ج3 - ف34

أَنَا هُوَ

ماريا فالتورتا

L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO

THE GOSPEL AS REVEALED TO ME

بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}

L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ

MARIA VALTORTA

الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.

 

الجزء الثالث / القسم الأول

 

34- (العِظَة على الجبل: "التطويبات V")

 

29 / 05 / 1945

 

صبيحة رائعة ونقاء الهواء فيها أكثر مِن المعتاد. فالبعيد يبدو أقرب، ويظنّ المرء نفسه أنّه يرى الأشياء مِن خلال عدسة مُكَبِّرة تُظهِر أدقّ التفاصيل. الجمهور يتهيّأ لسماع المعلّم. مِن يوم ليوم تصبح الطبيعة أكثر بهاء باستعادة ثوبها الثريّ مِن قلب الربيع، الذي يبدو لي أنّه يقع في فلسطين بين آذار (مارس) ونيسان (أبريل)، لأنّه بعد ذلك يأخُذ الجوّ مَظهَراً صيفيّاً، مع الغِلال اليانِعة والإيراقات الكثيفة الملتزّة.

 

الآن إنْ هو إلّا زهرة. فَمِن أعلى الجبل الذي اكتسى بالزهور، حتّى الـمَواضِع الأقلّ استعداداً مِن غيرها لهذا الإزهار، يُرى السهل وقد تَموَّجَ قمحه الذي ما يزال طريّاً، والذي يُكسِبه الهواء حركة الأمواج الخضراء الضاربة إلى الزُّرقَة، وهي بالكاد تكتَسِب اللون الذهبيّ الشاحب في قمّة السنابل التي تتشكّل حبّاتها وسط شعاع السنابل. أعلى مِن الغِلال التي يجعلها هواء خفيف تتموَّج، تَنتَصِب أشجار الفاكهة وقد اكتَسَت بالبَتلات. تَحسَبها طُرراً عملاقة مِن المسحوق، أو أيضاً مُكوَّرات كتّان رقيق أبيض، أو ورديّ خفيف، أو أحمر قاني. حالمة في ثيابها، ثياب النُّسَّاك التائبين، أشجار الزيتون تُصلّي، وتتحوّل صلاتها إلى ثلج، ما يزال غير واضح المعالم، مِن الزهيرات البيضاء.

 

قمّة حرمون مرمر ورديّ تُقبِّله الشمس، وينساب منه خَيطَان ماسيّان. مِن هنا تحسَبهُما خَيطَين تُطلِق منهما الشمس تلألؤاً شِبه وهميّ، ثمّ يختفيان تحت أروقة الغابات الخضراء، ولا يعودان للظهور إلّا في الوديان حيث يشكّلان مجرييّ ماء يتوجّهان حتماً إلى بحيرة ميرون، غير المرئيّة مِن هنا، ثمّ تَخرُج مع مياه الأردن الحلوة، لتغوص بعد ذلك مِن جديد في سفير بحر الجليل الذي إنْ هو إلّا تلألؤ سطوعات ثمينة، حيث تقوم الشمس مقام فُصوص الخاتم والشُّعلات. تحسب الحُجُب التي تَنسَدِل على تلك المرآة الهادئة والمتلألئة في إطارها المكوَّن مِن بساتين وأرياف رائعة، موجَّهة مِن السُّحُب الخفيفة التي تَمخُر عُباب بحر السماء الآخر.

 

في الحقيقة، إن الخليقة كلّها تضحك في يوم الربيع هذا، وفي هذه الساعة الصباحيّة.

 

يتدفّق الناس، يتدفّقون بلا توقّف. يصعدون إلى هناك مِن جميع الجهات: شيوخ، أناس أصحّاء، مرضى، أطفال ورُضَّع، أزواج يريدون بدء حياتهم ببركة كلمة الله، متسوّلون، ميسورون ينادون الرُّسُل ويعطونهم تقادمهم مِن أجل الـمُعدَمين، وهم يبدون وكأنّهم يعترفون لشدّة تكتّمهم أثناء قيامهم بذلك. أَخَذَ توما إحدى حقائب سفرهم، وفَرَّغ فيها بهدوء كلّ هذا الكنـز مِن القطع النقديّة، كما لو كان خبيصة للدجاج، ثمّ يحمل الكلّ إلى جانب الصخرة التي يقف عليها يسوع ليتحدّث، ويضحك سعيداً وهو يقول: «افرح يا معلّم! يوجد اليوم للجميع!»

 

يبتسم يسوع ويقول: «وسنبدأ حالاً، لكي يُسَرَّ الحزانى في الحال. أنتَ والرفاق، عايِنوا المرضى والفقراء وأتوا بهم إلى الأمام.»

 

يَحصل هذا في زمن قصير نسبيّاً، إذ ينبغي الاستماع إلى هذا وذاك، وقد كان الأمر يتطلّب زمناً أطول كثيراً لولا تنظيم توما العمليّ، فلقد وَقَفَ على صخرة، لكي يراه الجميع، وهَتَفَ بصوته الجَهوري: «فليذهب كلّ الذين يعانون جسديّاً إلى يميني، حيث يوجد ظلّ.» يُقلِّده الاسخريوطيّ الذي يتمتّع بصوت قوي وجميل قَلَّ نظيره، ويهتف بدوره: «كلّ الذين يعتقدون أنّ لهم الحقّ في الصَّدَقَة، فليأتوا هنا حولي. وانتبهوا جيّداً إلى ألّا تكذبوا، لأنّ عين المعلّم تقرأ ما في القلوب.»

 

يتحرّك الجمهور، وينقسم إلى فئات ثلاث: المرضى، الفقراء، وأولئك الذين ينتظرون فقط التعليم. وبين هؤلاء هناك اثنان أو ثلاثة يحتاجون إلى شيء ليس مالاً ولا علاجاً صحّيّاً، ولكنّه أكثر ضرورة. امرأة ورَجُلان، يَنظُرون، يَنظُرون إلى الرُّسُل ولا يتجاسَرون على الكلام. يَمرُّ سمعان الغيور، بمظهره الصارم؛ ثمّ ها هو بطرس مُنشَغِل، يَخطب في عشرة مِن "العفاريت"، يَعِدهم بالزيتون إذا ما لبثوا هادئين حتّى النهاية، وبالصَّفَعات إذا ما أَحدَثوا ضجّة بينما يتكلّم المعلّم؛ يمرّ برتلماوس،كَهل ورَصين؛ ثمّ متّى وفليبّس يحملان على أذرعهما كسيحاً عانى الكثير مِن الألم لشقّ طريق له بين الجمهور المتراصّ؛ ثمّ ابنا عمّ يسوع اللذين يمدّان اليد لمتسوّل شبه أعمى، ولامرأة فقيرة لستُ أدري كم تبلغ مِن العمر، وهي تبكي بينما تقصّ على يعقوب كلّ مآسيها؛ ثمّ ها هو يعقوب بن زَبْدي وعلى ذراعيه طفلة صغيرة مريضة، وقد أَخَذَها بالتأكيد مِن أُمّها التي تتبعه متلهّفة، لكيلا تدع الجمهور يسبّب لها الألم؛ وأخيراً مَرَّ الاثنان اللذان لا يفترقان، أندراوس ويوحنّا، إذ لو ذهب يوحنّا، بطبيعته الهادئة كالولد القدّيس، مع جميع الرفاق، فأندراوس، بسبب خَجَله الكبير، يُفضِّل الذهاب مع رفيق الصيد القديم، ورفيق الإيمان مع المعمدان. فَهُما قد مَكَثَا عند تقاطع الدَّربَين لِيُوجِّها الجموع إلى أماكنهم، أمّا الآن، فلم يعد هناك حُجّاج على دروب الجبل الوَعِرة، ويجتمع الاثنان ليتوجّها صوب المعلّم مع التَّقادِم التي حَصَلا عليها.

 

يسوع مُنحَنٍ على المرضى، والأوشعنا مِن الجمهور تشير إلى كلّ معجزة.

 

المرأة التي تبدو متألّمة للغاية، تتجرّأ وتشدّ ثوب يوحنّا الذي يتحدّث إلى أندراوس ويبتسم. فينحني ويَسأَلها: «ما بكِ يا امرأة؟»

 

«أودُّ التحدّث إلى المعلّم...»

 

«هل أنتِ مريضة؟ فأنتِ لستِ فقيرة...»

 

«لستُ مريضة ولا فقيرة، ولكنّني في حاجة إليه... لأنّ هناك آلاماً بلا حُمّى، ومآس بلا فقر، ومُصابي... مُصابي...» وتبكي.

 

«أترى يا أندراوس، هذه المرأة لديها هَمّ تريد البوح به للمعلّم. فما العمل؟»

 

يَنظُر أندراوس إلى المرأة ويقول: «بالطبع هو أمر تتألّم مِن إعلانه...» وتُشير المرأة بالإيجاب، بحركة مِن رأسها. ويتابع أندراوس: «لا تبكي... يوحنّا، خُذها إلى خيمتنا. وسآتي بالمعلّم إلى هناك.»

