ج2 - ف29

أَنَا هُوَ

ماريا فالتورتا

L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO

THE GOSPEL AS REVEALED TO ME

بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}

L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ

MARIA VALTORTA

الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.

 

الجزء الثاني / القسم الأول

 

29- (الاسخريوطيّ يلتقي يسوع في جَثْسَيْماني ويسوع يَقبَله تلميذاً)

 

28 / 12 / 1944

 

بعد الظُّهر، أرى يسوع... تحت الزيتون... إنّه يَجلس على مُنحَدَر، بوضعيّته المعتادة، مرفقاه على الركبتين وساعداه إلى الأمام ويداه مضمومتان. يَهبط الليل والنور يَخفت أكثر فأكثر تحت أوراق الزيتون. ويسوع ما يزال وحيداً. وقد نَزَعَ معطفه كما لو كان يشعر بالحرّ، وثوبه الأبيض يُضفي لوناً زاهياً على الخُضرة التي يُعتّمها الغَسَق.

 

يَهبط رجل بين الزيتون. يبدو أنّه يبحث عن شخص أو عن شيء. إنّه ضخم، يرتدي ثوباً زاهياً: أصفر ورديّاً، يَبرُز لون المعطف المزيّن بأهداب فضفاضة. لستُ أرى وجهه جيّداً بسبب النور الخافت والمسافة، ممّا يعيق التمييز، وكذلك لأنّه يمسك بزاوية معطفه التي تغطّي جزءاً مِن وجهه. وعندما يرى يسوع يقوم بحركة كأنّه يقول: «ها هو!» ويحثّ الخطى. وعلى بُعد أمتار منه يُلقي التحيّة: «سلاماً يا معلّم!»

 

يَلتَفِت يسوع بشكل فجائيّ ويرفع رأسه، إذ كان الرجل القادم لدى وصوله قريباً منه على المنحدر. يَنظُر إليه يسوع بجديّة، بل أقول بحزن. يُكرِّر الآخر: «أُحيّيكَ يا معلّم! أنا يهوذا الاسخريوطيّ. ألا تعرفني؟ ألا تَذكُر؟»

 

«بل أَذكُر وأعرفكَ. أنتَ مَن تحدَّثَ إليَّ مع توما في الفصح الماضي.»

 

«والذي قلتَ له: "فَكِّر وقرّر قبل عودتي". لقد قرّرتُ وها قد أتيتُ.»

 

«لماذا أتيتَ يا يهوذا؟» يسوع حزين بحقّ.

 

«لأنّني... قلتُ لكَ السبب يومها. لأنّني أحلم بمملكة إسرائيل وأرى فيكَ أنتَ الـمَلِك.»

 

«ألأجل هذا أتيتَ؟»

 

«ولأجل هذا أضع نفسي وكلّ ما أستطيع امتلاكه مِن قُدرات ومعارف وصداقات وجهد في خدمتكَ وخدمة رسالتكَ لإعادة بناء إسرائيل.»

 

أصبَحَ الاثنان الآن في مواجهة بعضهما، الواحد قرب الآخر، واقِفَين يتأمّلان بعضهما. يسوع جادّ، حتّى ليبدو حزيناً، أمّا الآخر فتائه في حلمه، مبتسماً، وسيماً، مُفعَماً شباباً وطُموحاً.

 

«أنا لم أطلبكَ يا يهوذا.»

 

«لقد لاحظتُ ذلك، إنّما أنا كنتُ أبحث عنكَ. منذ أيّام وأيّام أرسلتُ أحدهم إلى الأبواب لإشـعاري بقدومـكَ. كنتُ أظنّكَ سـتأتي برفقـة تلاميذ فيكون التعرّف إليكَ بالنتيجة سهلاً. بينما... أدركتُ أنّكَ هنا لأنّ جمعاً مِن الحُجّاج كان يبارككَ لأنّكَ شَفَيتَ مريضاً، إنّما لم يكن بإمكان أحد القول أين أنتَ موجود. حينئذ تذكرتُ هذا الموضع، وأتيتُ. ولو لم أجدكَ هنا لكنتُ سَلَّمتُ بألّا أجدكَ بَعد...»

