ج10 - ف2

أَنَا هُوَ

ماريا فالتورتا

L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO

THE GOSPEL AS REVEALED TO ME

بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}

L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ

MARIA VALTORTA

الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.

 

الجزء العاشر

 

2- (القيامة)

 

01 / 04 / 1945

 

أرى مجدّداً القيامة الـمُبهِجة والقادرة للمسيح.

 

في الحديقة، كلّ شيء هو صمت وتلألؤ الندى. فوقها، السماء تصطبغ أكثر فأكثر بلون لازورديّ فاتح، بعدما تخلّت عن أزرقها-الأسود المرصّع بالنجوم الّتي كانت تسهر على العالم طوال الليل. الفجر يدفع تلك البُقَع الّتي لا تزال مظلمة مِن الشرق نحو الغرب، مثلما يفعل الماء الّذي يتقدّم أكثر فأكثر خلال مدّ عالٍ، مغطّياً الشاطئ الداكن ومستبدلاً اللون الرماديّ الداكن للرمل الرطب بزُرقة المياه البحريّة.

 

إحدى النجوم لا تريد أن تأفل بعد، وسطوعها يخفت تدريجيّاً تحت موجة مِن نور الفجر الأبيض المخضرّ، بياض لَبَنيّ مُدَرّج بالرماديّ، مِثل أوراق أشجار الزيتون الـمسترخية الّتي تُكلّل منحدراً ليس ببعيد. ومِن ثمّ تختفي وقد طغت عليها موجة الفجر، مثل أرض غمرتها المياه. وها هي واحدة تختفي... ثمّ واحدة أخرى، وواحدة أخرى... وأخرى. السماء تفقد قطعان نجومها، وفقط هناك، عند أقصى الشرق، ثلاث نجوم، ثمّ اثنتان، ثمّ نجمة واحدة، تبقى لتتأمّل تلك الأعجوبة اليوميّة، الّتي هي الفجر لدى بزوغه.

 

وحين يرسم خيط زهريّ صغير خطّاً على حرير السماء الشرقيّة الفيروزيّ، ها هي ذي نسمة ريح تمرّ بين الأوراق وفوق الأعشاب وتقول: «استيقظي. لقد عاد النهار.» لكنّها لا تُوقِظ سوى الأعشاب والأوراق، الّتي ترتعش تحت ماسات نداها، وتُصدِر حفيفاً رقيقاً، يتمازج مع الإيقاع التتابعيّ للقطرات المتساقطة.

 

الطيور لم تستيقظ بعد بين الأغصان الكثيفة لشجرة سرو باسقة تبدو مهيمنة مثل سيّد في مملكته، ولا مِن بين التشابك الـمعقّد لسياج شجر الغارٍ الّذي يقي مِن الريح الشماليّة.

 

الحرّاس، الـمُكَدَّرون، الـمرتجفون مِن البرد، الـمثقلون بالنعاس، في وضعيّات مختلفة، يُراقِبون القبر، الّذي دُعِّم بابه الحجريّ، عند حوافه، بطبقة سميكة مِن الكلس، كأنّه دعامة، تبرز فوق بياضها الأغبش زخارف ورود شمعيّة حمراء عريضة، مطبوعة مع أخرى على كلس ختم الهيكل الطريّ.

 

لا بد أنّ الحرّاس قد أشعلوا ناراً خلال الليل، لأنّ هناك رماداً وجمرات على الأرض لم تطفأ بعد، ولا بدّ أنّهم لعبوا وأكلوا، فلا تزال هناك بقايا طعام متناثرة وقطع عظام صغيرة نظيفة، الّتي قد استُخدِمت بالتأكيد للعبةٍ ما، مثل ألعاب طفولتنا كلعبة الدومينو أو لعبة الكرات الصغيرة، الّتي يلعبها الأطفال على رقعة بدائيّة تُرسَم على الأرض. ثمّ وبسبب التعب تركوا كلّ شيء على حاله، ليبحثوا عن وضعيّات مريحة نوعاً ما، حتّى يناموا أو يراقبوا.

