ج4 - ف109
أَنَا هُوَ
ماريا فالتورتا
L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO
THE GOSPEL AS REVEALED TO ME
بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}
L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ
MARIA VALTORTA
الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.
الجزء الرابع / القسم الأول
109- (السبت في مَجْمَع الناصرة)
07 / 08 / 1945
مجمع الناصرة من جديد، في يوم السبت.
يروي يسوع سيرة أبيمالك (Abimelech)، ويختم بهذه العبارات: "فلتخرج منه نار ولِتلتَهِم أرز لبنان" (انظر سِفر القضاة-أصحاح 9). ثمّ يُعيد اللُّفافة إلى رئيس المجمع.
«أَلَا تقرأ الباقي؟ إنّ ذلك مُهمّ لِفَهم الحكاية.» يقول هذا الأخير.
«لا ضرورة لذلك. فَزَمَن أبيمالك بعيد جدّاً. وأنا أُطبِّق حكاية قديمة في هذا الزمن. اسمعوا يا أبناء الناصرة:
أَصبَحتُم تَعلَمون، مِن خلال تَعليم رئيس مجمعكم، تطبيقات حكاية أبيمالك. بالفعل، فلقد تَثقَّفَ في زمانه على يد رابّي، وذاك على يد آخر، وهكذا دواليك على مرّ العصور، ودائماً بالأسلوب ذاته، والنتائج ذاتها.
أمّا مِنّي أنا، فَسَتَسمَعون تطبيقاً آخر. وبالتالي، أرجوكم أن تُجيدوا تحكيم عقلكم وفكركم، وألّا تكونوا مِثل الحِبال الموضوعة على بَكَرة البئر، والتي طالما هي غير بالية، تَمضي مِن البَكَرة إلى الماء، ومِن الماء إلى البَكَرة، دون تمكُّنها مِن التبدُّل أبداً. والإنسان ليس حبلاً مربوطاً، ولا أداة ميكانيكيّة. بل إنّ الإنسان يتمتّع بعقل ذكيّ، وعليه استخدامه بذاته حسب الحاجات والظروف.
وإذا كانت رسالة الكلمة أزليّة، فإنّ الظروف متبدِّلة. وبِئس المعِلّمين الذين لا يَعرفون تقبُّل عناء استخراج عِبرة جديدة، مُرضِية، في كلّ مرّة، أيّ الروح الكامن على الدوام في الكلام القديم والحكيم. فإنّهم سيبقون شبيهين بالصدى الذي لا يمكنه سوى ترديد الكلمة ذاتها عشرات وعشرات المرّات، دون إضافة أيّ شيء مِن عندهم.
الأشجار، يعني الإنسانيّة، وتُمثِّلها الغابة حيث هي الأشجار والشجيرات والعشب، تَشعُر بالحاجة لأن يقودها امرؤ يأخذ على عاتقه الأمجاد كلّها، إنّما كذلك، وهذا له ثِقل أكثر مِن كلّ مسؤوليّات السُّلطة، أن يكون المرء مسؤولاً عن سعادة أو تعاسة مرؤوسيه، مسؤولاً تجاه مرؤوسيه، تجاه الشعوب المجاورة، وما هو مريع، هو أن يكون مسؤولاً تجاه الله. ذلك أنّ التِّيجان أو المراتِب الاجتماعيّة العالية، مهما تكن، فهي ممنوحة مِن بشر، هذا صحيح، إنّما بإذن مِن الله، وهذا ما يفسّر التغيّرات غير المتوقَّعة، والتي لا تخطر على بال، للسلالات الملكيّة التي كانت تبدو أزليّة وبقُدرات لا تُمَسّ، والتي، عندما تجاوَزَت الحدّ في دورها في قصاص واختبار الشعوب، أُسقِطَت بواسطتهم، بإذن مِن الله، وتحوَّلَت إلى مجرّد غُبار، وأحياناً حَمأة في بؤرة فساد.
قُلتُ: تَشعُر الشُّعوب بالحاجة إلى اختيار مَن يتحمّل كلّ المسؤوليّات تجاه الأفراد، تجاه البلدان المجاورة وتجاه الله، وهذا هو المريع أكثر.
