ج9 - ف28

أَنَا هُوَ

ماريا فالتورتا

L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO

THE GOSPEL AS REVEALED TO ME

بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}

L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ

MARIA VALTORTA

الترجمة إلى اللغة العربية: ماري حلمي وفيكتور مصلح.

 

الجزء التاسع

 

28- (السبت المقدّس، I- النهار)

 

30 / 03 / 1945

 

ينبلج الفجر متردّداً، بصعوبة. والشروق يتأخّر بغرابة رغم عدم وجود غيوم في السماء. وتبدو النجوم وكأنّها فقدت كلّ حيويّة لها. وكما كان القمر شاحباً أثناء الليل، فكذلك باهتة هي الشمس أثناء شروقها. إنّهما مغشيّان... ربما بكيا هما أيضاً، كي يكون لهما هذا المظهر المغشّى كما الّذي لأعين الصالحين الّذين بكوا ويبكون موت الربّ؟

 

ما أن يدرك يوحنّا أنّ الأبواب قد فُتِحت، حتّى يخرج، صامّاً أذنيه عن التوسّلات الأموميّة. تعتصم النساء في المنـزل وهنّ أكثر خوفاً، خاصّة الآن وقد مضى الرسول أيضاً.

 

مريم ما تزال في غرفتها، اليدان مستسلمتان فوق الركبتين، تنظر بثبات مِن النافذة المفتوحة، الّتي تطلّ على حديقة متوسّطة الاتّساع، مليئة بالأزهار المتفتّحة على مدى الأسوار المرتفعة وبمساكب الزهور الغريبة. أمّا باقات الزنبق، فهي على العكس، ليس لها سيقان الزهور المستقبليّة، كثيفة، جميلة، إنّما ليس فيها سوى أوراق. إنّها تحدّق، وتحدّق وأظنّها لا ترى شيئاً سوى ما هو داخل عقلها المسكين المتعب: احتضار ابنها.

 

تروح النساء ويجئن. يقتربن منها، يلاطفنها، يتوسّلن إليها كي تقتات... وفي كلّ مرّة يأتين إليها، تفوح منهُنّ أمواج مِن عطر ثقيل، ممزوج، مُسبّب للدّوار.

 

مريم ترتعش في كلّ مرّة، إنّما لا شيء آخر. لا كلمة، لا حركة، لا شيء. إنّها منهكة. تنتظر. ليس لديها سوى الانتظار. إنّها الـمُنتَظِرة.

 

طَرْق على الباب... تهرع النسوة ليفتحنَ. تلتفت مريم مِن على كرسيّها دون أن تقف وتحدّق بالباب الـمُواَرب.

 

تدخل المجدليّة. «إنّه مَنَاين... يودّ لو نطلب منه خدمة ما.»

 

«مَنَاين... دعيه يدخل. لقد كان إنساناً صالحاً على الدوام. لكنّني كنتُ أظنّ أنّه لم يكن هو...»

 

«مَن كنتِ تظنّين أنّه هو يا أُمّي؟...»

 

«فيما بعد... فيما بعد. دعيه يدخل.»

 

يدخل مَنَاين. ليس بذي أبّهة كالمعتاد. إنّه يلبس ثوباً عاديّاً، كستنائيّاً أقرب للأسود، ومعطفاً مماثلاً. بلا جواهر ولا سيف. لا شيء. يبدو شخصاً ميسوراً ولكن مِن الشعب.

 

ينحني للتحيّة، بداية يداه متصالبتان على صدره، ثمّ يركع كما أمام مذبح.

 

«انهض وسامحني لعدم الإجابة على الانحناءة. لستُ قادرة...»

 

«لا ينبغي لكِ ذلك. وأنا ما كنتُ لأسمح به. تعلمين مَن أكون. لذلك أتوسّل إليكِ أن تعتبريني خادماً لكِ. هل أنتِ بحاجة إليّ؟ أرى أنّ ما مِن رجل حولكِ. أعلم مِن نيقوديموس أنّ الجميع فرّوا. لم يكن مِن شيء يُفعَل، هذا صحيح، ولكن على الأقلّ منحه المواساة برؤيتنا. أنا... أنا، حيّيتُه عند ميدان التدريب المسقوف، ثمّ لم أستطع، لأنّ... ولكن لا جدوى مِن القول. هذا كذلك أراده الشيطان. الآن أنا حرّ وأتيتُ لأكون في خدمتكِ. أوامركِ يا امرأة.»