 

ويوحنّا، مبتسماً، يَطلب إفساح المجال له ليمرّ، بينما يمضي أندراوس في الاتّجاه المعاكس، صوب يسوع. ولكنّ الرجلين المحزونين يلاحظان التصرّف، ويُوقِف الواحد يوحنّا، والآخر يُوقِف أندراوس، وها هما بعد قليل مع يوحنّا والمرأة، خلف دَرِيئة الأغصان المستخدمة كجدار للخيمة.

 

يَلحَق أندراوس بيسوع في اللحظة التي يشفي فيها الكسيح الذي يرفع عكّازتيه مثل نُصبين تذكاريين، لَيِّن الحركة كراقص، وهو يهتف ببركته. يقول أندراوس بصوت منخفض: «يا معلّم، خلف خيمتنا ثلاثة يبكون، ولكنّ آلامهم آلام قلب هي، ولا يمكن جعلها عامة...»

 

«حسناً. ما زال لديَّ هذه الصبيّة الصغيرة وتلك المرأة، ومِن ثمّ آتي. اذهب وقل لهم أن يتحلّوا بالإيمان.»

 

يمضي أندراوس، بينما ينحني يسوع على الطفلة التي تضمّها أُمّها إلى صدرها: «ما اسمكِ؟» يَسأَلها يسوع.

 

«مريم.»

 

«وأنا ما اسمي؟»

 

«يسوع.» تجيب الطفلة.

 

«ومَن أكون؟»

 

«مسيح الربّ الآتي ليفعل الخير للأجساد والنُّفوس.»

 

«مَن قال لكِ ذلك؟»

 

«أُمّي وأبي، وكلّ أمَلهُما بكَ مِن أجل حياتي.»

 

«عِيشي وكوني صالحة.»

 

أظنُّ أنّ الطفلة كانت تعاني مِن إصابة في العامود الفقريّ، إذ رغم كونها تبلغ السابعة مِن عمرها، أو أكثر، فلم تكن تُحرِّك غير يديها، وقد شُدَّت بأربطة كبيرة قاسية جدّاً مِن إبطيها وحتّى ردفيها. لقد شُوهِدَت هكذا حينما كَشَفَت الأُمّ الثوب الصغير لإظهارها. تبقى الطفلة بلا حركة لدقائق قليلة، ثمّ تقفز، تنـزلق مِن صدر أُمّها إلى الأرض، وتركض صوب يسوع أثناء شفائه المريضة التي لم أُدرِك حالتها. فلقد استجاب لكلّ المرضى، وهم الذين يهتفون بقوّة أكبر بين الجمهور كثير العدد الذي يصفّق: «ابن داود، مَجد الله ومَجدنا.»

 

يمضي يسوع إلى الخيمة. يهتف الاسخريوطيّ: «يا معلّم! وهؤلاء؟»

 

يلتفت يسوع ويقول: «فلينتظروا حيث هُم، فَهُم كذلك سينالون المؤاساة.» ويمضي مسرعاً إلى خلف جدار الأغصان، حيث يتواجد الأشخاص الثلاثة المتألّمون مع أندراوس ويوحنّا.

 

«المرأة أوّلاً. هيّا معي إلى تلك الأدغال وتكلّمي دون خوف.»

 

«سيّدي، لقد تركني زوجي مِن أجل زانية. لديَّ خمسة أولاد، أصغرهم عمره سنتان... ألمي عظيم... وأُفكّر بأولادي... لستُ أدري إذا ما كان يريدهم أو يتركهم لي. الصبيان، البِكر على الأقلّ، يريده... وأنا التي أنجبتُه، أفلا ينبغي لي أن أحظى بفرح رؤيته؟ وماذا سيُفكّرون بأبيهم وبي؟ مِن المفروض أنّهم سيُفكِّرون بالسوء في واحد منّا. وأنا لا أريدهم أن يحكموا على أبيهم...»

 

«لا تبكي. فأنا سيّد الحياة والموت. لن يتزوج زوجكِ تلك المرأة. امضي بسلام وكوني صالحة على الدوام.»

 

«ولكن لن تُميتَه، أليس كذلك؟ آه! سيّدي، إنّني أحبّه!»

 

يبتسم يسوع: «أنا لا أقتل أحداً. إنّما هناك مَن يَحتَرِف هذا العمل. اعلَمي أنّ الشيطان ليس أسمى مِن الله. لدى عودتكِ إلى مدينتكِ، سوف تَعلَمين أن الإنسانة المسيئة قد قُتِلَت بطريقة يُدرِك معها زوجكِ ما كان مزمعاً أن يُقدِم عليه، وسوف يحبّكِ حبّاً متجدّداً.»

 

تُقبِّل المرأة يد يسوع التي كان قد وَضَعَها على رأسها، وتمضي.

 

يأتي أحد الرَّجُلين: «لديَّ ابنة يا سيّدي. بكلّ أسف، ذَهَبَت إلى طبريّا مع رفيقاتها، وكأنّها ابتلعت سُمّاً. عادت إليَّ كالسكرانة. كانت تريد الذهاب مع يونانيّ... ثمّ... ولكن لماذا وُلِدَت لي؟ أُمّها مريضة مِن الغَمّ، وقد تموت... أمّا أنا... فكلماتكَ التي سَمِعتُها الشتاء الماضي وحدها مَنَعَتني مِن قتلها. ولكنّني أُقِرُّ لكَ أنّ قلبي قد لَعَنَها.»

 

«لا. فالله الذي هو الأب، لا يَلعَن إلّا مِن أجل الخطيئة الـمُكتَمِلة والمستمرّة. ماذا تريد مني؟»

 

«أن تعيدها إلى التوبة.»

 

«لستُ أعرفها، وهي بالتأكيد لن تأتي إليَّ.»

 

«أمّا أنتَ فبإمكانكَ تغيير القلب حتّى مِن بعيد! هل تَعلَم مَن أرسَلَني إليكَ؟ يُوَنّا امرأة خُوزي. كانت على وشك الذهاب إلى أورشليم، عندما ذَهَبتُ إلى قصرها أَسأَلها إذا ما كانت تعرف ذلك اليونانيّ القَذِر. كنتُ أظنُّها لا تعرفه، لأنّها صالحة، مع أنّها تعيش في طبريّا، ولكن، بما أن خُوزي يُعاشِر الوثنيّين... فهي حقّاً لا تعرفه، ولكنّها قالت لي: "اذهب إلى يسوع. فإنّه قد استدعى روحي مِن البعيد البعيد، وقد شفاني مِن السلّ بذلك الاستدعاء. وسيشفي قلب ابنتكَ. أنا سوف أصلّي، أمّا أنتَ فآمِن". أنا أؤمن. أنتَ ترى ذلك. فارحم يا معلّم.»

 

«قبل المساء ستبكي ابنتكَ على ركبتي أُمّها طالبة الصَّفح. وأنتَ كذلك، كُن صالحاً مثل أُمّها. اغفر. فما فات قد مات.»

 

«نعم يا معلّم. كما تريد. ولتكن مباركاً.»

 

يَدور ليمضي... ثمّ يعود على أعقابه: «عفواً يا معلّم... ولكنّني خائف للغاية... الفُجور، يا له مِن شيطان! أعطِني خيطاً مِن ثوبكَ، وسأضعه على رأس سرير ابنتي. ولن يجرّبها الشيطان أثناء نومها.»

 

يبتسم يسوع ويهزّ رأسه... ولكنّه، إرضاء للرجل، يقول له: «كي تكون أكثر اطمئناناً. ولكن ثِق تماماً أنّه حينما يقول الله "أريد"، يمضي الشيطان دون الحاجة إلى أيّ شيء آخر. أريدكَ أن تَحتَفِظ بهذا على سبيل الذكرى منّي.» ويعطيه خُصلة مِن أهدابه.

 

يتقدّم منه الثالث: «يا معلّم، لقد مات أبي. كنّا نعتقد أنّ لديه مالاً كثيراً. ولم نجد منه شيئاً. وما هذا إلا نصف السّوء، لأنّنا، كإخوة، لا نفتَقِر إلى القُوت. ولكن كَوني البِكر، وكنتُ أعيش مع أبي، يتّهمني أَخَواي بأنّني أَخفَيتُ المال، ويريدان رفع قضيّة سرقة ضدّي. تَرَى قلبي. لم أسرق ولا أيّة قطعة نقديّة مهما بَلَغَت مِن الصِّغر. فقد كان أبي يحتفظ بدوانقه في علبة ضمن صندوق حديديّ. وعند وفاته، فَتَحنَا صندوق الحديد، ولم تكن العلبة موجودة. وهما يقولان: "أنتَ أخذتَها ليلاً، بينما كُنّا نياماً". وهذا ليس صحيحاً. ساعِدني لإعادة السلام والاحترام المتبادل فيما بيننا.»

