ج4 - ف92

أَنَا هُوَ

ماريا فالتورتا

L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO

THE GOSPEL AS REVEALED TO ME

بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}

L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ

MARIA VALTORTA

الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.

 

الجزء الرابع / القسم الأول

 

92- (يسوع ومرثا في كفرناحوم)

 

27 / 07 / 1945

 

يعود يسوع مع بطرس ويوحنّا إلى بيت كفرناحوم، يتصبّبهم العرق، ويكسوهم الغبار.

 

ما كاد يسوع يَطأ الحديقة، قاصِداً المطبخ، حتّى ناداه سيّد البيت، بدالّة، قائلاً له: «يا يسوع، لقد عادت تلك السيّدة التي حدّثتُكَ عنها في بيت صيدا. عادت تبحث عنكَ. قُلتُ لها أن تنتظركَ، وجَعَلتُها تَمكُث في الغرفة التي في الأعلى.»

 

«شكراً لكَ يا توما، سأَمضي إليها في الحال. إذا ما أتى أناس آخرون، اجعلهم ينتظرونني هنا.» ويرتقي يسوع السُلّم بخفّة حتّى دون رفع معطفه.

 

على الشُّرفة، حيث ينتهي السلّم، تقف، بلا حراك، مارسيل خادمة مرثا: «آه! يا معلّمنا! معلّمتي هنا، في الداخل، إنّها تنتظركَ منذ أيام.» تقول المرأة وهي تجثو إجلالاً ليسوع.

 

«كنتُ أتوقّع ذلك. سأذهب حالاً للقائها. فليبارككِ الله يا مارسيل.»

 

ويَرفَع يسوع الستار الواقي مِن النور الـمُبهِر، رغم تقدّم الغسق كثيراً، والذي يُلهِب الهواء ويُضرِم بيوت كفرناحوم البيضاء بالانعكاس الأحمر لجَمرّة ضخمة. في الغرفة تَجلس مرثا، مُلتَحِفة بمعطفها ووشاحها، قُرب النافذة. قد تكون تَنظُر إلى شَرم مِن البحيرة، تغوص فيه تلّة مُحرَّجة. وقد لا تكون تَنظُر سوى إلى أفكارها. إنّها مُستَغرِقة لدرجة أنّها لم تَسمَع الوقع الخفيف لخطوات يسوع الذي يَقتَرِب. وتَنتَفِض عندما يناديها.

 

«آه! يا معلّم!» تَهتف وترتمي جاثية، وذراعاها ممدودتان كما لِطَلَب العَون، ثمّ تنحني حتّى لِتُلامس جبهتها الأرض، وتبكي.

 

«ولكن لماذا؟ هيّا إنهضي! لماذا هذا الحزن الهائل؟ هل لديكِ مأساة تُخبرينني عنها؟ نعم؟ ماذا إذن؟ لقد ذهبتُ إلى بيت عنيا، هل تعلمين؟ نعم؟ وعَلِمتُ بالأخبار السارّة. الآن تبكين... ماذا جرى؟ ويُرغِمها على الجلوس على الكرسيّ الـمُلاصِق للجدار، ويَجلس هو في الجهة الـمُقابِلة.

 

«هيّا انزعي وشاحكِ ومعطفكِ، كما فعلتُ أنا. إنّكِ تختنقين داخله. ثمّ، أريد أن أرى وجه مرثا هذه المضطربة، لأطرد كلّ الغيوم التي تغمّه.»

 

تُطيع مرثا، وهي ما تزال تَدمَع، ويَظهَر وجهها المحمرّ، وعيناها المتورّمتان.

 

«إذاً سأساعدكِ. لقد أَرسَلَت مريم في طلبكِ. بَكَت كثيراً، أرادت معرفة أمور كثيرة عنّي، وقد ظننتِ ذلك إشارة حسنة، لدرجة أنّكِ رغبتِ في قدومي لأتمّم المعجزة. وأنا أتيتُ. والآن؟...»