 

«أودّ أن أَعلَم وأُعلِم لعازر.. أختاه قَلِقتان، وسلفتي ومريم الأخرى أيضاً. نودّ أن نستعلم عن سلامة لعازر، يعقوب، يهوذا [يوضاس] ويعقوب الآخر.»

 

«يهوذا؟ الاسخريوطيّ! ولكنّه خان!»

 

«يهوذا [يوضاس] ابن أخ زوجي.»

 

«آه! سأذهب.» وينهض. ولكن بينما هو يقوم تبدر منه إيماءة ألم.

 

«ولكن هل أنتَ مجروح؟»

 

«هوم!... نعم. إنّما ليس بالأمر الهام. ذراعي تؤلمني قليلاً.»

 

«أيمكن أن يكون هذا بسببنا؟ ألهذا لم تكن هناك بالأعلى؟»

 

«نعم، لهذا. ولذلك فقط أنا أتألّم، وليس بسبب الجرح. لقد خَرَجَتْ مع ذاك الدم كلّ بقايا الفرّيسيّة والعبريّة والشيطانيّة الّتي كانت في داخلي، لأنّ الشيطانيّة صارت ديانة إسرائيل. أنا مثل الطفل الّذي بعد أن قُطِع حبله السرّي، لم يعد له صلة بدم الأُمّ، والقطرات القليلة المتبقّية في الحبل المقطوع لا تدخل إليه، وقد منعها حبل الكتّان. لكنّها تسقط... إذ أضحت بلا جدوى. الوليد يعيش بقلبه ودمه. هكذا أنا. حتّى الآن لم أكن قد اكتملتُ تماماً. والآن وصلتُ إلى النهاية، وأتيتُ، وأبصرتُ النور. لقد وُلِدت بالأمس. أُمّي يسوع الناصريّ. وَوَلَدَني حينما صرخ صرخته الأخيرة. أعلم... لأنّني هربتُ إلى منـزل نيقوديموس هذه الليلة. فقط أودّ رؤيته. آه! حينما ستذهبون إلى القبر، أخبروني. سآتي... فأنا أجهل وجهه، وجه الفادي!»

 

«هو ينظر إليكَ يا مَنَاين. استدر.»

 

الرجل الّذي كان قد دخل إلى الغرفة محنيّ الرأس ولم تبرح عيناه مريم، يستدير شبه مذعور ويرى الكفن. فيرتمي أرضاً ليتعبّد…

 

ويبكي. ثمّ ينهض، ينحني أمام مريم ويقول: «أمضي.»

 

«ولكنّه السبت. أنتَ تعلم. إنّنا متّهمون أصلاً بانتهاك الشريعة بتحريض منه.»

 

«نحن متشابهون، ذلك أنّهم ينتهكون شريعة الحبّ. الأولى والأعظم. هو كان يقول ذلك. فليُعزِّكِ الربّ.» ويخرج.

 

وتمرّ الساعات. كم هي بطيئة على مَن ينتظر…

 

تنهض مريم وهي تتّكئ على الأثاث، وتتقدّم حتّى المدخل. تحاول اجتياز الرواق الواسع للمدخل. ولكنّها حينما لا تعود تجد ما تتّكئ عليه، تترنّح كما لو كانت مخمورة. مرثا، الّتي تراها مِن الباحة الواقعة ما وراء المدخل المفتوح في طرف الرواق، تجري.

 

«إلى أين تريدين الذهاب؟»

 

«هناك، إلى الداخل. لقد وعدتموني بذلك.»

 

«انتظري يوحنّا.»

 

«يكفي هذا الانتظار. ترون أنّني هادئة. اذهبوا، حيث أنّكم اقفلتم مِن الداخل، وافتحوا. أنا أنتظر هنا.»

