ج3 - ف14

أَنَا هُوَ

ماريا فالتورتا

L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO

THE GOSPEL AS REVEALED TO ME

بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}

L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ

MARIA VALTORTA

الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.

 

الجزء الثالث / القسم الأول

 

14- (يسوع في قيصرية الساحل. هو يتحدث إلى العبيد)

 

04 / 05 / 1945

 

يسوع وسط ساحة كبيرة وجميلة متّصلة بطريق عريضة جدّاً تصل حتّى شاطئ البحر. سفينة شراعيّة حربيّة غادرت الميناء منذ قليل تدفعها الرياح والـمَجاديف. وأخرى تُحاول الدخول، وقد طُويَت أشرعتها، أمّا الـمَجاديف فتتحرّك مِن جهة واحدة لتُدير السفينة إلى الوَضعيّة المناسبة. لا يُرى الميناء مِن الساحة، إنّما يُفتَرَض أن يكون قريباً. وعلى جوانب الساحة اصطَفَّت بيوت واسعة، جدرانها الخارجيّة ذات طابع يتميّز بغياب شِبه كلّي للفتحات، كما لا وجود للمحلّات.

 

«أين نذهب الآن؟ لقد فَضَّلتَ المجيء إلى هنا على الذهاب إلى الحيّ الشرقيّ. هنا مناطق الوثنيّين. فَمَن تريد أن يَستَمِع إليكَ؟» يَسأَل بطرس الذي يَلوم يسوع بالفِعل.

 

«نذهب هناك، إلى تلك الزاوية جانب البحر، وهناك سوف أتحدّث.»

 

«للأمواج؟»

 

«حتّى هي خَلَقَها الله.»

 

ويَذهَبون هناك. وها هم الآن في ذاك الركن الـمُنعَزِل ويَنظُرون إلى الميناء حيث تَدخُل السفينة الشراعيّة الحربيّة ببطء، تلك التي شُوهِدَت سابقاً وهي تَرسو الآن. بعض البَحّارة يَتَسَكَّعون على الأرصفة. وبعض الباعة يُخاطِرون في الذهاب إلى البناء الرومانيّ لبيع محاصيلهم. ولا شيء آخر.

 

يَسند يسوع ظهره إلى الجدار ويبدو وكأنه يتحدث حقيقة إلى الأمواج. والرُّسُل، رغم كونهم غير راضين كثيراً عن الموقف، يُحيطون به، بعضهم يَقِفون وآخرون يجلسون على صخور مُبَعثَرة هنا وهناك، وتبدو أنها تُستَخدَم كمَقاعِد.

 

«غبيّ هو الإنسان الذي، عندما يرى ذاته جَبَّاراً وفي صحّة جيّدة وسعيداً يقول: "ماذا يَنقصني بعد؟ ومَن أحتاج؟ لا أحد. ولا يَنقصني شيء، إنّني مُكتَفٍ بذاتي. الشّرائع أو وصايا الله أو الضّمير لا وجود لهم بالنسبة إليَّ. فشريعتي هي أن أفعل ما يمكنني فِعله دون التّفكير فيما إذا كان خيراً أم شرّاً بالنسبة إلى الآخرين".»

 

يَلتَفِت أحد البَاعة لدى سماعه ذلك الصوت الجَهوريّ الرّنّان، ويأتي إلى يسوع الذي يُتابِع: «هكذا يتكلّم الإنسان، رَجُلاً كان أم امرأة، إذا كان يَفتَقِر إلى الحِكمة وبِغير إيمان. ولكنّه إذا ما كان يُظهِر بهذه الطريقة جَبَروتاً عظيماً، كثيراً أو قليلاً، فإنّه يُشير في الوقت ذاته إلى ارتباطه بالشرّ.»

 

يَهبط رِجال مِن السفينة الحربيّة ومِن مَراكِب أخرى ويُقبِلون إلى يسوع.