 

«الآن لا شيء يا معلّم. لقد أخطأتُ. إنّه أمل مُضطَرِم، يجعل المرء يرى ما ليس له وجود... وقد جعلتُكَ تأتي للا شيء... مريم أسوأ مِن قَبل... لا! ماذا أقول؟ هذه نميمة، أنا أكذب. هي ليست أسوأ، لأنّها تَرفض الرجال. إنّها مُختَلِفة، ولكنّها ما تزال سيّئة. إنّها تبدو لي مجنونة... لم أعد أفهمها. في السابق كنتُ أُدرِك شيئاً على الأقلّ. أمّا الآن! فَمَن يستطيع فَهمها الآن؟» وتبكي مرثا بشكل حزين.

 

«هيّا، اهدأي، وقولي لي ماذا تَفعل؟ لماذا هي سيّئة؟ إذن فهي لَم تَعُد تَرغَب بالرجال، لذا أنا افترض إنّها مُنعَزِلة في بيتها. هل الأمر كذلك؟ نعم؟ حسناً، حسناً جدّاً. رَغِبَتْ أن تكوني إلى جانبها كما لتحتمي بكِ مِن التجربة -هذا هو كلامكِ- بِمَنع العلاقات الأثيمة، أو حتّى، بكلّ بساطة، التي يمكن أن تؤدّي إلى علاقات أثيمة. وهذا دليل على حُسن النيّة.»

 

«هل تؤكِّد ذلك يا معلّم؟ أتظنّ أنّ الأمر هو حقّاً كذلك؟»

 

«بالتأكيد. وإلّا فبأيّ شيء تبدو لكِ شرّيرة؟ اروي لي ماذا تفعل...»

 

مرثا، وقد اطمأنَّت قليلاً بتأكيد يسوع، تتحدّث بعناية أكثر: «مُذ أتيتُ، لَم تَخرُج مِن البيت والحديقة، ولا حتّى إلى البحيرة على الـمَركَب. لقد قالت لي مُربّيتها إنّها، حتّى قبل ذلك لَم تَكُن تَخرُج. ومنذ الفصح بَدَت وكأنّها بَدَأَت تتبدَّل. فآنذاك، قبل مجيئي، كان ما يزال بعض الأشخاص يأتون لرؤيتها، ولم تكن لِتَصرفهم دائماً. لقد كانت، في بعض الأحيان، تُصدِر أوامرها بألّا يَدخُل أحد، وكان ذلك يبدو وكأنّه أمر دائم. ثمّ كانت، أحياناً أُخرى، تَضرب الخُدّام، وقد استولى عليها غَضَب ظالِم، بينما، وهي تَهرَع إلى الرُّواق لسماعها أصوات الزوّار، كانت تَجِدهُم قد ذَهَبوا. ومنذ مجيئي لَم تَعُد تفعل ذلك. قالت لي في الليلة الأولى، ولأجل ذلك كان لي أمل كثير: "أَمسِكي بي، قَيِّديني، إنّما لا تعودي تتركيني أَخرُج، لكي لا أعود أرى سِواكِ والمربّية. ذلك أَنَّني مريضة وأريد أن أَبرَأ. أمّا أولئك الذين يأتون إليَّ، أو يريدونني أن أذهب إليهم، فإنّهم كالمستنقعات التي تُسبّب الحمّى. إنّهم يُفاقِمون مَرَضي. ففي مظهرهم هُم رائعو الجمال، ممتلئون زهوراً وأغنيات، وفواكه مُمتِعة للنَّظَر، لا أستطيع مقاومتها لأنّني شقيّة، لأنّني تعيسة. أختكِ ضعيفة يا مرثا. هناك مَن يستغلّ ضعفي، فيجعلني أقوم بأمور مُخزية لا يَرضى بها شيء ما فيَّ. شيء ما مِن أثر أُمّي، ما زال فيَّ، مِن أثر أُمّي المسكينة..." وقد كانت تبكي، كانت تبكي.

