ج3 - ف31
أَنَا هُوَ
ماريا فالتورتا
L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO
THE GOSPEL AS REVEALED TO ME
بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}
L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ
MARIA VALTORTA
الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.
الجزء الثالث / القسم الأول
31- (العِظَة على الجبل: "التطويبات II")
25 / 05 / 1945
ما زال المكان ذاته والزمان ذاته. والحشد كذلك، إنّما أكثر عدداً. في أحد الأركان، بالقرب مِن عرقوب، هناك أحد الرومانيّين، يَستَمِع كما لو كان يريد ذلك إنّما دون التسبّب في عداء الجمهور، أَتَعرَّف عليه مِن ثوبه القصير ومعطفه المختلف. استفانوس وهَرْماس ما يزالان هناك.
يعود يسوع إلى مكانه ببطء ويعاود الكلام.
«لِما قُلتُه في الأمس، ينبغي لكم ألاّ تُفكِّروا بأنّني إنّما أتيتُ لِأُبطِل الشريعة. لا. فقط باعتباري ابن الإنسان وأُدرِك مواطن ضعف الإنسان، أردتُ تشجيعكم وحثّكم على اتِّباعها مُوجِّهاً نظركم الروحيّ، ليس صوب الهوّة المظلِمة، بل صوب الغَور المضيء. لأنّه، إذا كان الخوف مِن العقاب يمكنه أن يَضبط بنسبة ثلاثة إلى عشرة، فالتأكّد مِن الثواب يمنحكم الدفع بنسبة سبعة إلى عشرة. فالثقة إذاً أكثر فعاليّة مِن الخوف. وأريدها أن تكون لكم كاملة ومؤكَّدَة، لتتمكّنوا مِن تحقيق ليس سبعة أجزاء مِن عشرة مِن الخير، إنّما عشرة أجزاء مِن عشرة، واكتساب ذلك الثواب الكلّيّ القداسة الذي هو السماء.
لستُ أُغيِّر حرفاً مِن الشريعة. ومَن الذي أعطاها وَسط الصواعق في سيناء؟ العليّ.
مَن هو العليّ؟ الله الواحد والثالوث.
مِن أين أَخَذَها؟ مِن فِكره.
كيف أعطاها؟ بِكَلِمته.
لماذا أعطاها؟ بسبب حبّه. تَرَون إذاً أنّ الثالوث كان حاضراً. والكَلِمَة، المطيع، كما على الدوام للفِكر والحبّ، تَكَلَّمَ باسم الفِكر والحبّ.
هل يمكنني تكذيب نفسي؟ لا. لا يمكنني ذلك. ولكنّني أستطيع، لأنّني قادر على كلّ شيء، إتمام الشريعة، جَعلها كاملة بشكل إلهيّ، ليس كما جَعَلَها الناس الذين جَعَلوها على مرّ العصور، لا كاملة، بل فقط لا يمكن فكّ رموزها، وغير قابلة للتنفيذ، بأن كَدَّسوا عليها شرائع وأنظمة، وأنظمة وتشريعات، مُستَنبَطَة مِن فِكرهم، بما يتماشى مع مصالحهم بشكل يؤدّي إلى رجم وخنق، بل إلى دفن الشريعة المعطاة مِن الله وجعلها عقيمة. هل يمكن لنبتة أن تستمرّ في النموّ إذا ما اجتاحَتها بشكل متواصل الانهيارات والأنقاض والفيضانات؟ لا. بل تموت النبتة. كما ماتت الشريعة في قلوب الكثيرين، مُختَنِقة تحت انهيارات الكثير مِن التراكمات والإضافات. وها قد أتيتُ لأنزعها كلّها، والشريعة حالما تَخرُج مِن القبر، حالما تَنبَعِث، ستراني أجعل منها ليس فقط شريعة، بل مَلِكَة.