 

«والرَّجُل، إنّما يُظهِر، بالأفعال وليس بالكلام، ارتباطه بالله وبالفَضيلة عندما يُفكّر أنّ الحياة أكثر تَبَدُّلاً مِن البحر الذي هو الآن ساكن وغداً يُصبِح هائجاً. وبنفس الطريقة، يمكن للصحّة والعافية والسّلطان اليوم أن تُصبِح غداً بؤساً وضعفاً بلا حَول ولا قوّة. وماذا يَفعَل الإنسان المحروم مِن الاتّحاد بالله آنذاك؟ كم يُوجَد على تلك السفينة مِن أناس كانوا يوماً سعداء وجَبابِرة وهم الآن عبيد ويَعتَبِرونهم مُذنِبين! إنّهم مُذنِبون وبالتالي فهم عبيد مرّتين: مرّة مِن قِبَل الشريعة الإنسانيّة التي سَخِروا منها عَبَثاً، إذ هي موجودة وتُعاقِب الذين يَخرقونها، وأخرى مِن قبل الشيطان الذي يستولي أزليّاً على المذنبين الذين لا يَتَوَصَّلون إلى مقت أخطائهم.»

 

«سلاماً أيّها المعلّم! أأنتَ هنا؟ هل تتذكّرني؟»

 

«فليأتِ الله إليكَ. بوبليوس كينتيليانوس. كما ترى، فقد أَتَيتُ.»

 

«إلى هنا بالتحديـد، إلى الحيّ الرومانيّ. قد كُنتُ قَطَعتُ الأمل برؤيتكَ. إنّما يُسعِدني أن أستمع إليكَ.»

 

«أنا كذلك سعيد. هل هناك الكثير مِن الجَدَّافين على تلك السفينة الحربيّة.»

 

«إنّهم كُثُر. والغالبيّة أسرى حرب. هل يَهمّكَ أمرهم؟»

 

«أَوَدُّ الاقتراب مِن السفينة.»

 

«هيّا أفسَحوا المجال، أنتم.» يَأمر الأشخاص القليلين الذين كانوا قد اقتَرَبوا، والذين يَتباعَدون بسرعة وهم يُتَمتِمون بالشتائم.

 

«دعهم إذن. إنّني قد اعتَدتُ زحمة الناس حَولي.»

 

«هذا أقصى حَدّ ممكن. إنّها سفينة عسكريّة.»

 

«يكفي. جزاكَ الله عن ذلك خيراً.»

 

يُعاوِد يسوع الحديث بينما يبدو الرومانيّ وكأنّه في مَوقِف حِراسة له رغم مَظهَره الرائع.

 

«أن يُصبِح الناس عبيداً نتيجة حَدَث مؤلم، فهذا يعني أنّهم عبيد مرّة واحدة ومدى الحياة. ولكنّ كلّ دمعة تَسقُط على سَلاسلهم، وكلّ ضربة تترك أثر ألم على أجسادهم، تَفكّ الأغلال وتُزيِّن الذي لا يموت، وتَفتَح لهم في النهاية سلام الله صديق أبنائه البؤساء، وهو سوف يمنحهم فرحاً كثيراً كتعويض عمّا كان هنا ألماً.»

 

مِن داخل السفينة يتقدّم رِجال جَدَّافون يُنصِتون. طبيعيّ ألّا يكون العبيد بينهم، فهم بالتأكيد يَستَمِعون، مِن خلال الفتحات التي تَمرّ المجاديف عَبْرها، إلى صوت يسوع القادر الواصل إليهم وهو ينتشر في الجوّ الساكن، وفي تلك الساعة مِن الجَزْر. ويَذهَب بوبليوس كينتيليانوس بعد أن يناديه أحد الجنود.

 

«أريد القول لهؤلاء البائسين إنّ الله يحب أن يكونوا صابرين على ألمهم، وأن يجعلوا منه فقط شُعلة تُحَطِّم سريعاً سَلاسِل السفينة والحياة، وذلك بِـجَعل هذا اليوم البائس الذي هو الحياة يتلاشى في الرغبة بالله، هذا اليوم الغَائِم والعَاصِف والمليء بالـمَخاوِف والحِرمان، كلّ هذا بُغية الدخول في يوم الله الـمُنير والصّافي والخالي مِن الـمَخاوِف والآلام. سوف تَدخُلون في السّلام العظيم، في حريّة الفردوس التي لا نهاية لها، يا شهداء مَصير مؤلم، طالما أنّكم تَعرفون أن تكونوا في ألمكم صالحين وأن تتوقوا إلى الله.»

 

يعود بوبليوس كينتيليانوس وبصحبته جُند آخرون وخلفه تَصِل مِحَفّة يحملها عبيد وقد أَفسَحَ الجنود لها مكاناً.

