ذلك الغبيّ نفسه.»
«إذاً امضِ وكُن في سلام. أقول لكَ إنّنا سنجد بعضنا معاً، أنتَ، أنا، الرُّسُل الآخرون والشمامسة، كلّنا في السماء، إلى جانب الإنسان-الله. وأبارككَ بقدر ما أعطي لي.» وكما فعلت مريم مع غَمَالائيل، فإنّها تضع يديها على رأس بطرس وترسم عليه إشارة صليب.
بطرس ينحني ليُقبّل قدميها، ثمّ ينهض، بأكثر سكينة مِن ذي قبل، ويعود برفقة يوحنّا إلى البوّابة العليا، يجتازها ويرحل. فيما يوحنّا بعد أن يُقفل المدخل بإحكام، يعود إلى مريم.