 

سُوسَنّة، إذ أنّهنّ هرعن جميعهنّ، تمضي لجلب صاحب المنزل ومعه المفاتيح. في هذه الأثناء تتّكئ مريم على الباب الصغير كما لو كانت تريد فتحه بقوّة إرادتها. ها هو الرجل. خائف، محبط، يفتح وينسحب. ومريم، متّكئة على ذراعيّ مرثا ومريم الّتي لحلفى، تدخل إلى قاعة العشاء.

 

كلّ شيء ما يزال كما كان في نهاية العشاء. إنّ تتابع الأحداث والأمر الّذي أعطاه يسوع حالا دون أيّ تغيير. فقط المقاعد أُعيدت إلى مكانها، ومريم، الّتي لم تكن في القاعة، تتّجه مباشرة إلى المكان الّذي كان يجلس فيه يسوعها. تبدو وكأنّ يداً تقودها. تبدو كالسائرة أثناء نومها لصلابة سعيها في المضيّ إليه... تمضي، تدور حول الأريكة، تنسلّ بينها وبين المائدة... تبقى واقفة للحظة ثمّ تنطرح على الطاولة بانفجار بكاء. ثمّ تهدأ. تركع وتصلّي، رأسها مستند على حافة الطاولة. تلامس المفرش، المقعد، الآنية، حافة الطبق الكبير حيث كان الحَمَل، السكّين الكبير الّذي استُخدِم في التقطيع، الجرّة الموضوعة أمام هذا المكان. لم تعلم أنّها تلمس ما لمسه الاسخريوطيّ أيضاً. ثم تلبث كالمذهولة، رأسها متّكئ على ذراعيها المتصالبتين، اللتين وضعتهما على المائدة.

 

يصمت الجميع، إلى اللحظة الّتي تقول فيها سلفتها: «تعالي يا مريم. لنخشَ اليهود. هل تريدين أن يدخلوا هنا؟»

 

«لا، لا. إنّه مكان مقدّس. هيّا. ساعدوني... أحسنتم بإخباري ذلك. أريد كذلك صندوقاً، جميلاً، كبيراً، مُحكَماً كي أحفظ كلّ كنوزي.»

 

«غداً سيتم جلبه لكِ من القصر. إنّه الأجمل في المنـزل. صندوق متين ومُحكَم. أعطيه لكِ بكلّ سرور.» تعد المجدليّة.

 

يخرجن. مريم منهكة بحقّ. تترنّح وهي تصعد الدرجات القليلة. وإن كان ألمها أقلّ مأساويّة، فلأنّها لم تعد تمتلك القوّة لذلك. ولكنّها في سكونها، تظلّ أكثر مأساويّة.

 

يعاودن دخول الغرفة الّتي كنّ فيها سابقاً، وقبل أن ترجع إلى مكانها، تلمس مريم وجه الكفن المقدّس، كما لو كان وجهاً مِن لحم.

 

طَرْق آخر على الباب. تسرع النسوة في الخروج وفتح الباب. تقول مريم بصوتها المتعب: «إذا كان التلاميذ وخاصّة سمعان بطرس ويهوذا، فليدخلا عليّ في الحال.»

 

ولكنّه الراعي إسحاق. يدخل بعد بضعة دقائق باكياً وعلى الفور يسجد أمام الكفن ثمّ أمام الأُمّ، ولا يجد ما يقوله. هي الّتي تقول: «شكراً. لقد رآكَ ورأيتُكَ. أعلم. لقد نظر إليكم قدر المستطاع.»

 

يبكي إسحاق بأكثر شدّة. لم يقدر على الكلام إلا حينما انتهى مِن البكاء. «لم نكن نريد الانصراف، ولكن يوناثان توسّل إلينا. كان اليهود يهدّدون النسوة.. ثمّ لم نعد نستطيع الرجوع. كان... كان كلّ شيء قد انتهى... إلى أين كان ينبغي أن نذهب حينئذ؟ تفرّقنا عبر الحقول، وحينما حلّ الليل، اجتمعنا في منتصف الطريق بين أورشليم وبيت لحم. وكان يبدو لنا إبعاد موته بذهابنا إلى مغارته... إنّما بعد ذلك، شعرنا أنّ ليس مِن الصواب الذهاب إلى هناك... كان مِن الأنانيّة، ورجعنا إلى المدينة... ووجدنا أنفسنا في بيت عنيا دون أن ندري كيف...»