 

يَنظُر إليه يسوع بإمعان ويبتسم.

 

«لماذا تبتسم يا معلّم؟»

 

«لأنّ الـمُذنِب هو أبوكَ. خَطَأ طفل يُخفي لعبته لئلّا يأخذها أحد.»

 

«ولكنّه لم يكن بخيلاً. ثِق بذلك. لقد كان مُحبّاً لفِعل الخير.»

 

«أَعلَم ذلك. ولكنّه كان متقدّماً في السنّ كثيراً... إنّها أمراض الشيخوخة... كان يريد وَضع ما يَملك في مأمن، ولمصلحتكم، وقد فَرَّقَكم لِفرط محبّته لكم. إلّا أنّ العُلبة مدفونة في أسفل سلّم القبو. أقول لكَ ذلك كي تَعرف أنّني أَعلَم. وأثناء حديثي معكَ، وبينما كان أخوكَ الأصغر يَضرب الأرض بغضب، اهتزَّت واكتَشَفا العُلبة. إنّهما مُضطَرِبان ونادمان على اتّهامهما إيّاكَ. عُد إلى بيتكَ مطمئنّاً، وكن لطيفاً معهما. لا تَلُمهُما على قلة تقديرهما لكَ.»

 

«لا يا سيّدي. لن أذهب. بل سأبقى أستمع إليكَ. وغداً أذهب.»

 

«وإذا أخذا مِن مالكَ؟»

 

«أنتَ تقول بوجوب عدم كوننا طامعين. وأنا لا أريد ذلك. يكفيني أن يحلّ السلام بيننا. فيما عدا ذلك... لم أكن أعرف ما كان داخل العلبة، ولن أكلّف نفسي العناء مِن أجل تصريح غير صحيح. أُفكّر أنّه كان ممكناً أن يُفقَد هذا المال... وإذا ما أنكراه عليَّ، فأعيش كما كنتُ أعيش في السابق. يكفيني ألّا يُسمِّياني لصاً.»

 

«لقد تَقَدَّمتَ كثيراً في طريق الله. استمرّ وليكن السلام معكَ.»

 

ويمضي مسروراً. ويعود يسوع إلى الجمهور، إلى الفقراء، ويوزّع الصَّدَقات كما يراه مُوافِقاً. الجميع الآن راضون ويمكن ليسوع أن يتحدّث.

 

«السلام معكم.

 

عندما أشرح لكم سُبُل الربّ، فلكي تسلكوها. هل يمكنكم سلوك الدَّرب النازل إلى اليمين والدَّرب النازل إلى اليسار في الوقت ذاته؟ لا تستطيعون، إذ لو سَلَكتم الواحد فعليكم ترك الآخر. حتّى ولو كان الدَّربان متجاورين، فلا يمكنكم الاستمرار في المسير ورِجل في الواحد والأخرى في الثاني. سينتهي الأمر بكم إلى الإنهاك والضَّلال حتّى ولو كنتم على رِهان. إلّا أنّ المسافة شاسعة بين درب الله ودرب الشيطان، وهي لا تَني تتَّسِع، تماماً كهذين الدربين اللذين يلتقيان هنا، ولكنهما كلما نَزلا في الوادي، كلما ابتعد الواحد عن الآخر، الواحد يذهب صوب كفرناحوم والآخر صوب بتولمايس [عَكّا].

 

هكذا هي الحياة. تنساب بين الماضي والحاضر، بين الخير والشرّ. في الوسط هو الإنسان بإرادته وحريّة اختياره؛ عند الأطراف هناك الله وسماؤه مِن جهة، ومِن الأخرى الشيطان وجحيمه. ويمكن للإنسان أن يختار، فلا أحد يُرغِمه. ولا يقل لي قائل: "ولكن الشيطان يجرّبنا"، ليَجِد لِنفسه عُذراً لسلوكه السبيل الأسفل. فالله يجرّبنا بحبّه، وهذه التجربة قويّة جدّاً، بكلامه، وكلامه مقدّس للغاية، بوعوده، وهي مغرية كثيراً! لماذا الاستسلام لتجربة أحدهما، للذي يستحقّ أقلّ مِن الآخر أن نستمع إليه؟ هل كلام الله ووعوده وحبّه، كلّ هذا، لا يكفي لإبطال مفعول سمّ الشيطان؟ 

 

انتَبِهوا لكيلا يعود عليكم ذلك بالشرّ. عندما يكون المرء سليماً معافى جسميّاً، فهو ليس في مأمن مِن العدوى، ولكنّه يتجاوزها بسهولة. أمّا إذا كان، على العكس، مريضاً، وبالتالي ضعيفاً، فيَهلك بشكل شبه مؤكّد بإصابة جديدة، وإذا ما نجا، فإنّه يكون أكثر مَرَضاً مِن السابق، إذ لم تَعُد في دمه القُدرة على القضاء على جراثيم الإصابة كلّيّاً. والأمر ذاته بالنسبة إلى الجزء الأسمى. فإذا كان المرء وجدانيّاً وروحيّاً سليماً وقويّاً، فكونوا على ثقة بأنّه ليس مُستَثنى مِن التجربة، ولكنّ الشرّ لا يتجذّر فيه. عندما أَسمَع مَن يقول لي: "عاشَرتُ هذا أو ذاك، قَرَأتُ هذا وذلك، حاولتُ جلب هذا أو ذاك إلى الخير، ولكن، في الحقيقة، فإنّ الشرّ الكائن في روحهم وقلبهم، الشرّ الذي كان في الكتاب، دَخَلَ فيَّ". أَستَنتِج: "هذا يدلّ على أنّكَ كنتَ آنذاك قد أَوجَدتَ الأرضيّة المناسبة للولوج. وهذا يدلّ على أنكَ ضعيف وينقصكَ البأس الوجدانيّ والروحيّ. إذ ينبغي أن نَستَخرِج الخير حتّى مِن أعدائنا. فلدى رؤيتنا أخطاءهم، ينبغي لنا تَعلُّم كيفيّة عدم السقوط. الإنسان الذكيّ لا يترك نفسه ينهار عند أوَّل مَذهَب يَسمَعه. الإنسان المتشرّب مَذهَباً، لا يمكن أن يترك مكاناً في ذاته للمَذاهِب الأخرى. وهذا يفسّر الصعوبات التي يصادفها المرء في محاولته استمالة الـمُقتَنِعين بتعاليم أخرى إلى اتِّباع المذهب الصحيح. ولكنّكَ لو بُحتَ لي بأنّكَ تُغيِّر رأيكَ لأقلّ نسمة، فأراكَ مُفعَماً فراغاً، قدرتكَ الروحيّة مُتصدِّعة مِن كلّ الجهات، والسُّدود التي تُحافِظ على أفكاركَ متهدِّمة مِن ألف مكان، حيث تهرب المياه الصحيحة وتَدخُل المياه الآسِنة، وإنّكَ لَغافِل وبَليد، لدرجة لا تُلاحِظ معها ذلك، ولا تتناول أيّ دواء. فأنتَ بائِس".

 

فلتَعرفوا إذاً اختيار الدرب الصالح وتَسلكوه، مع مقاومة ومقاومة، ومقاومة إغواءات الشهوة والعالم والعِلم، وإغواءات الشيطان. فالإيمانات المختَلَطة والحلول الوسط والعهود التي يتعارض بعضها مع بعض، دعوها لرجال المجتمع. ومِن المفروض ألّا تكون بينهم كذلك، إذا كان الرجال نزيهين. إنّما أنتم، أنتم على الأقل، رجال الله، فلا تكن لديكم. لا يمكن إجراء تسويات مع الله، ولا مع الشيطان. فلا تكن فيكم، لأنّها ستكون بلا قيمة. أفعالكم، في حال كونها مُختَلَطَة بين ما هو صالح وما هو غير صالح، لا قيمة لها. وما كانت صالحة بمجملها تُلغيها التي ليست كذلك. والشرّيرة منها توقعكم مباشرة في أيدي العدوّ. فلا تفعلوها إذن. بل اعمَلوا بإخلاص.

 

لا يمكن لأحد أن يَخدم معلّمَين، أفكارهما متضاربة. لأنّه إذا ما أَحَبَّ الواحد فسَيكرَه الآخر، والعكس بالعكس. لا يمكنكم الانتماء إلى الله وإلى الشيطان في الآن ذاته. ولا يمكن لروح الله أن يتّفق مع روح العالم. فالواحد يسمو والآخر يَهبط. الواحد يُقدِّس والآخر يُنجِّس. وإذا كنتم نَجِسِين فكيف يمكنكم التصرّف بطهارة؟ تتأجّج الشّهوة لدى أولئك النَّجِسِين، ومِن جَرّاء الشّهوة، الرغبات الأخرى الـمُفسِدة. وتَعلَمون كيف أُفسِدت حواء، وآدم بواسطتها.