حُكم التاريخ رهيب. وعبثاً تُحاوِل مصالح الشعوب تغييره، ذلك أنّ الأحداث والشعوب المستقبليّة سَتُعيده إلى حقيقته الأولى. رهيب هو، ولكنّ حُكم الله أكثر قَسوة، ولا تُمارَس عليه أيّة ضغوط، وهو ليس موضوع تبدّلات مزاج أو حُكم، كما هُم الناس في الأغلب، وهو أيضاً غير قابل للخطأ في الحُكم. فيجب إذاً على المختارين، لكي يكونوا زعماء الشعوب وصانعي التاريخ أن يتصرّفوا بالعدل البطوليّ الخاصّ بالقدّيسين، كي لا يَلحَق بهم العار في العصور المقبلة، ويعاقبهم الله في دهر الدهور.
ولكن فَلنَعُد إلى حكاية أبيمالك.
أرادَت الأشجار، إذن، اختيار مَلِك، وذَهَبَت تبحث عن شجرة الزيتون. ولكنّ هذه الأخيرة، الشجرة المقدّسة والمكرَّسة لاستخدامات فائقة الطبيعة، بسبب الزيت الذي يَشتَعِل أمام الربّ، والمكانة التي لها في العُشور والذَّبائح، التي تهيّئ زيتها لِصُنع الطِّيب المقدَّس، مِن أجل مسح الهيكل والكَهَنَة والملوك، وهي تَنـزل في الأجساد أو على الأجساد المريضة بخصائص، أقول، صانعة معجزات؛ أجابَت: "كيف يمكنني التقصير في دعوتي المقدَّسة والفائقة الطبيعة، لأهبط إلى الأمّور الأرضيّة؟"
آه! يا لإجابة شجرة الزيتون الرائعة!
لماذا لَم يتعلَّمها ويُمارِسها كلّ الذين يختارهم الله لرسالة مقدَّسة، أَقلَّه هم، أقول أَقلَّه؟ لأنّه، في الحقيقة، يجب أن يقولها كلّ إنسان لدى الردّ على اقتراحات الشيطان، باعتبار أنّ كلّ إنسان هو مَلِك وابن لله، وقد مُنِحَ نَفْساً تجعله مَلَكيّاً وإلهيّا بالبنوّة، مَدعوّاً إلى مصير فائق الطبيعة. له نَفْس هي هيكل ومَقام. الهيكل لله، والمقام هو حيث ينـزل أب السماوات لِتَقبُّل الحبّ والإجلال مِمَّن هُم ابن ومرؤوس. لكلّ إنسان نَفْس، وكلّ نَفْس، كونها هيكلاً، تجعل مِن الإنسان الذي يحويها كاهناً، حارساً للهيكل. وقد قيل في سِفر الأحبار: "أمّا الكاهن فلا يَفسَد".
على الإنسان إذاً أن يَرُدَّ على تجربة الشيطان والعالم والجسد: "هل يمكنني الإحجام عن كوني روحيّاً للاهتمام بالأمور المادّيّة التي تحمل على ارتكاب الخطيئة؟"
حينئذ ذَهَبَت الأشجار تطلب شجرة التين، داعية إيّاها للسِّيادة عليها. ولكنّ شجرة التين أجابت: "كيف يمكنني التخلّي عن نعومتي وفاكهتي اللذيذة لأصبح مَلِكَكُم؟"
كثيرون هُم الذين يتوجّهون إلى الوديع لِجَعله مَلِكاً، ليس إعجاباً وتقديراً لوداعته، بِقَدر ما يَأمَلون أنّه، لوداعته، يَخلُص إلى أن يُصبِح مَلِك مَلهَاة يُنتَظَر منه كلّ رِضى، ويمكن معه للمرء أن يُجيز لنفسه كلّ الحرّيّات.
