ج3 - ف79
أَنَا هُوَ
ماريا فالتورتا
L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO
THE GOSPEL AS REVEALED TO ME
بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}
L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ
MARIA VALTORTA
الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.
الجزء الثالث / القسم الثاني
79- (الصّراع مع الفرّيسيّين. يسوع سيّد السبت أيضاً)
13 / 07 / 1945
ما يزال الموقع ذاته، ولكنّ الشمس أقلّ حدّة، فهي توشِك على الغروب.
«يجب الوصول إلى ذلك المنـزل.» يقول يسوع.
يَمضون. يَبلغونه. يَسأَلون خُبزاً وزاداً، ولكنّ الوكيل يطردهم بقسوة.
«ليُعطَ لكم كما تُعطون.» يُدمدِم التلاميذ الجائعين والعِطاش.
«لماذا تَفتَقِرون إلى المحبّة؟ الزمن ليس زمن القصاص. تقدَّموا. لَم يهبط الليل بعد، ولن تموتوا مِن الجوع. قليلاً مِن التضحيات لِتَصل تلك النُّفوس إلى الجوع إليَّ.» يَحثّ يسوع.
ولكنّ التلاميذ، وأظنُّ أنّه، بالحريّ، بسبب الاستياء أكثر منه بسبب جوع لا يُحتَمَل، يَدخُلون إلى حقل قمح ويَشرَعون يَقطفون السنابل، يَفركونها بأيديهم ويأكلونها.
«إنّها لذيذة يا معلّم.» يهتف بطرس. «ألا تأخذ منها؟ ثمّ إنّ لها طعماً مُضاعَفاً... أودُّ لو ألتهم الحقل كلّه.»
«لكَ كل الحقّ! وسوف يَندَمون هكذا لعدم إعطائهم لنا رغيفاً.» يقول الآخرون ويَمضون بين السنابل، ويأكلون منها بِنَهَم. أمّا يسوع فيسير وحيداً على الطريق الترابيّة. وعلى بعد خمسة أو ستّة أمتار خلفه يسير الغيور مع برتلماوس، ولكنّهما يتحدّثان فيما بينهما.
تَقاطُع آخَر تَعتَرِض فيه طريق فرعيّة الطريق الرئيسيّة، وقد توقَّفَ هناك فريق مِن الفرّيسيّين المشاكِسين. وهُم حتماً عائدون مِن ممارسة طقوس السبت التي حضروها في البلدة الصغيرة التي تُرى على طرف ذلك الدرب الفرعيّ، رَحبَة ومُنبَسِطة، كما لو كانت سجّادة ضخمة.
يَراهُم يسوع ويَرمقهم بلطف وابتسام، ويبادرهم بالسلام: «السلام معكم.»
وبَدَل رَدّ السلام، يَسأَله أحد الفرّيسيّين بغطرسة: «مَن تكون؟»
«يسوع الناصريّ.»
«أَتَرَون أنّه هو؟» يقول أحدهم للآخرين. وفي تلك الأثناء يدنو نثنائيل وسمعان مِن المعلّم، بينما الآخرون، وهُم يسيرون على الأثلام، يأتون صوب الطريق. ما يَزالون يَمضَغون حبّات القمح ويَحملون بعضها في أكُفّهم.
الفرّيسيّ الذي تكلّم أوّلاً، وقد يكون الأكثر نفوذاً، يُعاوِد الحديث مع يسوع الذي توقَّف للاستماع إلى الآخرين: «آه! هو أنتَ إذن يسوع الناصريّ الشهير؟ كيف جرى أنّكَ وصلتَ إلى هنا.»
«لأنّ هنا نفوساً ينبغي افتداؤها.»
«نحن هنا نكفي لذلك. نعرف افتداء أنفسنا، ونعرف افتداء النُّفوس المتعلّقة بنا.»
«إذا كان الأمر هكذا، فحسناً تفعلون، أمّا أنا فقد أُرسِلتُ لأُبشِّر وأُخلِّص.»
«أُرسِلتَ! أُرسِلتَ! ما البرهان على ذلك؟ حتماً ليست أعمالكَ!»
«لماذا تتكلّم هكذا؟ ألستَ حريصاً على حياتكَ؟»
«آه! حقّاً! هو أنتَ مَن تُنـزِل الموت بالذين لا يعبدونكَ. إذاً فأنتَ تريد قتل كلّ طبقة الكَهَنَة وطبقة الفرّيسيّين والكَتَبَة، وآخرين كثيرين، لأنّهم لا يعبدونكَ، وهُم لن يعبدوكَ أبداً، أبداً، أتفهم؟ أبداً، فنحن مُختاري إسرائيل، لن نعبدكَ ولن نحبّكَ...»
«لن أُرغِمكم على حبّي. وأقول لكم: "اعبدوا الله" لأنّه...»