 

«مَن هو الله؟ وكلامي مُوَجَّه إلى الوثنيّين الذين لا يعرفون مَن هو الله. كلامي إلى أبناء الشعوب الـمُستَعبَدة الذين لا يعرفون مَن هو الله. في غاباتكم، يا أيّها الغوليّون والإيبيريّون والترسيّون والجرمانيّون والسلطيّون، يوجد ما يَكشف عن وجود الله ويُظهِره. فتميل النَّفْس مباشرة إلى العِبادة إذ تتذكّر السماء. ولكنّكم لا تعرفون السبيل إلى معرفة الله الحقيقيّ الذي جَعَلَ في أجسادكم نَفْساً وهي مُساوية لنَفْسنا، نحن أبناء إسرائيل، ومُساوِية لنَفْس الرومان ذَوي السُّلطان الذين سَيطروا عليكم، نَفْساً عليها الواجبات ذاتها ولها الحقوق ذاتها تجاه الخير، والتي يَظَلّ الخير، أي الله الحقيقيّ، وَفيّاً لها. فكونوا أنتم كذلك تجاه الخير. فالإله أو الآلهة التي عبدتموها حتّى الآن، والتي تعلّمتم اسمه أو أسماءها في أحضان أُمّهاتكم، الإله الذي قد لا تكونون تُفكّرون به الآن لأنّكم لا تَرَون أيّ عزاء في آلامكم يأتيكم مِن عِنده، والذي قد تَصِلون إلى حدّ مُقته ولَعنه في يأس يومكم، ليس هو الله الحقيقيّ.

 

إنّ الله الحقيقيّ حبّ ورحمة هو. هل هكذا كانت آلهتكم؟ لا. فهي لم تكن سِوى قَسوة وَوَحشيّة وكَذِب ورِياء ورَذيلة وسَرِقة. والآن تَرَكَتكم دون أدنى حَدّ مِن العَزاء الكَامِن في الرّجاء بأن تكونوا محبوبين وعلى يقين مِن حصولكم على الراحة بعد عذابات كثيرة. الأمر هكذا، لأنّ آلهتكم لا وجود لها. بينما الله، الله الحقيقيّ، الذي هو حبّ ورحمة، والذي أُؤكّد لكم وُجوده، هو الذي صَنَعَ السماوات والبحار والجبال والغابات والأشجار والزهور والحيوانات والإنسان. هو الذي رَسَّخَ في أعماق الإنسان الـمُظفّر رَحمة وحُبّاً، يُشبِهان رحمته وحبّه، تجاه مساكين الأرض. أيّها الـمُقتَدِرون، أيّها المعلّمون، فَكِّروا أنّكم جميعكم مِن الأصل ذاته. لا تَجدّوا في مطاردة مَن رماهم بؤس ما بين أيديكم، وكونوا إنسانيّين كذلك تجاه أولئك الذين رَبَطَتهم خطيئة ما إلى مَقاعِد السفينة.

 

يُخطئ الإنسان مَرّات عديدة. وما مِن أحد بلا خطيئة، وإن تكن في السرّ. وإذا ما أَعمَلتُم الفِكر فستكونون صالحين مع إخوة لكم، أقلّ منكم خطأً، ولكنّهم عُوقِبوا على خطايا اقترفتموها أنتم أيضاً، إنّما مِن غير أن يَلحَق بكم القَصاص. فالعدل البشريّ كثير التشويش في أحكامه، بحيث يكون مِن التعاسة بمكان أن يكون العدل الإلهيّ مُشابهاً له. فبعض المذنبين لا يَبدون كذلك، ومِن الأبرياء مَن يَظهَرون بمظهر المذنبين. فلا نحاولنّ معرفة السبب. إنّ هناك الكثير مِن الاتّهامات الـمُوَجَّهَة مِن الإنسان غير البارّ والمليء بالأحقاد تجاه أخيه الإنسان! يوجد مذنبون هم في الحقيقة كذلك، ولكنّهم حُمِلوا على ارتكاب الإثم بِقِوى مُتَسَلِّطة تَعذر وتبرّر أخطاءهم بشكل جزئي. وأنتم بالتالي، يا مَن أُنيطت بكم السفينة، كونوا إنسانيّين. فالعدل الإلهيّ فوق العدل البشريّ وهو أكثر سموّاً. عدل الإله الحقيقيّ، عدل مَن خَلَقَ الـمَلِك والعبد، الصخرة وحبّة الرمل. وهو يَنظر إليكم، أيّها الجَدَّافون، وكذلك أنتم، يا مَن أُنيطت بكم قيادة دَفَّة السفينة، والويل لكم إذا ما كنتم قُساة بلا مُبَرِّر. أنا يسوع المسيح، مَسيّا الله الحقّ، أمنحكم اليقين: الله، ساعة موتكم، سيلحقكم بسفينة أزليّة ويَعهَد بالسُّوط الـمُلَوَّث دماً إلى الشياطين، وستتلقّون العذابات ذاتها والضربات ذاتها التي تفرضونها. وإن كانت الشرائع الإنسانية تُعاقِب الـمُذنِب، فَمِن الواجب عدم تَجاوُز الحَدّ في ذلك. فاعرفوا أن تتذكّروا ذلك. مَن كان مُتَسَلّطاً اليوم قد يُصبِح بائساً غداً. فالله وحده هو الأزليّ.