 

«أبنائي!»

 

«لعازر!»

 

«يعقوب!»

 

«الجميع هناك. كانت حقول لعازر في الفجر مليئة بقوم تائهين يبكون... أصدقائه وتلاميذه عديمي النفع!... أنا... ذهبتُ إلى لعازر وكنتُ أظنّني الأوّل... أبداً، كان هناك ابناكِ يا امرأة، وابنكِ، مع أندراوس، برتلماوس، متّى. سمعان الغيور هو الّذي كان قد أقنعهم بالذهاب إلى هناك. ومكسيمين، إذ خرج باكراً عبر الريف، وجد آخرين. ولعازر أعانهم جميعاً. وهو ما يزال مشغولاً بهم. يقول إنّ المعلّم كان قد أمره بذلك، والغيور يقول الشيء ذاته.»

 

«ولكن سمعان ويوسف، ابناي الآخران، أين هما؟»

 

«لا أعلم يا امرأة. لقد بقينا معاً إلى أن حدث الزلزال. بعد ذلك... لم أعد أعلم شيئاً على وجه الدقّة. وسط الظلمات والبروق والأموات القائمين وزلزلة الأرض والإعصار، فقدتُ صوابي. وجدتُ نفسي في الهيكل. ولا أزال أتساءل كيف استطعتُ أن أكون هناك في الداخل، وراء الحدّ المقدّس. تصوّري أنّ بيني وبين هيكل الطيوب، لم يكن سوى ذراع… تصوّري! حيث كانت قدماي كان المكان المخصّص لكَهَنَة الخدمة! و... ورأيتُ قدس الأقداس!... نعم. لأنّ حجاب القدس قد تمزّق مِن أعلى إلى أسفل، كما لو أنّ إرادة عملاق قد مزّقته... لو أنّهم رأوني في الداخل لرُجمتُ. ولكن لم يكن أحد يرى بعد. لم أصادف سوى أشباح أموات وأشباح أحياء. إذ إنّهم كانوا يبدون أشباحاً في وميض البروق، وفي وهج الحرائق ومع الرعب على الوجوه...»

 

«آه! سمعاني! يوسفي!»

 

«وسمعان بطرس؟ ويهوذا الاسخريوطيّ؟ وتوما وفيلبّس؟»

 

«لا أعرف يا أُمّي... أرسلني لعازر لأرى، إذ قد قيل له أنّهم... أنّهم كانوا قد قتلوكنّ.»

 

«اذهب على الفور إذن لتهدّئ روعه. لقد سبق أن أرسلتُ مَنَاين. ولكن اذهب أنتَ أيضاً وقل... وقل إنّه الوحيد الّذي قُتِل. وأنا معه. وإن رأيتَ تلاميذ آخرين اصطحبهم معكَ إلى هناك. أمّا الاسخريوطيّ وسمعان بطرس فأريدهما أنا.»

 

«أيّتها الأُمّ... اغفري لنا إن لم نفعل أكثر.»

 

«أغفر كلّ شيء. اذهب.»

 

يَخرج إسحاق، وتخنقه مرثا ومريم، سالومة ومريم الّتي لحلفى بالرجاء والتوصيات والأوامر. أمّا سُوسَنّة فتبكي بهدوء لأنّ أحداً لم يحدّثها عن زوجها. حينئذ تتذكّر سالومة زوجها وتبكي هي الأخرى.

 

صمت مِن جديد إلى أن يُطرَق الباب مجدّداً.