 

لقد قَبَّلَ الشيطان عين المرأة وسَحَرَها بشكل أَضحَت فيه كلّ رؤية كانت حتّى ذلك الوقت طاهرة، تتَّخِذ مَظهَراً دَنِساً، وتُوقِظ رغبات في الإطِّلاع والفضول غريبة. ثمّ قَبَّلَ الشيطان أذنيها وفَتَحَهُما على كلّ معرفة مجهولة: معرفته هو. حتّى فِكر حواء أراد معرفة ما لم يكن بالضروريّ. ثمّ أَظهَرَ للعين والفِكر الـمُتفتِّحَين على الشرّ ما لم يكونا قد رأيَاه ولا أَدرَكاه، وتَفَتَّح كلّ شيء في حواء وفَسِدَ. والمرأة، وهي ماضية إلى الرجل، استَنهَضَت سِرّها واستمالت آدم لِتَذوُّق الثَّمَرة الجديدة، الجميلة للنَّظَر، والممنوعة حتّى ذلك الحين. وقَبَّلَته ونَظَرَت إليه بفم وعينين كان لا يزال فيها الاضطراب الشيطانيّ. ودَخَلَ الفساد في آدم الذي رأى واشتَهَت عينه الثَّمَرة المحرَّمَة. وقَضَمَها مع شريكته، ساقطاً مِن سموّ كهذا إلى دَرَك الوحل.

 

عندما يَفسُد امرؤ، فإنّه يَجرُّ الآخر إلى الفساد، اللهمّ إذا لم يكن قدّيساً بكلّ ما في الكلمة مِن معنى.

 

انتبهوا إلى نَظَركم أيّها الناس، إلى نَظَر العين ونَظَر الروح. لأنّهما إذا ما فَسَدا فلا يمكنهما إلّا إفساد الباقي. العين سِراج الجسد، والفِكر سِراج القلب. ولكن إذا لم تكن عينكَ طاهرة، فكلّ ما فيكَ يصبح اضطراباً، وسُحُب الإغواء تَخلق فيكَ تصوّرات دَنِسَة، وذلك نتيجة لخضوع الأعضاء للفِكر، فبفكرة واحدة فاسدة تَفسُد الأحاسيس. كلّ شيء يكون طاهراً في ذاك الذي لديه فِكر طاهر يمنحه نَظَراً طاهراً، ونور الله يهبط بشكل رئيسيّ حيث لا تقف الأحاسيس عائقاً. ولكن، لو بسوء نيّة، عَوَّدتَ العين على رؤى مضطَرِبة، فكلّ ما فيكَ يُصبح ظلاماً. وعَبَثاً تَنظُر حتّى إلى الأشياء الأكثر قداسة. ففي الليل لن تكون سوى الظُّلُمات، وسوف تَعمَل أعمال الظُّلُمات.

 

كذلك، يا أبناء الله، احموا أنفسكم مِن أنفسكم. راقِبوا ذواتكم بكلّ انتباه مِن كلّ التجارب. أن يُجَرَّب المرء ليس شرّاً. فبالكفاح يهيِّئ الرياضيّ النصر. ولكن الشرّ يكمن في أن يُهزَم المرء بسبب خطأ في التدريب والانتباه. أَعرِف أنّ كلّ شيء يَخدم التجربة. أَعلَم أنّ المقاومة تُوتِّر الأعصاب. أَعلَم أنّ الكفاح يُنهِك. ولكن فَكِّروا بما تُوفِّره لكم تلك الأشياء. فهل تريدون فقدان أبديّة مِن السلام مقابل ساعة مِن المتعة مِن أيّ نوع كانت؟ ماذا تُبقي لكم متعة الجسد والذهب والفِكر؟ لا شيء. ماذا تُحقِّقون برفضها؟ كلّ شيء. أتحدّث إلى خَطَأَة لأنّ الإنسان خَطَّاء. حسناً قولوا لي حقيقة: بعد إشباع لِشهوة الحسّ أو الكبرياء أو الطمع، هل شعرتم أنكم أكثر نضارة، أكثر فرحاً، وأكثر هدوءاً وطمأنينة؟ خلال الساعة التي تلي الإشباع، والتي هي دائماً ساعة تفكير، هل شعرتم في الواقع، وبكلّ صدق، أنّكم سعداء؟ أنا لم أَذُق طعم خُبز شهوة الحسّ تلك. ولكنّني أُجيب عنكم: "لا. بل ذبول وعدم رضا وإبهام وغَثَيان وخوف واضطراب. هي ذي العُصارة التي وَفَّرَتها لكم ساعة المتعة تلك".

 

بَيد أنّني أرجوكم. عندما أقول لكم: "لا تفعلوا ذلك مطلقاً"، فإنّني أقول لكم كذلك: "لا تكونوا عديمي الرحمة مع الذين يخطئون". تذكّروا أنّكم جميعاً إخوة، مخلوقين مِن جسد واحد، ولديكم النَّفْس ذاتها. فَكِّروا أنّ الأسباب التي تجعل الإنسان يخطئ كثيرة. كونوا رحماء تجاه الخَطَأَة، ارفعوهم بِصلاح، واجذبوهم إلى الله بإظهاركم لهم أنّ الدَّرب الذي سَلَكوه محفوف بالمخاطر للجسد والفِكر والروح. افعلوا ذلك، وسيكون أجركم عظيماً، لأنّ أباكم السماويّ رحيم مع الصالحين، ويعرف رَدَّها مائة ضعف.

 

أقول لكم إذاً...»

 

هنا يطلب منّي يسوع أن أُدرِج الرؤيا المؤرخة في 12 / 08 / 1944:

 

----------

 

12 / 08 / 1944

 

يقول لي يسوع:

 

«انظري واكتبي. إنّه إنجيل الرحمة الذي أمنَحه للجميع، وخاصة لأولئكَ الذين يُقِرّون أنّهم خَطَأَة، والذين أدعوهم إلى سلوك طريقه للخلاص.»

 

يسوع واقف على صخرة، يتحدّث إلى جمهور غفير. إنّه مَوضِعه الجبليّ. رابية منفردة بين واديين. قمّة الرابية على شكل نِير، أو بالحريّ سَنام جَمَل، وعلى بُعد أمتار قليلة مِن القمّة فسحة على شكل مسرح طبيعي، حيث رَجْع الصوت جليّ، كما في قاعة حفلات موسيقيّة مدروسة البناء.

 

الرابية ليست سوى زهرة. يُفتَرَض أنّه الفصل الجميل. غِلال السهول بدأت تتلوّن باللون الأشقر، وقريباً ستكون جاهزة للحصاد. إلى الشمال جبل شاهق، يتلألأ تحت الشمس. تحته مباشرة، إلى الشرق، بحر الجليل، يبدو كمرآة مكسورة، بحيث تبدو شظاياها التي لا تُحصى وكأنّها أحجار سفير تتوهّج بفعل الشمس. إنّه يُبهِر ببريقه الأزرق والذهبيّ، بحيث لا ينعَكِس عليه سوى بضعة غيمات صُوفيّة المظهَر، تجتاز سماء نقية جدّاً، والظِّلال المتحرّكة لبعض الأشرعة. المفروض أيضاً أنّها ساعات الصباح الأولى، ذلك أنّ عشب الجبل ما زال يحتفظ ببعض ماساته مِن الندى المبعثرة بين السوق. خلف بحيرة جنّسارت، هناك سهول بعيدة، تبدو، بفعل ضباب خفيف، قد يكون تَشَكَّلَ مِن تَبَخُّر الندى، وكأنّها امتداد للبحيرة، إنّما بألوان عين الهرّ مُعرَّقة بالأخضر، وأبعد منها سلسلة جبال، مُنحَدَرها المتعرّج يُوحي برسم غيوم في سماء صافية.

 

البعض يجلس على الحجارة أو العشب، آخرون واقفون. الهيئة الرسوليّة ليست مُكتَمِلة. أرى بطرس وأندراوس ويوحنّا ويعقوب، وأَسمَع مَن ينادي الاثنين الآخرين نثنائيل وفليبّس. ثمّ هناك آخر موجود أو غير موجود مع المجموعة، وقد يكون آخِر الواصلين، ينادونه: سمعان. أمّا الآخرون فليسوا هنا، إلّا إذا لم أميّزهم وسط الجمهور الغفير.

 

الحديث بَدَأَ منذ برهة. أُدرِك أنّ موضوعه هو العِظة على الجبل. ولكنّ التطويبات عُرِضَت. أقول، حتّى إنّ الحديث يُشرِف على نهايته، إذ إنّ يسوع يقول: «افعلوا ذلك، وسيكون أجركم عظيماً، لأنّ أباكم السماويّ رحيم مع الصالحين، ويعرف أن يُكافِئ بمائة ضعف. أقول لكم إذن...»

