ج6 - ف80
أَنَا هُوَ
ماريا فالتورتا
L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO
THE GOSPEL AS REVEALED TO ME
بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}
L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ
MARIA VALTORTA
الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.
الجزء السادس/ القسم الأول
80- (كرازة ومعجزات في عين جدي)
21 / 02 / 1946
يسوع يتوجّه إلى الساحة الرئيسيّة تقريباً عند الغسق، الغسق الناريّ الذي يضفي على البيوت البيضاء في عين جدي اللون الأحمر، وعلى البحر الميت انعكاسات عرق لؤلؤ أسود. يرافقه الشابّ الذي استضافه، والذي يقوده عبر منعطفات البلدة ذات العمارة الشرقيّة حقّاً.
يُفتَرض بالشمس أن تكون حادّة في تلك الأماكن المفتوحة هكذا في مواجهة مساحة البحر المالح العظيمة. لديّ انطباع أنّ هَبّات حارقة تنطلق في أشهر الصيف، هبّات فريدة كما هي في وسط الصحراء القاحلة التي تضربها الشمس دون رحمة جاعلة الأرض ملتهبة. وللحماية فقد أقام سكّان عين جدي شوارع ضيّقة تبدو أكثر ضيقاً كذلك بسبب المزاريب وأفاريز البيوت البارزة برحابة، بشكل أنّ المرء حين يرفع عينيه لا يرى سوى رقعة مِن السماء ضيّقة، مِن زُرقة حادّة، تبدو في العلاء.
البيوت عالية، تكاد تكون جميعها مِن طابقين، تعلوها شرفة تغطّيها، رغم ارتفاعها، كُروم عنب لتمنح الظلّ ومتعة العناقيد التي، إذ تنضج تحت الشمس العظيمة، في انعكاسات جدران وأرض الشرفة، فالمفروض أنّها لذيذة كزبيب دمشق (العنب المجفّف). والكُروم تُنافِس النخيل العالي المغروس هنا وهناك في مَنح المتعة للبشر والطيور العديدة التي تبني أعشاشها في عين جدي، مِن الدُّوري إلى الحَمام، وكذلك تُنافِس الأشجار المثمرة الوفيرة المغروسة في الأَفنية (الباحات)، في البساتين المتجمّعة بين البيوت، وتتدلّى فوق الحارات، وتتهدّل على الجدران البيضاء بأغصانها الزاخرة بالثمار التي تنضج في الشمس المرحة، وتتجاوز الواجهات المزخرفة الكثيرة التي تُشكّل في بعض الأماكن أروقة حقيقيّة متقطّعة هنا وهناك لضرورات هندسيّة معماريّة، وترتقي صوب السماء الزرقاء، المتجانسة للغاية، وذات لون ناعم لدرجة أنّه يعطي الانطباع بأنّه، لو كان بالإمكان لمسها، فيُلمَس مخمل نفيس أو جلد أملس رَسَمَه وصبغه فنّان حكيم بتلك الصبغة المتقنة، الأكثر فيروزية، الأقلّ سفيرية، الجميلة للغاية، التي لا تُنسى.
والمياه... كم مِن الينابيع والعيون تتدفّق في الدور وحدائق البيوت وسط خُضرة ألف نبتة! أثناء المرور في الأزقّة التي ما تزال خالية، ذلك أنّ السكان ما يزالون في عملهم أو في بيوتهم، يُسمَع صوت المياه التي تسيل، تُطبطِب، تخرّ، كعلامات قيثارة يَضرب عليها فنّان مُستَتِر. ولتنامي الافتتان بذلك، فإنّ الهندسة المعماريّة والالتفافات المستمرّة للشوارع تتلقّى أصوات المياه هذه، تُضخِّمها، تُضاعِفها بتأثير الصدى لتجعل منها بظّاً (دوزان آلات موسيقيّة).
وأشجار نخيل، أشجار نخيل، أشجار نخيل! وعلى أصغر فسحة، بمساحة غرفة معيشة، هي ذي الجذوع، نحيلة، شاهقة جدّاً تصعد صوب السماء، وهي بالكاد تتمايل في الأعلى عند الأوراق التي تحفّ متراصّة كخصلة زينة في قمّة الجذع. الظلّ، الذي يسقط في تمام الظهيرة مباشرة على الساحة الصغيرة ويغلّفها بالكامل، ينعكس الآن بطريقة غريبة على الجدران الصغيرة والشرفات الأعلى.