ولكنّ الوداعة ليست ضُعفاً، بل هي الصَّلاح. إنّها ذكيّة وحازمة. لا تَخلُطوا أبداً بين الوداعة والضَّعف. الأولى فضيلة والأُخرى عَيب. ولأنّها فضيلة، فهي تَبلُغ بالذي يمتلكها إلى استقامة ضمير تؤهِّله لمقاومة الإثارة والغِواية البشريّة، الدَّائِبة على تحويله إلى مصالحها التي لا تتماشى ومصالح الله. فهي تَظَلّ أمينة وفيّة لِقَدَرها بأيّ ثمن.
لن يكون الوديع أبداً خَشِناً في رفض تأنيب الآخرين له. لن يكون أبداً قاسياً في إقصاء الذي يَطلبه. بل بتسامحه وابتسامته يقول على الدوام: "أخي، دعني إلى مصيري الوديع. فأنا هنا لِأُعزّيكَ وأساعدكَ، إنّما لا يمكنني أن أُصبِح مَلِكاً بالشكل الذي تتطلَّع إليه، لأنّ هَمّي واهتمامي بملكوت وحيد، ملكوت الروح، هُما مِن أجل نفسي ونفسكَ".
ومَضَت الأشجار في طَلَب الكَرمة، لِتَطلب منها أن تكون مَلِكاً عليها. ولكنّ الكَرمَة أجابت: "كيف يمكنني التخلّي عن البهجة والقوّة لأصبح مَلِكَكُم؟"
أن يكون المرء مَلِكاً، يؤدّي دائماً إلى ظُلمة الروح، بسبب المسؤوليّة وتَبكيت الضمير، ذلك أنّ مَلِكاً دون خطيئة وتبكيت ضمير أكثر نُدرة مِن ماسة سوداء. فالسُّلطة تُفسِد بقدر ما تَلمَع مِن البعيد مِثل منارة، إنّما حينما يَصِل المرء إليها يَرى أنّها ليست سوى نور يَراعة (حشرة تُضيء في الظلام) وليست نور نَجم.
وأيضاً: السُّلطة ليست سوى قوّة مربوطة بألف حبل إلى ألف مصلحة هائجة حول مَلِك. مصالح الحُلَفاء، المصالح الشخصيّة ومصالح الأهل. كَم مِن الملوك يُقسِمون، بينما يكرِّسهم الزيت: "أنا سأكون متجرِّداً"، وبعد ذلك، لا يَعرفون أن يكونوا كذلك؟ مِثلهم مِثل شجرة ضخمة، لا تثور لدى أوَّل عِناق مِن نبتة لبلاب ليّنة وناعمة، قائلة لنفسها: "إنّها ضعيفة لدرجة لا تستطيع معها إيذائي"، حتّى إنّها تُسَرّ بأن تُطوِّقها وتكون هي دعامتها التي تَسنُدها في نموّها، وغالباً، يمكنني القول: إنّ الـمَلِك يُذعِن دائماً لأوّل عِناق مَصلَحة لحاشية أو لحليف أو لشخصه أو أهله يتوجّه إليه، ويُسَرّ بأن يكون له حافظاً كريماً. وعندما يَصرُخ الضمير: "احتَرِس". يُجيبه: "هذا أضعف الإيمان!" ويعتقد أنّ ذلك لا يمكنه أن يُلحِق الأذى لا في سلطانه ولا في سُمعته. والشجرة تَظنّ كذلك. ولكن يأتي يوم ينمو فيه الغصن بعد الغصن، قوّة وطولاً، ينمو بِنَهَمه في امتصاص النَّسغ مِن الأرض، والصعود إلى غزو النور والشمس، وتحيط نبتة اللبلاب بكامل الشجرة الضخمة، تُرهِقها، تَخنُقها، تَقتُلها، وهي التي كانت ضعيفة جدّاً! وكانت الشجرة قويّة جدّاً!
الأمر ذاته كذلك، بالنسبة للمُلوك. فلدى أوّل تسوية أو تَساهُل مع رسالته الخاصّة، لدى أوّل رفع أكتاف لصوت الضمير، لأنّ الثناء لذيذ، لأنّ صِفَة الحافظ، التي يُفتِّش عنها المرء، مُمتِعة، ويأتي الوقت الذي لا يعود فيه الـمَلِك هو الذي يسود، بل مصالح الآخرين هي التي تسود وتأسِره وتَكمّ فمه حتّى تخنقه، أو تلغي وجوده متى أَصبَحَت أقوى منه، إذا رَأَت أنّ لا داعي إلى الاستعجال في موته.