 

وكان تَصَرُّفي كالتالي: بلطف عندما تكون رزينة، وبحزم عندما تبدو لي كحيوان برّيّ في قفص. وكانت هي تقول لي: "اغفري لي، اغفري لي!" وإذا ما سألتُها: "ماذا يا أختاه؟ لِمَ تُسبّبي لي الألم." فتجيبني: "لأنّني الآن، أو أمس مساء، عندما قُلتِ لي: "لن تَخرُجي مِن هنا" كَرِهتُكِ في قلبي، وقد لَعَنتُكِ وتمنّيت لكِ الموت."

 

ألا يؤلمكَ هذا ربّي؟ ولكن قد تكون مجنونة؟ هل جَعلَتها رذيلَتَها مجنونة؟ أظنُّ أنّ عَبداً قَدَّم لها شراب العشق لِيَجعَلها عَبدة للفُجور، وقد صَعَدَ ذلك إلى دماغها...»

 

«لا، لا شراب عشق ولا جنون. إنّه أمر آخر، ولكن أَكمِلي.»

 

«إذاً فهي معي تُمارِس طقوس الاحترام والطاعة. وكذلك هي لَم تَعُد تُسيء معاملة الخُدّام. ومع ذلك، ومنذ الليلة الأولى، لَم تَعُد تَسأَل عنكَ. حتّى عندما أتحدّث عنكَ، فإنّها تُغيِّر مجرى الحديث. أمّا فيما عدا ذلك فإنّها تُمضي ساعات وساعات على الصخرة حيث الإطلالة على البحيرة، حتّى إنّها تُفتَن بها وتسألني، كلّما مَرَّ مركب: "أتعتقدين أنّه مركب الصيّادين الجليليّين؟" وهي لا تنطق أبداً باسمكَ ولا باسم الرُّسُل، ولكنّني أَعلَم أنّها تُفكِّر بهم وبكَ في مَركَب بطرس. وأُدرِك كذلك أنّها تفكّر بكَ، لأنّها أحياناً، عند المساء، عندما نتمشّى في الحديقة، أو عندما ننتَظِر ساعة الراحة، بينما أنا أخيط، تقول لي وذراعاها متصالبتان: "إذاً هكذا يجب العيش بحسب الـمَذهَب الذي تَتَّبِعين؟" وأحياناً تبكي، وأحياناً أخرى تضحك ضحكة جنون تهكّميّة أو ضحكة شيطان.

 

وفي مَرَّات أخرى، كانت تفكّ شعرها الذي ما يزال ممشّطاً بشكل فنّي، وتُجدِّله ضَفيرَتَين، وتَلبس ثوباً لي، وتأتي إليَّ مع الضفيرتين المتدلّيتين على كتفيها أو المردودتين إلى الأمام، مع ياقة واقفة عفيفة، وهي تُشبِه صبيّة صغيرة بثوبها وضفائرها وتعبير وجهها، وتقول أيضاً: "أهكذا إذن ينبغي أن تُصبِح مريم؟" وأحياناً تبكي وهي تُقبِّل ضفيرتيها الرائعتين، الضخمتين كالذراع، النازلتين حتّى الركبتين. كلّ ذلك الذهب البَرَّاق الذي كان مَجد أُمّي. وفي مَرّات أخرى، على العكس، تُطلِق تلك الضحكة الفظيعة، وتقول لي: "ولكن انظري، أو بالحري شاهِدي ما أَفعَل لِأُفارق هذا العالم." وتَربُط الضفيرتين حول عنقها، وتشدّهما، حتّى تصبح باللون البنفسجيّ، وكأنّي بها تريد خَنقَ نفسها. وفي أوقات أخرى أُدرِك إنّها تحسّ بشكل أقوى... بجسدها، وحينئذ تَشتَكي أو تُسيء إلى نفسها. لقد رأيتُها تَضرب بطنها وصدرها بشكل وحشيّ، وتَخمش وجهها، وتَرطم رأسها بالجدار، وحين سألتُها: "ولكن لماذا تفعلين هذا؟" التَفَتَت إليَّ، مُضطَرِبة، مُتوحِّشة وهي تقول: "لِأُهشِّم رأسي وأحشائي، المؤذية، الملعونة، يجب تحطيمها. إنّني أُحطِّم نفسي."