إنّما البلدة نظيفة مُقارنة بمدن فلسطين. قد يكون تراصّ البيوت على بعضها، بفعل حيازتها جميعها على باحات وحدائق مزروعة، أَسهَمَ في تعليم السكّان عدم رمي كلّ الأقذار في الشوارع، بل بالعكس بجمعها مع مخلّفات الحيوانات لتصبح كومة سماد للأشجار والمسَاَكِب، أو بالحريّ... هو اهتمام نادر بالتنظيم. الأزقّة نظيفة، جفّفتها الشمس، وليس فيها أكوام الخضار قليلة الظُّرف المرميّة على حِدة، النِّعال المهترئة، المماسح المتّسخة، الفضلات والأشياء الأخرى المنفّرة التي تُشاهَد في أورشليم ذاتها، في الشوارع شبه المحيطيّة.
هو ذا أوّل مزارع يعود مِن عمله على حمار رماديّ. وكي يحميه مِن الذباب، فقد جلّل الرجل بأغصان الياسمين بالكامل حماره الذي يمضي بخبب خفيف هازّاً أذنيه وجلاجله تحت الغطاء المتدلّي مِن الأغصان العطرة. ينظر الرجل ويحيّي. ويقول له الشابّ: «تعال إلى الساحة الكبرى. ستسمع الرابّي الذي في بيتي.» هوذا قطيع مِن النعاج يجتاح الشارع، يَلِجه قادماً مِن ساحة صغيرة في آخرها يُلاحَظ الريف. تسير النعاج متلاصقة الواحدة بالأخرى، واضعة قوائمها حيث وضعتها السابقات لها، رؤوسها متدلّية ثقيلة جدّاً على رقابها الهزيلة جدّاً على أجسادها البدينة. تخبّ خبباً قصيراً بخطوتها الغريبة وجسدها السمين جدّاً حتّى لتبدو كالبقجة المثبّتة على أربعة أوتاد... يقتدي يسوع ويوحنّا وبطرس بالرجل الذي معهم ويسندون ظهورهم إلى جدار أحد البيوت الحارّ ليفسحوا لها المجال لتمرّ. يتبع القطيع رجل وولد. ينظران ويحيّيان. يقول الشابّ: «أَغلِق على النعاج وتعال إلى الساحة الكبرى مع أهلكَ. رابّي الجليل بيننا. سيتحدّث إلينا.»
هي ذي أوّل امرأة تخرج، محاطة بمجموعة أولاد، وتمضي لستُ أدري إلى أين. ويقول لها الشابّ: «تعالي مع يوحنّا والأولاد للاستماع إلى الرابّي الذي يدعى مَسيّا.»
تُفتَح البيوت تدريجيّاً في المساء الذي يهبط، لتَظهَر مِن خلالها الأعماق الخضراء للحدائق، أو تلك الساكنة للباحات الصغيرة حيث تتناول الحَمَامات وجبتها الأخيرة. يُدخِل الشاب رأسه في كلّ باب مفتوح ويقول: «تعالوا استمعوا إلى الرابّي، الربّ.»
يَلِجون أخيراً شارعاً مستقيماً، الشارع المستقيم الوحيد في تلك المدينة الذي لم يُشَقّ كما أُريد له، إنّما كما شاءت أشجار النخيل أو البطم القويّة المعمّرة بالتأكيد مائة سنة، التي يحترمها كالأعيان السكّان الذين يُقِرّون بفضلها في عدم موتهم مِن الشمس. هي ذي في النهاية ساحة تقوم فيها جذوع النخيل الكثيرة مقام العواميد. تحسبها واحدة مِن قاعات الهياكل الـمُعَمَّدة (يقوم سقفها على عواميد) أو القصور الـمُغرِقة في القِدَم، المبنيّة على مساحات واسعة ممتلئة بالعواميد المتباعدة مسافات منتظمة تجعل منها غابة مِن الحجارة تحمل السقف. فهنا أشجار النخيل تقوم مقام العواميد، وبتراصّها تُشكِّل، مع الأوراق التي تتلاقى، سقفاً زمرّديّ اللون على الساحة البيضاء حيث يتواجد في وسطها ينبوع مرتفع، على شكل مربّع، ممتلئ ماء نقيّاً يتدفّق مِن عمود صغير في مركز الحوض، ويتساقط في فسقيّات أخفض حيث يمكن للحيوانات أن ترتوي. في تلك اللحظة اقتحمتها الحمامات البيتيّة الساكنة لتشرب أو ترقص رقصة مُلوكيّة بقوائمها الورديّة على الحافّة الأعلى، أو ترشّ ريشها مُحدِثة انعكاسات تعود إلى نقاط الماء العالقة للحظة على برائل ريشها.