الرجل العادي كذلك، وهو الـمَلِك بروحه دائماً، يَضِلُّ، إذا ما ارتضى مِلكيّة أدنى، بالكبرياء أو بالجَّشَع. ويفقد صفاءه الروحي الذي يأتيه مِن اتّحاده بالله. ذلك أنّ الشيطان والعالم والجسد يمكنهم مَنحَ قُدرة ومَسرّة وهمِيَّين، إنّما على حساب الابتهاج الروحيّ الذي يأتيه مِن الاتّحاد بالله، بَهجة وقوّة المساكين بالروح، فإنّكم تَستَحِقُّون أن يَعرف الإنسان منكم القول: "كيف يمكنني قبول أن أُصبِح مَلِكاً في كَياني الأدنى، إذا كنتُ بِتَحالُفي معكم أفقُد القوّة والفرح الداخليّ والسماء وملكوتها الحقيقيّ؟"
ويمكنهم القول كذلك، أولئك المساكين بالروح الذين لا يَطمَحون إلّا إلى امتلاك ملكوت السماوات، ويَحتَقِرون كُلّ غِنى سِوى هذا الملكوت، ويمكنهم القول: "كيف يمكننا المجيء للإقلال مِن شأن رسالتنا التي هي إنضاج العُصارات المقوُّية وحَمل الفرح لهذه الإنسانيّة، أُختنا التي تعيش في صحراء الحيوانيّة القاحلة، والتي هي في حاجة إلى أن تُروى كي لا تموت، لتتغذّى على العُصارات الحياتيّة مِثل طفل أُقصِيَت عنه الـمُرضِعة؟ فنحن الـمُرضِعات للإنسانيّة التي فَقَدَت صَدر الله، التي أخطأت، عقيمة ومريضة، التي تَصِل إلى الموت يائسة، في الشكّ المظلم، إن لَمْ تَجِدنا، نحن الذين، بالجهد والفرح، لَمْ نَكُن لِنَمنح أولئك المتحرِّرين مِن كلّ ارتباط أرضيّ، التأكيد بوجود حياة وفرح وحرّيّة وسلام. لا يمكننا التخلّي عن تلك المحبّة مِن أجل مصلحة دنيئة."
حينذاك مَضَت الأشجار إلى شجرة العلَّيق. فَلَم تَرفضها، بل فَرَضَت عليها ميثاقاً صارماً: "إذا رَغِبتُم بي مَلِكاً، تعالوا وكونوا أدنى منّي مستوى. ولكن إذا لم تشاؤوا فِعل ذلك، بعد اختياري، فسوف أجعَل مِن كلّ شوكة عذاباً متأجّجاً وأَحرِقُكم جميعاً حتّى أرز لبنان."
مع ذلك، فذاك هو الـمَلِك الذي يَراه العالم مَلِكاً حقيقيّاً! فالإنسانيّة الفاسدة تتَّخِذ مِن الطُّغيان والوحشيّة مَلِكاً حقيقيّاً، بينما تَعتَبِر الوداعة والصَّلاح بمثابة غباء ودُونيَّة.
الإنسان لا يَخضَع للخير، بل إنّما هو يَخضَع للشرّ. وبذلك أَصبَحَ فاسداً، وبالتالي فقد احتَرَقَ.
تلك هي حكاية أبيمالك.
أمّا أنا فأطرَح عليكم مَثَلاً آخر. ليس بعيداً ولا أحداثه بعيدة، بل هو قريب، حاضر.
فَكَّرَت الحيوانات في اختيار مَلِك لها، وبما أنّها كانت مُخادِعة، فَكَّرَت في اختيار حيوان لا يُخيفها بكونه قويّاً أو متوحّشاً.