 

أَوَدُّ لو أُغيّر القلب، وبالأخصّ أريد تحطيم القيود، وإعادة الحريّة إليكم، وكذلك أوطانكم الـمَسلوبة. ولكن، أيّها الإخوة العبيد، إذا كنتم لا تَرَونَ وجهي، فأنا لستُ أجهَل قلبكم وكلّ جِراحه. وبَدَل الحريّة والوطن الأرضيّ اللذين لا يمكنني أن أمنحكم إيّاهما، أيّها الرجال المساكين، عبيد الـمُتَسَلِّطين، فسوف أمنحكم حريّة أسمى ووطناً أفضل. مِن أجلكم جَعَلتُ نفسي سَجيناً، وتركت وطني لأفتديكم، سوف أَهِب نفسي لأجلكم، حتّى أنتم يا مَن لستم عار الأرض كما يُطلَق عليكم، إنّما خِزي الإنسان الذي ينسى المقياس، في صَرامة الحرب والعدل، وسوف أُقيم شريعة جديدة على الأرض، ومَقاماً عَذْباً في السماء. تذكّروا اسمي، ابن الله، أنتم يا مَن تَذرفون الدموع. إنّه اسم الصّديق. اذكروه في مِحَنكم. كونوا على يقين أنّكم إذا ما أحببتموني فستمتلكونني حتّى وإن كنّا لا نرى بعضنا على الأرض مطلقاً. أنا يسوع المسيح، الـمُخَلِّص، صديقكم.

 

باسم الله الحقّ أُشجّعكم. فليحلّ عليكم السلام بسرعة.»

 

الجَّمع الذي غالبيّته مِن الرومانيّين، يتجمهر حول يسوع الذي أَدهَشَ الجميع بأفكاره الجديدة.

 

«أُقسِم بجوبتير! لقد جَعَلتَني أُفكّر بأمور جديدة لم أكن قد فَكَّرتُ بها مِن قبل. ولكنّني أُحِسُّ بأنّها حقيقيّة...»

 

بوبليوس كينتيليانوس الغارق في التفكير والمتحمّس في آن معاً، يَنظر إلى يسوع.

 

«هكذا أيّها الأصدقاء، إذا ما أَكَبَّ الإنسان على التفكير، فلا يتوصّل أبداً إلى ارتكاب الجُّرم.»

 

«بجوبتير! يا لهذا الكلام! يجب أن أتذكّره!... قُلتَ: "إذا ما أَكَبَّ الإنسان على التفكير...»

 

«فلن يتوصّل أبداً إلى ارتكاب الجُّرم.»

 

«ولكنّها الحقيقة! بجوبتير! ولكن هل تَعلَم أنّكَ عظيم؟!»

 

«يمكن لأيّ إنسان أن يكون مثلي، إذا هو أراد، شريطة ألّا يكون سِوى واحد مع الله.»

 

ويَستمرّ الروماني بِقَسَمه ذاته "بجوبتير" وكلّ مرّة بأكثر إعجابا مِن الأُخرى. ولكنّ يسوع يقول له: «هل يمكنني أن أَمنَح قليلاً مِن الـمُواساة لهؤلاء العبيد؟ لَدَيَّ بعض الدراهم... والفاكهة واللُّطف لكي يَعرفوا أنّني أحبّهم.»