الـمَلِكات هُنَّ اللواتي يُصدِرن الشرائع. التشريعات عَمَل الـمَلِكات. وأنا على العكس، أجعل مِن الشريعة مَلِكَة: أُتمّمها، أُتوِّجها بوضع إكليل المشورات الإنجيليّة على رأسها. في السابق كان إصدار الأمر. الآن أكثر مِن الأمر. في السابق كان الـمُحَتَّم، والآن أكثر مِن الـمُحَتَّم. الآن هو الكمال. مَن يلتزم بالشريعة كما أُعطيكُموها، فهو الآن مَلِك، لأنّه أَدْرَكَ "الكمال"، ذلك أنّه لم يكن طائعاً فقط، ولكنّه بطوليّ، يعني قدّيس. فالقداسة هي مجموع الفضائل محمولة إلى أعلى قمّة يمكن الإنسان بلوغها، فضائل محبوبة ببطولة، ومخدومة بالتجرّد الكامل مِن كلّ ما هو تَوق أو إمعان بشريّ لأيّ شيء كان. ويمكنني القول إنّ القدّيس هو مَن يتناقَض لديه الحبّ مع الشهوة، مِن أيّة وِجهة ليست الله. وذلك بعدم كونه شارد الذهن في وجهات دنيا، وبكون عينيّ قلبه ثابِتَتَين على التألّق الكلّيّ القداسة الذي هو الله، وفيه يَرَى، لأنّ في الله كلّ شيء، يَرَى الإخوة الذين يَضطَرِبون ويمدّون أيديهم المتوسِّلة، ودون أن يشيح بعينيه عن الله، يَفتَح قلبه لإخوته المتوسِّلين. وضدّ الجسد، ضدّ الثروات، ضدّ الرَّفاه، ينتَصِب مَثَله الأعلى: الخدمة. هل القدّيس كائن مسكين؟ أهو كائن مَنقوص؟ لا. بل هو قد تَوَصَّلَ إلى امتلاك الحكمة الحقيقيّة والغنى الحقيقيّ. إنّه إذن يمتلك كلّ شيء. ولا يحسّ بالتعب، لأنّه إذا كان حقيقيّاً أنّه لا يَكفّ عن الإنتاج، فهو صحيح كذلك أنّه لا يَكفّ عن التغذية. لأنّه إذا كان صحيحاً أنّه يُدرِك ألم العالم، فهو صحيح أيضاً أنّه يتغذى مِن فَرَح السماء. فَمِن الله يأتيه غذاؤه، وفي الله فرحه. إنّه الإنسان الذي فَهِم معنى الحياة.
كما تَرَون، فأنا لا أُبدِّل ولا أُنقِص الشريعة، كما لا أُفسِدها بأن أُكدِّس عليها نظريّات بشريّة تتخمّر على الدوام. بل أنا أُتمِّها. إنّها على وضعها، وستبقى هكذا حتّى آخر الأزمنة، دون أن تتغيّر كلمة واحدة ولا حذف وصيّة واحدة. ولكنّها ستكون مُكَلَّلَة بالكمال. للحصول على الخلاص يكفي قبولها كما أُعطِيَت. للاتّحاد بالله مباشرة يجب أن تُعاش بالأسلوب الذي أَنصَح به. ولكن بما أنّ الأبطال هُم استثناء، فسأتّحدث إلى النُّفوس العاديّة، إلى الأغلبيّة مِن النُّفوس، لكيلا يُقال إنّه، بغية طَلَب الكمال، فقد أَبقَى الضروريّ مجهولاً. حينئذ، احفَظوا جيّداً هذا الذي أقوله لكم: مَن يسمح لنفسه بانتهاك إحدى أصغر تلك الوصايا، فسوف يُعتَبَر الأصغر في ملكوت السماوات. ومَن يَجعَل غيره يَنتَهِكها، يُعتَبَر الأكثر صُغراً مِن أجل ذاته ومِن أجل الذين جَعَلَهم يَنتَهِكونها. وعلى العكس، فإنّ مَن يحثّ الآخرين على طاعتها بحياته وبأفعاله أكثر مِن أقواله، فهذا يُعتَبَر عظيماً في ملكوت السماوات، وتتعاظم عَظَمَته مِن أجل كلّ واحد مِن الذين حَمَلَهُم على الطاعة وعلى التَقَدُّس بتلك الطريقة. أعرف أن ما سوف أقوله سيكون غير مقبول مِن قِبَل عدد كبير. ولكنّني لا أستطيع الكذب حتى ولو كانت الحقيقة التي سأقولها ستخلق لي الأعداء.