 

في السماء الصافية، باتّجاه الشرق، حيث هناك مساحة زهريّة تماماً تتّسع أكثر فأكثر، وبينما لم يظهر أيّ شعاع للشمس بعد، يتبدّى، آتياً مِن أعماق مجهولة، شهاب ساطع يهبط ككرة نار ذات بهاء لا يُحتَمل، يتبعه مسارٌ متوهّج، الذي ربّما هو ليس سوى ذكرى بهائه فوق شبكيّة أعيننا. يهبط بسرعة خاطفة نحو الأرض، ناشراً نوراً كثيفاً، خارقاً، مخيفاً في جماله، إلى حدّ أنّ نور الشفق الزهريّ يختفي، يحجبه ذلك البياض الـمتأجّج.

 

الحرّاس يرفعون رؤوسهم مدهوشين، لأنّ هذا النور يصحبه هدير قويّ، مُتناغِم، مهيب، يملأ مِن ذاته كلّ الخليقة. إنّه يأتي مِن أعماقٍ فردوسيّة. إنّه "الهللويا"، المجد الملائكيّ الّذي يتبع روح المسيح العائد إلى جسده الممجّد.

 

يَنقَضّ الشهاب على قفل القبر العديم الجدوى، يقتلعه، يرميه أرضاً، يصعق برعب وصخب الحرّاس المعيَّنين كسجّانين لسيّد الكون، مُحدِثاً، مع عودته إلى الأرض، زلزالاً جديداً، مثل الّذي أحدثه عندما غادر الأرض روح الربّ ذاك. يدخل القبر المعتم، الّذي يغدو مُضيئاً بفعل نوره المتعذّر الوصف، وبينما يبقى [النور] مُعلَّقاً في الهواء الثابت، يتّحد الروح ثانية مع الجسد الّذي بلا حراك تحت اللفائف المأتميّة.

 

كلّ هذا حدث ليس في دقيقة، بل في جزء مِن الدقيقة، مِن فرط ما كان سريعاً الظهور، الهبوط، الدخول واختفاء نور الله…

 

الـ "أشاء" الّتي أطلقها الروح الإلهيّ إلى جسده البارد لا صوت لها. قد قالها الجوهر للجسد الراقد. إنّما لا تسمع الأذن البشريّة كلمة واحدة. الجسد يتلقّى الأمر ويُطيعه مُطلِقاً شهقة عميقة…

 

ما مِن شيء آخر يحدث خلال بضع دقائق.

 

تحت المنديل والكَفَن، يُعيدُ الجسد الظافر تكوينه بجمال أبديّ، يستيقظ مِن رقاد الموت، يعود مِن "اللاشيء" الّذي كان فيه، يحيا بعدما كان ميّتاً. القلب يستيقظ بالتأكيد ويُطلِق نبضته الأولى، يدفع الدم الباقي والمتجمّد في العروق ويخلق على الفور الكميّة الكاملة في الشرايين الفارغة، في الرئتين الجامدتين، في الدماغ الخامل، ويُعيد الحرارة، الصحّة، القوّة، الفِكر.

 

برهة أخرى، وها هي حركة مُفاجِئة تحت الكفن الثقيل. الحركة مفاجئة بحيث أنّ العين، منذ اللحظة الّتي يُحرِّك فيها بالتأكيد يديه المشبوكتين، حتّى اللحظة الّتي يَظهَر فيها واقفاً، جليلاً، بهيّاً في ثوبه الـمُكوَّن مِن مادّة غير مادّيّة، بجمال ومهابة فائقي الطبيعة، مع وقار يُغيّره ويُرَقّيه وبنفس الوقت يُبقيه كما هو، بالكاد تملك الوقت لمتابعة التطوّرات.

 

والآن تتمتّع به: مُختلِفاً جدّاً عمّا يُذكِّرها الفِكر به، في أحسن حال، مِن دون دم ولا جروح، فقط هو مبهر بالنور الّذي يتدفّق أمواجاً مِن الجروح الخمسة، ويرشح مِن كلّ مسامّ جلده.