لذلك استبعَدَت الأسد وجميع السنّوريات. أَعلَنَت عَدم رغبتها بالنُّسور، بسبب مناقيرها، ولا بأيّ مِن الجَّوارح. تَجنَّبَت الحصان الذي كان باستطاعته، بِفَضل سرعته، اللَّحاق بها ورؤية ما تَفعَل. وتجنَّبَت كذلك الحمار الذي كانت تعرف عنه الصَّبر، إنّما كذلك الهِياج الـمُفاجِئ والحوافِر الصلبة القويّة. وارتَعَدَت مِن فكرة كون النسناس هو الـمَلِك، لأنّه حادّ الذكاء ومِئثار. وبحجة أنّ الحيّة قد تضامَنَت مع الشيطان في إفساد الإنسان، فأعلَنَت عدم القبول بها مَلِكاً، رغم ألوانها الرائعة ورشاقة حركاتها. في الحقيقة، لم تَكُن تَرغَب بها لمعرفتها ودرايتها بمشيتها غير المسموعة، وقُدرة عَضلاتها الهائلة، وتأثير سُمَّها الـمُرعِب. اختيار الثَّور مَلِكاً، أي حيوان له قرون حادّة؟ أُفّ! "فالشيطان له قرون كذلك." ولكنّها كانت تُفكِّر هكذا: "إذا ما ثُرنا يوماً، فسيقضي علينا بقرونه".
بعد بَحث غير مُجدٍ، رَأَت حَمَلاً صغيراً ربيلاً أبيض اللون، كان يَقفِز بِفَرَح في حقل أخضر، ويَرضَع مِن ضِرع أُمّه المنتفخ. لم تكن لديه قرون، إنّما له عينان عَذبَتان مثل سماء نيسان (أبريل). كان وَديعاً وبَسيطاً. كان مَسروراً مِن كلّ شيء: مِن ماء جَدوَل صغير، كان يَشرَب منه وهو يَغمِس فيه فمه الوردي؛ مِن زهور لها نكهات مختلفة، كانت تَسِرّ عينه وذَوقه؛ وعُشب كثيف كان يَطيب له النوم فيه عندما يكون قد شَبِع؛ وغيمات كانت تبدو وكأنّها حِملان أُخرى تَمرَح في الأعلى، فوق الحقول اللازورديّة، والتي كانت تدعوه إلى اللعب والركض في الحقل، كما هي في السماء، وخاصّة مُداعَبات الأُمّ التي كانت ما تزال تَسمح له بِرضاعة حليبها الدافئ، بينما هي تَلعَق الجزّة البيضاء بلسانها الورديّ؛ والحظيرة المحميّة جيّداً والآمنة مِن الرياح؛ والمهاد الناعم والمعطَّر، حيث كان يطيب له النوم قرب أُمّه.
"سَهل إرضاؤه. لا سِلاح لديه ولا سُمّ. إنّه بسيط. فلنَجعَله مَلِكاً."
وجَعَلَته الـمَلِك. وكانت تتفاخر به كونه جميلاً وطيّباً، تُقدِّره الرَّعايا، مَحبوب مِن مَرؤوسيه بسبب وداعته الصَّابرة.
مَرَّ الوقت، وأصبَحَ الحَمَل خَروفاً، وقال: "حان الآن وقت الحُكم الحقيقيّ. لقد أَصبَحتُ الآن أعي تماماً رسالتي ومهمَّتي. وإرادة الله هي التي سَمَحَت بأن أُنتَخَب مَلِكاً، وقد أَهَّلَتني لهذه الرسالة المهمّة، مانِحَة إيّاي الـمَقدِرة على السِّيادة. فَمِن العدل إذاً أن أُمارِسها بشكل تامّ، حتّى مِن أجل عدم إهمال هِبات الله ونِعَمه".
ولدى رؤيته أفراداً كانت تقوم بأمور مُخالِفة للنَّـزاهة في السُّلوك، أو للمحبّة أو الوداعة أو الإخلاص، للقناعة أو الطاعة أو الاحترام أو الحَذَر، وهكذا دواليك، رَفَع صوته لِيُؤنِّبها.
سَخِرَ الأفراد مِن ثُغائِه الحكيم والوديع، الذي لم يكن لِيُسبِّب الخوف مثل زمجرة السنّوريات، ولا كصياح الجوارح عندما تنقضّ على فريستها، ولا كفحيح الأفعى، ولا حتّى كنباح الكلّب الذي يوحي بالرَّهبة.