يتواجد أناس، وهناك الرُّسُل الثمانية الذين كانوا قد مضوا هنا وهناك سعياً وراء سَكَن، وقد جمع كلّ منهم مؤمنيه الراغبين بالاستماع إلى الذي أشار إليه الرَّسول على أنّه مَسيّا الموعود. يُسرِع الرُّسُل بالجري مِن كلّ جهة صوب المعلّم، كالـمُذَنّبات التي تجرّ في إثرها مجموعات الـمُستَمَالين الصغيرة.
يرفع يسوع يده ليُبارك الرُّسُل وناس عين جدي.
يوضاس بن حلفى يتكلّم باسم الجميع: «هاك، أيّها المعلّم والربّ. لقد قُمنا بما قلتَ وهُم يَعلَمون أنّ نعمة الله هي في وسطهم اليوم. ولكنّهم يريدون الكلمة كذلك. كثيرون يعرفونكَ بالسّماع عنكَ، والبعض بالتقائهم بكَ في أورشليم. الجميع، وخاصة النساء، يرغبون في التعرّف إليكَ وفي مقدّمتهم رئيس المجمع. ها هو. تقدّم يا إبراهيم.»
الرجل، وهو متقدّم جدّاً بالسنّ حقيقة، يتقدّم. إنّه متأثّر. يودّ التكلّم، ولكنّه في تأثّره لا يعود يَجِد كلمة ممّا كان قد حَضَّرَ. ينحني ليجثو متّكئاً على عصاه، ولكنّ يسوع يمنعه ويشرع بعناقه قائلاً: «السلام لخادم الله العجوز والبارّ!» والآخر، وقد تنامى تأثّره، لا يعرف بما يجيب: «المجد لله! عيناي شاهدتا الموعود! وماذا يمكنني أن أطلب أكثر مِن الله؟» ورافعاً ذراعيه في وضعيّة طقسيّة، يصدح بمزمور داود (39): «"انتظرتُ الربّ بقلق، وهو التفت إليَّ".»
ولكنّه لا يقوله كلّه. يقول المقاطع الأكثر ارتباطاً بالحدث:
«"واستَمَعَ استغاثتي وانتَشَلَني مِن جُبّ الهلاك ومِن طين الحمأة…
وجَعَلَ في فمي نشيداً جديداً.
طوبى للرجل الذي جَعَلَ رجاءه في الربّ.
لقد صنعتَ عظائم كثيرة، أيّها الربّ إلهي، وما مَن يعادلكَ في رسومكَ. أودُّ أن أُحصيها وأتحدّث عنها، ولكنّ كثرتها تتجاوز كلّ إحصاء.
ذبيحة وتقدمة لم تشأ، ولكنّكَ فتحتَ أذنيّ... (ويزداد تأثّره).
لقد كُتِب أنّ عليَّ أن أعمل بمشيئتكَ... شريعتكَ في قلبي.
لقد أعلنتُ برّكَ في الجماعة العظيمة. ولم أحبس شفتيَّ، وأنتَ، يا ربّ، علمتَ.
لم أكتم برّكَ في قلبي، أعلنتُ حقيقتكَ والخلاص الآتي منكَ…
أمّا أنتَ، يا ربّ، فلا تُبعِد رحمتك عنّي…
لقد أحاطت بي شرور لا عدد لها... (ويبكي بحقّ، وهو يقول الكلمات بصوت جَعَلَتها العبرات بأكثر شيخوخة وأكثر ارتعاشاً).