 

وإذا ما تحدّثتُ عن الرحمة الإلهيّة، عنكَ -بالفعل، إنّني، مع ذلك، أتحدّث عنكَ كما لو كنتُ أوفى تلاميذكَ. وأقسم أنّني كنتُ في بعض الأحيان أرتعب مِن ذكر اسمكَ في حضورها- فتجيبني: "لا يمكن أن تكون هناك رحمة لي، فلقد تجاوَزتُ كلّ الحدود." وحينئذ يأخذها هياج مِن اليأس، فتصرخ وهي تَضرُب نفسها حتّى يَسيل الدم: "ولكن لماذا؟ لماذا هذا الوحش الذي يمزّقني، الذي يَمنَع عنّي السلام، الذي يَحمِلني إلى الشرّ بصوت خَلّاب؟ وبعد ذلك، تأتي الأصوات التي تَلعَنني، صوت أبي وأُمّي، صوتاكُما، لأنّكما، أنتِ ولعازر، تلعنانني كذلك، وإسرائيل كلّها تلعنني؛ وهذه الأصوات تجعلني أُجَنُّ..."

 

حينذاك، عندما تتكلّم هكذا، أجيب أنا: "لماذا تفكّرين بإسرائيل، وهي ليست سوى شعب، بَدَل التفكير بالله؟ إنّما، بما أنّكِ لَم تُفكّري سابقاً بأن تدوسي على كلّ شيء، ففكّري الآن أن تَعبُري فوق كلّ شيء، وأن تهتمّي بأمر آخر غير العالم، أي بالله، بأبيكِ وبأُمّكِ. وهؤلاء لَن يلعنوكِ إذا ما غَيَّرتِ حياتكِ، ولكنّهم يَفتَحون لكِ أذرعتهم..." وتَستَمِع إليَّ وهي مُستَغرِقة بالتفكير، مُندَهِشة، كما لو كنتُ أروي لها أسطورة خرافيّة، ثمّ تَبكي... ولكنّها لا تجيب. أحياناً، على العكس، تأمر الخُدّام بإحضار الخمور والعقاقير، وتشرب وتأكل، ثمّ تَشرَح: "هذا كي لا أُفكّر".

 

الآن، ومذ عَلِمَتْ أنّكَ عند البحيرة، تقول لي، كلّ مرّة تُلاحِظ فيها أنّني آتي إليكِ: "ذات يوم، سوف آتي أنا كذلك"، ضاحكة تلك الضحكة التي إنّما هي إهانة لها، في النهاية، لِتَختم بالقول: "هكذا، على الأقلّ، يَقَع نَظَر الله على المريض كذلك." ولكنّني لا أريدها أن تأتي. والآن، لكي آتي، أنتظرها حتّى تَنام مُنهَكَة مِن الغَضَب والخمر والدموع وكلّ شيء. اليوم أيضاً مَضَيتُ هكذا، على أن أعود ليلاً، قبل أن تستيقظ. تلك هي حياتي... ولَم يَعُد لي الآن أمل..." وبكاؤها الذي لا يُوقِفه التفكير بسرد كلّ شيء بالترتيب، يتضاعف، وبشكل أعنف مِن ذي قبل.»

 