 

وعندما يخطو خطوته الأولى -ومع حركته تغلّفه هالة الأشعة الّتي تنبثق مِن يديه وقدميه بأمواج مِن نور: مِن رأسه المكلّل بإكليل مُكوَّن مِن جروح إكليل الشوك الّتي لا تُعدّ ولا تحصى والّتي إنّما ما عادت تنـزف دماً بل فقط تنضح بهاءً، إلى حاشية ثوبه الذي، عندما بفتح ذراعيه اللتين شَبَكَهما على صدره، تنكشف، عند مستوى القلب، منطقة باهِرة السطوع جدّاً ترشح مِن ثوبه، منيرة إيّاه بنور شمس- فحينذاك هو حقّاً "النور" الّذي اتَّخَذَ جسداً، لا نور الأرض الباهت، لا نور الكواكب الخافت، لا نور الشمس الواهن. بل نور الله: كلّ البهاء الفردوسيّ الّذي يجتمع في كائن واحد ويمنحه زرقته فائقة الوصف كما حدقتين، ناره الذهبيّة كَشَعْر، بياضه الملائكيّ كثوب وصبغة، وكلّ ذاك الاضطرام السامي للثالوث الكُلّيّ القداسة، المتعذّر الوصف بالنسبة إلى الكلمة البشَريّة، الّذي يُلغي باضطرام قدرته كلّ نار فردوسيّة، متشرّباً إيّاه في ذاته ليَلده مجدّداً في كلّ لحظة مِن الزمن الأبديّ، قَلبُ السماء الّذي يجذب وينثر دمه، قطرات دمه اللاماديّة الّتي لا تُحصَى: الطوباويّون، الملائكة، كلّ ما هو الفردوس: الحُبّ الإلهيّ، حُبّ الله، كلّ هذا هو النور الّذي هو، الذي يُكَوّن المسيح القائم مِن الموت.

 

عندما يتحرّك، متوجّهاً نحو المخرج، وتتمكّن العين مِن أن ترى ما وراء بهائه، نوران جميلان جدّاً، إنّما شبيهان بنجمتين بالمقارنة مع الشمس، يتبدّيان لي، أحدهما مِن جهة، والآخر مِن الجهة الأخرى مِن العتبة، ساجِدَين عبادة لإلههما، الّذي يمرّ مُحاطاً بنوره، مغتبطاً في ابتسامته. ويخرج، تاركاً مغارة الدفن، وعائداً ليطأ الأرض، الّتي يُوقِظها الفرح وتتألق بكلّيتها في نداها، في ألوان الأعشاب وأشجار الورد، في تويجات أشجار التفّاح ‏الّتي لا تُحصى، والّتي تتفتّح بمعجزة لأوّل شمس تُقبّلها وللشمس الأبديّة الّتي تتقدّم تحتها.

 

الحرّاس هناك، مغشيّاً عليهم... قوى الإنسان الفاسدة لا ترى الله، فيما قوى الكون الطاهرة -الزهور، الأعشاب، الطيور- تبتهج بالقدير وتُبجّله، هو الّذي يَعبُر مُحاطاً بهالةٍ مِن نوره الخاص، وفي هالةٍ مِن نورٍ شمسيّ.

 

أمام ابتسامته، وتحت نظره الملقى على الزهور، على الأغصان، والذي يرتفع نحو السماء الصافية، كلّ شيء يزداد جمالاً. وملايين التُويجات الّتي تؤلّف زَبَداً مُزهِراً فوق رأس الظافر تتّخذ صبغة أكثر حريرية وأكثر تلوّناً. لآلئ الندى تصبح أكثر حيوية. والسماء الّتي تعكسها عيناه المشعّتان تغدو أكثر زُرقة، وأكثر مرحاً هي الشمس الّتي ترسم ببهجة غيمة صغيرة تحملها ريح خفيفة، الّتي تأتي لتُقبّل مَلِكها محمّلة بالعطور المختطفة من البساتين، ومن ملامسات التُويجات الحريريّة.

 

يرفع يسوع يده ويُبارِك، ومِن ثمّ، وفيما الطيور تغرّد بصوتٍ أعلى والهواء يعبق بعطره، يختفي عن ناظِريَّ، تاركاً إيّاي في بهجة كافية لأن تمحو حتّى أقلّ ذكرى حزن ومُعاناة وتردّد حيال الغد…