ج1 - ف33
أَنَا هُوَ
ماريا فالتورتا
L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO
THE GOSPEL AS REVEALED TO ME
بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}
L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ
MARIA VALTORTA
الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.
الجزء الأول
33- (مريم تَبوح بالاسم لأليصابات)
02 / 04 / 1944
يبدو أنّ الوقت صباح، وأرى مريم تخيط في الردهة. وأليصابات تروح وتجيء، تعتني بشؤون المنزل. كلّما دَخَلَت لا تتوانى أبداً في التوجّه إلى مريم لتمرّر يدها على رأسها الأشقر مُداعِبَة إيّاها، ويَبرز لونه الأشقر أكثر وهي قرب الجدران المظلّلة تحت شعاع جميل مِن الشمس التي تَدخُل مِن الباب المطلّ على الحديقة.
تنحني أليصابات لترى شُغل مريم -التطريز الذي بدَأَتهُ في الناصرة- والذي تعمل على إضفاء الجمال عليه.
تقول مريم: «عندي أيضاً كتّان أغزله.»
«لابنكِ؟»
«لا، لقد كان لديّ عندما لم أكن أفكّر بعد...» لم تُكمِل مريم ولكنّني أدركتُ «عندما لم أكن أفكّر بعد بأنّني سأكون أُمّ الله.»
«ولكن الآن يجب أن تستخدميه له. هل هو جميل؟ ناعم؟ فالأطفال كما تعلمين بحاجة إلى ثياب مُرهَفة جدّاً.»
«أعرف ذلك.»
«أنا كنتُ قد بدأتُ... متأخّرة، لأنّني أردتُ أن أتأكّد مِن أنّها ليست خديعة مِن الروح الشرّير. وعلى الرغم مِن... فقد اعتراني فرح عظيم لا يمكنه أن يتأتّى مِن الشيطان. ثمّ... تألّمتُ كثيراً. أنا عجوز حتّى أكون في مثل هذه الحال. لقد تألّمتُ كثيراً. وأنتِ، أفلا تتألّمين؟...»
«أنا، لا، لم أشعر يوماً مدى حياتي أنّني كنتُ أحسن حالاً مِن الآن.»
«أي نعم! أنتِ... لا عيب فيكِ، إذا كان الله قد اختاركِ لتكوني أُمّه. إذن فأنتِ لستِ خاضعة لآلام حوّاء. ثمّ إنّ الذي تحبلين به قدّوس هو.»
«يُخيّل إليَّ أنّ في قلبي أجنحة وليس ثِقلاً. يخيّل إليَّ أنّي أحمل في داخلي كلّ الزهور وكلّ العصافير التي تُغرّد في الربيع، وكذلك لذّة العسل وكلّ الشمس... آه! كم أنا سعيدة!»
«مباركة أنتِ! فأنا أيضاً منذ اللحظة التي رأيتُكِ فيها، لم أعد أشعر بثِقل ولا تعب ولا ألم. يبدو لي أنّني قد تجدَّدتُ وأصبحتُ شابّة ومُحرَّرة مِن شقاء الجسد كامرأة. فبعد أن قَفَزَ ابني مِن الفرح لدى سماعه صوتكِ، سَكَنَ مسروراً. يبدو لي أنّني أحمله في أحشائي كما في مهد حيّ، وأنّني أراه نائماً مُشبَعاً وسعيداً، يتنفّس كعصفور يستريح مطمئنّاً تحت جناح أُمّه... فالآن سأبدأ عملي، لم يعد يُتعِبني. إنّي لا أرى بوضوح، ولكن...»
«دعي عنكِ أليصابات! فأنا أفكّر أن أغزل وأن أنسج لكِ ولابنكِ. فأنا رشيقة وأرى بوضوح.»
«ولكن يجب أن تفكّري بابنكِ...»
«آه! لديّ متّسع مِن الوقت!... أفكّر أوّلاً بكِ وبابنكِ، وثمّ أفكّر بيسوعي.»