الحقّ أقول لكم، إنْ لم يَعُد برّكم ليُولَدَ مِن جديد، مُتجَرِّداً تماماً مِن ذلك الشيء المسكين الذي سُمّي ظلماً "البرّ"، ذاك الذي للكَتَبَة والفرّيسيّين، إن لم تكونوا بحقّ أكثر برّاً مِن الفرّيسيّين والكَتَبَة الذين يعتقدون أنفسهم كذلك، بتكديسهم الصِّيَغ إنّما دون تغيير أرواحهم بعمق، فلن تَدخُلوا ملكوت السماوات.
احذَروا مِن الأنبياء الكَذَبَة الذين يُعَلِّمون الغَلَط. يأتونكم كالحِملان وهُم ذِئاب خاطِفة. يأتونكم بمَظهَر مِن القداسة ويَسخَرون مِن الله. يَدَّعُون حبّ الحقّ ويتغذّون على الكذب. ادرُسوهم قبل اتِّباعِهم.
للإنسان لسان للكلام، وعينان للنَّظَر ويدان للقيام بالحركات. إنّما هناك شيء آخر يَشهَد أكثر وبحقّ على ما هو في الحقيقة: أفعاله. ماذا تريدون مِن يدين مضمومتين للصلاة أن تكونا، إذا كان الإنسان بعد ذلك سارقاً وفاسقاً؟ ومِن عينين أن تكونا، إذا كانتا، وهما تريدان التظاهر بالإلهام، تتلوَّيان في كلّ الجهات، وبعد ذلك، في حال انتهاء زمن الكوميديا، تَستَمتِعان بالنَّظَر بلهفة إلى المرأة، أو بالعَدْو في رغبة عارمة مِن الفِسق والإجرام؟ وماذا تريدون مِن لسان يَعرِف أن يُرتِّل أناشيد التسبيح الكاذبة، ويُغري بالكلام المعسول، بينما بعدئذ يفتري عليكم ويستَغيبكم، وهو قادر على أن يَحلِف كَذِباً ليحوّلكم إلى أناس حقيرين؟ ماذا يكون اللسان الذي يتلو صلوات نِفاقيّة طويلة، ويمضي بعد ذلك لقتل سمعة وتلويث صِيت القريب أو تضليل نيّته الحسنة؟ إنّه ممقوت! ممقوتة هي العيون والأيدي التي تكذب. ولكن أفعال الإنسان، الأفعال الحقيقيّة، أي أسلوبه في التصرّف ضمن العائلة، في التجارة وتجاه القريب والخُدَّام، هي التي تشهد: "هذا خادم الربّ". إذ إنّ الأفعال المقدَّسة هي ثمرة ديانة حقيقيّة.