 

وبما أنّ المدينة ساكنة، كان خوف النسوة أقلّ. ولكن ما أن فُتِح الباب ولاح وجه لونجين الحليق، حتّى هرب الجميع كما لو أنّهنّ كنّ رأين ميتاً في كفنه أو الشيطان شخصيّاً. صاحب البيت الّذي كان يتسكّع في الرواق، كان أوّل الهاربين.

 

إذاك تهرع المجدليّة الّتي كانت مع مريم. ولونجين بابتسامة صغيرة ساخرة لا إراديّة على شفتيه، دخل، وهو ذاته أغلق الباب الثقيل. لم يكن باللباس الرسميّ، بل عليه حلّة رماديّة قصيرة، تحت رداء داكن أيضاً.

 

تتبادل مريم المجدليّة ولونجين النظرات. ثمّ، وهو ما يزال مستنداً على الباب، يَسأَل: «هل يمكنني الدخول دون تدنيس أو إخافة أحد؟ رأيتُ هذا الصباح عند الفجر يوسف الّذي حدّثني عن رغبة الأُمّ. أطلب المعذرة لأنّني لم أفكّر بذلك مِن نفسي. ها هو الرمح. احتفظتُ به كتذكار مِن... قدّيس القديسين. آه! مِن جهة هذا، هو كذلك! ولكن مِن العدل أن يكون للأُمّ. أمّا بالنسبة للملابس... فهذا أصعب. لا تقولي لها ذلك... ربما بيعت بالفعل ببضعة دراهم... فهذا مِن حقّ الجنود، ولكنّي سأحاول أن أجدها...»

 

«تعال. هي هناك.»

 

«ولكن أنا وثنيّ!»

 

«لا يهمّ. أذهب لأخبرها إن رغبتَ في ذلك.»

 

«آه! لا... لم أكن أفكّر أنّني أستحقّ ذلك.»

 

تمضي مريم المجدليّة إلى العذراء. «أُمّي، لونجين هنا بالخارج... وهو يقدّم لكِ الرمح.»

 

«دعيه يدخل.»

 

صاحب البيت، الواقف عند العتبة، يتذمّر: «إنّه وثنيّ.»

 

«أنا أُمّ الجميع يا رجل، كما هو فادي الجميع.»

 

يَدخل لونجين، وعلى العتبة يحيّيها على الطريقة الرومانيّة بحركة مِن ذراعه (خلع رداءه) ثمّ كلاميّاً: السلام لكِ سيّدتي. رومانيّ يحيّيكِ: يا أُمّ الجنس البشريّ. الأُمّ الحقيقيّة. لم أرد أن أكون أنا الّذي... الّذي... ذاك الأمر، ولكنّني كنتُ مأموراً. إنّما، لو أُتيح لي أن أقدّم لكِ ما ترغبين، فإنّني أعذر القدر لاختياره لي لهذا الأمر المريع. ها هو ذا.» ويعطيها الرمح الملفوف في شرشف أحمر، الحديد فقط، وليس الذراع.

 

تأخذه مريم وقد زاد شحوبها. تختفي شفاهها مِن الشحوب. تبدو وكأنّ الرمح أفقدها دمها. حتّى شفتاها ترتعش وهي تقول: «فليقدكَ إليه لصلاحكَ.»

 

«كان البارّ الوحيد الّذي التقيتُه في امبراطوريّة روما الواسعة. أنا آسف لعدم تعرّفي عليه إلاّ مِن خلال أحاديث رفاقي. الآن... الوقت متأخّر جدّاً!»

 

«لا يا بنيّ. هو انتهى مِن التبشير. ولكنّ بشارته باقية، في كنيسته.»

 

«وأين هي كنيسته؟» لونجين متهكّم قليلاً.

 

«إنّها هنا. اليوم ضُربت وتشتّتت، إنّما غداً فستجتمع مجدّداً كالشجرة الّتي تعيد ترتيب أوراقها بعد العاصفة. وحتّى إن لم يبقَ إنسان، فأنا موجودة. وبشارة يسوع المسيح، ابن الله وابني، مكتوبة كلّها في قلبي. ليس عليّ سوى النظر إلى قلبي كي أتمكّن مِن أن أردّدها.»