لقد كانت العبارة عذبة للغاية، وصوت مريم كان يتهلّل وهي تلفظ هذا الاسم، ثمّ تتلألأ عيناها بدموع فرح مُشرِقة بينما هي تنظر إلى السماء المضيئة واللازورديّة، هذا ما يفوق القُدرات البشريّة. يبدو أنّ النشوة قد استولت عليها ولم تعد تعي سِوى القول: «يسوع.»
فتقول أليصابات: «يا له مِن اسم جميل! اسم ابن الله، مخلّصنا!»
«آه! أليصابات!» وتتحوّل ملامح مريم لتبدو حزينة، حزينة، وتُمسِك يديّ نسيبتها التي تُصالِبهما على بطنها المنتفخ «قولي لي أنتِ يا مَن امتلأتِ مِن روح الربّ عند قدومي، وتنبّأتِ بما يجهله العالم. قولي لي: ماذا على ولدي أن يفعل ليخلّص العالم؟ الأنبياء... آه! مَن الأنبياء الذين يتكلّمون عن المخلّص! إسحاق... هل تَذكُرين إسحاق؟ "إنّه رجل الآلام، فبكدماته شُفينا نحن. لقد طُعِن وجُرِح بسبب ما اقترفنا مِن الآثام... أراد الربّ أنّ بالآلام... وبعد الحُكم رُفِع..." عن أيّ رَفع يتكلّم؟ إنّه يُدعَى حَمَلاً وأنا أفكّر... بحَمَل الفصح، حَمَل موسى، لذا فأنا أُقابِله بالحيّة التي رَفَعَها موسى على صليب. أليصابات!... أليصابات!... ماذا سيفعلون بابني؟ كيف عليه أن يتألّم ليخلّص العالم؟» وتبكي مريم.
تؤاسـيها أليصابات: «لا تبكي يا مـريم. إنّـه ابنـكِ صحيح، ولكنّـه أيضـاً ابن الله. والله سوف يفكّر بابنه وبكِ أنتِ أُمّه. وإذا ظَهَرَ كثيرون فيما بعد غليظي القلب تجاهه، فسيكون هناك كثيرون يحبّونه. كثيرون!... عَبْر قرون وقرون، سيتطلّع العالم نحو ابنكِ ويبارككِ معه، أنتِ: النبع الذي منه ينبع الفِداء. ومصير ابنكِ! إنّه مرتفع إلى درجة الـمَلِك على كلّ الخليقة. فكّري بهذا يا مريم. مَلِك: لأنّه سيفتدي كلّ ما كان قد خُلِق، ولهذا سيصبح الملك الكونيّ. وأيضاً سيكون محبوباً على الأرض عبر الأزمنة. ابني سيسبق ابنكِ ويحبّه. وهذا ما قاله الملاك لزكريّا وهو قد كَتَبَه لي... آه! يا له مِن ألم أن أراه صامتاً، زوجي زكريّا! ولكنّني أرجو، لدى ولادة ابني، أن يتحرّر الأب أيضاً مِن القَصاص الذي وَقَعَ عليه. صلّي معي أنتِ يا عرش قُدرة الله وسبب فرح العالم. ولكي أنال ذلك أُقدّم، بالقدر الذي أستطيعه، وليدي للربّ. إنّه له فعلاً وقد أعارَه لخادمته ليهبها الفرح بسماع مَن يدعوها "أُمّاً". وتلك هي الشهادة لما فَعَلَهُ الله مِن أجلي. أريد تسميتَه "يوحنّا". أليس ابني نعمة أم هو صدفة؟ أوليس الله هو الذي صَنَعَ بي ذلك؟»
«أنا واثقة تماماً بأنّ الله سيمنحكِ هذه النعمة. سأصلّي... معكِ.»