الشجرة الطيّبة لا تَطرَح ثماراً فاسدة، والشجرة الفاسدة لا تُثمِر ثماراً طيّبة. هل يمكن للعوسج الشائك أن يَطرَح عِنباً لذيذاً؟ والعلّيق الأكثر شوكاً، هل يمكنه طرح تين شهيّ؟ لا، في الحقيقة إنّكم لا تجنون مِن الأولى سوى بعض التوت المقبول بعض الشيء، وتلك الثمار التي تطرحها الزهرات الشائكة غير صالحة للأكل، رغم كونها زهرات. والإنسان غير البارّ، الظالم، يمكن لمظهره أن يوحي بالاحترام، إنّما بذلك فقط. حتى ذلك العلّيق الريشيّ، فإنّه يبدو كباقة مِن خيوط الفضّة الناعمة جدّاً وقد رَصَّعَها الندى بالماس. ولكن، لو لمستموه، بغفلة منكم، لوجدتم أنّ تلك الباقة ليست سوى كتلة شائكة تُسبّب لكم الألم، وهي ضارّة بالنِّعاج. وكذلك الرُّعاة يَنتَزِعونها ويرمونها في النار المتأجّجة أثناء الليل، حتّى لا تفلت البذور مِن الهلاك. مقياس مُناسِب للتبصّر والاحتراز. أنا، لا أقول لكم: "اقتُلوا الأنبياء الكَذَبَة والمؤمنين المنافِقين". على العكس، أنا أقول لكم: "دعوا المهمّة لله". ولكنّني أقول لكم: "تنبّهوا، ابتعدوا عنهم لكيلا تَتَسَمَّموا بعصارتهم".
كيف ينبغي أن يُحَبَّ الله، قُلتُ ذلك في الأمس. وأُصِرُّ على الأسلوب الذي ينبغي أن نحبّ به القريب.
قديماً قيل: "أَحبِب صديقكَ واكرَه عدوّكَ". لا. لا، ليس كذلك. كان يَصلح هذا في الأزمنة التي لم يكن الإنسان فيها قد حَصَلَ على التعزية مِن ابتسامة الله. أمّا الآن، فلقد حَلَّت أزمنة حديثة، أزمنة أَحَبَّ الله الإنسان فيها كثيراً، حتّى إنّه أَرسَلَ له كَلِمته ليفتديه. والكَلِمَة يتحدَّث الآن، والنِّعمة أَضحَت تَنتَشِر. ومِن ثمّ، فسوف يُتمِّم الكَلِمَة ذبيحة السلام والفِداء، ولن تكون النِّعمة مُنتَشِرة وحسب، بل سوف تُمنَح لكلّ نَفْس تؤمِن بالمسيح. لذلك يجب الارتقاء بحبّ القريب إلى الكمال الذي لا يُفرِّق بين صديق وعدوّ.
أيُفتَرى عليكم؟ أَحِبّوا وسامِحوا. أَتُضرَبون؟ أَحِبّوا وحَوِّلوا الخَدَّ الآخر لِمَن يصفعكم، وأنتم تفكّرون أنّه مِن الأفضل أن يَتطَاوَل الغضب عليكم أنتم، يا مَن تَعرفون كيف تتحمّلونه، مِن أن يتطاول على آخر قد يَنتَقِم للإهانة. أَتُسرَقون؟ فلا تُفكِّروا: "قريبي جَشِع". ولكن فَكِّروا بمحبّة: "أخي المسكين محتاج". وإذا ما أَخَذَ منكم الثوب فأعطوه الرِّداء أيضاً. فإنّكم بذلك تَضَعونه في موقف يستحيل معه تكرار السرقة، لأنّه لن يكون في حاجة إلى سَرِقَة ثوب إنسان آخر. وتقولون: "قد يكون ذلك مِن قبيل الرذيلة لا الحاجة". حسناً، ومع ذلك أعطوه إيّاه. وسيكافئكم الله، وسَيُكفِّر الظالم عن خطيئته. إنما في الأغلب، وهذا يذكِّر بما قُلتُه في الأمس عن الوداعة. وحينما يرى الخاطئ نفسه مُعامَلاً هكذا، سيُقلِع عن رذيلته، ويُكفِّر عن ذنبه، وتعويضاً عن السرقة يُعيد المسروق.