 

حَصَلَت حركة هائلة وسط الجمهور المتواجد صوب الدرب المؤدّي إلى الهضبة. يلتفت الناس الأكثر قُرباً مِن يسوع. يَنصَرِف الانتباه إليها. يتوقّف يسوع عن الكلام، ويَلتَفِت بنظره إلى الاتّجاه ذاته كالآخرين. إنّه رصين وجميل بثوبه الأزرق القاتم، بذراعيه المتصالبين على صدره، والشمس تُلامِس وجهه بأوّل شعاع يمرّ فوق أنف الهضبة الشرقيّ.

 

«أَفسِحوا مجالاً أيّها العَوامّ.» صوت رجل غاضب يَصرُخ: «أَفسِحوا مجالاً للجَّمَّال الذي يمرّ»... في المقدّمة أربعة مُتبرِّجين، وأحدهم رومانيّ بالتأكيد، فهو يرتدي حلّة الرومان، يَحملون مريم المجدليّة على أيديهم المتشابكة ليجعلوا مِنها مِقعَداً، وهي ما تزال خاطئة عظيمة.

 

تضحك بفمها الجميل جدّاً، تُرجِع إلى الخلف رأسها ذا الشعر الذهبيّ على شكل جدائل وحلقات حُجزَت بدبابيس ثمينة، وصفيحة ذهبيّة مُرصَّعة بالأحجار الكريمة تحيط بقمّة الجبهة مثل تاج، حيث تتدلّى حلقات خفيفة لتغشى عينيها الرائعتين وقد جَعَلَتها أكبر أيضاً وأكثر فِتنة. بعد ذلك يختفي التاج خلف الأذنين، تحت كتلة الجدائل المتدلّية على العنق الأبيض المكشوف. وحتّى ... المكشوف أبعد مِن العُنق. الكَتِفان مَكشوفان حتّى لوح الكَتِف، والصَّدر أكثر أيضاً. ثوبها ممسوك عند الكتفين بسلسلتين ذهبيّتين. الكُمَّان كأنّ لا وجود لهما. فالكلّ مغطى، لو جاز التعبير، بِسَتر لا عمل له سوى جَعل الجلد في مأمن مِن التلوّن بلون البرونز. الثوب خفيف للغاية، والمرأة حينما ترتمي، كما تفعل عادة للمُمالَقة، على هذا أو ذاك مِن الـمُعجَبين، تبدو وكأنّها ترتمي عليهم عارية. لديَّ انطباع بأنّ الرومانيّ هو الـمُفَضَّل، إذ تتوجّه إليه بأفضل الابتسامات والغمزات، ويتلقّى في الغالب الرأس على كَتِفه.

 

«ها هي ذي الآلهة راضية» يقول الرومانيّ. «روما قد أَعطَت فينوس الجديدة مَطيّة، وهنا يوجد أبولّون الذي أَرَدتِ أنتِ رؤيته. فافتِنيه إذاً واخلبي لبّه... ولكن اتركي لنا بعض فَضَلات فِتنَتكِ.»

 

تضحك مريم، وبحركة رشيقة ومثيرة ترتمي على الأرض، كاشِفة عن قدميها الـمُنتَعِلَتَين أحذية بيضاء بإبزيمات ذهبيّة، وعن قسم مِن الساق. ثم تُغطّي الكلّ، فالثوب فضفاض جدّاً، مِن الصوف الناعم كالـﭭوال، وأبيض ناصع، محصور عند الخصر، إنّما منخفض كثيراً على مستوى الوركين، بحزام ذي إبزيمات ذهبيّة منحلّة. وتنتصب المرأة مثل زهرة مِن جَسَد، زهرة دَنِسَة، متفتّحة بسحر على البساط الأخضر حيث زنابق الوادي والنرجس البرّيّ.

 

إنّها أجمل مِن أيّ وقت مضى. الفم صغير وأرجوانيّ، يبدو كقرنفلة تنفصل عن بياض صف أسنان متكامل. بإمكان الوجه والجسم إرضاء ذوق الرسّام أو النحّات الأصعب مزاجاً، إنْ مِن ناحية الألوان أو الأشكال. صدر عريض مع وركين متناسقين بشكل جيّد، مع قامة ناعمة بشكل طبيعيّ، ومَرِنَة، مقارنة مع الصدر والوركين، فهي تبدو كآلهة، حسب قول الرومانيّ، آلهة منحوتة مِن مرمر ورديّ قليلاً، حيث يَستَرسِل القماش الخفيف على جوانبه، ليتهدّل بعدئذ بثنيات كثيرة إلى الأمام. كلّ شيء مدروس للإرضاء.

 

يَنظُر إليها يسوع بإمعان، وتَنظُر هي بوقاحة، وهي تضحك، وتلتفت قليلاً بسبب الدَّغدَغَة التي يُحدِثها لها الرومانيّ، بتمريره، على كتفها وصدرها المنكشفين، غَريسَة مِن زنبق الوادي، قُطفَت مِن بين العشب. ومريم، بغضب مدروس وماكر، ترفع وشاحها قائلة: «احتَرِم طهارتي»، ممّا يجعل الأربعة يَنفَجِرون بضحكة صاخبة.

 

يَستمرّ يسوع في تثبيت نَظَره إليها. وعندما يخفّ ضجيج انفجار الضحك، يبدو وكأنّ ظهور المرأة قد أَضرَمَ لهيب الحديث الذي كان قد أُهمِل، يُعاوِد يسوع الكلام ولا يَعود يَنظُر إليها. ولكنّه يَنظُر إلى سامعيه الذين يَبدون مُضطَرِبين وساخِطِين مِن تلك الـمُغامِرة.

 

يتابع يسوع: «لقد قلتُ لكم أن تكونوا أوفياء للشريعة، متواضِعِين، رَحيمين، وأن تحبّوا ليس فقط الأخوة المولودين مِن أبويكم، إنما كلّ الذين هُم بالنسبة إليكم إخوة، لأنّ لهم الأصل البشريّ نفسه. قلتُ لكم إنّ المغفرة أكثر فائدة مِن الحقد، وإنَّ الشَّفَقَة أفضل مِن القَسوة. ولكنّني الآن أقول لكم إنّ المفروض ألّا يَدين المرء إذا لم يكن معصوماً مِن الخطيئة التي تَحمِلنا على الإدانة. لا تفعلوا كالكَتَبَة والفرّيسيّين الصَّارِمين مع الجميع ، ولكن ليس مع ذواتهم. فيُطلِقون صِفة الدَّنَس على ما هو خارجيّ ولا يُلطِّخ إلّا الخارج، ويتقبَّلون الدَّنَس في أعمق أعماق صدرهم، في قلبهم.

 

لا يكون الله مع الـمُدَنَّسين، ذلك أنّ الدَّنِس يُفسِد ما هو مِلك لله: النُّفوس، وخاصّة نفوس الأطفال الذين هم ملائكة منتشرون على الأرض. الويل لِمَن يَنـزَع عنهم الأجنحة بضراوة الحيوانات الضارية الشيطانيّة، والذين يَرمُون في الوحل أزهار السماء تلك، بأن يجعلوهم يتذوّقون طعم المادّة! الويل!... فالأفضل لهم أن يموتوا مُحتَرِقين بنار الصاعقة مِن أن يتوصَّلوا إلى ارتكاب مثل تلك الخطيئة!

 

الويل لكم أيّها الأغنياء والشهوانيّون! إذ في وسطكم بالضبط يتخمَّر الدَّنَس الأعظم، حيث يقوم المال والبطالة بالنسبة لكم مقام السرير والوِسادة! الآن أنتم ممتَلِئون مُشبَعون. غِذاء الشهوات يَصِل حتّى البلعوم ويخنقكم. ولكنّكم سوف تكونون جياعاً، جوعاً مُرعِباً لا يُشبِعه شيء، ولا يَسكُن مدى الأبديّة. الآن أنتم أغنياء. وكَم مِن الخير يمكنكم أن تفعلوا بغناكم! ولكنّكم تفعلون الشرّ بذواتكم وبالآخرين. يوماً ما ستَختَبِرون فقراً مُريعاً، لن تكون له نهاية. إنّكم تضحكون الآن، تعتبرون أنفسكم مُنتَصِرين. ولكنّ دموعكم سوف تملأ مستنقع جهنّم ولن تتوقّف.