أنا مستجدٍ ومعوز، ولكنّ الربّ يهتمّ بي. أنتَ عَوني وحافِظي، يا إلهي، فلا تُبطئ!..."
هذا هو المزمور، يا ربّي، وأنا أضيف مِن جهتي: "قُل لي: ’تعال‘، وأقول لكَ ما جاء في المزمور: ’ها أنا ذا آتٍ!‘".»
يصمت ويبكي وكلّ إيمانه في عينيه اللتين غشّتهما السنون.
يشرح الناس: «لقد فقد ابنته التي تركت له أولادها الصغار. وامرأته أصبحت عمياء ومعتوهة على أثر آلام كثيرة، ولم يعد يُعرَف شيء عن ابنهما الوحيد. لقد اختفى هكذا، بين ليلة وضحاها...»
يَضع يسوع يده على كتف الرجل العجوز ويقول له: «آلام الأبرار تمرّ بأسرع مِن مرور السنونو مقارنة بالمكافأة الأبديّة. ولكنّنا سنُعيد لساراي التي لكَ عينيّ زمان وعقل شبابها لتواسي شيخوختكَ.»
«تُدعى كولومب» يُنبّه أحد الناس…
«بالنسبة إليه هي أميرته. ولكن اسمعوا الـمَثَل الذي أرويه لكم.»
«ألن تحرّر قبل ذلك مِن الظلمات عينيّ وروح زوجتي لتتمكّن مِن تذوّق الحكمة؟» يَسأَل رئيس المجمع العجوز بقلق.
«هل يمكنك الإيمان بأنّ الله قادر على كلّ شيء، وأنّ سلطانه يأتي مِن عالم آخر؟»
«نعم، يا ربّ. أتذكّر ذات مساء مِن بضعة سنين. حينذاك كنتُ سعيداً، ولكنّني كنتُ أؤمن، حتّى في الفرح. إذ هكذا هو الأمر! عندما يكون الإنسان سعيداً، يمكنه نسيان حتّى الله. أنا، كنتُ أؤمن بالله، حتّى في ذلك الزمن الفَرِح حيث كنتُ شابّاً وامرأتي في صحّة جيّدة، وكانت ابنتي إليز تنمو، شابّة جميلة كشجرة نخيل، والتي كانت قد خُطبت، وأليشع كان يعادلها جمالاً ويفوقها قوّة بما يناسب الرجل... كنتُ قد ذهبت مع الولد إلى الينابيع القريبة مِن الكروم التي هي دوطة كولومب، تاركاً زوجتي وابنتي على الأنوال التي كان جهاز العرس يُحاك عليها... ولكن قد أكون أزعجكَ؟ يتخيّل البائس، متذكّراً، فرحه القديم... ولكنّ هذا لا يهمّ الآخرين...»
«تكلّم، تكلّم!»
«كنتُ قد ذهبت مع الولد... الينابيع... إن كنتَ أتيتَ مِن الطريق الغربيّ، فإنّكَ تعرف أين تكون... الينابيع كانت على حدود المكان المبارك، وبالنظر إلى ما وراءها، كانت تُرى الصحراء والطريق الرومانية الحجرية البيضاء التي كانت ما تزال مرئية جيّداً آنذاك وسط رمال يهوذا... لاحقاً... انتهت كذلك هذه العلامة! وهي ليست سوى علامة تضيع في الرمال! لكن مِن السيّئ أن تُمحى علامة الله، المرسلة للدلالة عليكَ، مِن أرواح إسرائيل. مِن أرواح كثيرة! قال لي ولدي: "أبي، انظر! قافلة كبيرة، وأحصنة وجِمال، وخُدّام وَسَادة، متوجّهين إلى عين جدي. قد يكونون آتين إلى الينابيع قبل حلول الليل..." رفعتُ عينيّ عن الأغصان التي كنتُ أعيد رفعها، والتي كانت متهدّلة بعد جني وفير، ورأيتُ... كان الرجال آتين بالضبط إلى الينابيع. ترجَّلوا ورأوني وسألوني إذا ما كان بإمكانهم التخييم في ذلك المكان لليلة واحدة.
"في عين جدي بيوت مضيفة، وهي قريبة". أجبتُ.