لم يَكتَفِ الحَمَل الذي أَصبَحَ خَروفاً بالثُّغاء، ولكنّه مَضى إلى الـمُذنِبين يعيدهم إلى ممارسة واجبهم. ولكنّ الحيّة زَحَفَت بين قوائمه، وارتَفَع النسر في الأجواء تاركاً إيّاه على الأرض، والسنّوريات، وبضربة مِن قوائمها الملبَّدَة، دحرَجَته مُهدِّدة إيّاه: "هل تَرى ما في قوائِمنا الملبَّدة التّي اكتفت الآن بدحرجتكَ؟ فيها المخالب". والجِّياد، وكلّ الحيوانات التي تجري بشكل عام، أَخَذَت تَجري خَبَباً حَوله، جاعلة إيّاه يدور كالسَّفيه. والفِيَلة وصَفيقَات الجلد الأُخرى، رَمَت به هنا وهناك بِضَربة مِن خرطومها أو فمها، بينما كانت النَّسانيس ترميه بالمقاذيف مِن فوق الأشجار.
في نهاية المطاف، قَلِقَ الحَمَل الذي أَصبَحَ خروفاً وقال: "لم أكن أبغي استعمال قُروني ولا قُوَّتي، فأنا كذلك لي قُوَّة في عُنقي يُعتَدّ بها في تدمير العوائق في زمن الحرب. لم أكن أبغي استخدامها، لأنّني كنتُ أودُّ استخدام الحُبّ والإقناع، ولكن، بما أنّكم هاجَمتُموني بهذه الأسلحة، فها أنا ذا أستَخدِم قُوَّتي، لأنّكم إذا ما قَصَّرتم بواجبكم تجاهي وتجاه الله، فأنا لا أبغي التقصير بواجبي تجاه الله وتجاهكم. لقد جُعِلتُ في هذا الموقع من قِبَلِكُم ومِن قِبَل الله، لأقودكم إلى العدل والاستقامة وإلى الخير. وأريد أن يسود هنا العدل والخير، أي النظام".
لمعاقبة سَفيه عنيد، كان قد استمرَّ في مضايقة جيرانه، استَخدَمَ قرونه بشكل خفيف، لأنّه كان طيّباً، ثُمّ، وبقوّة عُنقه، حَطَّم باب كوخ، كان خنـزير نَهِم وأنانيّ قد خَزَّن فيه المؤونة على حساب الآخرين، وحَطَّم كذلك دَغل مُعرِّشات اختاره قِردان فاسِقان لممارسة علاقاتهما غير المشروعة.
«لقد أَصبَحَ هذا الـمَلِك ذا سطوة كبيرة. وهو يريد أن يَسود حقّاً. يريد أن يَفرِض علينا أن نَعيش باتِّزان. وهذا لا يُرضِينا. يجب خَلعه عن العرش". واتَّخَذَت الحيوانات قرارها.
ولكنّ قرداً صغيراً ماكِراً نَصَحَها: "ولكن لا نفعلنّ ذلك إلّا تحت مظهر عادل ومبرَّر. وإلّا فَسَنَبدو أمام الرعايا دُون الـمُستوى، ونكون مَمقوتين مِن الله. فلنَترصَّد للحَمَل الذي أَصبَحَ خَروفاً في كلّ أعماله حتّى نتمكَّن مِنه، فَنتَّهِمه تحت أحد مَظاهِر العَدل".
"أُفكّر أنا في ذلك." تقول الأفعى.
"وأنا كذلك." يقول النسناس.
والأُولى، وهي تَزحَف بين العشب، والأَخَر، مِن أعلى الأشجار، يُبقِيان نَظَرَهما على الحَمَل الذي أَصبَحَ خَروفاً. وفي كلّ مساء، عندما كان يأوي ليرتاح مِن مَشاقّ المهمّة، ويُفكِّر بالمقاييس الواجب تطبيقها، والكلّمات الواجب استخدامها لتهدئة الهَيجان والتغلُّب على خطايا مرؤوسيه، كان أولئك، عدا بعض النَّـزيهين الأوفياء القليلين، يَجتَمِعون للاستماع إلى تقرير الجاسُوسَين والخونة.