«هل تتذكّرين، يا مرثا، ما قُلتُه لكِ ذات مرّة؟ "مريم مريضة". لَم تكوني تريدين تصديق ذلك. الآن أنتِ تَرَينَه. تقولين إنّها مجنونة، وهي نفسها تَعتَرِف أنّها مريضة بِحُمّى تدفعها إلى الخطيئة. أمّا أنا فأقول إنّها تُعاني مِن استحواذ شيطانيّ. ويبقى هذا مِن قبيل المرض. تلك الاختلاطات السلوكيّة غير المتّسقة، ذلك الهِياج، تلك الدموع، تلك الأحزان وتلك الاندفاعات نحوي، تلك هي أطوار مرضها الذي، بوصوله إلى مرحلة الشفاء، فإنّ النوبات الأعنف تحصل. حسناً تتصرّفين بكونك طيّبة معها، وحسناً تفعلين بصبركِ، وحسناً تَسلكين بحديثكِ عنّي! لا ترتعبي مِن ذِكر اسمي بحضورها. يا لِنَفْس مريم المسكينة! مع إنّها خَرَجَت مِن بين يدي الخالق غير مُختلفة عن الأُخريات، عن التي لكِ، عن نَفْس لعازر، وعن تلك التي للرُّسُل والتلاميذ. هي، كذلك، أَحسَبها وأراها وسط النُّفوس التي تَجَسَّدْتُ مِن أجلها لأكون مُخَلِّصها. بل إنّني أتيتُ مِن أجلها هي، أكثر مما فعلتُ مِن أجلكِ أنتِ ولعازر والرُّسُل والتلاميذ. يا لِنَفْس مريم المسكينة والعزيزة التي تتألّم! نَفْس عزيزتي مريم المصابة بسموم سبعة إضافة إلى السمّ الأصليّ والعالميّ! نَفْس عزيزتي مريم السَّجينة! ولكن دعيها تأتي إليَّ! دعيها تتنفَّس نَفَسي وتَسمَع صوتي وتُواجِه نَظرَتي!... إنّها "مريضة"... آه! يا للنَّفْس العزيزة المسكينة! مِن بين الشياطين السبعة الذين يَسكنونها، أقلّهم عنفاً هو الكبرياء! ولكنّها، لذلك فقط، سوف تَخلُص!»

 

«ولكن، إذا ما صَادَفَت، أثناء خروجها، أحد الذين يَجرّونها مِن جديد إلى الرَّذيلة؟ وهذا ما تخشاه هي نفسها...»

 

«وسوف تَخشاه على الدوام، الآن وقد بَلَغَت مرحلة الغثيان مِن الرَّذيلة. ولكن لا تخافي. عندما تَبلغ نَفْس إلى الرغبة في المجيء إلى الخير، ولا تعود مُحتَجَزة سوى بالعدوّ الشيطانيّ الذي يَعرِف أنّه سوف يفقد فريسته، وبالعدوّ الشخصيّ للأنا التي ما زالت تَرنّ كإنسان، وتحكم على ذاتها كإنسان، مُسنِدة حكمها إلى الله لمنع الروح مِن السيطرة على الأنا البشريّة، حينئذ تُصبِح تلك النفس قويّة ضدّ هجمات الفسق والفاسقين. لقد وَجَدَت النجمة القطبيّة، ولن تَنحَرِف بعد.

 

وبالطبع يجب ألّا يُقال لها: "أَلَم تفكّري بالله، بينما أنتِ تفكّرين بإسرائيل؟" إنّه اتّهام مُضمَر. يجب عدم فِعله. إنّها تُخرج ألسِنة لَهَب، وهي ليست سوى جِراح يجب عدم لمسها بغير طيوب اللُّطف والوداعة والغفران والأمّل…

 

اتركي لها حرّيّة أن تأتي. بل حتّى عليكِ أن تُخبِريها حينما تنوين المجيء، إنّما لا تقولي لها: "تعالي معي". وحتّى لو توصَّلتِ إلى إدراك أنّها ستأتي هي، فلا تأتي أنتِ. عودي، انتظريها في البيت. فسوف تأتي إليكِ وقد صَدَمَتها الرحمة. فأنا، ينبغي لي أن أنتزِع منها تلك القوّة الشرّيرة التي تَستَحوِذ عليها الآن، وفي خلال فترة زمنيّة، ستكون كَمَن نَزَفَت دمها كلّه، كإنسان انتَزَع منه الطبيب عظامه. أمّا بعد ذلك فَتُصبِح أفضل. وستكون مَذهولة.