 

«سآتي. إنّ دِيناً رئيسُه مثل هذا البطل لا يمكن إلّا أن يكون ديناً إلهيّاً. السلام لكِ سيّدتي!»

 

يمضي لونجين كذلك.

 

تُقَبّل مريم الرمح حيث ما تزال آثار دم ابنها... وهي لا تريد مسح هذا الدم «ياقوت الله على الرمح الوحشيّ.» كما تقول…

 

وهكذا يمضي اليوم وسط انقشاعات وزخّات مطر عاصفة.

 

يرجع يوحنّا فقط حينما صارت الشمس عموديّة مُعلِنة أنّه الظُهر.

 

«أُمّي، لم أجد أحداً، ما عدا... يهوذا الاسخريوطيّ.»

 

«أين هو؟»

 

«آه! أُمّي! يا له مِن هول! كان متدلّياً مِن شجرة زيتون، منتفخاً ومسودّاً كما لو كان ميتاً منذ أسابيع. متحلّلاً، رهيباً... فوقه العقبان والغربان، ما أدري، تصيح في شجار فظيع... ضجّتهم هي الّتي جذبتني إلى ذلك الاتّجاه. كنتُ على طريق جبل الزيتون، وعلى أحد المنحدرات رأيتُ دوّامات الطيور السوداء تلك. فذهبتُ إليها... لماذا؟ لستُ أعلم، ورأيتُ. يا للهول!...»

 

«يا للهول! تُحسِن القول. ففوق الصلاح هناك العدل. بالفعل الصلاح غائب في هذه الآونة... ولكن بطرس! بطرس!... يوحنّا، لديّ الرمح. ولكن الملابس.. لونجين لم يحدّثني عنها.»

 

«أُمّي، أنوي الذهاب إلى جَثْسَيْماني. لقد قُبِض عليه بدون رداء. قد يكون ما يزال هناك. ثمّ سأذهب إلى بيت عنيا.»

 

«اذهب، اذهب مِن أجل الرداء... الآخرون عند لعازر. فليس هناك داع للذهاب إلى لعازر إذاً. اذهب وارجع إلى هنا.»

 

يمضي يوحنّا جرياً، دون أن يأخذ قوتاً. كما مريم هي صائمة. النسوة أكلن خبزاً وزيتوناً وهنّ واقفات يعملن بطيوبهنّ.

 

تصل يُوَنّا امرأة خُوزي مع يوناثان. ملامحها قد تبدّلت بسبب الدموع. وما أن ترى مريم تقول: «لقد أنقذني! أنقذني ومات هو! أمّا الآن فأودّ لو لم أُنقَذ!»

 

والأُمّ الحزينة هي الّتي عليها أن تواسي هذه الابنة المبرأة، إنّما الّتي ما تزال تحتفظ بحساسية مَرَضيّة. تواسيها وتقوّيها قائلة لها: «لو لم تعرفيه وتحبّيه لما أمكنكِ أن تخدميه الآن. كم سيكون هناك ما يتوجّب فِعله في المستقبل! ويجب أن نعمل، لأنّ، كما ترين... نحن بقينا، والرجال هربوا. المرأة هي المعطية الحقّة للحياة على الدوام. للخير. للشرّ. نحن سننجب الإيمان الجديد. نحن مفعمات به، وقد استودعه الله عريسنا داخلنا. ونحن سننجبه للأرض، مِن أجل خير العالم. انظري، كم هو جميل! كيف يبتسم ويتوسّل العمل المقدّس الّذي سنعمله! يُوَنّا، أنا أحبّكِ، أنتِ تعلمين ذلك. لا تعودي تبكين.»

 

«ولكنّه مات! نعم، هنا هو ما يزال يشبه إنساناً حيّاً. ولكنّه لم يعد حيّاً الآن. كيف يكون العالم دونه؟»

 

«سيعود. اذهبي، صلّي، وانتظري. كلّما آمنتِ أكثر، كلّما قَدَّم موعد قيامته. قُوَّتي تكمن في هذا الإيمان... وحده الله والشيطان وأنا، نعلم أيّ هجوم يُشَنّ على إيماني هذا بقيامته.»