 

أين يأوي الزّنى؟ أين يُعشّش إفساد الصبايا؟ مَن ذا الذي لديه سريران أو ثلاثة، غير سرير الزوجيّة، عليها يُبدِّد ماله وطاقة جسد مَنَحَه إيّاه الله سليماً معافى ليعمل مِن أجل عائلته، وليس لكي يُنهِك ذاته بالخلاعات المقزِّزة التي تجعله أدنى مِن حيوان نَجِس؟ لقد تعلّمتم أنّه قيل: "لا تَزن". أمّا أنا فأقول لكم: إنَّ مَن يَنظُر إلى امرأة بشهوة دَنِسَة، والتي تمضي إلى الرجل بشهوة دَنِسَة، فبهذا فقط يُرتَكَب الزّنى في القلب. وما مِن سبب يُبرِّر الزّنى أبداً. فلا الهجر ولا طلاق الزوج، ولا الإشفاق على امرأة مطلَّقة. فليس لديكم سوى نَفْس واحدة، وعندما تكون مرتبطة مع أخرى بميثاق أمانة ووفاء، فلا تكذبنّ، وإلّا فذلك الجسد الجميل، الذي به تَقتَرِن الخطيئة، يذهب معكِ، أيّتها النُّفوس الـمُتدَنِّسة، إلى النار التي لا تُطفأ. فالأفضل أن يُشَوَّه مِن أن يُقتَل إلى الأبد بعذاب جهنّم. وأنتم أيّها الأغنياء، فلتَعُودوا أُناساً، يا حُرّاس الرذيلة الـمُقمِّلين، عودوا أناساً لكيلا تَستَنشِقوا الاشمئزاز والتقزّز في السماء...»

 

في البداية، استَمَعَت مريم بوجه كأنّه قصيدة تَهَكُّم وإغواء وتضليل، مُنفَجِرة، بين الحين والحين، بضحكات مُحتَقِرة. وعند ختام الحديث أَضحَت حَمراء مِن الغضب، وهي تُدرِك أنّ يسوع يوجِّه الحديث لها دون النَّظَر إليها. ويتأجَّج غَضَبها باستمرار. تتمرّد، وفي النهاية لم تَعُد تُقاوِم، تتوشّح، مُحتَقَرِة، بوشاحها، ومتبوعة بنظرات الجمهور الذي يَحتَقِرها، وبصوت يسوع الذي يتبعها، تَهرُب وهي تُطلِق ساقيها للريح على الـمُنحَدَر، تاركة نُتفاً مِن الثياب للأشواك وشجيرات النِّسرين التي على جانبي الدرب. وتَضحَك مِن الغَيظ والاحتقار.

 

لَم أَعُد أرى شيئاً ولكنّ يسوع يقول لي سَتَرَين أيضاً بعد.

 

----------

 

تابع رؤيا 29 / 05 / 1945

 

يُعاوِد يسوع الحديث: «إنَّكم ساخطون مِن ذاك الحَدَث. منذ يومين ومأوانا، حتّى فوق الوحل، مُضطَرِب بفعل صفير الشيطان. فلم يَعُد إذن مأوى، وسوف نتركه. ولكنّني أريد أن أُتمِّم لكم مُدوَّنة "الأَكمَل"، في هذه الرَّحابة مِن نور الأفق. فهنا، حقيقة، يَظهَر الله في عظمته كخالق، ولدى معاينة عظائمه، يمكننا الإيمان بكلّ ثبات أنّه هو المعلّم، وليس الشيطان. فالخبيث لا يمكنه أن يَخلق غريسة عشب. ولكنّ الله قادر على كلّ شيء. فليكن ذلك معزّياً لنا. ولكنّكم الآن جميعكم تحت الشمس، وهذا يضايقكم، فَتَفَرَّقوا إذاً على المنحدرات، لأنّ فيها ظلّاً وانتعاشاً. تناولوا طعامكم إذا شئتم. سوف أحدّثكم عن الموضوع ذاته. فإنّ أسباباً كثيرة أَخَّرَتنا. ولكن لا تأسفوا لذلك. فإنّكم هنا مع الله أنتم.»

 

يهتف الجمهور: «نعم، نعم، معكَ.» ويمضي الناس تحت الخمائل الـمُبَعثَرة مِن جهة الشرق، بحيث يحميهم سفح الرابية وكذلك الأغصان مِن الشمس التي أَضحَت حادّة.

 

في تلك الأثناء يقول يسوع لبطرس أن يفكّ الخيمة.

 

«ولكن هل نمضي حقّاً؟»

 

«نعم.»

 

«لأنّها أتت، هي...»

 

«نعم، ولكن لا تقل ذلك لأحد، وخاصّة الغيور، فيغتمّ لذلك بسبب لعازر. ولا يمكنني أن أَسَمح بأن تتعرّض كلمة الله لسخرية الوثنيّين...»

 

«أفهم، أفهم...»

 

«إذاً فَافهَم أيضاً أمراً آخر.»

 

«ما هو يا معلّم؟»

 

«ضرورة الصمت في بعض الحالات. إنّني أثق بكَ. أنتَ غالٍ عليَّ جدّاً، ولكنّكَ كذلك نَزِق بشكل تُبدي فيه ملاحظات جارحة.»

 

«أفهَم... لا تريد بسبب لعازر وسمعان...»

 

«ومِن أجل آخَرِين أيضاً.»

 

«أتظنّ بأنّه سيَحدُث اليوم؟»

 

«اليوم وغداً وبعد غد. وسيكون مِن الضروريّ مراقبة نَزَق عزيزي سمعان بن يونا على الدوام. اذهب، اذهب وافعل ما أمرتكَ به.»

 

يمضي بطرس طالباً مِن رفاقه مساعدته.

 

يَمكث الاسخريوطيّ غارقاً في تفكيره في أحد الأركان. يناديه يسوع ثلاث مرّات، لأنّه لم يَسمَع. أخيراً يَلتَفِت ويَسأَل: «أتريدني يا معلّم؟»

 

«نعم، اذهب أنتَ كذلك، تناول طعامكَ وساعد رفاقكَ.»

 

«أنا لستُ جائعاً. حتى ولا أنت.»

 

«وأنا كذلك، إنّما الدوافع متعاكِسة. أأنتَ مُضطَرِب يا يهوذا؟»

 

«لا يا معلّم، بل تَعِب...»

 

«نذهب الآن إلى البحيرة، ثمّ إلى اليهوديّة، وإلى بيت أُمّكَ يا يهوذا. لقد وعدتُكَ بذلك...»

 

يَشعر يهوذا بتحسّن: «أتذهب معي وحدي؟»

 

«بالطبع. أَحِبّني كثيراً يا يهوذا. أودُّ لو يكون حبّي فيكَ للدرجة التي يحميكَ فيها مِن كلّ شرّ.»

 

«يا معلّم... إنّني إنسان، ولستُ ملاكاً. تمرّ عليَّ لحظات تعب. هل الشعور بالحاجة إلى النوم خطيئة؟»

 

«لا. لو تنام على صدري. انظر إلى الناس هناك، كَم هُم سعداء، وكم المنظر جَذِل مِن هنا! في هذه الأثناء ينبغي أن تكون اليهوديّة كذلك جميلة في الربيع.»

 

«جميلة جدّاً يا معلم. فقط هناك الجبال مرتفعة أكثر مِن هذه، فالربيع يتأخّر أكثر. ولكنّ الزهور جميلة للغاية. بساتين التفّاح آية في الروعة. وبُستاني، بفضل عناية أُمّي، هو واحد مِن أجمل البساتين. وعندما تتنـزّه فيه وتَلحَق بكَ طيور الحَمام لتحظى بالحبوب، ثِق تماماً بأنّه مَنظَر مُهدِّئ للقلب.»

 

«أعتقد ذلك. ولو لم تكن أُمّي تَعِبَة جدّاً لكان يسعدني اصطحابها إلى بيت أُمّكَ. كانتا ستتحابّان. لأنّهما كلتيهما صالحتان.»

 

يهوذا، وقد استهوته الفكرة، عاد إلى سكونه وطمأنينته. نَسِيَ قلّة شهيّته وتعبه، وها هو يركض إلى رفقائه ضاحكاً فرحاً. ولِكِبر حجم جسمه فإنّه يَحل عُقَد الخيمة الأكثر ارتفاعاً دون عناء، ويأكل خبزه وزيتونه، فَرِحاً كالطفل. يَنظُر إليه يسوع بإشفاق، ثم يتوجّه إلى رُسُله.

 

«هو ذا رغيف خبز وبيضة يا معلّم. لقد جَعَلتُ ذلك الغنيّ اللّابس الأحمر يعطينيها، قلتُ له: "أنتَ سعيد بالاستماع إليه، وهو يتكلّم، وقد أُنهك. أعطني بيضة مِن التي بحوزتكَ، وهذا يفيده أكثر منكَ".»

 

«ولكن يا بطرس.»