 

حاجَتَها للملاطفة والصَّمت تُصبِح كبيرة. فكوني معها، كما لو أنّكِ، بالنسبة إليها، مَلاك حارس ثانٍ، دون إسماع صوتكِ. وإذا ما شاهَدتِها تبكي، فدعيها تبكي. وإذا ما سَمِعتِها تَطرَح على نفسها الأسئلة، فدعيها تفعل. وإذا ما شاهَدتِها تضحك ثمّ تَشحَب، ثمّ تضحك ضحكة مُغايِرة، وبنظرة مغايرة ووجه مغاير، فلا تطرحي عليها الأسئلة. لا تَضَعيها تحت الوصاية. إنّها تتألّم الآن، كي تَصعَد، أكثر مِن ألمها حينما هَبَطَت. وعليها أن تتصرّف مِن تلقاء ذاتها، كما تَصَرَّفَت مِن تلقاء ذاتها حينما هَبَطَت. آنذاك، لم تَحتَمِل نظراتكم، عندما كنتم تُشاهِدونها تَهبُط، لأنّ اتّهاماً لها كان في عيونكم. والآن، بِخَجَلها الذي استَيقَظَ أخيراً، هي لا تستطيع تَحمُّل نظراتكم. حينذاك كانت أقوى، لأنّ فيها كان الشيطان الذي كان معلّمها، وقوّة الشرّ التي كانت تقودها، كانت تستطيع تحدّي العالم، إنّما، مع ذلك، لم تشأ أن تَرَوها أنتم في خطيئتها. أمّا الآن، فَلَم يَعُد الشيطان معلّمها. إنّه مضيفها، أمّا مريم، وبإرادتها، فتُمسِك بخناقه. وهي لم تحصل عليَّ أنا بعد، لذلك هي ضعيفة جدّاً. وهي لا تستطيع حتّى تَحمُّل ملاطفة عينيكِ الأخويّتين لِتَعود إلى الـمُخلِّص. إنّها تَستَخدِم طاقتها كلّها، وتَبذلها في الشدّ على خناق الشيطان الـمُسَبَّع. مِن أجل كلّ ما سوى ذلك، هي بِغَير دفاع، عارية. ولكنّني سوف أعيد إلباسها وأُقوِّيها.

 

اذهبي بسلام يا مرثا. وغداً قولي لها إنّني سأتحدّث قرب سيل النبع، هنا في كفرناحوم، بعد الغَسَق. اذهبي بسلام! اذهبي بسلام! أبارككِ.»

 

ما تزال مرثا حائرة.

 

فيقول لها يسوع الذي يراقبها: «لا تقعي في الشكّ يا مرثا.»

 

«لا، يا ربّ، ولكنّني أُفكِّر... آه! أَعطِني ما يمكنني إعطاؤه لمريم بُغية مَنحَها القليل مِن القوّة... إنّها تتألّم كثيراً... وأنا خائفة ألّا تنجح في التغلّب على الشيطان!»

 

«إنّكِ طفلة! مريم قد مَلَكَتنا، أنا وأنتِ. هل يمكنكِ ألّا تنجحي؟ ومع ذلك، تعالي وخُذي. أعطني هذه اليد التي لَم تخطئ أبداً، التي عَرِفَت أن تكون وديعة، رحيمة، فاعلة وتَقيَّة. لقد قامت، على الدوام، بأفعال حبّ وصلاة. لَم تَكن أبداً كسولة. لم تَفسد أبداً. وها أنا أُمسِكها بين يديّ لأجعلها أكثر قداسة. ارفعيها في وجه الشيطان، وهو لن يَحتَمِلها. خُذي هذا النطاق الذي لي، ولا تَدَعيه يُفارِقكِ أبداً، وكلّما رأيتِها قولي لنفسكِ: "أَقوى مِن نِطاق يسوع هذا هو سلطان يسوع، وبه نَقضي على كلّ شيء: الشياطين والوحوش. عليَّ ألّا أَخاف." هل أنتِ مسرورة الآن؟ سلامي معكِ. اذهبي بِسَكينة.»

 

تنحني مرثا أمامه وتَخرُج.

 

يبتسم يسوع عندما يراها تَركَب العربة التي أتت بها مارسيل أمام الباب للمضيّ إلى مجدلا.