كونوا كُرَماء تجاه الذين، بأكثر نزاهة، يسألونكم حاجَتَهم بدل سَرِقَتكم. لو كان الأغنياء فقراء بالروح حقيقة، كما عَلَّمتُكم أمس، لما وُجِدَت تلك التباينات الاجتماعيّة المؤلمة، وهي سبب الكثير مِن المآسي البشريّة والفائقة البشر. فَكِّروا على الدوام: "ولكن لو كنتُ أنا المحتاج، فما الأثر الذي يُخلِّفه لي رفض العون؟" وبحسب الإجابة تصرَّفوا. افعَلوا للآخَرين ما تريدون أن يَفعَله الآخرون لكم، ولا تفعلوا للآخرين ما لا تريدون أن يفعلوه لكم.
الـمَقولة القديمة: "العين بالعين، والسن بالسن" ليسَت ضِمن الوصايا العشر، ولكنّها أُضيفَت لأنّ الإنسان المحروم مِن النِّعمة شَرِس، لدرجة لا يُدرِك معها أنّ الانتقام شَرّ. وقد أُلغِيَت، بكلّ تأكيد أُلغِيَت بالمقولة الجديدة: "أَحبِب مُبغِضكَ وبارِك لاعِنَكَ، بَرِّر مَن يفتري عليكَ، صَلِّ مِن أجل مضطَهِدكَ، وأَحسِن إلى المسيء إليكَ، كُن مُسالِماً مع الـمُشاكِس، ومُتنازِلاً مَع مَن يُثقِل عليكَ، ومُعيناً لِمُلتَمِسكَ عن طيب خاطر. لا تكن مُرابياً، لا تَنتَقِد ولا تَحكُم". لا تَعرفون دوافع أفعال الناس. في كلّ أنواع العَون كونوا كُرماء وكونوا رُحَماء. وكلّما أَعطَيتم أكثر تُعْطَون أكثر، وسيُفرِغ الله في حضن الإنسان الكريم مكيالاً مليئاً ومَحشوّاً. سيعطيكم الله، ليس فقط مِن أجل الذي أعطيتمُوه، إنّما أكثر وأكثر. حاوِلوا أن تحبّوا وأن تكونوا محبوبين. القضيّة تُكَلِّف أكثر مِن التسوية الودّية، وطِيب الخاطر مثل العسل الذي يدوم طعمه على اللسان طويلاً.
أحِبّوا، أحِبّوا! أحِبّوا الأصدقاء والأعداء، لِتَكونوا شبيهين بأبيكم الذي يُنـزِل المطر على الأخيار والأشرار، ويُشرِق شمسه على الأبرار والفُجَّار، مُرجِئاً مَنحَ الندى والشمس الأزليَّين، والنار والبَرَد الجهنّميَّين إلى حين يُفرَز الأخيار كالسنابل المختارة، في غمار جني المحصول. لا يكفي أن تحبّوا الذين يحبّونكم، والذين تأملون منهم المقابل. فذلك لا أجر له: إنّه فرح، وحتّى الناس النـزيهين بشكل طبيعيّ يعرفون أن يفعلوا ذلك، والعشّارون والوثنيّون يفعلونه كذلك. إنّما أنتم فأحِبّوا على شاكلة الله، وأحِبّوا احتراماً لله الخالق، حتّى مَن هُم أعداء لكم أو قليلو الظُرف. أريد فيكم كمال الحبّ، ولأجل ذلك أقول لكم: "كونوا كاملين كما أنّ أباكم السماويّ هو كامل".