 

«لا يا معلّم! فإنّكَ شاحب مثل رضيع يَرضَع مِن صَدر مُنهَك. وإنّكَ لَتَنحف مثل سمكة بعد موسم التزاوج. دعني أفعل؛ لا أريد أن أتحمّل اللّائمة الآن، سوف أَضَعها في هذا الجَّمر، إنّها الأغصان التي أَحرَقتُها، وسوف تَشرَبها. لستُ أدري كَم مِن الوقت... كَم يوماً؟ بالتأكيد أسابيع لم نأكل فيها سوى الخبز والزيتون وقليل مِن الحليب... تحسبنا نتناول مُسهِلاً، وأنتَ تأكل أقلّ مِن الجميع وتتحدّث إلى الجميع. تلك هي البيضة، اشربها طالما هي فاتِرة. هذا سيفيدكَ.»

 

يطيع يسوع، ولدى رؤيته بطرس لا يأكل سوى الخبز يَسأَله: «وأنتَ؟ الزيتون؟»

 

«سوف يكون ذا فائدة لي فيما بعد. لقد وَعَدتُهم به.»

 

«مَن؟»

 

«أطفال. إنَّما، إذا لم يُحافِظوا على الهدوء حتّى النهاية، فسآكل الزيتون وأعطيهم النوى. يعني صَفعات.»

 

«ولكن جيّد جدّاً.»

 

«هه! لن أعطيها أبداً. ولكن إذا لم نفعل هكذا! فأنا كذلك تلقَّيتُ الكثير، ولو كان مِن المفروض إعطائي كلّ ما كنتُ أستحقُّ مِن أجل تصرُّفاتي الصبيانيّة، فقد كان ينبغي أن أتلقّى عشرة أضعاف! ولكن هذا يأتي بفائدة. ولأنّني تلقّيتُ مثلها، فأنا الآن هكذا.»

 

يضحك الجميع مِن صراحة الرسول.

 

«يا معلّم، أودُّ القول إنّ اليوم هو الجمعة، وأولئك الناس... لستُ أدري إذا ما كانوا سيتمكّنون مِن تأمين طعامهم، في الوقت المناسب، مِن أجل الغد، أو يعودون إلى بيوتهم.» يقول برتلماوس.

 

«هذا صحيح، فاليوم هو الجمعة!» يقول البعض.

 

«لا يهمّ. فالله سوف يتدبّر الأمر. ولكنّنا سنقول لهم ذلك.»

 

يَنهَض يسوع ليذهب إلى مكانه وسط الناس المبعثَرين بين الخمائِل: «في المقام الأوّل أذكِّركم أنّ اليوم هو الجمعة. والآن أقول لكم إنّ الذين يَخشون عدم التمكّن مِن العودة إلى بيوتهم في الوقت المناسب، أو لا يتوصّلون إلى الإيمان بأنّ الله سيمنح غداً الغذاء لأبنائه، فبإمكانهم الانسحاب فوراً لكيلا يُداهِمهم الليل في الطريق.»

 

مِن مجموع الجمهور، يَنهَض حوالي الخمسين شخصاً. أمّا الباقون فيَمكثون في أماكنهم.

 

يبتسم يسوع ويبدأ الحديث.

 

«تعلّمتم أنّه قيل في السابق: "لا تَزنِ". والذين مِن بينكم سَمِعوني في أماكن أُخرى، يَعلَمون أنّني تحدّثتُ عن هذه الخطيئة مرّات عِدّة. لأنّ، انتَبِهوا جيّداً، هذه الخطيئة لا تعني شخصاً واحداً فقط، ولكنّها تعني شخصين أو ثلاثة. أُوَضِّح. الذي يرتَكِب الزّنى يخطئ بحقّ نفسه، وبحقّ شريكته، ويخطئ بِحَمله الزوجة أو الزوج المغدور على ارتكاب الخطيئة، وقد يَصِلان بذلك إلى اليأس، أو يُخطِئان هُما ذاتهما. هذا بالنسبة إلى الخطيئة التامّة الواقِعة فِعلاً. وعلاوة على ذلك أقول لكم: "ليست الخطيئة التامّة فقط، بل الرغبة في إتمامها بحدّ ذاتها خطيئة". ما هو الزّنى؟ إنّه الرغبة المحمومة بذاك أو بتلك التي ليست لنا. فالخطيئة تبدأ بالرغبة، وتستمرّ بالغواية، وتتمّ بالاقتناع، أمّا الفعل فيتوُّج كلّ شيء.

 

كيف نبدأ. عادة بِنَظرَة دَنِسة. وهذا يقودنا إلى ما كنتُ أقوله سابقاً. العين النَّجِسة تَرَى ما خَفِيَ عن الطَّاهِر، ومِن خلال العين يَدخُل العَطَش إلى البلعوم، والجوع إلى الجسد، والحمّى إلى الدم. عَطَش وجوع وحمىّ الجسد، وهذا هو بداية الهَذَيان. فإذا كان الآخر، الشخص المنظور إليه، نزيهاً، فالذي يَهذِي يبقى وحيداً، يتقلّب على فحم متأجّج، أو بالحريّ يَصِل حدّ الافتراء مِن أجل الانتقام. وإذا كان الشخص غير نزيه، فإنّه يتواطأ مع النَّظرَة، ويبدأ بالتالي بالانحدار إلى الخطيئة. كذلك أقول لكم: "مَن نَظَرَ إلى امرأة ليشتهيها فقد زَنى، إذ قد ارتَكَبَ الفعل الذي يشتهي، ولكن بِفِكره". وأكثر مِن ذلك، إذا شَكَّكَتكَ عينكَ السليمة فاقلَعها وارمها بعيداً عنكَ. فالأفضل لكَ أن تكون أعوراً مِن أن تُزَجَّ إلى الأبد في الظُّلُمات الجهنّميّة. وإذا أخطَأَت يدكَ القويمة فاقطعها وارمها. فالأفضل لكَ أن يَنقص منكَ عضو مِن أن تهوي كاملاً إلى جهنّم. لقد قيل بحقّ: إنّ المشوَّهين لا يمكنهم خدمة الله في الهيكل. ولكن بعد هذه الحياة، فالمشوَّهون منذ الولادة، إذا كانوا قدّيسين، أو الذين أَصبَحوا كذلك بفعل الفضيلة، فسيصبحون أكثر بهاء مِن الملائكة، وسيَخدمون الله وهم يحبّونه في فرح السماء.

 

لقد قيل كذلك: "مَن طَلَّق امرأته، فليعطها كتاب طلاق". إلّا أنّه أمر يدعو إلى الاستهجان. فهو لم يأت مِن الله. قال الله لآدم: "هذه هي الرفيقة التي كوَّنتُها لكَ. فانموا واكثروا على الأرض واملأوها وأَخضِعوها لسلطانكم". وآدم، لامتلائه ذكاء سامياً، حيث لم تكن الخطيئة بعد قد عَكَّرَت فِكره الخارج مِن عند الله كاملاً، يهتف: "هي ذي أخيراً عَظم مِن عظامي ولحم مِن لحمي. وتُسمّى امرأة، أي ذاتي الأُخرى، لأنّها مِن امرئ أُخِذَت". لذلك يترك الرجل أباه وأُمّه ويصبحان كلاهما جسداً واحداً. وبِسَنا روعة متنامية، أَقَرَّ النور الأزليّ بابتسامة، ما قاله آدم، والذي أَصبَحَ الشريعة الأولى الرَّاسخة. الآن، وإذا كان، بسبب قسوة الإنسان المتعاظِمة على الدوام، فقد اضطُرَّ لوضع الـمَكابِح، والقول: "ومع ذلك فإذا طَلَّقتَها، فلا يمكن استردادها"، فإنّ ذلك لا يلغي الشريعة الأولى الأصليّة، التي أُنشِئت في الجنّة الأرضيّة، وأَقَرَّها الله.

 

أمّا أنا فأقول لكم: "مَن طَلَّق امرأته إلّا في حالة الفحشاء الثابتة، عَرَّضَها للزنى"، لأنّه بالفِعل، ماذا تفعل المرأة في تسعين بالمائة مِن حالات الطلاق؟ تتزوّج ثانية. مع أيّة تَبِعات؟ آه! فهناك الكثير ممّا يُقال حول هذا الموضوع! ألا تعلمون أنّكم تستطيعون التسبّب في زنى المحارم اللاإرادي بالتصرّف بهذه الطريقة؟ كَم مِن الدموع انسَكَبَت مِن أجل حالة فُجور! نعم. حالة فُجور. وليس لذلك اسم آخر. كونوا صريحين. يمكن التغلب على كلّ شيء، عندما يكون الروح مستقيماً. إنّما كلّ شيء يتوافق مع بتبرير ما يُشبِع الشهوات، عندما يكون الروح روح فجور. فإنّ برودة المرأة، البلادة، عدم الأهليّة في الأعمال، المزاج الـمُشاكِس، حبّ الفخفخة، كلّ ذلك يمكن التغلّب عليه، حتّى الأمراض، حتّى حِدّة الطبع، إذا كنّا نتحابّ بقداسة. ولكن، بما أنّ الناس لا يعودون يتحابّون بعد فترة، كما تحابّوا في اليوم الأوّل، فحينذاك يَجِدون مستحيلاً ما هو أكثر مِن ممكن، وتُرمى امرأة مسكينة في الشارع وتُرسَل إلى ضَياعها.