 

«هل تعتقد أنّ إيجادي كان لخيركَ؟»

 

«نعم، لأنّني كنتُ أبحث عنكَ، كنتُ أرغبُ بكَ، أريدكَ.»

 

«لماذا ، لماذا بَحَثتَ عني؟»

 

«ولكن قد قلتُ لكَ ذلك يا معلّم! ألم تفهمني؟»

 

«لقد فهمتُكَ، نعم، لقد فهمتُكَ. ولكنّني أريد أن تفهَمني أنتَ قبل أن تتبعني. هيّا. سوف نتكلّم معاً ونحن نسير.» ويَشرَعان بالسير الواحد إلى جانب الآخر، صاعِدَين وهابِطَين عبر الدروب التي تقطع بستان الزيتون. «أنتَ تتبعني لفكرة بشريّة يا يهوذا. وأنا عليَّ أن أُثنيكَ عن هذا، فأنا لم آتِ لذلك.»

 

«ولكن ألستَ أنتَ الذي أُشيرَ إليكَ بأنّكَ تكون مَلِك اليهود؟ أنتَ الذي تَكَلَّم عنكَ الأنبياء؟ لقد ظَهَرَ آخرون، إنّما كان ينقصهم الكثير، ولكنّهم سَقَطوا مثل أوراق في مهبّ الريح لم يعد الهواء يحملها. وأنتَ، الله معكَ لدرجة أنّكَ تَجتَرِح المعجزات. وحيث يوجد الله فإنّ نجاح الرسالة مؤكَّد.»

 

«حسناً قلتَ بأنّ الله معي. فأنا كَلِمَته. أنا الذي تنبّأ عنّي الأنبياء، والذي وَعَدَ بي الآباء، أنا مَن تنتظرني الجُّموع. ولكن لماذا يا إسرائيل قد أصبَحتِ عمياء وصمّاء لدرجة أنّكِ لم تعودي تعرفين القراءة والنَّظَر والسَّمَع وإدراك المعنى الحقيقيّ للأمور؟ مملكتي ليست مِن هذا العالم يا يهوذا. تنكّر لأفكاركَ. لقد جئتُ أَحمِل لإسرائيل النور والمجد، إنّما ليس نور ومجد الأرض. لقد جئتُ أدعو صِدِّيقي إسرائيل إلى الملكوت، إذ إن في إسرائيل ومع إسرائيل ينبغي أن تتشكّل وتكبر شجرة الحياة الأبديّة، التي سيكون دم الربّ نسغها، الشجرة التي تمتدّ أغصانها على كلّ الأرض حتّى نهاية الدهور. تلاميذي الأوائل سيكونون مِن إسرائيل. أوائل الـمُجاهِرين بإيمانهم بي مِن إسرائيل. ولكنّ مُضطَهِدِيَّ أيضاً مِن إسرائيل وكذلك جلّاديَّ مِن إسرائيل. وخائِني أيضاً مِن إسرائيل...»

 

«لا يا معلّم. هذا أبداً. وإذا ما خانكَ الجميع فسأبقى أنا معكَ أدافع عنكَ.»

 

«أنتَ يا يهوذا؟ علام ترتَكِز حتّى تؤكِّد ذلك؟»

 

«على شرفي كرجل.»

 

«إنّ هذا لَأَوهى مِن نسيج عنكبوت يا يهوذا، فعلينا طَلَب القوّة مِن الله لنكون شرفاء ومُخلِصِين. فالإنسان!... الإنسان يقوم بعمل إنسان. ولإتمام عمل الروح -إذ إنّ اتّباع المسيح في حقيقته وبرّه يعني القيام بعمل الروح- يجب إماتة الإنسان وجَعله يُولَد مِن جديد. فهل أنتَ قادر على القيام بفعل كهذا؟»

 

«نعم يا معلّم، ثمّ ليست إسرائيل كلّها تحبّك. إنّما جلّادو وخونة مسيحها، لن يكون بينهم مِن إسرائيل. ذلك إنّها تنتظركَ منذ قرون!»