"لا. نحن نسهر لنكون على أهبة الاستعداد للهرب، فهيرودس يبحث عنّا. مِن هنا، سيرى الحرّاس الطريق كلّها وسيكون سهلاً الإفلات مِن الذين يبحثون عنّا."
"أيّة خطيئة ارتكبتم؟" سألتُ مذهولاً ومتأهّباً لأدلّهم على كهوف جبالنا، كما هي عادتنا المقدّسة حيال الـمُضطَهَدين. وأضفتُ: "أنتم غرباء ومِن جهات مختلفة... لستُ أدري كيف أمكنكم أن تُخطِئوا ضدّ هيرودس..."
"لقد عَبَدنا مَسيّا الذي وُلِد في بيت لحم اليهوديّة والذي قادنا إليه نجم الربّ. هيرودس يبحث عنه وبالتالي يبحث عنّا لكي ندلّه على مكانه. وهو يبحث عنه لكي يقتله. نحن، قد يُدرِكنا الموت في الصحارى، على هذه الطريق الطويلة والمجهولة، ولكنّنا لن نشي بالقدّيس النازل مِن السماء!"
مَسيّا! حُلم كلّ إسرائيليّ حقيقيّ! حُلمي! وكان في العالم! وكان في بيت لحم اليهوديّة بحسب النبوءة!... سألتُ، وأنا أضمّ ابني إلى قلبي، عن أخبار وأخبار قائلاً: "اسمع يا أليشع! تذكّر! أنتَ حتماً ستراه!" أنا كنتُ في الخمسين ولم أكن لأتأمّل أن أراه... ولم أكن لأتأمّل العيش لأراه رجلاً... أليشع... لم يعد قادراً على عبادته...»
يُعاوِد العجوز البكاء، ولكنّه يتماسك ويقول: «تكلَّمَ الحكماء الثلاثة بعذوبة صَبورة. لقد وصفوا لي الطفولة المقدّسة، والأُمّ والأب... كنتُ سأُمضي الليل معهم... ولكنّ أليشع كان ينام على صدري. حيّيتُ الحكماء الثلاثة واعداً إيّاهم بالتكتّم لتفادي أيّ أذى ببوح محتمل. ولكن، في الحجرة الزوجيّة، رويتُ كلّ شيء لكولومب، وكان ذلك هو الشمس وسط المآسي التي أحاقت بنا فيما بعد. علمتُ بعدئذ بالمذبحة... وجهلتُ لسنوات إذا ما كنتَ سليماً. الآن، أعلم. إنّما أنا فقط، ذلك أنّ إليز قد ماتت، أليشع لم يعد موجوداً، ولا يمكن لكولومب أن تسمع البشرى السعيدة... ولكنّ الإيمان بقدرة الله، الذي كان حيّاً بالفعل، قد أصبح كاملاً منذ تلك الليلة البعيدة حيث ثلاثة رجال، مِن أصول مختلفة، شهدوا لقدرة الله، بوحدة نفوسهم، بفضل النجمة العجائبيّة، على طريق الله لعبادة كلمته.»
«وإيمانكَ سيكافأ. الآن، اسمعوا.
ما هو الإيمان؟ أحياناً هو يُشبِه بذار نخيل قاسٍ، صغير، يتشكّل مِن جملة مختصرة: "الله موجود"، يغذّيه تأكيد وحيد: "رأيتُه". هكذا كان في إيمان إبراهيم بي، بفضل كلام حكماء الشرق الثلاثة. هكذا كان في إيمان شعبنا، منذ أقدم الأحبار، مِن جيل إلى جيل، منذ آدم إلى ذرّيته، منذ آدم، الخاطئ، ولكن الذي جرى تصديقه حين قال: "الله موجود، ونحن موجودون لأنّه خَلَقَنا، وأنا، عرفتُه". هكذا كان مِن أمر هذا الإيمان، دائماً أكمل إذ هو أكثر تجلّياً، وقد أتى لاحقاً، والذي هو لنا إرث، مُنار بالتجلّيات الإلهيّة، والظهورات الملائكيّة، وأنوار الروح. بذور دائماً صغيرة مقارنة باللامحدود. بذور صغيرة. ولكن بظهور الجذور، بِفَلق قشرة الحيوانيّة القاسية بشكوكها وميولها، بالتغلّب على أعشاب الشهوات المؤذية، الخطايا، عفونات الانحطاطات، ديدان الرذائل القاضمة، كلّ شيء، فيسمو في القلوب، ينمو، ينطلق إلى الشمس، صوب السماء، يسمو ويسمو... إلى أن يتحرّر مِن حدود الجسد ويذوب في الله، في معرفته الكاملة، في حيازته الكاملة، فيما وراء الحياة والموت، في الحياة الحقيقيّة.