 

مَن طَلَّق امرأته فقد زَنَى، ومَن تَزَوَّج مُطلَّقة فقد زَنى. فالموت وحده يُبطِل الزواج. تذكّروا هذا. وإذا اخترتم اختياراً بائساً، فتحمَّلوا نتائجه كصليب. ستكونان بَائِسَين كلاكما، ولكن قدّيسين. لن تجعلا مِن أبنائكما أكثر بؤساً، أولئك الأبرياء الذين يعانون أكثر مِن تلك الأوضاع الصعبة. ينبغي لحبّ أولادكم أن يجعلكم تفكّرون مائة مائة مرة، حتّى في حالة موت القَرين. آه! لو تعرفون أن تَرتَضوا بما حصلتم عليه، والذي قال عنه الله: "هذا يكفي"! لو كنتم تَعلَمون، أنتم أيّها الأرامل، ذكوراً وإناثاً، أن تروا في الموت، ليس انتقاصاً، بل سموّاً إلى إحدى الكمالات الوالديّة! أن تكون أُمّاً، حتّى في حال الأُمّ المتوفّاة؛ أن تكون أباً، حتّى في حال الأب الفقيد؛ أن يكون للمرء نَفْسان في واحدة، تَقَبُّل حبّ الأولاد حتّى على شفاه الشخص المائت الباردة الخامدة، والقول: "امض بسلام دون خشية على الذين أتوا منكَ. سوف أستمرّ في حبّهم، مِن أجلكَ ومِن أجلي، حبّاً مضاعفاً، سوف أكون الأب والأُمّ، ولن يُثقِل سوء طالع اليُتم كاهلهم. لن يعرفوا الحَسَد الطبيعيّ مِن ابن القريب المتزوّج ثانية مِن ذاك الذي يأخذ المكان المقدّس الذي لأب أو لأُمّ، أحدهما، وقد ناداه الله لسكنى ديار أخرى".

 

أبنائي، تعليمي يَصِل إلى نهايته، كما يُشرِف على نهايته النهار الذي يميل مع الشمس إلى الغرب. مِن هذا اللقاء على الجبل، أودُّ أن تتذكّروا الكلمات. احفروها في قلوبكم. اقرؤوها غالباً. ولتكن لكم الدليل الـمُرشِد الدائم. وفوق كلّ شيء كونوا صالحين مع الضعفاء. لا تدينوا لئلّا تدانوا. تذكّروا أنه قد تأتي الساعة التي يذكّركم فيها الله: "هكذا كنتَ تدين. كنتَ تعرف أنّ ذلك سيّئ وشرّ. لقد اقترفتَ الخطيئة إذاً مع علمكَ التامّ ماذا كنتَ تفعل. فالآن تحمّل العذاب".

 

المحبّة الآن هي مغفرة. فلتكن فيكم المحبّة، للجميع، وفي أيّ ظرف. وإذا ما وَهَبَكم الله معونات كثيرة ليحفظكم في الاستقامة، فلا تتكبّروا لذلك. إنّما حاوِلوا أن تَصعَدوا سلّم الكمال مهما كان طويلاً، ومُدّوا اليد للمتعَبين، للجاهِلين، للذين هُم ضحيّة خيبة أمل مفاجِئة. لماذا التحديق في القذى الذي في عين أخيكَ، إذا لم تكن تأبه للجِّذع الذي في عينكَ؟ كيف يمكنكَ القول لقريبكَ: "دعني أُخرِج القذى الذي في عينكَ"، بينما يعميكَ الجذع الذي في عينكَ؟ لا تَكن مُنافِقاً يا بُنيَّ. أَخرِج أوّلاً الجذع الذي في عينكَ، وحينئذ تستطيع إخراج القذى لأخيكَ دون تعطيله بالكامل.

 

تحاشوا كذلك التهوُّر، كتحاشيكم قلّة المحبّة. فقد قلتُ لكم: "مُدّوا اليد للمُتعَبين، للجاهلين والذين هُم ضحيّة خيبة أمل غير متوقَّعة". ولكن لو كان مِن قبيل المحبّة أن تُثقِّفوا الجاهلين، أن تُشجِّعوا الـمُنهَكين وأن تَمنَحوا أجنحة جديدة للذين، لأسباب متعدّدة، كَسَروا أجنحتهم، فإنّه لَتَهوُّر هو كشف الحقائق الأزليّة للمُبتَلين بعبادة الشيطان. سوف يَستَحوِذون عليها ليُمثِّلوا دور الأنبياء، ويتسلّلوا وسط البسطاء، ليُفسِدوا ويُحوّلوا ويُلطّخوا، بطريقة مُدنِّسة، أمور الله. فالاحترام المطلق، ومعرفة أوان الكلام وأوان الصمت، ومعرفة التصرّف، هي ذي فضائل التلميذ الحقيقيّ كي يقوم بالهداية ويَخدم الله. تملكون عقلاً، وإذا كنتم بَرَرَة، فسيهبكم الله كلّ أنواره ليرشد عقلكم بشكل أفضل أيضاً. فَكِّروا بأنّ الحقائق الأزليّة كالجواهر، فلم يُشاهَد أحد قطّ يرمي الجواهر للخنازير التي تُفضِّل المستنقعات والمياه الآسِنة التي في الكهاريز على الجواهر الثمينة، وهي تدوسها بلا هوادة، وبعد ذلك، غاضِبة لِخِداعها، ترتدّ عليكم وتمزّقكم. لا تعطوا ما هو مُقدَّس للكلاب. أقول هذا مِن أجل الوقت الحاضر والمستقبل.

 

أبنائي، لقد أَطَلتُ حديثي إليكم. اسمَعوا أقوالي. فَمَن يَسمَعها ويعمل بها يشبه رجلاً عاقلاً أراد أن يبني بيتاً فاختار أرضاً صخريّة. فهو بالتأكيد سيتعذَّب في بناء الأساسات، وسيتحتّم عليه العمل بالمعول والإزميل، فتقسو يداه ويَتعَب كاهله، إنّما يصبح بإمكانه بعدئذ صبّ الجير في الحُفَر التي في الصخور، ويضع عليها الآجرّ المرصوص، كما في سور القلعة، فيرتَفِع البيت صلباً في بنيانه مثل الجبل. وإنْ تأتِ بعد ذلك رداءات الطقس والأعاصير، وإن تَجعَل الأمطارُ الأنهارَ تَفيض، وإن تَعصُف الرياح وتضربه الأمواج، فسيصمد البيت في مواجهة كلّ ذلك. هكذا سيكون الحال لدى مَن كان إيمانه مبنيّاً على أساس صلب متين. وعلى العكس مِن ذلك، فَمَن يَسمَع ولا يتأثّر ولا يَجتَهِد في حفر كلامي في قلبه، لأنّه يَعلَم أنّ عليه أن يعاني مِن أجل ذلك، ويختبر الألم، ويستأصل أشياء كثيرة، فهذا يشبه مَن ، بغباء منه وكَسَل، يبني بيته على الرمل، وحالما تأتي رداءة الطقس، فالبيت الذي بُنِيَ بسرعة، يهوي بتلك السرعة عينها كذلك، ويَنظُر الأحمق حزيناً إلى الأنقاض وتَلاشي مُقتَنَاه. وهنا، لا يبقى سوى خراب واحد يمكن إصلاحه ببذل المال وتحمُّل الجهد. أمّا بالنسبة إلى بناء الروح الـمُنهار، لأنّ بناءه كان سيّئاً، فلا يبقى أيّ شيء لإعادة البناء والترميم. فلا بناء في الحياة الأخرى. والويل لِمَن ليس لديه سوى أنقاض يُقَدِّمها!

 

انتهيتُ. سأهبط الآن إلى البحيرة، وأبارككم باسم الله الواحد والثالوث. وليكن سلامي معكم.»

 

ولكنّ الجمهور يهتف: «نأتي معكَ. دعنا نأتي! فلا أحد يتحدّث مثل حديثكَ!»

 

ويتبعون يسوع الذي يَهبط، ليس مِن الجهة التي صَعَدَ منها، بل مِن الجهة المقابلة، ويمضي مباشرة صوب كفرناحوم. الـمُنحَدَر أكثر شدّة، ولكنّه أسرع كثيراً، وقد وَصَلوا بسرعة إلى أسفل الجبل الذي ينتهي في سهل أخضر مُزهِر.

 

يقول يسوع: «يكفي اليوم هذا. إلى الغد...»