 

«هاتها هنا، وبإمكاني فِعل ذلك. عَلاوة على ذلك، هنا تُوجَد امرأة لها نُفوذ عظيم. سوف أَطلُب منها.» ويَمضي بوبليوس صَوب الـمِحَفّة ويتكلّم أمام السِّتار الذي كان مُوارَباً قليلاً. يعود: «لديَّ كلّ السُّلطة. سوف أقوم بنفسي بمراقبة عمليّة التوزيع كي لا يقوم الـمُراِقبون بالتجاوزات. وسوف تكون هذه المرّة الأولى التي يُمارِس فيها جنديّ الإمبراطوريّة الرحمة مع عَبيد الحرب.»

 

«المرّة الأولى، إنما ليست الوحيدة. سيأتي يوم لا يَعود فيه عَبيد، إنّما قبل ذلك سيكون تلاميذي قد نَزلوا وسط عَبيد الحرب وغيرهم مِن العَبيد ليدعوهم إخوة.»

 

تَختَرِق الجوّ الساكن سلسلة أخرى مِن "بجوبتير"، بينما ينتظر بوبليوس الكَمّية الكافية مِن الفاكهة والنبيذ للعَبيد. ثمّ قبل الصعود إلى السفينة، يَهمس في أُذن يسوع: «هناك في الداخل تُوجَد كلوديا بروكولا. وهي تريد أن تسمع منكَ المزيد. إنّما في انتظار ذلك، هي تَوَدُّ أن تَسألكَ أمراً. فاذهب إليها.»

 

يتوجّه يسوع إلى الـمِحَفّة.

 

«سلاماً أيّها المعلّم.» ويُفتَح الستار قليلاً ويُفسَح المجال لرؤية امرأة جميلة في حوالي الثلاثين مِن عمرها.

 

«فلتحلّ عليكِ الرغبة في الحكمة.»

 

«قُلتَ إنّ النَّفْس تتذكّر السماوات. هل هي إذن أزليّة، تلك التي تقول إنّها موجودة فينا؟»

 

«هي أزليّة، لذلك تتذكّر الله، الله الذي خَلَقَها.»

 

«ما هي النَّفْس؟»

 

«النَّفْس هي الأصل الكريم الحقيقيّ للإنسان. إنّكِ تفخرين بانتمائكِ إلى الجنس البشريّ يا كلوديا، بينما الإنسان هو أكثر مِن ذلك، إذ ينتمي إلى عائلة الله. تجري فيكِ دماء عائلة بشريّة يا كلوديا، وهي عائلة ذات سُلطة وأصل، إنّما سوف تكون لها نهاية. ومِن خلال النَّفْس يوجد في الإنسان دم الله. -وباعتبار الله روحاً خالصاً للغاية- فإنّ النَّفْس هي الدم الروحيّ لخالق الإنسان: لله الأزليّ والقادر والقدّوس. والإنسان إذن أزليّ وقادر وقدّيس بالنَّفْس التي فيه، والتي هي حَيّة طالما هي مُتّحدة بالله.»

 

«أنا وثنيّة، إذن فليس لي نَفْس...»

 

«بل لكِ نَفْس ولكنّها في سُبات... أَيقِظيها للحقيقة والحياة...»

 

«وداعاً أيّها المعلّم.»

 

«فلتميلي إلى العدل. وداعاً.»

 

ويقول يسوع لتلاميذه: «كما تَرَون، فلقد حَصَلتُ هنا كذلك على سَامِعين.»

 

«نعم، ولكن مَن كان سيفهمكَ غير الرومانيّين؟ إنّهم بَربَر.»

 

«مَن؟ إنّ السلام فيهم جميعاً، وسوف يتذكّرونني أكثر كثيراً مِن آخرين عديدين في إسرائيل. هيّا بنا نتناول الطعام في البيت الذي يستضيفنا.»

 

«يا معلّم، إنّ هذه المرأة هي ذاتها التي كَلَّمَتني يوم شَفَيتَ ذاك المريض. لقد رأيتُها وتعرَّفتُ عليها.» يقول يوحنّا.