 

«سوف يحصل ذلك. تذكّر الأنبياء، كلامهم ونهاياتهم. إنّني مُهيّأ لأُخيِّب آمال أناس كثيرين. وأنتَ أحد هؤلاء. يا يهوذا، إنّ الذي يقابلكَ لطيف ومسالم وفقير ويريد أن يبقى فقيراً. أنا لم آتِ لأفرض نفسي وأشُنَّ الحرب. أنا لا أُزاحِم الأقوياء والـمُقتَدِرين، ولا أيّة مملكة أو أيّة سُلطة. فليس سوى الشيطان الذي أتيتُ لِأُزاحِمه على النُّفوس، وإنّني أتيتُ لأُحطِّم سلاسل الشيطان بنار حبّي. لقد أتيتُ لأُعلِّم الرحمة والبرّ والتواضع والعفّة. أقول لكَ وأقول للجميع: "لا يكن لديكم عطش للثروات البشريّة، إنّما اعملوا لما هو أبديّ". بَدِّد أوهامكَ يا يهوذا، إذا كنتَ تعتقد أنّني أتيتُ لأهزم روما والطبقات الـمُهيمِنة. فإنّ بإمكان هيرودس والقياصرة النوم بطمأنينة بينما أنا أتحدّث إلى الجُّموع. فلم آتِ لأنتَزِع صولجان أيّ كان... وصولجاني أبديّ. وهو الآن جاهز. ولكن ما مِن إنسان، إن لم يكن على الأقلّ حُبّاً كما أنا، يريد الدفاع عنه. اذهب يا يهوذا وتأمّل...»

 

«هل ترفضني يا معلّم؟»

 

«أنا لا أرفض أحداً، ذلك أنّ مَن يَرفُض لا يحبّ. إنّما قُل لي يا يهوذا: كيف يكون تقييمكَ لفعل أحدهم، يحسّ بنفسه مَرَضاً مُعدياً فيقول لآخَر يَجهَل حقيقة مرضه ويُوشِك أن يشرب مِن كأسه: "أَدرِك ما أنتَ فاعِل"؟ أتُعتَبَر هذا خيانة أم حُبّاً؟»

 

«أقول عنه حُبّاً لأنّه لا يريد للذي يَجهَل أن يؤذي صحّته.»

 

«اعتَبِر ما أفعله أنا هكذا.»

 

«هل يمكنني إيذاء صحّتي إذا ما أتيتُ معكَ؟ لا، أبداً.»

 

«إنّ ما يمكنكَ أن تؤذيه لهو أكثر مِن الصحّة، فَكّر بذلك جيّداً، لأنّ مَن يقتل مؤمناً ظنّاً منه أنّه يُمارِس العدل فسيكون حسابه يسيراً لأنّه لا يعرف الحقيقة؛ إنّما الذي رغم معرفته الحقيقة، فهو ليس فقط لا يتّبعها بل يجعل نفسه عدوّاً لها، فدينونته ستكون رهيبة.»

 

«أنا لن أكون كذلك. اقبَلني يا معلّم. فإنّكَ لا تستطيع رفضي. فإذا كنتَ الـمُخَلِّص، وكنتَ تراني خاطئاً، نعجة تائهة، أعمى أبتَعَدَ عن طريق البرّ، فلماذا ترفض أن تُخَلِّصني؟ اقبَلني. وسوف أتبعكَ حتّى الموت...»

 

«حتّى الموت! صحيح، هذا صحيح. ثمّ...»

 

«وثمّ يا معلّم؟»

 

«المستقبل في صدر الله. اذهَب وغداً نتقابَل قُرب باب السمك.»

 

«شكراً يا معلّم. الرب معكَ.»

 

«ولتنقذكَ رحمته.»

 

وينتهي كل شيء.