«أو لأنّكَ أنتَ الله، أليس كذلك؟ ولكنّنا لسنا حثالة شعب الجليل، ولا بُلَهاء اليهوديّة الذين يتبعونكَ مُتَخلّين عن رابّييّنا...»
«لا تغضب يا رجل. فأنا لا أطلب شيئاً. إنّني أُتمِّم رسالتي. أُعلِّم حبّ الله وأُعاوِد التذكير بالوصايا العشر، لأنّها نُسيَت، بشكل خاصّ بسبب إساءة تطبيقها. أريد أن أَمنَح الحياة الأبديّة. فأنا لا أتمنّى الموت الجسديّ ولا حتّى الموت الروحيّ. فالحياة التي كنتُ أَسألكَ عن مدى حرصكَ على عدم فقدانها، كانت تلك التي لنفسكَ، ذلك أنّني أحبّ نفسكَ، حتّى ولو لم تكن تحبّني. وأتألّم لدى رؤيتي إيّاكَ تَقتلها بالإساءة إلى الربّ، وبإساءتكَ إلى مسيحه.»
يبدو الفرّيسيّ وكأنّه وَقَعَ فريسة غضب، لشدّة اضطرابه؛ فإنّه يُجَعِّد ثيابه ويَنتَزِع الأهداب، ويَنـزَع غطاء رأسه، ويُمرِّر يده في شعره ويَصرُخ: «اسمعوا! اسمعوا! لقد قيل لي هذا، أنا يوناثان بن عوزيل، مِن السلالة المباشرة لسمعان الصدّيق. أنا أَسأتُ إلى الربّ! لستُ أدري ما الذي يمنعني مِن أن ألعنكَ، ولكن...»
«إنّ ما يمنعكَ هو الخوف، ولكن افعل ذلك، ولن تتحوَّل بسببه إلى رماد. في الوقت المناسب سوف تُصبِح كذلك، حينذاكَ سَتَطلبني. إنّما سيكون آنذاكَ بيني وبينكَ نهر أحمر: دمي.»
«حسناً. ولكن في انتظار ذلك، فأنتَ، يا مَن تَدَّعي القداسة، لماذا تَسمَح لنفسكَ بأمور كثيرة؟ أنتَ، يا مَن تَدَّعي أنّكَ معلّم، لماذا لا تُثقِّف تلاميذكَ قبل الآخرين؟ انظر إليهم خلفكَ!... ها هُم وما تزال أداة الخطيئة بين أيديهم! أتراهم؟ لقد قَطَفوا السنابل، واليوم هو السبت. ولقد قَطَفوا سنابل ليست لهم. فَهُم قد انتَهَكوا السبت وسَرَقوا.»
«لقد كانوا جائعين. ولقد سَأَلنا الإقامة والطعام مِن البلدة التي وَصَلناها أمس مساء، فَطَرَدونا. إحدى العجائز فقط مَنَحَتنا بعضاً مِن خبزها مع حفنة مِن الزيتون. فليكافئها الله مائة ضعف، ذلك أنّها أعطت كلّ ما كانت تملك، طالِبة فقط البَرَكَة. ولقد سِرنا ميلاً وتوقَّفنا، كما جاء في الشريعة، وشَرِبنا ماء مِن الجدول. ثمّ عند الغسق، ذهبنا إلى ذاك البيت... رَفَضونا. وكما ترى فقد أردنا الطاعة للشريعة.»
«ولكنّكم لَم تفعلوا ذلك. ففي يوم السبت لا يُسمَح بالقيام بأعمال يدويّة، ولا يُسمَح مطلقاً أخذ ما للغير. وأصدقائي وأنا قد سَخِطنا.»
«أمّا أنا فعلى العكس، لستُ كذلك.» يقول يسوع. «ألم تَقرَأوا قَطّ كيف أنّ داود، في نوبة (Nob)، قد أَخَذَ خبز التقدمة المقدَّس لِيَقتات به هو وأصحابه؟ الخبز المقدّس كان لله وفي بيته، وكان محفوظاً للكَهَنَة بأمر أزليّ. قيل: "تَكون لهارون وأبنائه، يأكلونها في مكان مقدَّس، لأنّها مقدَّسة جدّاً". ومع ذلك أَخَذَها داود له ولرفاقه لأنّهم كانوا جائعين. ذلك أنّه، إذا كان الـمَلِك القدّيس قد دَخَلَ بيت الله، وأَكَلَ خبز التقدمة يوم السبت، وهو الذي لم يكن مسموحاً له أكلها، ومع ذلك لم يُحسَب له ذلك خطيئة، بما أنّ الله قد استمرّ، بعد ذلك، بالاحتفاظ له بحبّه، فكيف يمكنكَ القول إنّنا خَطَأَة، إذا ما قطفنا مِن على أرض الله بعض السنابل التي نَمَت وأَينَعَت بإرادته، السنابل التي هي كذلك للعصافير، وتَرفض أنتَ أن يقتات بها أناس هُم أبناء الآب؟»
«أولئك كانوا قد طَلَبوا ذلك الخبز، ولَم يأخذوه دونما طَلَب. وهذا يجعل الأمر مختلفاً. ثمّ، ليس صحيحاً أنّ الله لَم يَحسب ذاك الفِعل لداود خطيئة، فلقد ضَرَبَه الله بعنف.»