لأنّ هذا ما كانت عليه تلك الحيوانات.
فالأفعى كانت تقول لِمَلِكِها: "أتبعكَ لأنّني أحبّكَ، وإذا رأيتُ مَن يهاجمكَ، أودُّ لو أستطيع الدفاع عنكَ".
وكان النسناس يقول له: "كَم أُقدِّركَ! أودُّ مساعدتكَ. انظر: أرى مِن هنا أنّ وراء الحقل مَن يرتكب خطيئة. اركض!" وكان يقول بعد ذلك لِرفاقه: "لقد شارَكَ اليوم كذلك في وليمة بَعض الخَطَأَة. تَظاهَرَ بأنّه مضى مِن أجل هِدايتهم، إنّما بعدئذ، كان في الحقيقة شريكاً لهم في قُصوفِهم".
وجاءت إفادة الأفعى: "لقد مضى خارج حدود شعبه، مُعاشِراً الفراشات والذُّبابات والبَزَّاقات اللَّزِجة. إنّه كافِر. يُقيم علاقات مع نَجِسين غرباء".
هكذا كانت الحيوانات تتكلّم بحقّ البريء، مُتصوِّرة أنّه لَم يَكُن يَعرف شيئاً.
ولكنّ روح الربّ كان قد هيَّأه للمهمّة، كان يُنيرهُ كذلك حول مؤامرات مرؤوسيه. كان بإمكانه الهَرب، ساخِطاً، وهو يَلعَنهُم. ولكنّ الحَمَل كان وديعاً ومتواضع القلب. كان يحبّ. وكان الخطأ في أنّه أَحبَّ، والخطأ الأكبر، في إصراره على الحبّ والغفران في مهمّته، وكان الثمن حياته لتتمّ مشيئة الله.
آه! يا لها مِن أخطاء تجاه الناس! لا تُغتَفر! كانت أخطاء استوجَبَت الحُكم عليه.
"فليُقتَل! لِنتحرَّر مِن استبداده".
وأَخَذَت الأفعى على عاتِقها أن تقتله، لأنّ الأفعى هي رمز الخيانة على الدوام…
هذا هو الـمَثَل الثاني. ولكم يا أهل الناصرة أن تَفهَموه! أمّا أنا، فبسبب الحبّ الذي يربطني بكم، أتمنّى لو تَبقون في الحبّ، أو أقلَّه في العَداء فقط، وألّا تذهبوا إلى أبعد مِن ذلك. إنَّ حبّ الأرض التي جِئتُها طفلاً صغيراً، والتي كَبُرتُ عليها، وأنا أبادلكم الحبّ بحبّ، يجعلني أقول لكم: "لا تكونوا أكثر مِن عِدائيّين. لا تتصرّفوا بشكل يجعل التاريخ يقول: ‘‘مِن الناصرة أتى الخائن الذي سَلَّمَه وكذلك قُضاته الظَّالِمون’’."
وداعاً. كونوا مستقيمين في أحكامكم، وثابتين في إرادتكم. هذا في المقام الأوّل، بالنسبة إليكم جميعاً يا أبناء بلدتي. والثاني للذين منكم تعكِّرهم أفكار غير نزيهة. أنا ماضٍ... السلام معكم...»
ويسوع، وسط صمت مضنٍ، يَقطَعه فقط صوتان أو ثلاثة يُقِرّون ذلك، يَخرُج حزيناً، خافِضاً رأسه، مِن مجمع الناصرة، يتبعه الرُّسُل.
أولاد حلفى على صفّ واحد، وعيونهم ليست بالتأكيد عيون حَمَل وديع... يَنظُرون بِصَرامة إلى الجَّمع العدائيّ. ولا يتردّد يوضاس تدّاوس في الوقوف مُنتَصِباً في وجه أخيه سمعان ليقول له: «كنتُ أظنُّ أنّ لي أخاً أكثر نزاهة، ويتمتّع بشخصيّة أقوى.»