«أَحزَن كثيراً لرؤيتي إيّاه أَبكَم!...» وتبكي أليصابات. «وعندما يكتب لأنّه لا يستطيع الكلام، يخيّل إليَّ أنّ هناك جبالاً وبحوراً بيني وبين زكريّا. فبعد سنوات كثيرة مِن الكلام العَذب يبقى فمه الآن صامتاً. الآن بشكل خاصّ حيث لا شيء أجمل مِن الكلام عما سيحصل. أَمتَنِع حتّى عن الكلام لكي لا أراه يُجهِد نفسه بالحركات ليُجيبني. لقد بكيتُ كثيراً! لقد انتظرتكِ طويلاً! البلدة تَنظُر، تُثرثر وتنتقد. هكذا هو العالم! وعندما يكون هناك حزن أو فرح فالحاجة تكون ماسّة للتفهّم وليس للانتقاد. الآن يبدو لي أنّ الحياة ستكون أفضل بكاملها. أُحِسّ بالفرح يملأني منذ أن أصبَحتِ معي. أُحِسّ بأنّ اختباري سيمرّ وسأصبح قريباً سعيدة تماماً. سيكون هذا، أليس كذلك؟ إني مُذعِنة لكلّ شيء. ولكن ليت الله يصفح عن زوجي! للتمكّن مِن سماعه يصلّي كما في السابق!»
تُلاطِفها مريم وتواسيها، ثمّ، ولكي تسلّيها، تدعوها إلى نزهة في الحديقة الـمُشمِسة. وتذهبان معاً تحت عريشة منصوبة جيّداً، وتَصِلان إلى برج ريفيّ اتَّخَذَت طيور الحمام أعشاشاً في تجاويفه.
تَنثر مريم الحبوب وهي تضحك، وطيور الحمام تتهافت عليها مع الهديل وتطير حولها بشكل دائريّ. وتقف على رأسها وكتفيها وذراعيها مادَّة مناقيرها الورديّة لالتقاط الحبوب مِن تجاويف يديها، ناقرة بلطف شَفَتيّ العذراء الورديّتين وأسنانها التي تلمع في الشمس. تُخرِج مريم حبوباً شقراء مِن كيس معها وتضحك وسط هذه المنافسة العامرة على النَّهَم.
تقول أليصابات: «كم تحبّكِ! لم يمض على وجودكِ معنا بضعة أيّام وهي تحبّكِ أكثر منّي، أنا التي أعتني بها بشكل دائم.»
تستمرّ النزهة إلى أن تَصِلا إلى سياج مُغلَق في نهاية البستان حيث توجد عشرون عنزة مع جِدائها.
«هل أنتَ عائد مِن المرعى؟» تقول مريم وهي تُداعِب راعياً صغيراً.
«نعم، فأبي قال لي: "اذهب إلى البيت لأنّ المطر سينهمر قريباً، وهناك حيوانات ستضع صغارها، فاهتمّ بتأمين العشب اليابس لها واجعل مهد قشّ قريباً منها؛ ها هو آت.» ويُشير إلى ما وراء غابة يأتي منها ثغاء مُرتَعِش.
تُداعِب مريم جَدياً أشقر كطفل يحتكّ بها، وتَشرَب مع أليصابات حليباً طازجاً حَلَبَه الراعي الصغير وقدّمه لهما.
يَصِل القطيع برفقة راعٍ ضخم مثل دبّ، إنّما يبدو أنّه رجل طيّب، فقد كان يحمل على كتفيه عنزة تئنّ، ويضعها على الأرض بلطف ويقول مُفسّراً: «سوف تَلِد ولم تعد تستطيع السير إلّا بصعوبة، فحَمَلتُها على كتفي ومشيتُ بسرعة لأصل بها في الوقت المناسب.» ثمّ يقود الولد العنزة التي تتعثّر متألّمة، إلى الحظيرة.
تَجلس مريم على صخرة تَلعَب مع الحِملان والجِّداء وهي تُقَرِّب زهر النفل مِن أفواهها الورديّة. ويَرفَع جَدي أبيض وأسود قائمتيه الأماميّتين ويضعهما على كتفيها ويشمّ شعرها فتقول له مريم وهي تضحك: «هذا ليس خبزاً، غداً سأجلب لكَ قطعة خبز. اهدأ الآن.»
وأَخَذَت أليصابات التي استعادت هدوءها تضحك.