«ولكن ليس مِن أجل ذلك. بل إنّما لِفُجوره، وبسبب الإحصاء، وليس لأجل...»
«آه! يكفي! ليس مسموحاً يعني ليس مسموحاً. ولا يحقّ لكم فِعل ذلك، ولن تفعلوه. انصَرِفوا. لا نريدكم على أرضنا. لسنا في حاجة إليكم. لا ندري ما نَفعَل بكم.»
«سوف نمضي.»
«وإلى الأبد، تَذَكَّر. ولا يَجِدَنَّكَ بعد يوناثان بن عوزيل في حضرته. هيّا!»
«نعم إنّنا ماضون. ومع ذلك فسوف نلتقي مرّة أخرى. وحينذاك سيكون يوناثان هو الذي يطلب مقابلتي لِيُكَرِّر إدانتي ويُخَلِّص العالم منّي إلى الأبد. إنّما آنذاك، فالسماء هي التي ستقول لكَ: "غير مسموح لكَ فِعل ذلك". وتلك العبارة "غير مسموح" سيترجَّع صداها في قلبكَ، مِثل بوق، طوال حياتكَ، وما بعد حياتكَ. فَمِثلَما يَنتَهِك الكَهَنَة الراحة السبتيّة في الهيكل يوم السبت ولا يُخطِئون، كذلك نحن، خُدّام الربّ، بإمكاننا، طالما يَرفض الإنسان أن يَمنَحنا الحبّ، أن نَلقى الحبّ والعَون مِن الآب الكلّيّ قدسه، دونما ارتكاب خطيئة بذلك. فَهُنا مَن هو أعظم مِن الهيكل، ويمكنه أخذ ما يشاء مِمّا هو مخلوق، إذ إنّ الله قد سَخَّر كلّ الأشياء لتكون مِرقاة للكلمة. أنا آخُذ وأعطي. هكذا هي الحال بالنسبة إلى سنابل الآب المقدَّمة على الطاولة الرَّحبَة التي هي الأرض. آخُذ وأُعطي للصالحين كما للسيّئين، لأنّني الرحمة. ولكنّكم لا تَدرون ما هي الرحمة. لو كنتم تَعلَمون ماذا يعني أن أكون الرحمة، لأدركتم كذلك أنّني لا أريد سواها. لو كنتم تَعلَمون ما هي الرحمة، لما اتَّهَمتم الأبرياء. ولكنّكم لا تعرفونها. ولا تعرفون كذلك أنّني لا أُدينكم، ولا تعلمون أنّني سأغفُر لكم، وحتّى أنّني سأطلب مِن الآب أن يَغفر لكم. ذلك أنّني أريد رحمة لا عقاباً. أمّا أنتم فلا تَعرِفون ذلك. بل لا تريدون أن تَعرِفوا. وهذه خطيئة أعظم مِن التي تَحسِبونها، التي تقولون إنّ هؤلاء الأبرياء قد ارتَكَبوها. علاوة على ذلك، اعلَموا أنّ السبت قد جُعِل لأجل الإنسان وليس الإنسان لأجل السبت، وأنّ ابن الإنسان هو سيّد السبت أيضاً. وداعاً...»
يَلتَفِت إلى تلاميذه: «تعالوا، ولنمضِ بحثاً عن فراش على الرمال التي لَم تَعُد بعيدة. ستكون النجوم رفيقاتنا، والنَّدى يُنعِشنا، وسيتدبّر الله أمر طعامنا، وهو الذي أَرسَلَ الـمَنّ لإسرائيل، يُرسِل لنا كذلك نحن الفقراء والأوفياء له.» ويَترك يسوع هنا الجمع ضَيِّقي الخُلق ويَمضي مع أتباعه، بينما يُرخي الليل سُدوله بأولى ظِلاله البنفسجيّة…
في النهاية، يَجِدون صفّاً مِن شجر التين الهنديّ التي تَنتَصِب الأشواك على قِمَمها، وهي تَحمل تيناً بدأ إيناعه. ولكنّ كلّ شيء للجائع لذيذ، وها هُم يَقطفون الأكثر إيناعاً، مُتحَمِّلين وخز أصابعهم، ويَمضون إلى حيث كُثبان الرمال. وصَخَب البحر يأتي مِن البعيد.
«لنتوقّف هنا، فالرمل ناعم ودافئ. وغداً سَنَدخُل إلى أشقلون.» يقول يسوع، ويَهوي الجميع، مُتعَبين مُنهَكين، عند أسفل أحد الكُثبان الـمُرتَفِعة.