يَخفض سمعان رأسه ويصمت، ولكنّ الأخ الآخر، يُشجِّعه الآخرون الذين مِن الناصرة، يقول: «ألا تخجَل مِن إهانة أخيكَ البِكر؟!»
«لا، بل أخجل منكم، منكم جميعاً. فالناصرة ليست زوجة أب وحَسب، بل هي، بالنسبة إلى يسوع، زوجة أب سيّئة الأخلاق. مع ذلك اسمعوا نبوءَتي: سوف تَذرفون الدموع، بشكل يكفي لتغذية نَبع، ولكنّها لن تكون كافية لتمحو مِن كُتُب التاريخ الاسم الحقيقيّ لهذه البلدة، بلدتكم. هل تَعرفون أيّ اسم؟ "حَماقة". وداعاً.»
يُضيف يعقوب تحيّة أكبر مُتمنّياً لهم نور الحِكمة، ويَخرُجون مع حلفى بن سارة وشابّين، وإن كنتُ لا أعرفهما جيّداً، فإنّهما اللَّذان رافَقَا الحمير المستخدَمَة في الذهاب للقاء يُوَنّا امرأة خُوزي المحتضِرة.
والجَّمع الذي بَقِيَ مذهولاً يُهمهِم: «ما هذه الحكمة التي أوتِيها؟»
«والمعجزات التي تجري على يديه، مِن أين له القُدرة عليها؟ كلّ فلسطين تتحدّث عنها.»
«أليس هو ابن يوسف النجار؟ وقد رأيناه جميعنا في مَشغلهُ في الناصرة يصنع الطاولات والأَسِرَّة، ويُصلِح العجلات والمزاليج. ولَم يَذهَب إلى المدرسة قطّ، فأُمّه وحدها كانت معلّمته.»
«وهذا أيضاً فضيحة، وقد انتَقَدَه أبي.» يقول يوسف بن حلفى.
«ولكنّ إخوتكَ أيضاً أَنهوا المدرسة مع مريم التي لِيوسف.»
«هيه! لقد كان أبي ضعيفاً أمام زوجته...» يُجيب يوسف أيضاً.
«أَفَأَخو أبيكَ كذلك، إذن؟»
«كذلك.»
«ولكن هل هو حقّاً ابن النجار؟»
«ألا تراه؟»
«آه! كثيرون يتشابهون! أظنُّه يَنتَحِل شخصيّته.»
«إذاً أين يسوع بن يوسف؟»
«هل تظنّ أنّ أُمّه لا تعرفه؟»
«إنَّ جميع إخوته وأخواته هنا، وجميعهم يَدعُونه بالقريب. أليس كذلك، وأنتما؟»
يشير ابنا حلفى بالإيجاب.
«إذاً فقد أَصبَحَ مجنوناً أو مُستَحوَذاً عليه، ذلك أنّ ما يقوله لا يَصدُر عن نجّار.»
«يجب عدم الإنصات إليه. فَمَذهبه المزعوم هَذَيان أو استحواذ.»
يتوقّف يسوع في الساحة يَنتَظِر حلفى بن سارة الذي يتحدّث إلى أحد الرجال. وبينما هو يَنتَظِر، يَنقُل إليه أحد حارِسَيّ الحمير اللذين بقيا عند باب المجمع، الوشايات التي قِيلَت هناك.
«لا تَحزَن، فلا كرامة لنبيّ في وطنه وفي بيته. الإنسان غبيّ لدرجة الاعتقاد بأنّه، كي يكون المرء نبيّاً، يجب أن يكون مِن كائنات غريبة عن الحياة. وأبناء البلدة وأفراد العائلة يَعرفون أكثر مِن الجميع، ويتذكّرون الشخصيّة الإنسانيّة لابن بلدتهم وقرابتهم، إنّما في النهاية يَنتَصِر الحقّ. الآن أحيّيكَ. السلام معكَ.»
«شكراً لكَ يا معلّم لشفائكَ أُمّي.»
«كنتَ تستحقّ ذلك، لأنّكَ عَرفتَ أن تؤمن. سلطاني هنا عاجز، لأنّه لا إيمان. هيّا بنا يا أصدقاء. غداً نرحَل مع الفجر.»