 

«تَرَون إذن أنّه كان يوجد هنا كذلك مَن ينتظرنا. ولكن يبدو أنّكم غير راضين. سأكون قد حَقَّقتُ الكثير يوم أُقنِعكم أنّني لم آت فقط لإسرائيل، إنّما لكلّ الشُّعوب، ومِن أجلهم جميعاً أنا هَيَّأتُكم. أقول لكم إذن: احفظوا في أذهانكم كلّ ما يَصدُر عن معلّمكم. فما مِن عَمَل، مهما كان يبدو أنّ لا معنى له، إلّا وسيُصبح يوماً قاعدة للرسالة.»

 

لا أحد يُجيب، ويبتسم يسوع ابتسامة حزينة مليئة شَفَقة.

 

هذا الصباح لديه كتلك الابتسامة كذلك مِن أجلي... لقد كنتُ تحت تأثير إحباط جَعَلَني أبكي بسبب أمور كثيرة. لم يكن آخرها التعب مِن الكتابة، والكتابة الممتزجة بالقناعة أنّ الكثير مِن الصّلاح مِن قِبَل الله والكثير مِن التعب ليوحنّا الصغير كانا عديميّ الفائدة. وبينما أنا أبكي دَعَوتُ معلّمي. ولأنّه، لصلاحه، أتى بشكل خاصّ إليَّ، بُحتُ له بما يجول في خاطري. وردَّ برفع الكتفين الذي يعني: "دعي عنكِ العالم وقصصه". ثمّ لاطَفَني وهو يقول لي:

 

«وماذا؟ ألا تريدين الاستمرار في مساعدتي؟ هل العالم لا يريد معرفة كلامي؟ إذن فَلْنَرْوِهِ لبعضنا، فيما بيننا، مِن أجل الفرح الذي أحظى به مِن خلال ترديده لقلب وَفيَّ، ومِن أجل الفرح الذي لديكِ عند سماعه. إعياء الرسالة!... إنّه أكثر إنهاكاً مِن إعياء أيّ عمل! إنّه يُكدِّر النهار الأكثر صفاء ويملأ الطعام الأكثر حلاوة ولذّة مَرارة. فإنّ كلّ شيء يُصبح رَماداً وَوَحلاً وغَثياناً وعَلقَماً. ولكن، يا نَفْسي، إنّها الساعات التي نحمل فيها على منكبينا حِمل تَعب وشَكّ وشقاء الدُّنيويّين الذين يموتون لعدم امتلاكهم ما لدينا. إنّها الساعات التي نعمل فيها أكثر. ولقد قُلتُ لكِ ذلك في العام الماضي. "ما الفائدة؟" تتساءل النَّفْس الغارقة في كلّ ما يُغْرِق العالم، أي الأمواج التي يُرسِلها الشيطان ويُغرِق فيها العالم. ولكنّ النَّفْس الـمُسَمَّرَة مع إلهها على الصليب لا تغرق. قد تفقد النور للحظة وتغطس تحت مياه التعب الروحي الـمُسَبّبة للغَثَيان، ثمّ تتحرّر أكثر نَضارَة وأكثر بَهاء. إنّ ما تَقولينه: «لم أَعُد صالحة لشيء» هو نتيجة لهذا التعب. فلستِ ولن تكوني أبداً غير صالحة لشيء. ولكنّني أنا، أنا على الدوام، إنّما سوف تكونين صالحة دائماً لمهمّتكِ كناطقة بلساني. وبكلّ تأكيد، لو كنتُ رأيتُ عَطيّتي التي كالجوهرة الثقيلة والثمينة قد توارت ببُخل واستُخدِمَت بغير فِطنة، أو لم يُحافَظ عليها، على سبيل الكسل، تحت ضغط تلك الضمانات التي يفرضها الشرّ الإنسانيّ في بعض الحالات ليصون النعمة والخليقة التي يصل عبرها ومِن خلالها، فسأقول كلمتي: "يكفي". وهذه المرّة لا رجعة فيها. يكفي للجميع ما عدا نفسي الصغيرة التي تبدو اليوم كزهرة صغيرة تحت وابل مِن المطر. وهل يمكنكِ مع هذه الملاطفات الشكّ بأنّني أحبّكِ؟ هيا بنا! لقد ساعَدتِني في زمن الحرب. فساعديني الآن أيضاً... فهناك الكثير لنفعله.»

 

وهَدَأتُ تحت تأثير مُلاطفة اليد الطويلة والابتسامة العذبة للغاية التي ليسوعي، الـمُتَّشح بالأبيض كما دائماً عندما يكون لي بالكامل.