 

تمضي يُوَنّا كذلك، نحيلة ومنحنية مثل زنبقة مثقلة بالماء. ولكن بعد رحيلها، تعود مريم لتهوي في عذابها.

 

«للجميع! عليّ أن أمنح القوّة للجميع. ومَن يعطينيها؟» وتبكي وهي تلامس صورة الوجه، ذلك أنّها الآن جالسة بالقرب مِن الصندوق الّذي مُدَّ عليه المنديل.

 

يصل يوسف ونيقوديموس، ويحولان دون خروج النسوة لشراء المرّ والطيب لأنّهما أحضرا ظروفاً منها. إنّما قوّتهما خارت أمام الوجه المطبوع على النسيج ووجه الأُمّ التالف.

 

يجلسان في أحد الأركان بعد أن سَلَّما عليها، ويصمتان. إنّهما جادّان، واجمان... ثمّ يمضيان. لم تعد لها القوّة على الكلام، ولكن كلّما تقدّم المساء مسرعاً بسبب كتلة الغيوم الخانقة، يتعاظم كونها مخلوقة مسكينة ممزّقة. إنّ ظلال المساء هي كذلك بالنسبة لها، كما لكلّ مَن يتألّم، منبع ألم عظيم للغاية.

 

تصبح الأخريات أيضاً أشدّ حزناً، وخاصّة سالومة، مريم الّتي لحلفى وسُوسَنّة. ولكنّ العزاء يدركهنّ أخيراً، إذ يأتي معاً كلّ مِن زَبْدي وزوج سُوسَنّة وسمعان ويوسف ابنا حلفى. الاثنان الأوّلان يبقيان في الرواق وهما يشرحان كيف أنّ يوحنّا وجدهما فيما كان يعبر ضاحية عوفل. الاثنان الآخران، مِن ناحيتهما، وجدهما إسحاق تائهين في الريف، يتساءلان إن كانا سيرجعان إلى المدينة أم يفتّشان عن أخويهما اللذين كان يفترض أنّهما في بيت عنيا.

 

يقول سمعان: «أين هي مريم؟ أريد أن أراها.» وتتقدّمه أُمّه، يدخل ويعانق قريبته المبتلاة.

 

«أأنتَ وحدكَ؟ لماذا يوسف ليس معكَ؟ لماذا افترقتما؟ أما تزالان على خلاف؟ لا يصحّ هذا. هل تريان؟ إنّ سبب الشقاق قد مات؟!» وتُريه وجه المنديل.

 

ينظر سمعان إليه ويبكي. ويقول: «لم نعد نفترق، ولن نفترق. نعم، إنّ سبب الشقاق قد مات، ولكن ليس كما تظنّين؟ إنّ السبب قد مات لأنّ يوسف قد فهم الآن... إنّ يوسف هو في الخارج... ولا يجرؤ على المجيء...»

 

«آه! لا. أنا لا أُخيف أبداً. وأنا لستُ سوى رحمة. كنتُ لأغفر حتّى للخائن، إنّما لم أعد أقدر. لقد انتحر.»

 

وتنهض. وتمشي منحنية وهي تنادي: «يوسف! يوسف!»

 

ولكنّ يوسف، الغارق في دموعه، لا يجيب.

 

فتذهب إلى الباب، كما كانت قد فعلت للتحدّث مع يهوذا، ومتّكئة على الإطار، تمدّ يدها الأخرى لتضعها على رأس أكبر وأعند أولاد أختها. تلاطفه وتقول: «دعني أستند على واحد اسمه يوسف! كلّ شيء كان سلاماً وصفاء طالما كان لي هذا الاسم كملك في بيتي. ثمّ مات قدّيسي... ومات معه كلّ خير بَشَريّ لمريم المسكينة... وبقي لي الخير الفائق الطبيعة الّذي هو ربّي وابني... الآن أنا المتروكة... ولكن لو أمكنني أن أكون بين ذراعيّ واحد اسمه يوسف أُحبّه، وأنتَ تعلم إن كنتُ أحبّكَ، سيقلّ شعوري بالإهمال. سيبدو لي وكأنّني رجعتُ إلى الوراء، ولأمكنني القول: "يسوع غائب، ولكنّه لم يمت. إنّه في قانا، في نائين لقضاء بعض الأعمال، ولكنّه يعود الآن..." تعال يا يوسف، ولندخل معاً إلى حيث ينتظركَ ليبتسم لكَ. لقد ترك لنا ابتسامته كي يقول لنا إنه بلا حقد.»