مَن له الإيمان يملك طريق الحياة. مَن يعرف أن يؤمن لا يُخطئ. إنّه يرى، يتعرّف، يخدم الربّ ويحوز على الخلاص الأبديّ. بالنسبة إليه الوصايا العشر أمر حيويّ، وكلّ وصيّة منها هي بمثابة الجوهرة التي ستزيّن إكليله المستقبليّ. بالنسبة إليه هو الخلاص وَعد الفادي. هل مات مَن آمَن بالفعل قبل أن آتي إلى الأرض؟ لا يهمّ. فإيمانه يجعله مساوياً للذين يتقرّبون منّي الآن بحبّ وإيمان. الأبرار المتوفّين سيكونون قريباً في الفرح لأنّ إيمانهم سوف ينال المكافأة. بعد إتمام مشيئة أبي، سأمضي وأقول: "تعالوا!" وكلّ الذين يموتون في الإيمان سيصعدون معي في ملكوت الربّ. اقتدوا في إيمانكم بنخيل أرضكم، التي وُلِدَت مِن بذرة صغيرة، ولكن مع إرادة صلبة بالنمو، والكُبر باستقامة، مَنسيّة مِن الأرض ولكن معشوقة مِن الشمس والكواكب والسماء. آمِنوا بي. اعرفوا أن تؤمنوا بما يؤمن به القليلون جدّاً في إسرائيل، وأعدكم بامتلاك الملكوت السماويّ، بغفران الخطيئة الأصليّة وبالمكافأة العادلة لكلّ الذين يمارسون مذهبي الذي هو كمال وصايا الله العشر الكاملة.
سوف أبقى في ظهرانيكم اليوم وغداً، يوم السبت المقدّس، وسأمضي في فجر اليوم التالي للسبت. فَمَن كان محزوناً فليأتِ إليَّ! ومَن يشكّ فليأتِ إليَّ! ومَن يرغب بالحياة فليأتِ إليَّ! دون خوف، ذلك أنّني الرحمة والحبّ.»
ويقوم يسوع برسم إشارة بركة واسعة ليصرف مستمعيه ليتمكّن مِن الذهاب لتناول وجبة المساء والاستراحة. كان على وشك الابتعاد عندما شَقَّت عجوز صغيرة القدّ الجمع الذي ما زال يريد المكوث مع المعلّم، وقد كانت حتّائذ مُحتَجِبة في زاوية زقاق، ووسط هتافات دهشة الجمع تمضي لتجثو عند قدميّ يسوع هاتفة: «لتكن مباركاً والعليّ الذي أرسلكَ! والبطن الذي حملكَ والذي هو أكثر مِن بطن امرأة لأنّه استطاع أن يحملكَ أنتَ!»
وهتاف رجل يمتزج بهتافها: «كولومب! كولومب! آه! أنتِ ترين! تسمعين! تتكلّمين بحكمة متعرّفة على الربّ! آه! يا الله! يا إله آبائي! إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب! إله يوحنّا، النبيّ! يا الله! إلهي! ابن الآب! الـمَلِك كالآب! المخلّص بالطاعة للآب! الله كالآب، وإلهي، إله خادمكَ! لتكن مباركاً، محبوباً، متبوعاً ومعبوداً للأبد!»
ويجثو رئيس المجمع العجوز، إلى جانب عجوزته صغيرة القدّ، ومُعانِقاً إيّاها بالذراع الأيسر، ضامّاً إيّاها إلى صدره، ينحني ويجعلها تنحني لتقبيل قدميّ المخلّص، بينما صيحة فرح مِن الجمع كلّه تهزّ الجذوع لشدّتها، وتُخيف الحَمَامات التي هي الآن في أعشاشها، فتطير مُحلِّقة فوق عين جدي كما لتُشيع في كلّ البلدة نبأ وجود المخلّص ضمن جدرانها.