إنّ وصيّة حُبّ القريب عظيمة جدّاً، ولإتقان وصيّة حبّ القريب، لن أقول لكم كما قيل سابقاً: "لا تقتل" لأنّ مَن يقتل يُحكم عليه مِن البشر، إنّما أقول لكم: "لا تَغضَبوا" لأنّكم بذلك تَخضَعون لقضاء أكثر سموّاً، يَأخُذ بعين الاعتبار الأفعال غير الماديّة. مَن يُحَقِّر أخاه يُحكَم عليه مِن المجمع، ولكن الذي يُعامِله كمجنون، وبذلك يَرتَكِب الإساءة، فذاك يُدان مِن الله. باطِلة هي تقدمة القرابين للهيكل إذا لم تتمّ التضحية مُسبَقاً، ومِن عمق القلب، بالأحقاد الشخصيّة مِن أجل حبّ الله، وإذا لم يُمارَس الطقس المقدَّس: إجادة المسامحة. بالنتيجة فعندما تكون على وشك تقديم القرابين لله، وتتذكَّر أنّكَ أَسأتَ إلى أخيكَ، أو تَحمل حِقداً في قلبكَ بسبب خطيئة منه، فدع القربان أمام الهيكل، ضَحِّ أوّلاً بحبّ ذاتكَ، وذلك بمصالحتكَ مع أخيكَ، وتعال بعد ذلك إلى الهيكل، وحينئذ، وحينئذ فقط تُصبِح ذبيحتكَ مقدَّسَة. الوِفاق الحَسَن هو أفضل الأعمال. ما أوهى حُكم الإنسان، والذي يمكن أن يُفقِدَه حجّته بالعناد الشجاع أو يَفرض عليه دفع كلّ ما يملك للخصم أو إطالة إقامته في السجن.
في كلّ الأمور، ارفَعوا نظركم إلى الله. اسألوا أنفسكم: "هل أملك الحقّ في أن أفعل بالآخرين ما لا يفعله الله بي؟" فالله ليس قاسياً، بلا رحمة، ومُتعنِّتاً مثلكم. الويل لكم لو كان كذلك! فلا أحد يَخلص. وليَقُدْكم هذا التَبَصُّر إلى مشاعر وديعة ومتواضعة ومُفعَمة رحمة. وحينئذ، في هذه الدنيا، وبعد ذلك، سوف تنالون الأجر مِن الله.
هنا، أمامي، رَجُل يَكرَهني، ولا يجرؤ على القول: "اشفِني"، لأنّه يَعرِف أنّني أَعلَم ما في فِكره. إنّما أنا فأقول: "فليكن لكَ كما تشتهي، وكما تَسقُط القشور مِن عينيكَ، كذلك فلتسقط عن قلبكَ الظُّلُمات والحقد".
امضوا جميعكم مصحوبين بسلامي. وغداً سأتحدّث إليكم أيضاً.»
يَبتَعِد الناس ببطء، مُنتَظِرين ربما الإعلان عن معجزة، ولم يحصل.
حتّى الرُّسُل والتلاميذ الأكثر قِدَماً، الباقون على الجبل، يَسأَلون: «ولكن مَن كان؟ هل يمكن ألّا يكون قد شُفِيَ؟» ويُلحّون على المعلّم الواقف، ويداه مُتصالِبَتان، وهو يَنظُر إلى الناس يَنـزِلون.
إلاّ أنّ يسوع، في البدء، لا يجيب. ولكنّه بعدئذ يقول: «أمّا العينان فقد شُفِيَتا، وأمّا النَّفْس فلا. لا يمكنها ذلك لأنّها مُثقَلَة بالحقد والكراهية.»
«ولكن مَن هو؟ ألعلَّهُ ذلك الرومانيّ؟»
«لا. بل هو رجل مسكين.»
«ولماذا شَفَيتَه إذن؟» يَسأَل بطرس.
«هل ينبغي لي سَحق كلّ الذين على شاكِلَته؟»
«سيّدي... أَعلَم أنّكَ لا تريد أن أقول "نَعَم"، إذاً فلن أقولها... ولكنّني أُفكّر بها... وهذا سِيَّان...»
«الأمر ذاته، يا سمعان بن يونا، ولكنّكَ تَعلَم حينذاك... آه! كَم مِن القلوب حولي مُغلَقَة بقشور الكراهية! هيّا. ولنمضِ مباشرة إلى القمّة، لننظر مِن الأعلى إلى بحر الجليل. أنا وأنتَ، وحدنا.»