 

يدخل يوسف وهي تمسكه بيدها، وحينما يراها قد جلست، يركع أمامها، رأسه على ركبتيها وهو ينتحب: «غفرانكِ! غفرانكِ!»

 

«ليس منّي، بل منه ينبغي أن تطلب ذلك.»

 

«لا يمكنه أن يمنحني إيّاه. على موضع الصلب، حاولتُ أن ألفت انتباهه. نظر للجميع، إنّما ليس إليّ... إنّه محقّ... عرفتُه وأحببتُه كمعلّم متأخّراً جدّاً. الآن انتهى.»

 

«الآن يبدأ. ستذهب إلى الناصرة وتقول: "أنا أؤمن". سيكون لإيمانكَ قيمة لا نهائيّة. ستحبّه بكمال رُسُل المستقبل الّذين لهم استحقاق حبّ يسوع بالروح فقط. هل ستفعل هذا؟»

 

«نعم! نعم! كي أصلح ما أفسدتُ. ولكنّني أودّ لو أسمع منه هو كلمة واحدة ولن أسمعها أبداً...»

 

«سيقوم في اليوم الثالث وسيتكلّم مع الّذين يحبّهم. الجميع ينتظرون سماع صوته.»

 

«أنتِ مباركة، أنتِ الّتي تستطيعين أن تؤمني...»

 

«يوسف! يوسف! زوجي كان عمّكَ، وآمن بشيء كان الإيمان به أصعب بعد مِن هذا. عرف أن يؤمن أنّ مريم الناصريّة المسكينة كانت عروس وأُمّ لله. فلماذا أنتَ، يا ابن أخ هذا الصالح وحامل اسمه، لا يمكنكَ أن تؤمن أنّ الله قادر أن يقول للموت: "كفى!" وللحياة: "عودي!"؟»

 

«أنا لا أستحقّ هذا الإيمان، لأنّني كنتُ سيّئاً. كنتُ ظالماً معه. أمّا أنتِ... أنتِ هي الأُمّ. باركيني. اغفري لي.. امنحيني السلام...»

 

«نعم... السلام... الغفران... آه! يا إلهي! مرّة قلتُ: "كم هو صعب أن يكون المرء هو "الفادي". الآن أقول: "كم هو صعب أن أكون أُمّ الفادي!" الرحمة يا إلهي! الرحمة!... اذهب يا يوسف. أُمّكَ تألّمت كثيراً في هذه الساعات. واسِها... أنا أبقى هنا... مع كلّ ما لديّ مِن ولدي... ودموعي الوحيدة ستنال لكَ الإيمان. وداعاً يا ابن أختي. قل للجميع إنّني أريد أن أصمت... أفكّر... أصلّي... أنا... أنا امرأة مسكينة، معلّقة فوق هوّة بخيط... والخيط هو إيماني... والّذي يصدم باستمرار هذا الخيط هو قلّة الإيمان الّذي لكم، لأنّ لا أحد يعرف الإيمان بشكل كامل وبقداسة... ولا تعرفون كم يسبب لي هذا مِن التعب... لا تعرفون أنّكم تساعدون الشيطان في تعذيبي. اذهب...»

 

وتبقى مريم بمفردها…

 

تجثو أمام المنديل. تُقَبّل جبهة وعينين وفم ابنها وتقول: «هكذا! هكذا! كي أنال القوّة... يجب أن أؤمن. يجب أن أؤمن. مِن أجل الجميع.»

 

هبط الليل، بلا نجوم، مظلماً، خانقاً. وتبقى مريم في الظل مع ألمها.

 

نهار السبت انتهى.